2020/09/29

كاراباغ... بين الاستراتيجيا والقانون الدولي

تجددت الاشتباكات في اقليم ناغورنو كاراباغ أو ما يعرف لدى الأرمن باسم جمهورية آرتساخ، بين كل من الأرمن والآذاريين، وتبادل الطرفان الاتهامات ببدء العدوان، وأورت تقارير إعلامية عن قيام الاتراك بنقل بعض المرتزقة من السوريين من مدينة أدلب للقتال على جبهة أذربيجان - ارمينيا في كاراباغ.

تاريخياً، منذ ضعف السلطة المركزية في الاتحاد السوفياتي، ومباشرة بعد انهيار الاتحاد ودخول المنطقة في فراغ استراتيجي، تنازعت أرمينيا وأذربيجان السيادة على اقليم كاراباغ، وتصاعدت الاشتباكات بين الأرمن الذين يشكّلون 95 بالمئة من سكان الإقليم المتمتع بالحكم بالذاتي والسلطات الآذرية، حتى اندلعت حرب واسعة بين الطرفين بين عامي 1991 و 1994،  تمّ بعدها إعلان وقف إطلاق النار بعد جهود دولية حثيثة. ومنذ ذلك الحين، ولغاية اليوم، لم تنقطع الاشتباكات بين الطرفين بين الفينة والأخرى.  

كما معظم الأقليات في الاتحاد السوفياتي السابق، حاول أرمن كاراباغ بعد انتهاء الحرب الباردة تثبيت هويتهم القومية والتأكيد على حقهم في كيان سياسي خاص بهم، في ظل مرحلة دقيقة وحساسة أعادت خلط الأوراق في القوقاز. وفي ذلك الظرف بالذات، سعى الأرمن الى اقتناص الفرصة التاريخية لإثبات حقّهم في تقرير مصيرهم كقومية، وأخذ الصراع طابع المواجهة بين مبدأ "حق الشعوب في تقرير مصيرها" التي طالبت به الأقلية الأرمنية، وبين حق الدفاع عن الدولة وسيادتها التي اعتمدته الأكثرية الحاكمة في الدولة الآذرية كمبرر لقمع الأقلية والتسلط عليها.

من هنا، شكّلت قضية كاراباغ المثال الحي لقضية إشكالية أساساً في القانون الدولي، والتي تقوم على مبدأين من مبادئ القانون الدولي الآمرة، والتي تناقض كل واحدة الأخرى: سيادة الدولة ووحدة أراضيها والتي لا يعلو عليها شيء، وحق الشعوب في تقرير مصيرها وهي من المبادئ الآمرة في القانون الدولي والتي لا يمكن إلغائها أو تجزأتها، أو التوافق على ما يمسّ بها.

ولقد أكدت محكمة العدل الدولية في قضيتي تيمور الشرقية وكوسوفو، أن هذا حق الشعوب في تقرير المصير هو من المبادئ الآمرة، وبخلاف ما كان سائداً أو متعارف عليه، هو حق يتمتع به جميع الشعوب بدون استثناء، ولا يمكن اعتباره حق حصري للشعوب الواقعة في سياق استعماري فحسب.

وبالرغم من ذلك، يعتبر فقهاء القانون الدولي أن الوضع الخاص لكوسوفو يعتبر استثنائيًا، ويجب أن تشمل المعايير التي يجب أخذها بالاعتبار لإثبات حق الشعوب في الإنفصال معيارين: الحق التاريخي في دولة و/ أو وجود تمييز واضطهاد للأقلية من قبل الأكثرية الحاكمة، ومنعها من ممارسة حقوقها السياسية والاجتماعية والثقافية الخ.. وبالتالي، إن تعذّر على شعب صاحب خصوصية ثقافية، اكتساب حقوقه عبر وسائل الانصاف الداخلية يمكن له المطالبة بالانفصال وتأسيس دولته المستقلة.

انطلاقاً مما سبق، يبدو - قانونياً- من حق أرمن كاراباغ الاندفاع الى تركيز شرعية هويتهم التاريخية وحقهم في إقليم مستقل انطلاقاً من مرتكزات أساسية، أبرزها:

- أرض كاراباغ ليست أرضاً بلا هوية تاريخية، فالأرمن موجودون هناك منذ أكثر من ألفي عام، ويعتبر الاقليم منبتاً للأبجدية الأرمنية، لا بل إن بعض مدن الاقليم (شوشي على سبيل المثال) تفوقت ثقافياً في عصور عديدة على مدن أرمينيا نفسها.

- بالرغم من محاولة السوفيات طمس الهويات القومية ومنها القومية الأرمنية، لكن الأرمن في كاراباغ ليسوا مجموعة عرقية هامشية أتت صدفة الى الاقليم، بل إن جذور سكنهم في ذلك الإقليم كقومية حضارية تاريخية تمتد الى آلاف السنين، ويشكّل تاريخ الأرمن في كاراباغ (آرتساخ) جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الارمن العام، تماماً كما يشكّل وجودهم في الأناضول جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم وذاكرتهم الجماعية.

