2015/12/31

مجلس التعاون الاستراتيجي"... حلف عسكري جديد؟

د. ليلى نقولا
سيؤرّخ تاريخ الحرب السورية أن عام 2015 هو عام انقلاب موازين القوى الميدانية لصالح الجيش السوري بشكل دراماتيكي، خصوصاً في الجزء الأخير منه، وذلك بعد أن شهد الصيف بداية تراجع الجيش السوري على جبهات عدّة، لاسيما على الجبهة الشمالية في جسر الشغور.

لقد شهد الميدان السوري في الأسبوع الأخير من العام الحالي، تقدُّماً للجيش السوري وحلفائه على جبهات أربع؛ على الجبهة الجنوبية في درعا، حيث سيطر على مقر "اللواء 82" في ريف درعا، واقتحم بلدة الشيخ مسكين، ليقطع بذلك طريق إمداد المسلحين بين درعا وريف دمشق، وفي الداخل، أي في ريف حمص، حيث سيطر على بلدة مهين الكبير والصغير، بالإضافة إلى بعض البلدات المجاورة، وفي ريف اللاذقية على الجبهة الشمالية أحكم سيطرته على قرية برج القصب و"النقطة 1044"، وأخيراً على الجبهة الشرقية؛ حيث أدّى تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق الزبداني - الفوعة وكفريا إلى إخراج الزبداني كلياً من الحرب السورية، وأنهى تلك البؤرة الإرهابية في خاصرة دمشق ولبنان، والتي كانت تصدّر السيارات المفخخة إلى الداخل اللبناني.

ولعل هذا الانقلاب الميداني هو ما حتّم زيارة الرئيس التركي إلى السعودية، لمحاولة تعويم المجموعات المسلحة في سورية، ودرس سبل إيقاف التقدّم الميداني السوري المدعوم جوياً من الروس، ويراهن أردوغان والملك سلمان على النجاح، مستندين في ذلك إلى نجاح الزيارة السابقة لأردوغان إلى السعودية في شهر آذار الماضي، والتي أدّت إلى تشكيل "جيش الفتح"، وحيث كان للتحالف السعودي التركي ضد الجيش السوري إنجازاته التي ذكرناها في مطلع الصيف الماضي.

فما هي أفق نجاح "مجلس التعاون الاستراتيجي" الذي تمّ إعلانه بين السعوديين والأتراك في الرياض؟

بداية، لا بد من التذكير أن تقاطع المصالح بين الرياض وأنقرة لا يعني بأي حال من الأحوال أن البلدين لا يتنافسان على الزعامة الإقليمية "السُّنية" لعالم إسلامي يمتد من المغرب العربي إلى حدود الصين، ويشتد في البؤر المشتعلة، وأهمها منطقة الشرق الأوسط.

ثانياً: يأتي إعلان "التعاون الاستراتيجي" في وقت يعاني البلدان من أزمات اقتصادية خانقة، فالسعودية ولأول مرة في تاريخها الحديث تعاني من عجز مالي خطير، قد يكون أحد أسبابه (وليس كلها) مصاريف الحرب في اليمن وسورية، أما الاقتصاد التركي فهو في أسوأ مرحلة له منذ مجيء "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم ولغاية اليوم، زد على ذلك أن العقوبات الروسية على تركيا ستبدأ نتائجها الفعلية تظهر مع بداية العام 2016، وهذا يعني أن التعاون الاستراتيجي بين البلدين لن يؤدي إلى تحسُّن في الوضع الاقتصادي لأي منهما.

ثالثاً: على الصعيد السياسي، إن إعلان "مجلس التعاون الاستراتيجي" بين تركيا والسعودية لن يؤدي بأي حال من الأحوال إلى تحسين الوضع السياسي لأي منهما، فالمشاكل الداخلية التي يعاني منها البلدان لا تنفع معها تحالفات عابرة للحدود، كما أن تحالف السعودية مع تركيا سيجعل دولاً عربية تبتعد عن المملكة، كمصر والإمارات وغيرها، وهو ما كان ولي ولي العهد السعودي يحاول تلافيه بعد إعلان "التحالف الإسلامي".

رابعاً: على الصعيد العسكري، وهو الهدف الفعلي لزيارة أردوغان للسعودية، فإن المأمول من التنسيق بين البلدين دفع المجموعات المسلحة في سورية إلى مواجهة التقدُّم السوري - الروسي، ومحاولة إطالة أمد الأزمة، وتحقيق مكاسب ميدانية تستطيع من خلالها الدولتان تحقيق مكاسب سياسية في أي حل مرتقب للأزمة السورية، محاولين تكرار تجربة "جيش الفتح" التي أدّت إلى نتائج عسكرية لصالحهما في مرحلة من المراحل، لكن التدخل الروسي عطّل مفاعيلها.

ويبقى السؤال الجوهري في هذا المجال وهو: هل باستطاعة هذا التعاون العسكري أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويشكّل ضغطاً على الجيش السوري، في ظل تعليق الأتراك طلعاتهم الجوية فوق سورية، وبعد أن فرض الروس مظلة جوية دفاعية فوق الأراضي السورية؟

في المحصّلة، آمال "مجلس التعاون الاستراتيجي" التركي السعودي لا تبدو أفضل مما سبقها من أحلاف عسكرية تمّ الإعلان عنها من قبَل السعوديين، ويمكن الاستدلال على الواقع العسكري للمجموعات المسلحة في سورية من خلال ردّ المكتب السياسي في «أحرار الشام» على زعيم «جبهة النصرة» أبي محمد الجولاني، الذي أكد أن المجموعات المسلحة، ومن ضمنها "جبهة النصرة"، "لا تسيطر إلا على أقل من 11.5 في المئة من الأراضي السورية، وقسم لا بأس فيه منها تحت الحصار الخناق والتجويع القاتل والقصف"، حسب قوله.

2015/12/11

الارباك التركي: من سوريا الى العراق


د. ليلى نقولا
بالرغم من التشنج الذي سببه إسقاط الطائرة الروسية من قبل الأتراك فوق الأراضي السورية وما نجم عنه من توتر شديد في المنطقة التي باتت تعجّ بالاساطيل والتي لا تحتاج إلا لخطأ غير مقصود أو خطوة غير عقلانية من قبل أحد المتهورين حتى تنفجر حرب عالمية ثالثة تطيح بما تبقى من أمل بتسوية أو حل، قام الأتراك بخطوة تصعيدية أخرى في العراق، حيث عمدوا الى نشر قوات تركية في محافظة نينوى بدون تنسيق مع الحكومة العراقية، وأعلنوا أنهم لن يسحبوها بالرغم من مطالبات العراقيين المستمرة بسحبها واعتبارها "عدوانًا" وانتهاكًا لسيادة العراق.

فماذا في التصعيد التركي الجديد؟

يبدو أن التصعيد التركي المزدوج على جبهتي العراق وسورية، يشير الى أن الأتراك يخشون التسوية المقبلة الى المنطقة، ويحاولون قدر المستطاع أن يحققوا أكبر قدر من المكاسب من تلك التسوية من خلال التصعيد، بالاضافة الى منع الأكراد من تحقيق حلمهم بدولة كردية مستقلة تبدو أقرب الى التحقق لأول مرة في تاريخهم، وهو ما يجعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مصرًا على إطلاق مواقف تؤكد على السير بمشروع إقامة "مناطق آمنة" في شمال سوريا، بالاضافة الى دعوته الى التنفيذ السريع لمشاريع تدريب وتجهيز المعارضة السورية "المعتدلة" التي كانت قد أعلنت عنها واشنطن من قبل.

وبالرغم من نجاح الأتراك في ابتزاز الإتحاد الاوروبي في قضية اللاجئين، والحصول على مبلغ 3 مليار يورو من الاتحاد الاوروبي كثمن لإعادة استضافة اللاجئين الذين يتم إعادة ترحيلهم من الاتحاد؛ لا شكّ أن الحكومة التركية تعيش إرباكًا  اقليميًا لم تشهد مثله منذ بدء الأحداث في المنطقة ولغاية الآن، ويتجلى في:

-  عقوبات اقتصادية وتهديدات يومية من موسكو بعد إسقاط الطائرة الروسية، ولا يبدو أن أحدًا من الحلفاء مستعد لدعمهم او تخفيف الضغط عنهم.

