2023/03/20

إيران والسعودية تتفقان: ماذا عن الموقف الأميركي؟


ليلى نقولا

تتسارع التطورات في المنطقة على وقع الاتفاق التاريخي الذي تمّ توقيعه بين كل من إيران والمملكة العربية السعودية في العاصمة الصينية بكين. وإذا كان العديد يتخوفون من التفاؤل محذرين الافراط فيه، بسبب الموقف الأميركي والخوف من أن يكمن الشيطان في التفاصيل، إلا أن عدداً من الملفات باتت تتسارع بشكل دراماتيكي ومنها ما على سبيل المثال لا الحصر:

- دعوة الرئيس الايراني الى السعودية ولقاء مرتقب لوزيري الخارجية السعودي والايراني.

- انفتاح إيراني على دول الخليج ومحاولات تفكيك الألغام وحلّ المسائل العالقة بين سواء على صعيد الحدود (الكويت) أو الموقف السياسي ودعم المعارضة (البحرين) أو غير ذلك.

- اتفاق أمني إيراني عراقي حيث أكد رئيس الوزراء العراقي رفضه لأن تكون الأراضي العراقية منطلقاً للاعتداء على أيّ من دول الجوار"، مشددًا على "رفضه القاطع على أن تكون أرض العراق مسرحاً لتواجد الجماعات المسلحة، أو أن تكون منطلقاً لاستهدافها، أو أي مساس بالسيادة العراقية"، وفي هذا حفظ لأمن إيران حيث كان اقليم كردستان مرتعاً للجماعات التي تستهدف الأمن الإيراني بالمسيّرات.

بكل الاحوال، هذه الملفات المذكورة آنفاً قد تكون رأس جبل الجليد، فالقضايا بين الدولتين والتشابك الاقليمي يمتد الى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط، الى اليمن وباكستان وكل من داخل السعودية وإيران حيث تدعم كل دولة المعارضة المتشكلة للنظام في الدولة الأخرى. ولعل هذا الاتفاق يأتي حاجة لكل من السعودية وإيران، على الشكل التالي:

- السعودية: لولي العهد السعودي تصوّر ورؤية لموقع السعودية الاقليمي والدولي المستقبلي والذي يحتاج الى التخفيف من أحمال السياسات السابقة التي جعلت السعودية تنخرط في حروب بالوكالة لا طائل منها، وحيث تبين أن الدعم الأميركي لم يكن كافياً حين تعرّض الأمن القومي السعودي للخطر، بقصف أرامكو وغير ذلك.

- ايران: تتعرض حكومة رئيسي لضغوط متعددة سواء داخلية (المظاهرات، الانهيار الاقتصادي)، أو خارجية (فشل العودة الى الاتفاق النووي، استمرار العقوبات، المسيّرات التي تضرب العمق الايراني ...)، والتي تحتاج معه الى تسريع وتيرة الاتصالات التي كانت تجري مع السعودية لحفظ أمنها والسير نحو خطط النهوض.

لكن ماذا عن الأميركيين؟

بالمبدأ، كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد أعلن في استراتيجية الامن القومي التي أصدرها في تشرين الأول من عام 2022، رؤية إدارته للشرق الاوسط، والتي تتعهّد بتعزيز الشراكات والتحالفات ودعم الدبلوماسية لخفض التصعيد وتهدئة التوترات وتقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة في الشرق الأوسط. لكنها، تتعهّد أيضاً بـ "الوقوف إلى جانب الشعب الإيراني"، الذي "يناضل من أجل الحقوق الأساسية والكرامة، التي حرمها النظام في طهران منذ فترة طويلة"، بحسب نص الوثيقة.
وما تأتي على ذكره الوثيقة، وهو الأهم في مقاربتنا للموقف الأميركي، هو "امتلاك الولايات المتحدة "ميزة نسبية" في بناء الشراكات والائتلافات والتحالفات، من أجل تعزيز الردع وتحقيق الاستقرار الطويل الأمد في المنطقة،" وهنا بيت القصيد. فهل ستعتبر الولايات المتحدة أن الصين باتت تنافسها على تلك الميزة النسبية، أم أنها ستغض النظر عن التقارب السعودي الإيراني باعتبار انه تحقيق لهدف الوثيقة بخفض التصعيد وتخفيف التوترات؟ هذا ما ستكشفه التطورات المقبلة ومواقف الاميركيين منها.

 

2023/03/17

كيف تستوي "إسرائيل" في تقسيم بايدن الأيديولوجي للعالم؟

منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن إعطاء تفسير للعلاقات الدولية يحمل طابعاً أيديولوجياً، إذ أشار مراراً إلى أنَّ الحالة الحالية للسياسة العالمية هي "نقطة انعطاف"، وأنها "لحظة يحتاج الناس فيها إلى الاختيار بين الأنظمة الديمقراطية للحكم والديكتاتوريات، وإلا سيجدون أن العالم قد تغيَّر إلى الأبد".