- بالرغم من قيام ستالين عام 1923 بإلحاق الاقليم بأذربيجان، وإعلانه اقليم كاراباغ إقليماً ذا حكم ذاتي في الجمهورية الآذرية، إلا أن حالة الرفض التي عمّت أهالي الاقليم من الغالبية الأرمنية، بالإضافة الى المذكرات التي أرسلت - في أوقات زمنية متفرقة- الى السلطات السوفيتية ومن قبل اللجان المركزية للحزب الشيوعي الأرمني تشير الى أن الأرمن لم يقبلوا يوماً بالأمر الواقع، ولو أنهم اضطروا الى الاذعان لسلطات الأمر الواقع السوفياتية، وتحيّنوا الفرصة للانقلاب على الواقع المفروض عليهم فرضاً.

وبكل الأحوال، وبالرغم من الثوابت القانونية التي تعطي الحق لأرمن كاراباغ في تأسيس دولتهم المستقلة، بناءً على الأطر التاريخية وحقهم في تقرير مصيرهم، إلا أن الموضوع لا يمكن فصله عن صراع الجيوبوليتيك في القوقاز، وارتباطه بالصراع في الاقليم، خاصة في ظل تنافس المصالح التركية الروسية، والروسية - الاميركية، بالاضافة الى أهمية المنطقة في حرب الأنابيب ومحاولة كسر الاحتكار الروسي لإمدادات الغاز الى أوروبا، والتي تجعل من أي صراع حدودي أو قومي أو تاريخي، يأخذ أبعاداً استراتيجية أكبر بكثير من حجم المنطقة الجغرافية نفسها.




 

2020/09/28

ماكرون يحدد المسؤوليات.. ماذا بعد؟

كان المؤتمر الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول لبنان، بعد فشل المبادرة الفرنسية واعتذار مصطفى أديب عن استكمال مهمته، لافتاً لناحية التوقيت والمشهد الذي عكسه من حيث الاهتمام الفرنسي بلبنان، والتعابير التي يمكن اعتبارها "تدخلاً في الشؤون الداخلية" لو حصلت في أي بلد آخر غير لبنان المأزوم اقتصادياً والمهترئ سياسياً والمنخور حتى العظم بالتدخلات الخارجية.

 

وتزامن مشهد الرئيس الفرنسي الذي يخاطب اللبنانيين بصراحة وقسوة، مشهد الارهاب الذي يضرب الشمال اللبناني، انطلاقاً من الحدود السورية وصولاً الى عمق محافظة الشمال والذي أودى بحياة العديد من شهداء الجيش الذين ماتوا دفاعاً عن وطن يستبيحه سياسيوه بلا رحمة.

 

العلامة الفارقة في كلام ماكرون في تحديده لأسباب فشل المبادرة الفرنسية، والنأي بنفسه عن أي مسؤولية في النتائج والحائط المسدود الذي وصلت إليه المبادرة، علماً أن التدقيق الفعلي في النتائج الحقيقية يشير الى ارتكاب الفرنسيين أخطاء عدّة قادت الى هذه النتيجة، وحصر ماكرون المسؤوليات في ما يلي:

 

- الإطار الأول والأساسي كان إدانة حزب الله وتحميله مسؤولية فشل المبادرة بالدرجة الأولى، والإدعاء بأن تشدد الرئيس برّي في موضوع وزارة المالية كان "بضغوط من حزب الله"! علماً أن العديد من المراقبين في لبنان والخارج كانوا يتحدثون عن أن الرئيس برّي قد جرّ الحزب الى المستنقع المذهبي والمطالبة بوزارة المالية كحصة مذهبية، بعدما كان قد أظهر نفسه اقليمياً وكأنّه أكبر من التناتش اللبناني المذهبي على وزارات.

 

لماذا يتحدث ماكرون عن ضغوط على الرئيس برّي ويحصر المسؤولية في حزب الله وحده بالرغم من أن الثنائي كان متكافلاً متضامناً في موضوع وزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة!. هل هي عبارات انحناء أمام عاصفة أميركية بعدما اتهمه الأميركيون - على لسان وزير الخارجية بومبيو- بأنه كان متساهلاً مع حزب الله الى درجة كبيرة؟ هل هي ترضية إقليمية للسعودية بعدما تبيّن أن السعودية ليست في وارد تسهيل ولادة أي حكومة لبنانية، خاصة بعد الخطاب الناري الذي نُقل عن الملك سلمان في الأمم المتحدة؟ أم إنها نتيجة منطقية لتوزيع أدوار قام به الثنائي، فتمّ وضع المسؤولية على الحزب انطلاقاً من فكرة "ما همّ الغريق من البلل"، وهو الذي جعل الرئيس برّي يعلن بأنه يتعرض لضغوط للمطالبة بوزارة المال؟

 

- وفي الإطار الثاني من تحميل المسؤوليات، كانت الإدانة الماكرونية لسعد الحريري، التي أتت مخففة جداً بحيث اتهمه بتطييف الحقائب الوزارية فحسب، علماً أن الحريري ومعه رؤساء الحكومات السابقين، حاولوا الاستئثار بتسمية الوزارء واعتبار ان هذه الحكومة يمكن أن تشكّل فرصة للانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية، وكسر إرادة الأفرقاء الآخرين، والوصول من خلال المبادرة الفرنسية الى نتائج عجزوا عن تحقيقها سواء من خلال التلطي بثورة 17 تشرين الأول أو سواها.