- انكماش الاقتصاد التركي الى حد غير مسبوق، بالاضافة الى قلق المستثمرين من عدم الاستقرار وهو ما قد يدفعهم للرحيل عن تركيا بعدما شكّلت تركيا البديل والمكان الأفضل لكل مستثمر في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد الحرب في سورية وعدم الاستقرار في كل أنحاء المشرق.

- خسائر كبرى للمسلحين التابعين لأنقرة في شمال سورية، وتقدم للجيش السوري مدعومًا بقصف جوّي روسي، وعدم قدرة الأتراك على تأمين الإمداد لإعادة التوازن الميداني كما حصل في جسر الشغور سابقًا، بسبب دخول العامل الروسي الذي فرض واقعًا جديدًا على الأرض.

- تخوّف تركي من تمدد "حزب العمال الكردستاني"، الذي كان له المساهمة الأكبر في معركة تحرير سنجار في تشرين الثاني المنصرم، ما جعله يسيطر على البلدة ذات الاغلبية اليزيدية، وهو ما دفع الأتراك الى استباق تمدده ومحاولته ربط أقاليمه السورية بمناطق عراقية تمهيدًا لإعلان الدولة، خصوصاً في ظل قلق مسعود البرزاني ( حليف الأتراك) من توسّع سيطرة حزب العمال الكردستاني على حساب نفوذه في المناطق الكردية التي شهدت مظاهرات تدعو الى رحيله والى إصلاحات اقتصادية ومكافحة الفساد للخروج من الازمة الاقتصادية التي تفاقمت بعد انخفاض أسعار النفط.

- عدم قدرة الأتراك على إقناع الحلفاء بالسير بمشروع المنطقة "الآمنة" وهي فعليًا ترجمة للطموح التركي باحتلال كامل المنطقة الممتدة من ريف اللاذقية في سوريا، أو ما يطلق عليه الأتراك "جبل التركمان" وصولاً الى تلعفر في شمال العراق، وهي منطقة قريبة من المواقع التي يتمركز فيها الجنود الأتراك داخل العراق اليوم.

- قلق تركي من التسوية المقبلة في سورية، وخصوصاً بعدما صدرت مواقف أميركية واوروبية تدعو الى التعاون مع الجيش السوري، وتعيد النظر بمواقفها من الرئيس السوري بشار الاسد، بالاضافة الى أن التصعيد الروسي ضد الأتراك قد يدفع موسكو الى دعم الأكراد في مطالبهم، كما سؤدي بالضرورة الى التضييق على حلفاء أنقرة من المعارضين السوريين بحيث قد يواجهون بفيتو روسي على مشاركتهم في السلطة أو في الحكومة السورية المزمع تشكيلها كمسار من مسارات الحل السياسي.

2015/12/03

كيف قَلَبَ الروس "الطعنة" التركية لمصلحتهم؟

د. ليلى نقولا
ما زالت تداعيات إسقاط الأتراك للطائرة الروسية تتفاعل يوماً بعد يوم، وتكشف عن درجة الحماقة التي ارتكبها الأتراك في التصعيد العسكري في منطقة تضج بالطائرات المقاتلة والأساطيل الحربية، والتي لا تحتاج إلى أكثر من تصعيد أو إهانة لكبرياء أحد الدول المشاركة لكي تندلع حرب عالمية لن يُعرف مداها وتطورها وكيفية انتهائها.

يراقب حلف شمالي الأطلسي بقلق وحذر التحرك الروسي في سورية، خصوصاً الانتقال من مرحلة عروض التعاون والتنسيق مع دول التحالف الأميركي ضد الإرهاب قبل إسقاط الطائرة، إلى سياسة الهجوم ومحاولة فرض نفوذ أحادي فوق سورية يصل مداه إلى 600 كلم، هو المدى الذي تصله صواريخ "أس 400"، بعد إسقاطها.

واقعياً، منذ قرارهم بالانخراط العسكري المباشر في سورية، بدأ الروس بإرسال القدرات الدفاعية الجوية المتطورة جداً، وكان أعضاء من حلف "الناتو" قد حذّروا في وقت سابق من أن قبة "A2/AD" يتمّ إنشاؤها في شرق المتوسط، وهذا يعني أن الروس يبنون ثالث قبة لهم في العالم، بعد كاليننغراد في بحر البلطيق، وسيفاستوبول (في شبه جزيرة القرم) في البحر الأسود، والتي تمّ إنشاؤها بعد ضم القرم، وأقام فيها الروس منظومة صواريخ "كروز" تغطّي كامل البحر الأسود، والآن يتم إقامة الثالثة في اللاذقية على الشاطئ السوري في البحر المتوسط، والتي أنشأ فيها الروس قاعدة جوية روسية في مطار "حميميم"، وأرسلوا الطراد الروسي "موسكو"، الذي يُلقَّب بقاتل الغواصات، ما يعني إقامة قبة روسية في المتوسط لأول مرة في التاريخ الحديث.

ويشير الخبراء العسكريون إلى أن القبة التي يبنيها الروس في المتوسط، كما القبتان السابقتان؛ تعمل على تحقيق أهداف عسكرية عدّة، أهمها اثنان:

1-      السيطرة على منطقة ومنع الوصول إليها، أي أنه منذ الآن فصاعداً على حلف "الناتو" أن يحتسب أي خطوة أو تدخل عسكري له في منطقة النفوذ الروسي في سورية، بسبب "الكلفة العالية جداً"، و"المخاطر غير المقبولة" لأي تدخل أحادي لا يأخذ بعين الاعتبار التنسيق مع الروس، وهو ما تحاول أن تتحداه ألمانيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الألمانية أنها لن تقدّم معلومات لروسيا عن مسار تحليق مقاتلاتها التي سترسلها إلى سورية، لكن الكلام الحقيقي سيكون للميدان وليس للتصريحات غير الواقعية.

2-      الحرمان من القدرة على احتلال المنطقة المشمولة بالقبة الدفاعية، وهذا يعني أن أي وجود عسكري في سورية خارج الإرادة الروسية سيكون غير ذي جدوى، ويمكن للروس تعطيله وإفشاله، ومنعه من أي تحقيق أي نتيجة فعّالة على الأرض.

وانطلاقًاً من كل هذا، يمكن فهم التحرك العسكري الأميركي في المنطقة، والذي يركّز على المنطقة التي ينشط فيها "داعش"، خصوصاً في الرقة ودير الزور، والإعلان الأميركي الأخير بأن قوةً أميركية مكلفة بمهمات استشارية ميدانية واستخباراتية، قد تصل في الأيام المقبلة إلى العراق، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدّل على أن الأميركيين يتحاشون الاصطدام بالروس في سورية، ما يعني أنه عندما تنضج مرحلة التسويات في المشرق العربي، ويقتنع "الناتو" بعدم قدرته على إزاحة النفوذ الروسي في سورية أو تحدّيه بعد اليوم، فإن المنطقة ستشهد تقاسم نفوذ أميركي - روسي مشترك.

وبناء على هذا التصور المستقبلي (والذي يحتاج إلى وقت لتبلوره)، وفي حال لم يفرض الميدان واقعاً مغايراً، نرى أن المنطقة تسير نحو تقاسم نفوذ واقعي بين الروس والأميركيين، حيث تكون سورية ساحة النفوذ الروسي في المنطقة، بينما يكون العراق ساحة النفوذ الأميركية، وتشكّل إيران "عامل التوازن" بين النفوذين، كونها اللاعب الإقليمي الأقوى في الساحتين، علماً أن المخاطر تبقى متعلقة بما يلي:

1-      في حال تمّ رسم مناطق النفوذ نتيجة تفاهم أميركي - روسي، فإن المنطقة ستشهد ازدهاراً غير مسبوق، ونهضة إعمارية، وسيتخلص المشرق العربي من الإرهاب وتوابعه، وسيتمّ إضعاف الفكر المولّد له.