يرى بايدن، ومعه الاتحاد الأوروبي ومَن يدورون في فلك الولايات المتحدة الأميركية، أنَّ هذا التقسيم الأيديولوجي صالح لتبرير التحالفات أو الحروب مع الدول في العالم. وكان الرئيس الصيني قد انتقد هذا التصنيف للحرب الدائرة في العالم، بقوله "إن سردية "الديمقراطية في مقابل الاستبداد" ليست السمة المميزة لعالم اليوم، ناهيك بأنها تمثل اتجاه العصر... الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي مسعى مشترك للبشرية. الولايات المتحدة لديها ديمقراطية على النمط الأميركي، الصين لديها ديمقراطية على الطريقة الصينية".

إن تقسيم جو بايدن العالم إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات يجعل من المنطقي التساؤل: هل يستوي هذا التصنيف الأيديولوجي على جميع حلفاء الولايات المتحدة، ومنهم "إسرائيل"؟

عملياً، إن تنميط العالم بتقسيمه إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات، كما يفعل جو بايدن، يعني أنَّ الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" يجب أن يتوقف، فهي أبعد ما يكون عن الديمقراطية، والسياسة التي تقوم عليها هي سياسة الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وقتل المدنيين، والتمييز بين مواطنين فئة أولى ومواطنين فئات متدنية، حتى بين اليهود أنفسهم، هو أبعد ما يكون عن الديمقراطية.

في الخطاب العام، يقوم التعريف الإسرائيلي للديمقراطية بوصفها حكم الأغلبية "اليهودية" بشكل مطلق غير مقيد. لذا، عمدت السلطات المتعاقبة إلى تفصيل قوانين لضمان سيطرة الأغلبية وهيمنتها على الأقلية، وتقسيم المواطنين بين مواطنين درجة أولى ومواطنين من درجات أخرى، بحسب انتماءاتهم الدينية والعرقية.

في الأساس، في مركّبَي الهُوية التي يحاول الإسرائيليون خلقها، وهما اليهودية والديمقراطية، تكمن الإشكالية الأساسية في السؤال الآتي: "كيف يمكن أن تكون إسرائيل يهودية وديمقراطية في آن واحد؟". إن الدول القائمة على التفوق العرقي هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، فكيف يستوي معيار التفوق العرقي والطائفي مع الديمقراطية التي تؤمن بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات؟

على مدى عقود من الزمن، استهدفت الحكومة الإسرائيلية المجتمع المدني الرافض للاحتلال وقوّضته، وأقرَّت تشريعات للتمييز ضد الفلسطينيين والأقليات، وقامت بتقليص الحريات الإعلامية. واليوم، تقوم بمحاولة التضييق على القضاء. 

 إضافةً إلى ما سبق، لجأت الحكومة اليمينية المتطرفة إلى المسّ بالفصل بين السلطات، وهو أساس من أسس الديمقراطية الحديثة. ما يجري اليوم من محاولة منح السلطة التنفيذية سلطة مطلقة على حساب استقلالية السلطة القضائية والنظام القضائي برمّته وقوتهما هو من أساليب الديكتاتورية.

وبالتالي، إن نجاح حكومة بنيامين نتنياهو في ما ترمي إليه - والذي سيجنب نتنياهو المساءلة أمام القضاء - سيغيّر جوهرياً أسس الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب في الادعاء بأنه يدافع عن "إسرائيل المهددة بأمنها، وعن الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

 في كل الأحوال، وبصرف النظر عن ادعاءات الغرب في أسباب دعمه "إسرائيل" في تسلطها على الفلسطينيين وجيرانهم العرب، فإن مسار الأمور المتدحرجة في "إسرائيل" سيجعل الدعم الغربي غير قادر على إيقاف التطورات السياسية والاجتماعية التي ستؤدي إلى إضعافها من الداخل.

وهنا، نشير إلى ما يلي:

يرى مئير إلران وموران ديتش، وهما باحثان في "معهد دراسات الأمن القومي" التابع لجامعة "تل أبيب"، أن الحصانة أو المناعة القومية لـ"إسرائيل" تستند إلى 3 أساسات مركزية: التضامن الاجتماعي، وثقة الجمهور بمؤسّسات الدولة، والحوكمة الفاعلة. 

ويؤكّد الباحثان في تقرير نشر حديثاً أن هناك تراجعاً مقلقاً جرى خلال الأعوام الأخيرة على المركّبات الثلاثة للحصانة القومية، كما يلي:

- التضامن الاجتماعي: القاسم المشترك الذي يوحّد الفئات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي تقلّص في الأعوام الماضية لمصلحة الفردية والقبلية. وبناء عليه، ازدادت نسبة العداء بين الفئات المختلفة، إضافةً إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة العنف في الحيّز العام.

- الثقة بالمؤسسات: يشير التقرير إلى أنَّ ثقة الإسرائيليين بالأحزاب السياسية ومؤسسات الحكم، وحتى الشرطة، في تراجُع. 