 

- وفي الإطار الثالث، قام ماكرون بتحميل الرئيس ميشال عون "مسؤولية إعادة اطلاق المشاورات سريعاً من أجل تأليف الحكومة الجديدة"، أي أنه رمى الكرة في ملعب الرئيس عون الملزم أساساً بالدستور بإطلاق تلك المشاورات، لكن الالتباس يأتي من مفردة "سريعاً" وماذا تعني في الترتيب الاقليمي والدولي المنتظر نتائج الانتخابات الاميركية؟.

 

الأكيد، أن ما لم يقله ماكرون، أتى في مهلة الستة أشهر التي أعطاها أعطى لمبادرته للوصول الى نتيجة، وهي المدة الزمنية الكافية لتخطي الانتخابات الأميركية وانشغال الأميركيين بمشاكلهم الداخلية سواء بإعادة إنتخاب ترامب أو بانتخاب بايدن، وفي الحالتين سيكون الأميركيون مشغولون بمشاكلهم الداخلية( لن تمر الأمور بسلاسة داخل الولايات المتحدة مهما كانت النتائج)  وبالتالي يمكن استغلال الظرف لتمرير المبادرة الفرنسية، والضغط على السعودية لتسهيل المبادرة.

  

2020/09/22

الاغتيال الاقتصادي للبنان للسلام مع اسرائيل؟

 

 

لا شكّ أن الوضع الاقتصادي السيء الذي وصل إليه لبنان، تتحمل مسؤوليته بالدرجة الأولى الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ التسعينات ولغاية اليوم، ثم بالدرجة الثانية السياسات الخارجية التي غطّت ودعمت هذه الطبقة الفاسدة، وتشاركت معها النظرة الى لبنان كغنيمة حرب، وأثرت على حساب اللبنانيين ولقمة عيشهم.

 

ويبدو من حالة الإفلاس المالي والاقتصادي وانهيار الليرة اللبنانية وتعثّر الدولة اللبنانية عن سداد ديونها، أن لبنان قد تعرّض بالفعل لاغتيال اقتصادي، يشبه الى حدّ بعيد ما وصفه جون بيركنز في كتابه الشهير "اعترافات قاتل اقتصادي" الصادر عام 2004.

 

يحدد "بيركنز" دوره كخبير إقتصادي لدى إحدى أكبر الشركات الإستشارية الكبرى، حيث يقوم بإعداد دراسات بالتوافق مع المنظمات المالية لتقديم القروض للدول النامية المستهدفة، تحت إطار "تحديث الدولة" وتحسين بنيتها التحتية، على أن تقوم الشركات الغربية الكبرى، وأهمها الأميركية، بتنفيذ هذه المشروعات، التي تستفيد منها "الكوربوقراطية"؛ وهو مثلث يتكوّن من الشركات عبر الوطنية، وبعض السياسيين الأميركيين، والمؤسسات المالية الدولية؛ كصندوق النقد الدولي الذي يمنح القروض.

 

وللوصول الى الأهداف المرجوة، يلجأ القاتل الاقتصادي الى تزوير الإنتخابات لتأمين وصول موالين مستعدين للموافقة على الصفقات، الرشوة، الإبتزاز، الجنس وأحياناً الاغتيالات. ويُستخدم الدولار كأداة مساندة، حيث عادة ما يتم المضاربة بالعملة المحلية فتنهار مقابل الدولار الأميركي، ما يُرهق الدولة المستهدفة بمزيد من الضغوط ويصبح الحل الوحيد أمامها هو طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي.

 

وعليه، وكشرط للقروض، يُطلب من الدول النامية وصفات محددة، أهمها فتح أسواقها أمام الشركات العالمية الكبرى والإبتعاد عن السياسات المساندة للقطاع العام وللفئات الأكثر ضعفاً تمهيدًا لخصخصة القطاع العام بالكامل.

 

نجاح "القاتل الإقتصادي" - بحسب بيركنز- يقاس بحجم القروض التي ينجح في إقناع الدولة المستهدفة بطلبها، فكلما كانت أكبر، كان ثمن عدم سدادها من قبل الدولة المَدينة أكبر. وفي غالبية الحالات، تتعثر الدول في سداد الديون، فتعمّها الفوضى، والنزاعات والعنف بين الشرائح المهمشة، وترزح تحت ثقل الديون. ولقد نجحت هذه الطرق في العديد من الدول فتمّت الهيمنة عليها وعلة مقدراتها ومواردها، لكنها خابت أمام دول تبدو أصغر حجمًا وأثرًا، لوجود بعض الساسة الأكثر استقلالية وصلابة، وهو ما يعني الانتقال للخطة "ب": إرحل من السلطة.