2-      في حال فرض الميدان واقع النفوذ بدون التفاهم السياسي الأميركي - الروسي، أي في حال لم يقبل الأميركيون بما فرضه الروس من واقع ميداني لمصلحتهم في سورية، واستمروا بمقاومته، فإن منطقة لا بأس بها على جانبي الحدود بين العراق وسورية، ستكون أشبه بقندهار، حيث تتداخل فيها كل تعقيدات الصراع الإقليمي والدولي، وينتشر فيها الإرهاب، ويتعذر إنهاء الصراع فيها، كونها المتنفس الذي ستتنفس فيه كل تلك الصراعات المتفجرة في المنطقة.

لكن، إلى أن يحين أوان التسوية، وهي ليست في المدى المنظور بأي حال، فإن لسان حال الروس وحلفائهم يتعامل مع حادثة إسقاط الطائرة ضمن عنوان "ربّ ضارة نافعة".

2015/11/26

هل يردّ بوتين على الرسالة التركية- الاميركية؟

د. ليلى نقولا
بالتأكيد، سيذكر تاريخ الحرب السورية عند كتابته، حدث مفصلي آخر يضاف إلى التطورات المفصلية السابقة، وهو إسقاط الأتراك طائرة روسية فوق الأراضي السورية، وقيام المسلحين التابعين لتركيا بإطلاق النار على الطيارين وهما يهبطان بالمظلة على بُعد كيلومترات عدّة من الأراضي التركية، وفي عمق الأراضي السورية.

والأكيد أيضاً أن الردّ الروسي على هذا التطور الخطير هو أمر حتمي، خصوصاً مع شخصية قيادية كشخصية فلاديمير بوتين، ولأن عدم الردّ سيؤدي إلى تعطيل مفاعيل الردع الذي فرضته عاصفة السوخوي، وسيدفع إلى التشجيع على المزيد من الاستهدافات للروس في المنطقة، وفي سورية.

وبغض النظر عن حجم الردّ الروسي الحتمي وطبيعته، وأين يمكن أن يتحقق، وكيف، يبدو من المهم بمكان قراءة المعطيات التي توفّرت عن الحادثة بجوهرها ومضامينها، وأسئلتها الجوهرية، وهي على الشكل الآتي:

أولاً: سواء كانت الطائرة الروسية قد خرقت الأجواء التركية لمدة 17 ثانية، كما يقول الأتراك، أو لم تخرقها كما يؤكد الروس، فإن الطائرة لم تكن تشكّل تهديداً للأتراك أو لأمنهم القومي بالمعنى المتعارَف عليه في القانون الدولي، ليتمّ إسقاطها.

ثانياً: الإعلان أن الطائرات التركية التي استهدفت الطائرة الروسية قد خرجت من قاعدة انجريليك التركية، وهي قاعدة يستخدمها الأميركيون في حربهم على الإرهاب، تشي بأن تنسيقاً أميركياً - تركياً سبق قصف الطائرة الروسية. وإذا عطفنا الأمر على تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما بعد الحادثة، وما صرّح به الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند بُعيد خروجه من اجتماعه مع أوباما، من عدم رغبة فرنسية بالتنسيق مع الروس في حربهم في سورية إلا في حال التزموا فقط بقتال "داعش"، يعني أن العمل العدواني التركي ليس إلا رسالة أميركية للروس بعدم قبولهم بتغيير موازين القوى على الأرض لصالح الجيش السوري.

ثالثاً: تذرُّع الأتراك بحجة الدفاع عن النفس في إسقاطهم للطائرة الروسية، معتبرين أن الدفاع عن النفس يسري في حالتين:

أ- حقهم في الدفاع عن مجالهم الجوّي الإقليمي، وهذا له طابع سيادي بالتأكيد.

ب- التذرُّع بأن الروس يقصفون التركمان في سورية: وإن كان الأتراك يستخدمون هذه الذريعة لأن روسيا استخدمتها عام 2008؛ حين قام الجيش الروسي بالتدخل العسكري في جورجيا لتحرير أبخازيا واوسيتيا الجنوبية، متذرعاً بحماية مواطنين روس، فإن الحالة الجورجية لا تنطبق على الحالة السورية؛ ففي الحالة الجورجية، مواطنو أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية هم بالفعل رعايا روس يحملون الجنسيات الروسية، ولطالما شكّلت تلك الأقاليم جزءاً من الأراضي الروسية منذ القرن التاسع عشر، وبعدها كجزء من الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية ولغاية عام 1991، حين استقلت جورجيا، فشكلّوا أقاليم مستقلة ضمنها.

وهكذا، فإن حالة الأقلية التركمانية داخل سورية (وهم مواطنون سوريون من أصول تركمانية) لا يمكن مقارنتها بحالة الرعايا الروس الموجودين في أراضي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن التذرع التركي بالتدخل العسكري لحماية الأقلية التركمانية داخل سورية يُعدّ تخطياً لكل المواثيق والأعراف الدولية التي تؤكد على سيادة الدول التي تتواجد فيها أقليات عرقية على أرضها.

رابعاً: الاستدعاء التركي لحلف شمال الأطلسي بعد اسقاطهم الطائرة الروسية، يظهر وكأنه إما محاولة لجرّ الحلف الى حرب مع الروس، أو لتجنّب الردّ الروسي القوي من خلال محاولة "تخويفهم" بالحلف الأطلسي، لكن البيان المتحفّظ لحلف شمال الأطلسي، وبالرغم من أنه دعمَ - لفظياً - الرواية التركية، يعكس عدم استعداد الحلف للدخول عسكرياً في حرب ضد الروس أو لإقامة منطقة عازلة أعلن أردوغان أنه "سينشئها بالتعاون مع حلفائه"، خصوصاً في وقت تتعرض دول الاتحاد الأوروبي لتهديدات إرهابية غير مسبوقة في تاريخها، بالإضافة إلى ما يعنيه هذا التدخل من تحوّل الحرب السورية من حرب عالمية بالوكالة إلى حرب عالمية حقيقية على الساحة الشرق أوسطية.

خامساً: الاطلاع على عمق وحجم التبادل الاقتصادي والتجاري التركي الروسي يجعل من التصعيد العسكري بين الاثنين مستغرَباً، كونه مُكلف للجميع ويضر باقتصاد البلدين، فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: ما هي الأهمية الاستراتيجية للمنطقة التي يريد أردوغان احتلالها تحت مسمى "المنطقة الآمنة"، لكي يفرّط بكل المكاسب الاقتصادية والتجارة وأمن الطاقة التي يوفّرها له الروسي؟

في المحصّلة، يبدو التصعيد التركي رسالة أميركية للروس بأن تعديل قواعد الاشتباك في الشمال السوري أمر ممنوع، وأن الحدود التركية - السورية يجب أن تبقى مفتوحة للإمداد والتمويل ودعم المجموعات الإرهابية التي تقاتل الجيش السوري، لعلمهم بأن إقفال تلك الحدود سيقطع المياه عن "السمكة" الإرهابية، ويخنقها، وسيفرض حلاً سياسياً حسب التصور الروسي - الإيراني، والذي أُعلن ضمن الرسالة المشتركة التي أطلقها بوتين والخامنئي من طهران. وهكذا، قال الأميركي كلمته، فهل سيقبل الروسي؟ من الصعب جداً تصديق أن بوتين سيقبل بأن لا تكون الكلمة الأخيرة والنهائية له في الميدان السوري.