- الحوكمة: يتم التعبير عنها من خلال ثقة الإسرائيليين بقدرة النظام على فرض سيطرته في مجالات أساسية للمواطنين. يعتبر الباحثان أنَّ الحوكمة أيضاً في حالة تراجع، على سبيل المثال، يتقلص "الشعور بالأمان الشخصي" لدى فئات واسعة في المجتمع، ويزداد توجيه الانتقادات إلى مؤسسات فرض القانون بسبب عدم قدرتها على أداء دورها بشكل فعّال.

وهكذا، سواء اندلعت الحرب الأهلية في "إسرائيل"، كما يحذّر العديد من القادة الإسرائيليين، أو لم تندلع، فإنَّها تتجه إلى فقدان الصورة الخارجية التي لطالما تمّت صناعتها وترميمها لتلائم تطلعات الرأي العام في الغرب. 

على الرغم مما سبق، لا نتوقع تغييراً في الأداء الأميركي والنظرة تجاه "إسرائيل"، فتعريفات الديمقراطية تتأقلم وتتبدل لدى الغرب بحسب الهدف والسياسة المتبعة، فحين يرتبط الأمر بالحلفاء في المجتمعات التي تفتقر إلى الحريات والحقوق المواطنية، فإن التعريف الغربي للديمقراطية يركّز على الانتخابات وإجرائها كمعيار وحيد للديمقراطية، فيما تتوسع إلى الحريات العامة وتمكين المجتمع المدني وحرية الصحافة والمعارضين وقدرتهم على التغيير حين يرتبط الأمر بأعداء الولايات المتحدة أو خصومها.

 

2023/03/13

المشهد اللبناني بعد مصالحة السعودية- إيران

طغى الاتفاق السعودي الايراني الذي رعته الصين على كل ما عداه في المنطقة، حيث أدخل الصين الى المنطقة من باب الدبلوماسية وحفظ الأمن الواسع، وأظهرها دولة راعية للسلام بعدما اتُهمت الولايات المتحدة الأميركية لفترة طويلة بأنها رعت الحروب الطائفية والانقسامات المذهبية لصالح اسرائيل، ما أدى الى الفوضى التي سمتها كوندوليزا رايس "الفوضى الخلاقة" في محاولة لتبرير فشل سياسات نشر الديمقراطية التي قادتها إدارة الرئيس جورج بوش.

ولا شكّ ان الاتفاق سينعكس إيجاباً على الملفات والساحات ذات النفوذ المشترك بين الدولتين الاقليميتين، فالاقتتال بينهما حوّل بلدان متل اليمن ولبنان وغيرهما الى ساحات اقتتال بالوكالة بين الطرفين، واليوم سيحوّلهما الى مختبر تقاس فيه نتائج التسوية السلمية بين البلدين.

بالنسبة للبنان، وبالرغم من  أن العديد من المحللين حاولوا مبكراً استنباط ما سيكون عليه المشهد الرئاسي والحكومي بعد الاتفاق، فاعتبر بعضهم أن الوزير سليمان فرنجية سيكون الرئيس المقبل حتماً، بينما البعض الأخر اعتبر انه سيكون أول ضحية لهذا الاتفاق.

وفي هذا الإطار، من المفيد أن نعود الى الحراك اللبناني الذي سبق التسوية الاقليمية لنورد أنه بالرغم من أن السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه برّي كانا قد أعلنا سليمان فرنجية مرشحاً للثنائي، لكن كان من الواضح ما يلي:

-       كان واضحاً في خطاب السيد حسن نصرالله أن تسمية فرنجية لم تكن مناسبة لفرضه فرضاً على الأطراف الآخرين وخاصة المسيحيين منهم، بدليل أنه أكد على وجوب "نصاب الثلثين" لانعقاد المجلس النيابي، الذي يعني وجوب مشاركة طيف واسع جداً من القوى السياسية وعدم تخطي الإرادة المسيحية الرافضة لفرنجية كما أعلن سابقاً الوزير السابق علي حسن خليل.

-      كان واضحاً من الخطاب وما تلاه من تصريحات المسؤولين في الحزب أن المعادلة التي أعلنها الحزب هي كالتالي: لقد اعلن الثنائي مرشحه، فلتقوم القوى الأخرى بإعلان مرشحيها وتعالوا لنتحاور. إذاً، هي دعوة للحوار والتفاهم والوصول الى تسوية حول إسم الرئيس وليس كما اعتبرها البعض بأنها دعوة لفرضه بالقوة. علماً أن موازين القوى النيابية لا تسمح بفرضه فرضاً على الأطراف الاخرى.

هذا في سياق الخطابات والتطورات، أما في سياق التحليل، فنجد ما يلي:

-      إن اتفاق السعودية وإيران برعاية صينية لا يعني بأي حال من الأحوال إخراج النفوذ الأميركي من لبنان أو القدرة على إنهائه.