 

على سبيل المثال، تمّ دفع الإكوادور الى الإفلاس خلال عقود ثلاثة من الزمن، ارتفعت فيها نسبة الفقر من 50% إلى 70%، ونسبة البطالة من 15% إلى 70%، وتزايد الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار. ولكي تتمكن الإكوادور من سداد الديون التي ورطها فيها القتلة الاقتصاديون (مجموعات داخلية وخارجية)، اضطرت الى بيع الغابات البترولية لشركات أميركية كبرى، مقابل 25 دولارًا من كل 100 دولار للدولة، تذهب 75% منها لسداد الديون الخارجية، أي للشركات العالمية التي نفّذت مشاريع التنمية.

 

بقراءة كتاب بيركنز، يمكن فهم العديد من التطورات والتحولات التي حصلت في العديد من دول العالم، ويمكن فهم المسارات التي سار فيها لبنان، والطبقة السياسية التي حكمته لمدة عقود ثلاث من الزمن، كما يمكن فهم الحملة الشعواء على رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، خاصة بعد خطاباته في الامم المتحدة والتي أعلن فيها "أن لبنان يقرر عن نفسه، ويرفض المشاريع الدولية التي لا تناسبه".

 

ولا يعود مستغرباً بعد انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس 2020 وبعد الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يعاني منه لبنان والذي تفاقم بسرعة كبيرة بعد انتفاضة 17 تشرين الأول / اكتوبر 2019، أن نقرأ في الصحف الاميركية والاسرائيلية مقالات رأي تشير الى أن مصير لبنان المحتوم هو السلام مع اسرائيل كنتيجة لهذه الأزمات.

 

في النتيجة، يبدو أن الاغتيال الاقتصادي الذي مورس على لبنان بالتعاون والتكافل مع الطبقة السياسية الفاسدة التي نهبت الخزينة العامة، يهدف الى أمرين:

 

- إغراق لبنان بالديون والازمات الاقتصادية والانهيار المالي، للرضوخ لوصفات صندوق النقد الدولي، وبالتالي تلزيم الغاز في المتوسط حيث تذهب عائداته الى الشركات الكبرى، والباقي من حصة الدولة اللبنانية يذهب لسداد الديون الخارجية، ولا يتبقى للتنمية المحلية سوى الفتات (إذا تبقى).

 

- إجبار لبنان على دفع أثمان سياسية باهظة، متعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي، وبأرضه ومياهه، وحق اللاجئين الفلسطينيين في عودة الى ديارهم، والقبول بتوطينهم في لبنان.

 

2020/09/21

أخطأ الفرنسيون...


تراجع التفاؤل في لبنان بأن تسير الحكومة اللبنانية والخطة الفرنسية كما كان مرسوم لها، أي وفق أجندة سياسية واضحة وضمن مهلة زمنية معقولة، بعدما وضع رؤساء الحكومة السابقين السابقين الألغام في وجه مصطفى أديب، حتى بات من الأسهل له أن يعتذر على أن يسير في طريق معبّد بالألغام من اللحظة الأولى.

ويقف لبنان اليوم متفرجًا على خطاب طائفي متشنج، زاده البطريرك الراعي حدّة بعدما ألقى عظة سياسية صبّت الزيت على النار، ودفعت المراجع الدينية الشيعية الى الردّ، محوّلاً الموضوع الى اشتباك طائفي اسلامي مسيحي، بينما هو في الاصل مشكلة سياسية اسلامية اسلامية.

وأمام هذه العقد المفتعلة، يبدو أن المبادرة الفرنسية تترنح بدون أن تسقط، لكن الأكيد أن الفرنسيين قد أخطأوا في مقاربتهم وطريقة تعاملهم، وذلك على الشكل التالي:

- أخطأ الفرنسيون عندما تركوا أديب فريسة سهلة في يد نادي ما يسمى رؤساء الحكومات السابقين، وتركوا مهمة التأليف الى هؤلاء الذين مارسوا الكيدية السياسية والاقصاء للمكوّنات اللبنانية الأخرى والكتل النيابية التي سمّت أديب أيضاً.

كان على الفرنسيين التأكيد على أديب ضرورة التشاور مع الكتل النيابية التي سمّته وبالأخص مع رئيس الجمهورية الذي ينصّ الدستور على اشتراكه مع الرئيس المكّلف في تأليف الحكومة. ما قام به الفرنسيون، من ترك الأمر بيد السنيورة والحريري والميقاتي وسلام، أوحى وكأن المبادرة الفرنسية وصفة لإقصاء الغالبية النيابية من السلطة، تحت ضغط التهديد بالعقوبات والانهيار الاقتصادي، وأتت لتحقق ما عجز عنه الانقلاب في الشارع والضغوط الأميركية القصوى على لبنان.