2015/11/18

مقابلة مع راديو فان_ 18 تشرين الثاني 2015

http://www.voiceofvan.net/content/kel-youm-bi-youmo-18112015dr-leyla-nekoula

الدرس الفرنسي: الارهاب وسيلة غبية

تتسارع التطورات الميدانية والسياسية المرتبطة بالنزاع السوري، خصوصاً بعدما ضرب الإرهاب فرنسا، والطائرة الروسية وبرج البراجنة في لبنان، ولو أن أحداً من الدول الكبرى لم يكن ليهمّه مصير اللبنانيين وحياتهم وأمنهم لو لم تضرب باريس، وكأن حياة الرجل الغربي الأبيض أغلى ثمناً وأكثر قيمة من حياة أهل الشرق أصحاب السحنة السمراء القاطنين في هذه البقعة الملتهبة من الأرض.
ولعل من المفيد في خضمّ الحديث عن تنامي الإرهاب وانتشاره في العالم، أن يتمّ الحديث عن نواة ونشأة صناعة الموت هذه، واستخدامها كوسيلة غربية، منذ أفغانستان في الثمانينات من القرن العشرين، ولغاية سورية والعراق وكافة العالم العربي اليوم. وبحسب هيلاري كلينتون في أحد جلسات الاستماع أمام الكونغرس الأميركي، أنشأ الاميركيون "القاعدة" بالتعاون مع المملكة العربية السعودية، التي كانت مهمتها تأمين الجهاديين العقائديين، وعلى الولايات المتحدة مهمة التدريب والإمداد بالسلاح، والمساعدة العسكرية واللوجستية. وبالفعل، نجحت الخطة الأميركية، وبالتضافر مع عدد من العوامل المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا والديمغرافيا الأفغانية، في إغراق الاتحاد السوفياتي في المستنقع الأفغاني وخروجه بهزيمة عسكرية، إلى أن بدأت "القاعدة" تشعر بفائض قوة وسيطرتها على دولة كاملة في آسيا الوسطى، فانقلبت على صانعيها وضربت أهدافاً أميركية في أماكن عدة من العالم، تمّ تتويجها بحادثة 11 أيلول 2001.
انطلاقاً مما تقدم، ومن نجاح "القاعدة" في أفغانستان في المرحلة الأولى، هل يمكن للإرهاب ضد المدنيين أن يُعتبر وسيلة ناجحة في الحرب؟
تشير المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، وهي المعتمَدة بقوة لدى الدول كافة، خصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، إلى أن الحُكم على الظواهر السياسية يكون بمدى تحقيقها للنتائج المتوخاة منها، وليس بأخلاقيتها أو تطابقها مع المبادئ الإنسانية، لذا فإن الإرهاب ضد المدنيين كوسيلة يجب أن يُحكم عليه من خلال تحقيقه للنتائج المطلوبة.
في البداية، حقق الأميركيون أهدافهم من إنشاء "القاعدة" في أفغانستان، لكن "التنظيم" في ذلك الوقت لم يكن إرهاباً معولماً متفلتاً من كل ضوابط، بل كان أقرب إلى المجموعات المسلحة التي تمارس قتال العصابات ضد جيش نظامي، وهي وسيلة ما زالت تُستخدم وأثبتت نجاعتها في الحروب اللامتماثلة، ولا يمكن اعتبارها إرهاباً، كونها تتخذ العسكريين هدفا لها، بل إن الارهاب المقصود هو الذي يتخذ المدنيين هدفاً له.
في المرحلة الثانية، استغل الأميركيون الإرهاب "القاعدي" وهجمات 11 أيلول لشنّ حروب على كل من أفغانستان والعراق، وبعيداً عن "نظريات المؤامرة" التي تقول إن الأميركيين هم أنفسهم من أمر بشنّ تلك الهجمات لاستغلالها كذريعة، يمكن القول إن الإرهاب المتفلّت من الضوابط أضرّ بمن أنشأه وربّاه ودربه، ويمكن أن نذكر في هذا المجال أن المملكة العربية السعودية نفسها (مصدّرة "الجهاديين" والفكر الذي يحفّزهم) كانت قد تعرّضت للإرهاب والتفجيرات الانتحارية في الداخل بين عامي 2004-2008، وهكذا يكون الحكم على النتيجة المحققة من الإرهاب كوسيلة بأنها سلبية.
أما المرحلة الحديثة من الإرهاب المتفلت، فهي نشوء "داعش" وقيامه بعمليات انتحارية ضد المدنيين في العراق، ثم إنشاء المجموعات الإرهابية الأخرى التي استغلها الغرب وبعض الدول الإقليمية لضرب أسس الدولة السورية وتركيع النظام السوري للوصول إلى انهياره، والتي تمددت لتضرب في لبنان وتدمي المجتمعات العربية كافة؛ من المغرب العربي إلى مشرقه.
في بداية هذه المرحلة استفاد المحرضّون والممولون من الفوضى والدمار في سورية للاختراق ومحاولة تقويض أسس الدولة السورية، لكن النتائج الحقيقية والفعلية للإرهاب ضد المدنيين وبعد سنوات خمس من الموت، لا تشير إلى نتائج ملموسة في انهيار النظام السوري، أو في دفع المقاومة اللبنانية إلى الانسحاب من سورية على وقع الضربات الإرهابية في بيئتها الحاضنة في بيروت، ولم تؤدِّ إلى انهيار مصر أو تونس أو غيرها.
واليوم، انتقل الإرهاب المدرك أن أيام استخدامه كوسيلة باتت معدودة، وأن مشغليه ومموليه سيتخلون عنه على طاولة المفاوضات في فيينا، إلى ضرب مَن اعتقدوا أنهم بمأمن منه، لاعتقادهم أن الخدمات الكبرى السياسية والإعلامية والعسكرية، والجسر الجوي الذي أمّنوه من أوروبا إلى سورية، كافية لدفع خطر انتقامه عنهم، فكان 13 تشرين الثاني الدامي، والكلفة الفرنسية العالية من الضحايا الأبرياء.
وهكذا، وفي التقييم بين الأكلاف والأرباح المحققة في استخدام الإرهاب ضد المدنيين كوسيلة، يمكن القول إنه وسيلة غبية، إذ إن كلفته أعلى بكثير من النتائج المحققة منه، فالإرهاب ضد المدنيين يوجع الخصم ويؤلمه لكنه لا يحسم معركة، ولا يؤدي إلى انهياره، بعكس المجموعات المسلحة التي تستخدم حروب العصابات ضد جيش نظامي، فتشلّه وتؤدي إلى هزيمته، وها هم الفرنسيون يدفعون ثمناً باهظاً لوسيلة اعتقدوا أن تجربتها سهلة وغير مكلفة، بينما الدرس الأميركي ماثل أمام أعين الجميع.

2015/11/04

ماذا بعد الانتخابات التركية؟

د. ليلى نقولا
تماماً كما نتنياهو قبله، فاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجميع، وتخطى كل التوقعات بفشل حزبه في الوصول إلى أغلبية مريحة تمكّنه من تشكيل حكومة وحكم البلاد بطريقة منفردة؛ فقد حقق "حزب العدالة والتنمية" فوزاً كاسحاً بالرغم من أن الأعداد لم تكن على قدر آمال أردوغان، الذي كان يأمل في الحصول على أغلبية ثلثي البرلمان، حتى يتمكّن من القيام بتعديلات دستورية، أهمها تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي بدل البرلماني، وكتابة دستور جديد لتركيا.

لعل كثيرين تحدثوا عن الوسائل التي استخدمها أردوغان وأركان حزبه، خصوصاً أحمد داود أوغلو، للحصول على هذه النتيجة، خصوصاً استخدام العنف والقتل والقلق الأمني، وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى خطابات الترويع والتخوين، وترهيب المعارضين، وتهديد الأكراد، بالإضافة إلى الوعود الانتخابية التي أغدقها أردوغان لتشجيع الناخبين، والتي يندرج بعضها ضمن إطار تدخله في الحياة الخاصة والشخصية للأتراك.

وللمتابعين للانتخابات التركية، وهم كثر من داخل تركيا وخارجها، يبدو السؤال الجوهري اليوم: ماذا بعد الانتخابات التركية؟

1-      لا شكّ أن الأزمة السورية ستكون أكثر المتأثرين بهذا الفوز الأردوغاني الساحق، والذي سيدفعه إلى مزيد من التعنّت، ومحاولة دفع الأمور إلى التصعيد، لتحقيق مكاسب في الميدان السوري، يحصّل بعدها مكاسب سياسية تجعله من الأطراف الرئيسية التي ترسم مستقبل كل من سورية والعراق.