-      إن أي محاولة لإنهاء النفوذ الأميركي في لبنان ستكلّف لبنان الكثير من المصاعب واستمراراً للضغوط القصوى، لذا عملياً يمكن أن تقوم السعودية اليوم بدور الوسيط بين كل من النفوذين الايراني والأميركي ما يعطيها هامشاً لتوسيع نفوذها في لبنان، علماً أنها بالأساس تشكّل الضامن الاقتصادي لأي محاولة انقاذية بعد التسوية، لأنها قادرة على مساعدة البلد اقتصادياً أو خنقه عبر الاعتكاف الذي سيؤدي الى اعتكاف خليجي مماثل.

-      إن انتخاب فرنجية رئيساً يعني انتصار إرادة طرف على الآخرين، ما يعني انتصاراً لمحور على آخر، وهو ما لن يتم السماح به ولو إعلامياً. لذلك إن استعجال ترشيح الثنائي لفرنجية قبل التفاهم الاقليمي بلحظات أضرّ بالرجل بدل أن يساعده.

-      الاتجاه العام أن يكون هناك تسوية لبنانية دقيقة المعادلات، لا تسمح بأن يكون الرئيس المقبل محسوباً على طرف بشكل واضح، وإعادة  تشكيل السلطة من الأشخاص غير المتهمين  بالفساد ومن غير المتورطين مع رياض سلامة ، ومن غير الاستفزازيين... ما يعني أن معظم من يديرون السلطة اليوم، ومعهم نجيب الميقاتي لن يكونوا في المشهد السياسي الحاكم مستقبلاً.   

2023/03/11

انتخاب "شي" رئيساً للمرة الثالثة: ماذا يعني للولايات المتحدة؟

كما كان متوقعاً، تمّ انتخاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للمرة الثالثة، لأول مرة منذ التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بعد تعديلات دستورية أقرّها البرلمان حصلت في آذار / مارس عام 2018، عمدت إلى إلغاء حصر الرئاسة بفترتين، ما يسمح فعلياً لشي جين بينغ بالبقاء في السلطة مدى الحياة.

وتعامل الإعلام الغربي والأميركي ببرودة مع ذلك الانتخاب الذي كان أقرب إلى التزكية، بسبب عدم ترشح أي منافس له، معدّين التجديد أمراً طبيعياً بعدما قام شي بتعزيز سلطته السياسية وفرض أيديولوجيته السياسية وقبضته على الحزب الشيوعي، ورفع مكانته إلى مستوى مؤسسه، الرئيس ماو تسي تونغ.

لا شكّ في أن الاستقرار السياسي في الصين يدفع إلى زيادة صعوبة قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على احتواء الصين، والقدرة على زعزعة استقرارها تمهيداً لتحجميها على المستوى العالمي، فالقلاقل السياسية الداخلية والنزعات الانفصالية والتململ داخل الطبقات السياسية والشعبية وداخل الجيش عادة ما تكون مفاتيح السيطرة على الدول وزعزعتها من الداخل، وأحياناً انهيارها كما حصل مع الاتحاد السوفياتي السابق.

منذ عام 2008، يتم تضخيم الخطر الصيني في الولايات المتحدة الأميركية، ويطالب عدد من محلّلي الدفاع بزيادة القدرات الدفاعية للولايات المتحدة في مواجهة الصين، معتبرين أن القوات المسلحة الصينية كبيرة جداً لأغراض دفاعية بحتة، وإن الصين تتعامل بشكل ممتاز ومدرك "لعلاقة النمو الاقتصادي بالإمكانات العسكرية"، وتعمل على تعزيز النمو الاقتصادي الذي سيستتبعه حتماً التوسع بالنمو العسكري.

ومنذ بدايات الصعود الاقتصادي الصيني الذي بدأ مع دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ما انفك عدد من المحللين العسكريين الأميركيين يطالبون بزيادة موازنة الدفاع الأميركية، وتوسيع قدرات الجيش الأميركي، مستحضرين دائماً "التهديد الصيني". وفي هذا الإطار، نستذكر ما قاله وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد: "بما أنه لا توجد دولة تهدد الصين، يجب على المرء أن يتساءل: لماذا هذا الاستثمار المتزايد في القدرات العسكرية؟ لماذا مشتريات الأسلحة الكبيرة والمتنامية المستمرة؟ لماذا عمليات الانتشار الكبيرة المستمرة؟".

عملياً، حين أطلقت تلك التصريحات لم يكن للصين أي قاعدة عسكرية خارج البلاد، لكن موازنة الدفاع الصينية كانت قد زادت من 26 مليار دولار عام 2001، إلى نحو 78 مليار دولار عام 2008، وأصبحت اليوم في سنة 2023 تعادل ما قيمته 225 مليار دولار تقريباً.

وعلى الصعيد الاقتصادي، كانت الصين قد بدأت تصعد اقتصادياً متّكلة على يد عاملة متوافرة بأسعار زهيدة، وإعانات وحوافز حكومية لعدد من المعامل والشركات، بالإضافة إلى سياسة حمائية إلخ... ما يجعل المنافسة العالمية لمصلحة الصين حتماً.