- أخطأ الفرنسيون، حين لم يقرأوا في التاريخ اللبناني الحديث، عن مسيرة فؤاد السنيورة في الحكم، حين أقصى طائفة بأكملها وتستّر بعباءة المفتي، وأعطى وعوداً بنزع سلاح حزب الله الى كوندوليزا رايس، وتآمر على المقاومة خلال الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006، وتسبب باحتقان مذهبي أدى الى حوادث السابع من أيار 2008. وأخطأوا حين سلموا امرهم للميقاتي الذي سكت على الصراع المذهبي في عرسال وغطاه، وغطى بعباءته التكفيريين في طرابلس.

- أخطأ الفرنسيون حين اعتقدوا بقدرة سعد الحريري على إنضاج الحل السياسي، وهو الغارق في مشاكل داخل بيته، تطورت الى إطلاق نار ومقتل شاب في الطريق الجديدة منذ أسبوعين، وهو الغارق في صراع مذهبي يتصاعد بين الفينة والأخرى اشتباكات على خطوط التماس بين السنّة والشيعة في العاصمة، وهو المنقلب على شركائه في السلطة بعد 17 تشرين، والذي اعتكف "حرداً" فأدخل البلاد في مجهول أمني كاد يتسبب بحرب أهلية لولا ضبط النفس الذي مارسه الثنائي الشيعي مراراً خاصة بعد قطع طريق الجنوب مراراً من قبل المحتجين.

- أخطأ الفرنسيون حين اعتقدوا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومعه السعودية، سيدركون خطورة انفلات الساحة اللبنانية وتركها للفراغ، وخطورة التغلغل التركي في الشمال اللبناني على المصالح الاوروبية والغربية في المنطقة. الأول، أي ترامب، لا يبدو معنياً سوى بانتخاباته، وهو بالأساس لا يكترث كثيراً إن أدّت عقوباته وضغوطه القصوى الى إدخال المنطقة في الفوضى، فهو يرغب الرحيل منها بكل الأحوال. أما السعودية، فيبدو أنها - ومنذ استلام ولي العهد الجديد - تمارس سياسة صفرية، وغير معنية بتدوير الزوايا للربح على المدى الطويل، بدليل حرب اليمن، وحرب النفط مع بوتين، والحرد في لبنان وسواها. 

2020/09/15

هل تقبل سوريا بالتسوية الجزئية التي يطلبها الروس؟

 

لا شكّ أن زيارة الوفد الروسي الرفيع المستوى الى سوريا الأسبوع الماضي، برئاسة نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بورسيف، وبحضور وزير الخارجية سيرغي لافروف بالإضافة الى عدد من المسؤولين السياسيين والاقتصاديين، شكّلت علامة سياسية فارقة في المشهد السوري بعد انقطاع دام لمدة ثماني سنوات، أي منذ عام 2012.

 

واقعياً، وبالرغم من الحضور العسكري الروسي في الميدان السوري، وزيارات رئاسية روسية متكررة لروسيا، توقفت زيارات الوفود الروسية الى سوريا بعيد صدور بيان جنيف واحد (2012) الذي حدد نوعاً من خارطة الطريق لمرحلة "انتقالية" في سوريا، قاربتها كل من المعارضة والحكومة السورية وداعموهم بطرق متباينة.

 

واليوم، وبعد التغيرات الميدانية الكبيرة التي حصلت والتدخل العسكري الروسي المباشر في الميدان السوري، وإنكفاء الدور العسكري الأميركي في الجغرافيا السورية، وتركيز الرئيس الأميركي دونالد ترامب على هدف وحيد هو " استغلال النفط"، يمكن قراءة الزيارة الروسية من خلال مقاربة  غير عسكرية، تبدو على الشكل التالي:

 

أولاً، إن تركيبة الوفد الروسي تشي بأن الروس يراهنون على الحصول على مزيد من الاستثمارات في مجالات الاقتصاد والطاقة والتجارة والثقافة والتعليم الخ.. وكما استفاد الروس من حضورهم العسكري في الميدان السوري، ومن ترتيبات وتفاهمات استطاعوا ترتيبها لتحرير 75 بالمئة من الجغرافيا السورية وإعادتها الى كنف الدولة السورية، يبدو أن الحضور الروسي سيكون متزايداً في مجالات أخرى حين تنتفي الحاجة للعمليات العسكرية ( مع بقاء القواعد العسكرية الروسية لإقامة توازن قوى في شرق المتوسط).