وللتصعيد الأردوغاني المرتقَب بعد الانتخابات هدفان: إسقاط النظام السوري، أو على الأقل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، والذي بات العداء الأردوغاني موضوع شخصي أكثر منه سياسي، أو عقلاني. أما الهدف الثاني، فهو ضرب بنية الإدارة الذاتية التي بدأت تتشكل بشكل واقعي، خصوصاً في ظل تحالف الأكراد مع كل من أميركا وروسيا، وتفهّم الدولتين الأخيرتين لمطالب الأكراد المشروعة بحكم ذاتي، بالإضافة إلى إعلانهما - كل على حدى - أن الأكراد جزء لا يتجزأ من استراتيجية المواجهة مع "داعش"، ولطالما كان من الصعب خلال السنوات الخمس الماضية، أن تتفق الدولتان المتنافستان على كسب النفوذ وتوسيع دائرته في الشرق الأوسط على أمر ما بشكل مؤكد؛ فإن اتفقوا تمّ الأمر، وإن اختلفوا طال النزاع، ولعل اللافت اتفاقهما على محورية الدور الكردي، وهو ما يقلق الأتراك بشكل جدّي.

2-      على صعيد الداخل التركي، وبالرغم من انتصار "العدالة والتنمية" الذي خيّر الناخبين "أنا أو الفوضى"، لكن الوضع التركي لا يشي بالذهاب نحو الاستقرار الذي وعد به أردوغان شعبه في حال فوزه في الانتخابات، وقد يكون العامل الكردي، والتراجع الاقتصادي والركود والبطالة، بالإضافة إلى قضية الأعداد المتزايدة للاجئين السوريين، وتغلغلهم في البلاد وفي اقتصادها ونسيجها الاجتماعي، عامل من عوامل التأزيم التي لا يمكن ضبطها بسهولة.

3-      بالنسبة إلى الأوروبيين التوّاقين إلى تفاهم ما مع تركيا، لضبط موضوع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتدفُّق اللاجئين غير المسبوق، فإن الانتصار الانتخابي ووهم فائض القوة الذي تحصّل عليه حزب أردوغان، سيجعل من الشروط التركية أعلى من ذي قبل، ما قد يدفع أوروبا - في ما لو اختارت الخيار العقلاني - إلى الضغط للوصول إلى حل سياسي في سورية، يسمح لهم برفض اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم بدون التشهير بهم في الإعلام العالمي، بالإضافة إلى التنصُّل من مطالب الأتراك بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أو - على الأقل - السماح للأتراك بالدخول إلى أوروبا بدون تأشيرة، وهو ما قد يغرق الدول الأوروبية بالعمالة التركية ويعزز البطالة الأوروبية، ويخلق تحديات للسلطات الحاكمة ليس أقلّها صعود اليمين المتطرف في كلا الحالتين: فتح الأبواب للأتراك أو للاجئين السوريين.

4-      بالنسبة إلى كل من أميركا وروسيا، فلا يضير أي من الدولتين بقاء أردوغان وحزبه في الحكم في تركيا، فالروس يقيمون علاقات اقتصادية غير مسبوقة مع الأتراك، ويطمحون بأن يكون أنبوب السيل التركي بديلاً مقبولاً عن الأنبوب الأوكراني. أما الولايات المتحدة فهي تعتمد بشكل أكيد على الحليف التركي - عضو حلف "الناتو" - لتسيير شؤون المعارضة السورية والمجموعات المسلحة، وقد يكون عودة "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم بشكل منفرد من الأمور التي تريدها الإدارة الأميركية بشدّة، إذ إن الأزمة السورية تمرّ في أخطر مرحلة من مراحلها بالنسبة للأميركيين، وهم يحتاجون إلى حلفاء موثوقين وقادرين ومستقرين لفرض وجهة نظرهم وخياراتهم سواء في الميدان السوري أو في مؤتمرات فيينا.

2015/10/22

ماذا لو لم يتدخل الروس؟


د. ليلى نقولا
في منتصف الصيف المنصرم، غرق الإعلام بموجة من التصريحات المتفائلة والمتبدّلة، والتي تحدثت عن "تغيير ما" في النظرة الغربية والإقليمية تجاه الحرب السورية، وأن الشروط السابقة والخلاف حول مستقبل الرئيس بشار الأسد قد انتهى؛ فلم يعد جون كيري يكرر الموقف الأميركي المعروف منذ سنوات أربع بأن "الأسد فقد كل شرعيته وعليه أن يرحل"، بل بات يتحدث عن ضرورة "التفاوض معه"، مستكملاً سلسلة من التصريحات التي أوحت بتطور ما في الموقف الأميركي، ولو غلّفه كيري بضرورة التفاوض مع الأسد لإقناعه بالرحيل في مرحلة ما من التفاوض.

ومع كيري، برز حديث رجب طيب أردوغان في موسكو، معتبراً أنه يمكن للأسد أن يبقى في مرحلة أولية من المرحلة الانتقالية، على أن يرحل في مرحلة لاحقة، وترافق هذا مع حديث مشجّع للأوروبيين حول ضرورة التفاوض مع الأسد، بينما بقيت السعودية وحدها تغرّد منفردة، معتبرة على لسان وزير خارجيتها أنه "لا مكان للأسد في سورية".

وبالتزامن مع كل تلك التصريحات العلنية، والتي دفعت البعض للتفاؤل بإمكانية الذهاب إلى حل سياسي في سورية، كان المحور الغربي ومعه حلفاؤه الإقليميون يُعدّون خطة يتصورون أنها ستقلب موازين القوى الميدانية، وتؤدي إلى احتلال دمشق وإسقاط الأسد عبر هجوم برّي ينفذه الجيش التركي بذريعة إقامة "المنطقة الآمنة"، وتحدثت تقارير صحفية حديثة أن الاستخبارات الروسية والإيرانية كشفت خطة بدأ التحضير لها في غرفة العمليات التركية لهجوم على حلب وحمص وصولاً إلى قطع طريق بيروت - دمشق، "كمقدمة للإغارة الواسعة على العاصمة السورية واقتحامها في شهر تشرين الأول (الحالي)، فضلاً عن هجوم واسع هدفه السيطرة على حمص والدخول من سهل الغاب إلى تخوم مدينة اللاذقية الساحلية".

ولعل الكشف عن هذه الخطة الغربية التي أفشلها التدخل العسكري الروسي في سورية، يوضح الكثير من الأمور التي كان يشوبها بعض الإبهام، وذلك على النحو الآتي:

1-      الهجوم المفاجئ للاجئين السوريين على أوروبا، بعد سنوات أربع من البقاء في دول الجوار الإقليمي السوري، متحدّين الموت ورحلات العذاب الطويلة. ينجلي اليوم هذا الغموض، فقد كان أردوغان بحاجة إلى تغطية أوروبية لتدخّله العسكري في سورية، بحجة إقامة المنطقة الآمنة التي سيقيم فيها اللاجئون، ولو قُدّر له الحصول على الموافقة الأوروبية بسرعة - قبل التدخّل الروسي - لانقطع سيل اللجوء السوري إلى أوروبا بقدرة قادر!

2-      تراجُع "تيار المستقبل" عن الوعود التي كان قد قطعها والتسويات التي كان بصدد الدخول فيها، ثم تعنّت "المستقبل" وحلفاؤه ومعهم بعض قوى 8 آذار في إعطاء العماد عون أي فرصة لمكسب أو إمكانية النفاذ إلى تسوية مقبولة، والذي ترافق مع الحديث عن عزل العماد عون وكسره.. وذلك لاعتقاد هؤلاء أنه ما هي إلا شهور وتسقط دمشق بيد الحلف التركي - السعودي، فيسهل اجتثاث المسيحيين، ويعود لبنان إلى حكم "الترويكا" التي حكمته خلال التسعينات.