كما تحتفظ الصين بفائض تجاري ضخم مع كل الدول تقريباً، وخاصة الولايات المتحدة. في العام 2009، بلغ احتياط الصين الأجنبي 2 تريليون دولار، وتفوّقت على اليابان كأكبر مالك لديون الخزانة الأميركية بقيمة 800 مليار دولار تقريباً. وحالياً، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد اليابان بين حاملي الديون الأميركية الأجنبية بحيازات خزانة بقيمة تناهز 1 تريليون دولار، وفقاً لإحصاءات أيار/ مايو 2022.

واقعياً، هذه التصريحات والتركيز الأميركي على "التهديد الصيني العسكري" منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا يأخذ في الاعتبار أنه بالرغم من أن طبيعة الجغرافيا والقدرات العسكرية الأميركية التي تجعل من الصعب جداً على أي دولة أن تهدد الولايات المتحدة الأميركية، فإن موازنة الدفاع الأميركية تضاعفت من 320 مليار دولار عام 2000، لتصل إلى 858 مليار دولار أميركي تقريباً عام 2023.

ولا شكّ في أن تضخيم الخطر الصيني الذي كان في بدايات صعود الصين عام 2008، ولم يكن مشروع طريق الحرير الجديد قد أعلن بعد، يعود إلى اهتمامات ومصالح مطلقيه أو من يمثلون، إذ تُطلق الكثير من التصريحات الأميركية حول السياسية الخارجية خدمة لمصالح اللوبيات أو الشركات التي تستفيد من تلك التصريحات لحيازة عقود من الحكومة الأميركية. وهذا يعيدنا إلى التباين في صنع السياسة الخارجية بين كل من الولايات المتحدة والصين، إذ تستخدم كل منهما نمطاً مختلفاً، على الشكل الآتي:

– النّمط الأوّل: نموذج "المنارة"

في هذا النمط التقليدي، تكون هناك استراتيجية واضحة محددة متعددة الوجوه والمراحل، مع أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تؤدي الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً دور "المنارة" التي تقود كلّ العمليات الخارجية في منطقة محددة.

هذا النمط تستخدمه الصّين بشكل أساسيّ، إذ يتمّ اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسيّة وخطط سنويَّة. وتعمل جميع الأجهزة، العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتنموية، في نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدةً بالاستراتيجية التي ترسمها الدولة المركزية، والتي تؤدي دور "المنارة".

– النمط الثاني: نموذج "المرايا"

بموجب هذا النّمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناءً على تعدّد المصالح والمجموعات ومجموعات الضغط والقطاع الخاصّ والمؤسّسات الحكومية، التي يكون لكلِّ واحدة أهدافها ومصالحها، وتتنافس في ما بينها للتأثير في السّياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة انعكاساً ومرآةً لمجموعات متعدّدة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.

يُعتمد هذا النموذج بشكل أساسيّ في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتنافس اللوبيات ومجموعات المصالح للتأثير في السياسة الخارجية. 

بالنتيجة، نجد أنه من النادر أن يطلق المسؤولون الصينيون تصريحات لا تتناسب مع توجهات السياسة الخارجية للبلاد، بينما يندفع عدد من المسؤولين الأميركيين سواء الحاليين أو السابقين إلى تصريحات وحملات علاقات عامة تسعى للتأثير في قرارات الإدارة الخارجية، ولعلَّ تضارب مصالحها هو الذي يولّد-غالباً – انطباعاً لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات الأميركية، وهو أمر غير صحيح.

ولا شكّ في أنَّ هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح، للتأثير وفرض وجهة نظرهم في الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف، وأهمها حالياً: احتواء الصين وإضعافها، بعد إغراق روسيا في حرب عسكرية طويلة الأمد في أوكرانيا.

 

2023/03/06

هل تأتي التسوية برئيس بخلفية اقتصادية؟

عكس الاشتباك السياسي بين القوى السياسية درجة الأزمة التي تعيشها هذه القوى، وخاصة في ظل تواطؤ واضح مع المصارف التي تتشاطر مع معظم الطبقة السياسية نفس الأهداف وأهمها إلغاء التدقيق الجنائي وعدم كشف مصير الأموال المهرّبة بعد 17 تشرين وعدم كشف السرية المصرفية، وتأمين غطاء لرياض سلامة كاتم أسرارها ومغطي جرائمها المالية.

وهكذا، إضافة الى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية الى سقف غير مسبوق وبسرعة قياسية، أمران طبعا الحياة السياسية اللبنانية الأسبوع المنصرم:

الأول: الهجمة السياسية المرتدّة  التي قادها الرئيس نجيب الميقاتي المدعومة من المصارف ضد القضاء اللبناني، بعدما قامت القاضية غادة عون بالادعاء على مجالس إدارات المصارف والمدراء الذين لم يتلزموا بكشف حساباتهم التزاماً بقانون رفع السرية المصرفية. 