 

ثانياً؛ يتمنى الروس أن يحققوا تسوية - ولو جزئية- في سوريا  قبل رحيل دونالد ترامب من البيت الأبيض. يدرك الروس أن عودة ترامب في ولاية ثانية ستحرره من قيود كثيرة كان يخشاها في ولايته الاولى نؤثر على طموحه للتجديد، ومنها الضغوط حول تقديم تنازلات الى الروس في ملف سوريا، وبالتالي من مصلحتهم فوزه وإقامة تسوية شاملة معه، تعطيهم اليد الطولى في كل من سوريا وأوروبا الشرقية.  لكن في حال رحيل ترامب ومجيء جو بايدن، فإن الإدارة الأميركية ستسعى الى تطبيق سياسة شبيهة بسياسة أوباما، ما يعني مزيداً من الضغوط على الروس في ميادين عدّة، ومنها سوريا التي نفذّ فيها أوباما  "استراتيجية الاستنزاف" لمحاولة إغراق الروس في المستنقع الروسي ( بالرغم من أنها لم تنجح).

 

أما التسوية الجزئية التي يتمنى الروس حصولها قبيل الانتخابات الأميركية أو على الأقل قبل 20 كانون الثاني 2021 موعد التسلم والتسليم في البيت الأبيض، فتقضي ببقاء التواجد العسكري الروسي، زانسحاب كافة الجيوش الأجنبية من الجغرافيا السورية، بما فيها الأميركية والإيرانية. وكان المبعوث الأميركي ومسؤول الملف السوري في الإدارة الأميركية جيمس جيفري، قد دعا في أيار الماضي الى خروج جميع القوات الأجنبية التي لم تكن موجودة قبل 2011 بما فيها التركية والإيرانية والأميركية عدا الروسية.

 

وهذا ما يطمح إليه الروس قبل رحيل ترامب، وقد سرّبت بعض وسائل الاعلام عن طلب بهذا الشأن تقدم به لافروف الى الرئيس السوري بشار الأسد، يقضي بإنسحاب الإيرانيين وحلفائهم من سوريا مقابل انسحاب أميركي من الشرق السوري.

 

قد يكون في هذا الطرح بعض الربح المياداني للدولة السورية، لكن الواقعية السياسية والخبرة الميدانية والسياسية وتباين المصالح الدولية ودروس التاريخ التي تشي بأن الدول الكبرى عادة ما تضحي بحلفائها حين تنتهي مهمتهم، تفترض أن لا تفرّط القيادة السورية بأي من حلفائها في هذا الوقت بالذات، أولاً للحاجة للتحرير العسكري في ظل وجود أجزاء من الجغرافيا السورية خارج سيطرة الدولة، وثانياً لحفظ الذات على أبواب انتخابات رئاسية قادمة عام 2021. 

2020/09/14

الانقلاب الحريري الثاني: هل ينجح؟

بات واضحاً أن المهلة التي أعطاها الرئيس ماكرون للكتل السياسية الأساسية في البلاد للتوافق على الحكومة قد لا تكفي لإخراج حكومة مقبولة من الجميع كما كان الحال مع اسم مصطفى أديب الذي تمّ طرحه من قبل مجموعة "رؤساء الحكومة السابقين" والقبول به من قبل الأحزاب الأخرى، وذلك في إشارة واضحة الى أن الجميع معني بانجاح المبادرة الفرنسية.

ولكن، وكما في كل مرة يكمن الشيطان في التفاصيل، وهذه التفاصيل اليوم هي ألغام زرعها الحريري والسنيورة في درب الرئيس المكلف مصطفى أديب، وأقنعاه بأن بإمكانه أن يشكّل حكومته متخطياً الكتل النيابية وكل الأعراف السياسية اللبنانية، ومنقلباً على نتائج الانتخابات النيابية.

إنها المرة الثانية التي يستشعر الحريري بقدرته على الانقلاب على الشركاء في الوطن، ويحاول تغيير نتائج الانتخابات النيابية التي لم تأتِ لصالحه عام 2018، فيحاول بالتعاون مع الخارج أن ينفد انقلاباً يعطيه حق التفرد بالحكم، والاستئثار بالسلطة وحده لتمرير ما يريده الخارج، وذلك كما يلي:

- الانقلاب الاول كان في تشرين الأول عام 2019، حين أستغل الحريري وقوى 14 آذار الحكومية سياسة الضغوط القصوى الأميركية، ليندسوا في مظاهرات 17 تشرين التي خرجت بعدما قام أحد وزراء الحريري نفسه بإعلان ضريبة جديدة على واتساب، بنصيحة من أحد وزراء القوات الللبنانية.

يمكن أن يكون هذا الاعلان - الذي يكن قد تمّ التوافق عليه في مجلس الوزارء- هو الشرارة المتفق عليها لحصول الانقلاب، فحصل ما حصل ونزلت الناس الى الشوارع مدفوعة بغضب عارم سببه شهر من الأزمات المتنقلة والمفتعلة والتي تلت زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الى نيويورك وإعلانه  صراحة أن "لبنان يقرر ما يريد، ولا أحد يستطيع أن يملي عليه إرادته في مواضيع التوطين واللاجئين وصفقة القرن وغيرها"... بعدها مباشرة، وخلال وجود الرئيس عون في الولايات المتحدة ارتفع سعر الدولار بصورة مفاجئة، وتوالت أزمات البنزين والأفران والحرائق وغيرها..