وهكذا، يبدو أن التصريحات المتفائلة بقرب الوصول إلى حل سياسي في سورية لم تكن سوى نوع من إراحة الأجواء الدولية وذرّ الرماد في العيون، للانقضاض على دمشق فجأة بعد تمهيد الأرضية الدولية لذلك، بحيث يكون إسقاط سريع للنظام يُسقط في يد الإيرانيين والروس معاً.. وبالنتيجة، يمكن القول إن السيناريو المتفائل بأن تنسيقاً ما تمّ بين الأميركيين والروس تدخّل على أثره الروس في سورية، لم يكن حقيقياً وواقعياً، وإن الخلاف الروسي الأميركي على سوريا أعمق مما يظهر للعلن.. ويتضح أيضاً أن التدخّل الروسي الذي فاجأ الجميع في سورية قد أحبط مخططاً جهنمياً قوامه احتلال تركي لسورية، كان سيُغرق الشرق الأوسط في أتون من التطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية.

2015/10/15

بعد الدخول الروسي... كيف سيكون شكل الحكم اللبناني؟


د. ليلى نقولا
لا يشذّ لبنان وسياسيوه عن العالم الذي ينظر مترقباً ومشدوهاً، بانتظار أن يتبلور مصير الحملة الروسية على الإرهابيين في سورية، والتي تترافق مع هجوم برّي يتقدم فيه الجيش السوري على محاور عدّة، بينما اكتفى الأميركيون بالردّ - لغاية الآن - بإلقاء السلاح للمجموعات الارهابية وقصف محطتين للكهرباء في حلب، بذريعة استهداف عناصر "داعش" الذين يسيطرون على المحطة منذ أكثر من عامين، والذي أدّى إلى تدمير المحطات بالكامل، وحرمان حلب من الكهرباء.

وفي لبنان، يستمر مشهد المراوحة وتقطيع الوقت، وانتظار تبلور نتائج الحرب السورية، والتي كلما دخلت منعطفاً مختلفاً وتبدّلت موازين القوى فيها، تبدّل المشهد السياسي اللبناني، وتبدّلت مواقف بعض الأطراف اللبنانية، للتناغم معها، وانتظار فرصة مؤاتية لقضم المزيد من حقوق الآخرين، أو من حقوق المواطنين.

مع بداية الحرب في سورية، حلم "تيار المستقبل" وباقي المجموعات التي تدور في فلكه، بسقوط وشيك لسورية، وأن قيامهم بدعم "الثورة السورية" سيتيح لهم حكم لبنان وسورية معاً، وأن القضاء على النظام السوري سيكون مقدمة للقضاء على المقاومة في لبنان، والثأر لحرب تموز 2006 وما بعدها، لكن حساب الحقل السوري لم يطابق بيدر "تيار المستقبل" ومن ورائه السعودية وقطر وتركيا والحلف الغربي، فصمد السوريون، ووعت المقاومة خطورة ما يتهددها، فانخرطت في الحرب السورية في أوائل عام 2013، وبدّلت موازين القوى على الأرض.. وساهم سقوط المشروع "الإخواني" بحلحلة العُقد اللبنانية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ما زالت تترنح لغاية اليوم، ولا تسقط.

استمرت حال التهدئة، ودخل الرئيس سعد الحريري في حوار مع العماد ميشال عون، وتمّ الاتفاق على تفاهمات داخلية سرعان ما أتى سقوط جسر الشغور وتقدُّم المجموعات المسلحة السورية على حساب الجيش السوري ليسقط التفاهمات اللبنانية بالضربة القاضية، ويؤدي إلى سيادة منطق وفكر إلغائيَّين مارسهما "المستقبل" وانخرطت فيهما بعض المجموعات السياسية الأخرى، وعاد البعض إلى المنطق الذي ساهم مع عوامل عدّة في إشعال الحرب اللبنانية في 1975، وهو منطق العزل والكسر لفئة من اللبنانيين.

ومع دخول الروس اليوم، يسود منطق الانتظار لانجلاء غبار المعارك، وعلّ التسوية في لبنان تأتي مكمّلة للتسوية في سورية، وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن اتجاهات عدّة للحل:

1-      أن يؤدي الانتصار الميداني الروسي - السوري للاتيان برئيس ينتمي إلى المحور المنتصر.

2-      أن يدخل الروس في تسوية شاملة في المنطقة، بعد تغيير موازين القوى التي تدفع الغرب وحلفائهم الإقليميين بالقبول بالذهاب إلى الحل السياسي، ويبقى السؤال هنا: هل ستسمح موازين القوى للروس بالوصول إلى تسوية تأتي بالرئيس السوري بشار الأسد ومعه رئيس لبناني ينتمي إلى المحور الذي يمثّلونه، أم أن عليهم أن يتخلوا عن أحدهما؟

3-      أن ينهزم الروس في سورية، فتتمّ الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، ومعه يأتي رئيس لبناني يشبه ميشال سليمان.

الأكيد أن الروس لن يُهزموا في سورية، وأن المحور المتشكّل من حدود لبنان إلى سيبيريا مروراً بسورية والعراق وإيران يمتلك الكثير من مقومات القوة التي تجعله عصياً على الانهزام، بينما يعاني الحلف المقابل من تصدعات داخله، وتمرّ أذرعه الإقليمية بفترات من عدم الاستقرار والتوتر، ما قد يجعل من الصعب جداً عليهم الانتصار أو إغراق الروس في المستنقع السوري.

والأكيد، بحسب ما صرّح الروس، أنهم يريدون توظيف أي انتصار ميداني في خدمة تسوية شاملة مع الأميركيين في المنطقة، فما الذي يمكن أن يكون عليه شكل الحكم القادم في لبنان؟

في البداية، من الضروري التأكيد أن الدول ليست جمعية خيرية، وليست ذات مبادئ عقائدية، وأن الروس سيأخذون بعين الاعتبار مصالحهم بالدرجة الأولى، لكن، سواء كان الروس أو الأميركيون أو سواهم، فإن قرارات الدول الكبرى لم تعد بالنسبة إلى شعوب المنطقة قدراً محتوماً، ومن يراهن على أن الروس يستطيعون حسم كل شيء في المنطقة مع الأميركيين يبدو واهماً، ولنتذكر في هذا المجال التصريحات التي أطلقها بوغدانوف خلال عامي 2012 و2013 حول مصير الرئيس السوري، وإبدائه آراءً حول رؤية موسكو بأن على الأسد ألا يترشّح للرئاسة عام 2014.. فها هي موسكو اليوم تعيد النظر وتعتبر الرئيس السوري من صلب استراتيجيتها في المنطقة.

وقياساً على ذلك، فإن موازين القوى المحلية اللبنانية يمكن أن تلعب عاملاً حاسماً في تحديد هوية وصورة وشكل الحكم اللبناني بعد التسوية وقبلها، شرط أن يتحلى اللبنانيون بالصبر والقوة وصلابة الإرادة لفرض ما يريدونه على القوى الكبرى، وللقول للعالم: انتهى عصر الأوامر الخارجية، وجاء عصر القرار اللبناني الحر.

2015/10/08

التدخل الروسي: تنسيق أم مواجهة قادمة الأميركيين؟


د. ليلى نقولا
بعد أن أستطاع الروس فرض حظر جوي واقعي فوق الأراضي السورية، تتسارع التقديرات والتكهّنات حول مستقبل الأزمة السورية، في ظل تغيّر موازين القوى على الأراضي السورية، وانقلاب المشهد الميداني رأساً على عقب، بعدما كانت المجموعات المسلحة قد استطاعت في الأشهر القليلة الماضية توسيع رقعة نفوذها.

وبما أنه معروف في علم العلاقات الدولية، أن الميدان يلعب لصالح السياسة وليس العكس، انطلاقاً من مقولة كلاوسفيتز إن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فما هي السناريوهات التي يمكن أن يخلقها التدخل العسري الروسي في سورية؟

السيناريو الأول: أن يكون الأميركيون والروس قد اتفقوا مسبقاً على التدخل الروسي؛ حيث يقوم الروس بما لم يستطع الأميركي أن يقوم به لجهة ضبط تصرفات حلفائه الإقليميين، وإعادتهم إلى بيت الطاعة الأميركي، بعد أن شهدت الأعوام الأربعة الماضية جنوح السعوديين والأتراك إلى ما يشبه التمرد، أو على الأقل التململ و"تكبير الحكي" ضد السياسة الأميركية، ونذكر منها التهديد السعودي بالبحث عن حلفاء آخرين.