أما الأمر الثاني فهو تصريحات الرئيس نبيه بري الاسبوع الماضي حول الرئاسة اللبنانية وجلسات انتخاب الرئيس، والتي أدّت الى اشتباك كلامي طائفي تحريضي، وبيانات وبيانات مضادة، انتهت بعدها القضية إعلامياً وخفتت أصوات الجيوش الالكترونية، ليبقى من التصريح والردود الملاحظات التالية:

-        من الواضح أن العلاقة التي تربط القوات اللبنانية بالرئيس بري هي علاقة متينة وعميقة، بدليل أن النائب ريشار قيومجيان أجبر بسرعة على إصدار بيان اعتذار بعدما تسرع في إصدار ردّ احتوى كلاماً طائفياً استفزت ردوداً عليه من نفس العيار.

-        يبدو من التطورات والتصريحات والردود، أن كلاً من المرشحين المتنافسين (ولو بدون إعلان ترشيحهما لغاية الآن) وهما قائد الجيش جوزاف عون والنائب السابق سليمان فرنجية قد تراجعت حظوظهما – أقلّه مرحلياً-بعدما قطع الرئيس برّي أي إمكانية لتكرار تجربة ميشال سليمان التي سمحت تسوية الدوحة – بحسب الرئيس برّي- بانتخابه بدون القيام بتعديل دستوري حينها. وأكد الرئيس برّي أن تعديل الدستور لإنتخاب عون يحتاج الى ثلثي مجلس النواب، وهو ما لا يمكن لقائد الجيش أن يحصل عليه، بعدما رفضت العديد من الكتل التصويت له. بينما تبيّن أن هناك فيتو خارجي على وصول فرنجية، عكسته المواقف السعودية في الاجتماع الخماسي الذي حصل في باريس.

-        وهكذا، بالرغم من التباين المستمر بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، يبدو ان النائب جبران باسيل يتقاطع مع الرئيس بري في رفض وصول قائد الجيش، ويتقاطع مع السعوديين في رفض وصول سليمان فرنجية.

في النتيجة، إذا استمرت الفيتوهات المتبادلة، فبقي الفيتو المرفوع في وجه فرنجية محلياً (مسيحياً) وخليجياً، واذا استمر الفيتو المحلي على إجراء التعديل الدستوري لانتخاب العماد جوزاف عون، ولم يحصل اي تنازل من قبل أي طرف لصالح الآخر مقابل مكاسب... فهذا يعني أن التسوية ستأتي برئيس للجمهورية غير متداول اسمه لغاية الآن. من الأفضل حينها للبنان أن يطرح اسم جديد لرئاسة الجمهورية بخلفية اقتصادية مالية، يستطيع قيادة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والاصرار على السير بالخطط الاصلاحية تمهيداً لوضع لبنان على سكة التعافي. 

2023/03/04

التنافس على دول الجنوب: هل يدفعها إلى الفوضى؟

كان لافتاً هذا العام إعطاء مؤتمر ميونيخ السنوي حول الأمن أهمية كبرى لدول الجنوب العالمي، معتبراً أنَّها ساحة صراع عالمي بين الدول الكبرى. وقد أفرد لها حيّزاً موازياً لكلٍّ من حرب أوكرانيا وضرورة مواجهة الصين وروسيا.

كعادته، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثر صراحة، لكنه كان الأكثر تشاؤماً أيضاً، حين قال إن "الغرب خسر ثقة الجنوب العالمي، ولم يفعل ما يكفي للرد على تهمة المعايير المزدوجة، وخصوصاً خلال فترة انتشار وباء كورونا، إذ لم يفعل الغرب الكثير لمساعدة تلك الدول ومدّها باللقاحات".

وذكر التّقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ أنّ "العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فقد الثقة بشرعية وعدالة النظام الدولي الذي لم يمنحها صوتاً مناسباً في الشؤون العالمية، ولم يعالج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ"، وأضاف: "تعتبر دول الجنوب أن النظام الذي يقوده الغرب يتسم بالهيمنة بعد الاستعمار وازدواجية المعايير وإهمال مخاوف الدول النامية".

وبناءً عليه، وبالاستناد إلى ما كشفه مؤتمر ميونيخ والتطورات التي حصلت منذ الحرب الأوكرانية ولغاية اليوم، نجد ما يلي:

-  الغرب يقاتل لاستدامة "نظام هيمنة" يخدمه

لطالما ردَّد العديد من قادة الدول الغربية أنَّ الهدف من عقوباتهم على روسيا هو وجوب امتثالها للنظام الدولي "القائم على القواعد".

وفي هذا الإطار، كان لافتاً أنّ 50% أو أكثر من المستجيبين في جميع البلدان التي شملها استطلاع مؤشر ميونخ للأمن 2023 يرون أن ثمة حاجة إلى قواعد دولية تنطبق على جميع دول العالم على قدم المساواة. 