وبالطبع، استقال الحريري مشترطاً العودة بتشكيلة حكومية يقررها بنفسه، بدون تدخل أحد من القوى السياسية، الأمر الذي رفضه الآخرون، وفشل الانقلاب، وتراجعت الثورة ولم تحقق شيئًا فعلياً من المطالب التي رفعتها.

- اليوم يحاول الحريري العودة الى الصيغة الأساسية التي اشترطها بعد استقالته؛ أي أن يقرر بنفسه أسماء الوزراء جميعهم، على أن تكون الواجهة "مصطفى أديب"، الذي لم يتشاور مع أحد من الأطراف السياسيين في تركيبة حكومته التي ستخرج واقعياً من بيت الوسط.

يتكل الحريري اليوم على ضغوط فرنسية وأميركية لإخراج الجميع من الحكومة، وبالتالي تنفيذ هدف أميركي معلن؛ "إخراج حزب الله من الحكومة"، وهو ما دفع الثنائي - عبر الرئيس برّي- الى إعلان الاستياء من تهميشهما في المشاورات الجارية.

أين يمكن أن يصل الحريري في انقلابه الثاني؟

جميع الاحتمالات واردة بالنسبة لتشكيل الحكومة، التي يمكن أن تتشكّل كيفما كان ( بغضّ النظر عن الأسماء)في ظل سعي الأطراف المختلفة الى عدم إحراق المبادرة الفرنسية التي تبدو حبل النجاة الأخير للبنان، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وعدم استقرار أمني وسياسي. لكن، الأكيد، ومن خلال الدروس والعبر التي تمّ استخلاصها من تاريخ لبنان الحديث في السنوات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أن الاستقواء بالخارج لتغيير موازين القوى الداخلية لا يمكن أن ينجح، وبالتالي حيث فشل السنيورة سابقاً سيفشل انقلاب الحريري الحالي مرة ثانية. 

2020/09/07

شينكر في لبنان: دعم أو إحباط الفرنسيين؟

بعد زيارة الرئيس الفرنسي الى لبنان، وحديثه عن خريطة طريق لتشكيل حكومة والقيام بإصلاحات تساعد لبنان على النهوض من الأزمة التي تمّ إغراقه فيها، يحاذر اللبنانيون بشدّة من الافراط بالتفاؤل، كون ما زالت الطبقة السياسية تتمتع بقدرة هائلة على التلاعب والهروب الى الامام، ولو ضاق هذا الهامش بعد المبادرة الفرنسية.

لقد ذهل اللبنانيون بحجم القدرة التي تملكها الطبقة السياسية في تعطيل أي إصلاح، ومنها قيام وزير المالية غازي وزني بتغيير بنود عقد التدقيق المالي الجنائي، بعدما كان قد تمّ التوافق عليه في مجلس الوزراء ومع رئيس الجمهورية. واللافت احتجاب الوزير وصمته بعدما انتشرت تلك الأخبار على صفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، علماً أن الأمر سيكون له ارتداداته على اختيار وزير المالية في الحكومة الجديدة، والذي من المفترض أن تختلف مواصفاته عن وزراء المالية السابقين المتعاقبين منذ التسعينات ولغاية اليوم، إن كان هناك نيّة حقيقية للإصلاح.

وبالرغم من كل ذلك، تبقى نافذة الأمل مفتوحة أمام اللبنانيين بسبب المبادرة الفرنسية التي وضعت خريطة طريق واضحة وقصيرة المهل نسبيًا، وقد برز ذلك من خلال أحاديث مساعد وزير الخارجية الأميركي مع ناشطين من المجتمع المدني ومع الاعلام اللبناني، ونذكر بعض الملاحظات:

أولاً ؛ أقرّ شينكر صراحة أن المبادرة الفرنسية تمّ تنسيقها مع الأميركيين، وكما يبدو أن الفرنسي تمّ توكيله من قبل الغرب لقيادة مبادرة إنقاذية تمنع البلد من الانهيار التامّ، لأن في انهياره تداعيات كبيرة وخسائر إضافية للغرب نفسه.

ثانياً؛ تيّقن الغرب بشكل عام والأميركيين بشكل خاص، أن المراهنة على تشكيل قيادات جديدة في لبنان تحلّ مكان الطبقة السياسية القديمة، دونه عقبات كبيرة ويحتاج الى وقت أطول مما يملكه الاميركيون فعلياً قبل التغيير المرتقب في البيت الأبيض وقبل انهيار لبنان كلياً.

ثالثاً؛ يتضح من خلال التسريبات التي نُقلت عن شينكر في لقاءاته مع ناشطي المجتمع المدني، أنه محبط من النتائج التي حققوها، فبالرغم من الدعم المعنوي والاعلامي والمادي الكبير الذي تلقوه، حققوا نتائج متواضعة جداً لا ترقى الى مستوى النتائج المطلوب تحقيقها.