بهذا السيناريو، يقوم الروس وحلفاؤهم بالقضاء على المعارضة المسلحة التابعة للأتراك والسعوديين، خصوصاً "جيش الفتح"، ما يدفع الدولتين الإقليميتين الراعيتين للمجموعات المسلحة للذهاب مرغمتين إلى حل سياسي في سورية، بعد فرض الميدان السوري إيقاعه على الجميع، وتكبيدهم خسائر كبرى.

وقد تكون لهذا السيناريو تصوراته المحقة والمترافقة مع إمكانية فشل حزب أردوغان في الانتخابات التركية المزمع إجراؤها في الأول من تشرين الثاني المقبل، والتي قد تؤدي إلى أزمة سياسية داخلية، تترافق مع القلق الاقتصادي المتنامي، وهبوط سعر صرف الليرة التركية. أما بالنسبة إلى السعودية، فإن الممكلة المتهالكة بحروب الأمراء في الداخل، تعيش أسوأ كوابيسها في حرب خرجت إليها في اليمن، ولا تعرف كيف تنهيها.

السيناريو الثاني: أن يكون الروس قد استغلوا التردد الأميركي في المنطقة، وفشل خططهم السياسية والعسكرية على مدى سنوات أربع، فأتوا في لحظة تاريخية مفصلية، وتدخلوا حيث الحلف الغربي في أسوأ لحظات له منذ اندلاع الحرب السورية، ليحصّلوا مكاسب استراتيجية كبرى سيحصدونها في ملفات عدّة، أقله في "الشرق الأوسط" وأوكرانيا، وكسر العقوبات الدولية التي أنهكت الاقتصاد الروسي.

في هذا السيناريو، نجد أن الأميركيين أعلنوا فشل برنامج تدريب "المعارضة المعتدلة"، وانهيار "غرفة الموك" على الجبهة الجنوبية، وقيام الفصائل الجنوبية بالبحث عمن يؤمّن لها المال، وبعضهم قرر الذهاب إلى أوروبا.

أما الأوروبيون، وبالرغم من أن للهجرة السورية إلى أراضيهم تأثيرات اقتصادية جيدة، لكن عدم قدرتهم على تحديد مَن يدخل ومَن لا يدخل، وإمكانية اندساس الإرهابيين بين اللاجئين، بالإضافة إلى القلق من تنامي نفوذ أحزاب اليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، تجعلهم أكثر قُرباً لتفهُّم الدوافع الروسية، والترحيب الضمني بأي واقع جديد يمكن أن يفرضه هذا التدخل، وهكذا يكون الروس قد استطاعوا النفاذ من نافذة تناقض المصالح بين الأميركيين والأوروبيين.

وخارج إطار السعودية وسياستها المعروفة بالهروب إلى الأمام، والتصعيد كلما لاحت بادرة انفراج ما في القضية السورية، والتي أخرجت أبواق الفتنة لتعلن "الجهاد" ضد الجيش الروسي، ولتحرّف المراد من قول أحد المسؤولين في البطريركية الروسية، فتحاول جعل القضية حرباً بين المسيحيين والمسلمين!! يحسب الأميركيون والأوروبيون والأتراك خطواتهم ومواقفهم من التدخل الروسي بدقّة، ويحسب كل منهم هامش الخطأ الدقيق الذي يمكن أن يؤدي إلى حرب عالمية بالأصالة، بعد أن استمرت أعواماً أربعة بالوكالة على الأراضي السورية، فتبرز التصريحات الدولية والإقليمية التي تتعامل مع قصف الروس لأدواتهم على الأرض كأمر واقع لا مفر منه، وتكتفي بإبداء "القلق" والرغبة في التنسيق.

وهكذا، وبغض النظر عن أي من السيناريوهات، يملك التوصيف الأقرب إلى الواقع، يبقى الثابت المشترك بين كل السناريوهات أن الروس والأميركيين لن يتقاتلوا مباشرة فوق الأراضي السورية، كما يمكن القول إن الروس قد حققوا أهدافاً عدّة منذ اليوم الأول لحملتهم الجوية، وفرضوا أنفسهم لاعباً دولياً لا يمكن تخطيه في منطقة "الشرق الأوسط".. والأكيد، أن ما بعد التدخل العسكري الروسي في سورية مختلف عما قبله، والأكيد أيضاً أن هذا التدخل قد أدخل "الشرق الأوسط" برمّته في انعطافة جديدة، سيحدد مصيرها نجاح الحملة العسكرية الروسية، التي ستترافق حتماً مع تقدُّم برّي سيقوم به الجيش السوري وحلفاؤه على الأرض.. ويبقى الميدان الحَكم وصاحب القرار.

2015/09/24

مبادرة بوتين: هل من أفق للنجاح؟


د. ليلى نقولا الرحباني
بالتزامن مع انخراط الروس عسكرياً - بشكل علني - في الحرب الدائرة في سورية، ينوي الرئيس فلاديمير بوتين طرح مبادرة جديدة خلال اجتماع مجلس الأمن على المستوى الوزاري الذي تترأسه روسيا في 30 من أيلول الجاري، لتشكيل جبهة موحَّدة ضد الإرهاب، تضمّ جميع الأطرا ف الدولية والإقليمية، بما فيها تركيا ودول الخليج، إلى جانب الدولة السورية.

السفير الروسي في لبنان؛ ألكسندر زاسبكين، تحدّث عن بعض بنود هذه المبادرة، فحدّدها بمراحل ثلاث؛ تنص المرحلة الأولى على ضرورة توحيد جميع الأطراف لضرب تنظيم "داعش" الإرهابي في سورية، تحضيراً للاتفاق السياسي لحل الأزمة، بينما تؤمّن المرحلة الثانية دعوة القوى الإقليمية والدولية المؤثّرة للضغط على المجموعات المسلحة للقبول بالحل السياسي، أما المرحلة الثالثة فتقتضي توحيد الجهود الإقليمية والدولية لوقف تمويل المجموعات المسلّحة، ومنع عبور المسلحين عبر حدود الدول المجاورة لسورية.

ومع انطلاق المبادرة الروسية، والحديث الأميركي والفرنسي المستجد عن التراجع عن بند "ضرورة رحيل الأسد كمقدمة للحل السياسي"، ما هي مؤشرات نجاح تلك المبادرة؟

بالنسبة للدول الإقليمية: بعد الخسائر التي مُنيت بها الجبهة الجنوبية، وخوف الملك الأردني من تزايد نفوذ "الإسلاميين" في سورية، ما قد يغريهم للإطاحة به في المملكة، يبدو أن الأردن لا يمكن أن يشكّل عقبة في وجه الحل السياسي، ولا يمكن أن تستمر الجبهة الجنوبية في القتال في حال قرر الأميركيون الذهاب إلى الحل السياسي.

لكن يبقى هناك إمكانية عرقلة الحل من قبل السعودية وتركيا:

السعودية: الغرق المتدحرج للسعودية في الوحول اليمنية، والخلافات التي تنشب بين أفراد العائلة المالكة، والتقارير المالية التي تشير إلى استنزاف موارد الخزينة السعودية - في ظل تراجع أسعار النفط - والصفقات والسمسرات والفساد والاختلاس وكلفة الحرب على اليمن، ستجعل السعودية مجبَرة في وقت من الأوقات على الانخراط في حلف جدي لمحاربة الإرهاب، وإلا كان الثمن باهظاً في الداخل السعودي، وعلى مستقبل المملكة ككل.

أما بالنسبة لتركيا، فليست حال تركيا بأفضل من السعودية، خصوصاً في ظل تنامي الحديث الغربي عن اتجاه تركي لحرب داخلية طويلة، هذا بالإضافة إلى زيادة البطالة، وتراجع سعر صرف الليرة التركية، كما الأزمة السياسية المرتقَبة في حال أسفرت الانتخابات عن عدم فوز حزب أردوغان بالغالبية التي تجعله يحكم منفرداً، وهو المرجَّح.