وقد كانت هذه النظرة أقوى بين المستجيبين من عدد من دول الجنوب العالمي، مثل الصين (63%)، والهند (61%)، وجنوب أفريقيا (61%)، والبرازيل (57%)، ما يعني أنَّ المطالبة الدائمة للغرب بالمحافظة على "النظام القائم على القواعد" هي مجرد وصفة لاستدامة نظام الهيمنة الليبرالي الذي لم يعد يرضي العديد من دول العالم وشعوبها، وبات بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة للقواعد التي لا تأتي إلا لمصلحة الغرب وشعوبه.

- الغرب يهدف إلى إدامة استغلاله دول الجنوب

اشتكى الكثير من المتحدّثين الغربيين، وكذلك التقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ، أن "الدول المؤثرة، مثل الهند أو تركيا أو المملكة العربية السعودية، باتت تسترشد بمنطق أكثر براغماتية، سواء في ردودها على الحرب في أوكرانيا أو في مواقفها من المنافسة الدولية الواسعة حول النظام الدولي". 

ودعا التقرير "الولايات المتحدة وأوروبا إلى إعادة التفكير في مقاربتهما للتعاون الإنمائي مع دول جنوب الكرة الأرضية، عبر تقديم نماذج تنموية أكثر جاذبية للمنافسة مع الصين التي تقدم نموذجاً بديلاً يعتمد على التضامن والمنفعة المتبادلة".

عملياً وواقعياً، لا يمكن أن يتنكّر الغرب لفكرة أن سياساته، سواء الاستعمارية أو ما بعدها، كانت السبب في غرق دول الجنوب في التخلف وعدم تحقيق التنمية. لقد جعل هيكل النظام العالمي السائد وقواعده التنمية غير ممكنة في ظل تقسيم يجعل الدول الغنية تحتكر لنفسها الصناعات المتقدمة ولا تسمح بوجودها خارج دائرة نفوذها.

وكان المفكّر بول باران قد اعتبر أنه بعكس الادعاءات الغربية التي تعيد التخلف في دول الجنوب إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، فإن هذا التخلف المزمن الذي تعيشه تلك الدول هو نتيجة الرأسمالية نفسها، إضافةً إلى أنّ الاستعمار خلق مجموعة من الخصائص المشتركة في البلدان المتخلفة، وأن العلاقة البنيوية بين هذه الخصائص أدت إلى إعاقة التطور الرأسمالي والتنمية. 

وفي رأيه، من أهمّ هذه الخصائص:

1- وجود قطاع زراعي كبير وشديد التخلّف يهيمن عليه الإنتاج الفلاحي الصغير وتعيش على أساسه طبقة من ملّاك الأراضي.

2- وجود قطاع صناعي صغير ومتقدّم نسبياً ينتج لسوق محلي محدود وعدد من المشروعات المنتجة للتصدير تكون عادة مملوكة لرأس المال الأجنبي.

3- وجود قطاع تجاري واسع تتحكّم من خلاله الرأسمالية التجارية في التجارة الخارجية، ويرتبط عضوياً برأس المال الأجنبي.

وهكذا، نجد أنَّ الغرب يتجه إلى فتح سباق جديد عنوانه "التنمية لكسب النفوذ"، وذلك في ساحات جديدة للتنافس مع الصين وروسيا، مسرحها هذه المرة دول الجنوب العالمي. هذا السباق يعني أن التدخلات والتدخلات المضادة ستزداد في دول الجنوب، ويُخشى معها أن تكون مسرحاً لانقلابات أو ثورات شعبية تحاول إطاحة الحكام الحاليين، لكون هذه الطريقة الأسهل والأكثر فعالية لقلب موازين القوى لمصلحة طرف ما.

لكن ماذا لو أدّت التدخلات والتدخلات المضادة إلى فوضى عارمة في دول الجنوب التي تعاني أزمات معيشية واقتصادية سابقة، أضيفت إليها التحديات الاقتصادية التي فرضتها الحرب الأوكرانية؟

حينها، سيكون العالم أمام موجات بؤس وتخلف وجوع جديدة، وسيكون النظام الدولي الجديد قد قام على أرواح الفقراء في دول الجنوب العالمي.

 

2023/02/27

لماذا رفض الغرب مبادرة السلام الصينية؟

أتى الرفض الأميركي والغربي سريعاً ضد مبادرة السلام الصينية التي أتت عبر وثيقة تم توزيعها كأساس لمفاوضات بين كلٍ من الروس وأوكرانيا، عشية الذكرى الأولى لاندلاع الحرب.

وأتت الوثيقة الصينية متوازنة بين الطرفين وأبرز ما فيها:

1-  التأكيد على سيادة جميع الدول بالتساوي، واستقلالها وسلامتها الأقليمية ووحدة اراضيها، والتخلي عن المعايير المزدوجة.

2-  عدم السعي لتحقيق أمن دولة ما على حساب دول أخرى، أو تحقيق أمن المنطقة من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية. ويدعو هذا البند الى المساعدة في تشكيل هيكل أمني أوروبي متوازن، وفعّال، ومستدام، مع مراعاة السلام والاستقرار في العالم على المدى الطويل.

3-  الصراع والحرب لا يفيدان أحداً، لذا يجب استئناف الحوار المباشر في أسرع وقت والتوصل في نهاية المطاف إلى وقف شامل لإطلاق النار.

4-  الحوار والتفاوض هما الحلّ الوحيد القابل للتطبيق في الأزمة الأوكرانية، ويجب تشجيع ودعم كلّ الجهود التي تُفضي إلى تسوية سلمية للأزمة.

5-  حل الأزمة الإنسانية، وتطبيق صارم للقانون الدولي الإنساني، عبر حماية المدنيين والأسرى الخ.

6-  تقليل المخاطر الاستراتيجية عبر الامتناع عن التهديد أو استخدام السلاح النوي، والحفاظ على سلامة المنشآت النووية.

7-  وقف العقوبات الآحادية، ومعارضة كل عقوبات غير مصرّح بها في مجلس الأمن.

8-  تسهيل تصدير الحبوب، والحفاط على سلاسل التوريد وعدم استخدام الاقتصاد العالمي كآداة أو سلاح لأغراض سياسية، والعمل على إعادة إعمار أوكرانيا.

لاشكّ أن البنود هذه جميعها يجب أن تحظى بموافقة ومباركة جميع الدول لأنها عبارة عن عناوين عريضة عامة، تؤكد على القانون الدولي وتلتزم تماماً بما يطلق عليه الغربيون دائماّ "النظام الدولي القائم على القواعد"، لكن المفارقة أن الرفض الغربي والاوكراني أتى سريعاً وذلك للأسباب التالية:

-       بالرغم من تأكيد الوثيقة على سيادة واستقلال ووحدة أوكرانيا، إلا أن الغربيين يؤمنون أن بامكان كييف تكبيد روسيا خسائر كبرى في هجوم مرتد يحضّر له بعد وصول الدبابات الى أوكرانيا في الربيع، لذا لا يريدون وقف النار والذهاب الى المفاوضات الآن.

 

-       يعتقد الغربيون أن الروس "مرهقون" ويريدون وقف الحرب لانهم لا يستطيعون الاستمرار بها، ولذلك لا يريدون إعطاء بوتين فرصة لالتقاط الأنفاس عبر وقف إطلاق النار.

 

لكن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إيه" (CIA) وليام بيرنز اعتبر في مقابلة أن بوتين "واثق من أنه سيحقق نصراً نهائياً عبر الاستنزاف". وكان لافتاً في حديث بيرنز إشارته الى أن لقاءه مع رئيس الاستخبارات الروسية  شهد "شكلاً من التهور والتعالي المفرط" من قبل الروس.

 

-       لن يسمح الأميركيون للصين بأن تقود حملة عالمية لتحقيق السلام في أوكرانيا والنجاح بها، فهذا سيعطيها مكانة عالمية لا يريد الغرب منحها للصين لأنهم مصممون على احتوائها واحراجها واتهامها بالديكتاتورية والاستبداد لتبرير أي أفعال وتحرش عسكري بها في وقت لاحق.

-       لا يريد الغرب الاعتراف بمبدأ الامن الشامل، وإدانة العقوبات الآحادية خارج إطار مجلس الأمن لانها آداتهم الأفعل في وجه خصومهم، ويريدون استخدامها ضد الصين في المستقبل في حال نشوب نزاع.

 

-       لا يريد الأميركيون إعطاء الروس بنداً كانوا قد طالبوا به عشية الحرب على أوكرانيا وكبديل عن الصراع العسكري، وهو الاقرار بمبدأ "الأمن غير المجزأ" والاعتراف لروسيا بأحقيتها في الحافظ على أمنها القومي.

وعليه، يبدو واضحاً من المواقف والسلوك الغربي أن الغرب – لغاية الآن- لم يحقق أهدافه من دفع روسيا الى الانخراط في حرب مع أوكرانيا، فالانهيار الروسي الاقتصادي لم يحصل، وتفكك النظام لم يحصل والاطاحة ببوتين لم تحصل، و"إذلال" روسيا لم يحصل... وبالتالي، هم سيحاولون الاستمرار في تطبيق استراتيجية استنزاف روسيا الى أن يأتي النصر العسكري الروسي في الميدان بطعم الخسارة، حيث  يحتاج- حينها- الاقتصاد والمجتمع الروسي الى عقود طويلة للتعافي، وحيث لا تشكّل روسيا اي منافسة عالمية للأميركيين على المستوى العالمي لوقت طويل. يعتقد الأميركيون أن روسيا احتاجات الى عقد واحد تقريباً لبداية النهوض من خسارتها الحرب الباردة، لذا يجب على الغرب اليوم عدم التوقف عن استنزافها إلا بعد التأكد من أن الروس سيحتاجون بعد هذه المعركة الى عقود طويلة جداً للنهوض من جديد.