وهكذا، ما هي إلا شهور وستكون السعودية وتركيا مجبَرتان على الانخراط في التسوية الإقليمية الكبرى، وإلا خسرتا كل شيء، لأنه عندما يحين أوان التسوية، سيكون ممنوع على أحد عرقلتها.

أما بالنسبة للأوروبيين، وبالرغم من أن موجات اللجوء السوري إلى أوروبا تشكّل رافداً اقتصادياً هائلاً للمجتمعات الهرمة في أوروبا، وبالرغم من حاجة الأوروبيين إلى يد عاملة غير مدرّبة، بالإضافة إلى حاجتهم إلى الأطباء ويد عاملة تدفع الضرائب لتنتشل صناديق الضمان من أزمتها المالية، بسبب زيادة عدد المتقاعدين، إلا أن اندساس الإرهابيين مع موجات اللجوء إلى أوروبا يشكّل قلقاً أمنياً للأوروبيين، يحتاجون معه إلى مزيد من المعلومات الاستخبارية والأمنية، وهذه بمعظمها بيد الجيش السوري ومخابراته.

إذاً، هل آن أوان الحل في سورية؟

بالرغم من المؤشرات الإيجابية، إلا أن تلك المؤشرات لا توحي بأن الأزمة في مصيرها للحل خلال وقت قصير، فالتطورات الإقليمية تحتاج إلى وقت لكي تتبلور ضغوطاً داخلية واستراتيجية على الدول الإقليمية لتقبل بقطع الإمداد والتمويل عن المجموعات الإرهابية، ولغاية الآن، لا يبدو الأميركيون جديّين في الذهاب نحو التسوية الكبرى في المنطقة، ولا يبدون جديين في محاربة "داعش" التي استطاعت معها الولايات المتحدة أن تعود إلى الساحة الشرق أوسطية من باب "الحرب على الإرهاب" مجدداً، وإلى أن يحين الأوان، سيبقى الميدان السوري هو الحكم على التطورات المستقبلية والموجّه لها.

2015/09/17

اللعنة السورية !


د. ليلى نقولا الرحباني
بالرغم من حماوة المعارك، وبروز حدة الاستقطاب منذ ما يزيد على سنوات أربع على الحرب الدائرة في سورية، إلا أنه أول مرة تبرز هذه الصراحة الروسية والوضوح وعدم المواربة في الدعم العسكري للنظام السوري، وتتجلى في المناورات العسكرية المرتقبة، والإعلان عن وصول دفعات من الخبراء العسكريين الروس، وغيرها من الإجراءات الميدانية في الداخل السوري، وأهمها توسيع بعض المطارات الحربية، يضاف إليها التنسيق العسكري الروسي - الإيراني الذي تجلى في اللقاءات التي عقدها قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني مع الرئيس فلاديمير بوتين.

هذه الإجراءات الروسية والإيرانية الميدانية تشير بوضوح إلى أن الأزمة السورية ما زالت مصدر استقطاب دولي وإقليمي، وأنها مستمرّة وستطول، ولكن، على المقلب الآخر، تكشف الأحداث المتسارعة في العالم أن "اللعنة السورية" تلاحق كل من أشعل النار فيها:

1-   أوروبياً:

منذ سنوات خمس، وعندما انخرط الأوروبيون بقوة في حرب الإطاحة بالنظام السوري، كان واضحاً - منذ البداية - أن موجات اللاجئين ستزداد، وأن أوروبا القريبة جغرافياً من الشرق الأوسط لن تسلم من انتشار الفوضى المفتعَلة فيه، لكن الأوروبيين الطامحين إلى التخلّص من خلاياهم الإرهابية بأقل الأثمان الإنسانية والقانونية، عمدوا إلى فتح جسر جوي للإرهابيين الذين ترعرعوا في المجتمعات الأوروبية، ودرسوا في مدارس أوروبا وجامعاتها وتتلمذوا فيها، فقاموا بتسهيل وصولهم إلى سورية، التي قال عنها وزير الخارجية الأميركي جون كيري يوماً عنها إنها "مغنطيس جاذب للإرهاب".

منذ سنوات خمس، والفرنسيون والبريطانيون يقبضون ثمن مواقفهم السورية؛ عقود استثمار وصفقات أسلحة وسواها.. ومنذ سنوات خمس والأوروبيون يصمّون آذانهم ويغلقون أعينهم عن مآسي اللاجئين المشردين، وعن إبادة الأقليات الدينية في الشرق، وعن صرخة اللبنانيين بأن عبء النزوح السوري بات يهدد المجتمع والدولة اللبنانية كيانياً، ليس هذا فحسب، بل كانوا يساهمون - بالتعاون مع المنظمات الدولية الإنسانية - بتشجيع اللاجئين على التوجّه إلى لبنان، وإغرائهم بالمال "النقدي" وغير ذلك.

وفجأة، انقلب السحر على الساحر، إذ تُواجه أوروبا اليوم أسوأ أزمة إنسانية في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية، وباتوا عاجزين عن التعامل معها، حتى بات التشدد على الحدود ينذر بـ"ثورة" لاجئين، ستضطر معها أوروبا إلى استعمال نفس الأساليب القمعية التي دانت في السابق استعمالها مع المتظاهرين في العالم العربي.. وقد ينقلب السحر على الساحر بشكل أكبر، حين يصبح الجسر الجوي معكوساً برياً، وهكذا قد يعود الإرهاب المصدّر إلى المشرق، مرتجعاً - ومع الشكر - إلى دول الغرب.

2-   إقليمياً:

أ‌-       تسير السعودية بخطى سريعة نحو الغرق في الرمال اليمنية المتحركة، وتشير التقارير الدولية المالية إلى أن السعودية باتت تستهلك الفائض المالي لديها، بما يصل إلى الخط الأحمر المسموح به، ناهيك عن المشاكل الداخلية والمؤامرات والدسائس بين أمراء المملكة أنفسهم.

ب‌- أما تركيا فيتنبأ لها الغربيون أنها تسير بخطى حثيثة إلى حرب داخلية وعدم استقرار، خصوصاً إذا لم يستطع أردوغان أن يحصل على تفويض الشعب بالحكم منفرداً في الانتخابات المقبلة. وبكل الأحوال، هبوط الليرة بشكل حاد والأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والبطالة المتزايدة التي يلقي الاتراك باللوم بها على سياسة أردوغان في سورية، واستقباله اللاجئين السوريين، يشيرون إلى أن تركيا تحتاج إلى "معجزة" لتخطّي كل هذه الأزمات السياسية والاقتصادية، والعودة إلى ما كانت عليه من ازدهار قبل سنوات خمس.

هل هي "لعنة سورية"؟ إنها "لعنة" شعب كان يعيش في حد أدنى من الاستقرار، ولكنه كان ينشد "الحرية" والعيش في ظل نظام شفاف بدون فساد ولا مخابرات ولا خشية أمنية، فإذا به يصبح مخيَّراً بين الموت بالحرب، أو الموت في المتوسط، أو الموت ذليلاً في رحلته إلى المجهول.. لعنة شعوب أصلية من سريان وأشوريين ويزيديين وكلدان.. شعوب تناقصت حتى أصبحت أقليات، قرر الغرب المستعمر أنّ عليها أن ترحل وتترك أرض أجدادها، وتترك وراءها تراث آلاف السنوات من الحضارة، ليدمرها برابرة العصر الحديث.. "لعنة" مسيحيين يقال لهم يومياً: "ما لكم ولهذه الأرض، مكانكم في الغرب"، ولكنهم يرفضون، ويتشبثون، فكيف لهم أن يتركوا مسيحهم مصلوباً وحده هنا؟ إنها "لعنة" المشرق التي ستلاحق كل من أوقد ناراً في أرض مقدسة وطأتها أرجل الأنبياء والقديسين والقديسات على مدى العصور.