رابعاً؛ يبدو أن شينكر - من خلال مقابلاته الصحفية -  تراجع عن معظم الشروط التي كان قد وضعها على لبنان، وبدت نبرته الاعلامية مختلفة عن المقابلة التي أجراها سابقاً مع موقع الهديل، باستثناء موضوع ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، والذي أصرّ شينكر على التهديد بأن عدم رضوخ لبنان لـ "التصور الاميركي" بإعطاء جزء من نفطه وأرضه لـ "اسرائيل" في البلوك رقم 9، لن يسمح بالتنقيب عن الغاز واستثماره في ذلك البلوك.

خامساً؛ بالنسبة للعقوبات التي تمّ التهديد بها مباشرة من قبل دايفد شينكر ومواربة من قبل بعض التسريبات التي تحدثت عن قيام الرئيس الفرنسي بتأنيب الطبقة السياسية وتهديدها بعقوبات إن لم تستجب لمطالب الاصلاح، فتجدر الاشارة الى اختلاف جوهر تلك العقوبات، فالعقوبات التي يهدد شينكر بتطبيقها هي لمعاقبة السياسيين الذين "يدعمون حزب الله ويزيدون نفوذه" بينما التصور الفرنسي يهدد بفرض عقوبات من قبل الاتحاد الاوروبي، وتجميد حسابات بعض السياسيين اللبنانيين الذين يعرقلون عملية نهوض لبنان. 

2020/09/01

مستقبل لبنان على وقع الصراع بين الطوائف والدولة

 

 

منذ أن تمّ إعلان دولة لبنان الكبير منذ مئة عام ولغاية اليوم، يعيش لبنان أزمات متوارثة ومتكررة، كنتيجة لصراع الدول على أرضه، وحيث مارست الطوائف اللبنانية نوعًا من رأس الجسر لتلك الدول، انطلاقًا من نزعات الخوف على الوجود والمصير والشعور بالغبن وغيرها.

 

ولقد حاذر اللبنانيون على مدى مئة عام المسّ بنظامهم الطوائفي الذي بناه الفرنسيون على فكرة بأن الديمقراطية في لبنان لا يمكن أن تكون ديمقراطية مبنية على حرية الفرد، بل على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في النتيجة والواقع العملي  “صراع الدول التي تستخدم تلك الطوائف”.

 

 واليوم، وبعد الأزمات المتكررة والانهيار الاقتصادي والمالي والاخلاقي الذي يعاني منه لبنان، يطرح على بساط البحث عقد مؤتمر تأسيسي لتغيير النظام في لبنان وتطويره، وفي هذا المجال يمكن أن نعالج فرضيتين:

 

- الفرضية الأولى؛ هي الاستمرار بنظام الطوائف التحاصصي، وتعديله بما يتناسب مع موازين القوى السائدة كما حصل بعد اتفاق الطائف، حيث تمّ تكريس هزيمة المسيحيين في الحرب فأتت النتائج على حساب حصتهم ودورهم وصلاحياتهم في النظام. وعليه، إن الطروحات الطائفية لتعديل النظام واستمراره على أساس المحاصصة الناتجة عن ميزان قوى جديد سيكون خياراً كارثياً على لبنان.

 

إن السير بهذا الخيار الترقيعي اليوم، سوف يؤدي الى أخطار كبيرة على لبنان، وذلك لأنه سيسمح بالدخول الى الغرائز الطائفية والهويات الجماعية لتحفيزها للقتال "خوفاً على المصير والوجود"، وللإدعاء بأن طائفة تمتلك فائض قوة تريد أن تمارسه على الآخرين وتستأثر بالصلاحيات على حساب الطوائف الأخرى.

 

- الفرضية الثانية؛ أن يقتنع اللبنانيون - مرة لكل المرات- أن النظام الطائفي لم يعد يستطيع أن يستمر ولم يعد يواكب تطلعات الأجيال الجديدة من اللبنانيين، وبالتالي علينا السير مجبرين نحو إقامة دولة مدنية وإلا خسرنا الأمل ببناء دولة.

 

إن نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ مؤقتًا عام 1943 وتحول الى عرف دائم فيما بعد، وتمّ تكريسه في الدستور اللبناني بعد التعديلات التي أقرّت عام 1990 بناءً على اتفاق الطائف، جعل الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وجعل التناقضات والصراعات بينهم تأخذ طابعًا طائفيًا مقيتًا، فتعيق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات، وتفتح المجال لتغطية الولاءات والمراهنات الخارجية ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين ونمط الزبائنية.

 

لقد أنتج النظام اللبناني القديم فتنًا وحروبًا أهلية متكررة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجية مع الأوهام الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الخارجية والداخلية المنقوصة أساسًا.

 

لقد تنازلت الدولة عن صلاحياتها للطوائف، أو بالاحرى إن الطوائف التي سبق وجودها وجود الدولة أسست دولة هشّة ومحدودة القوة وتركت لنفسها الكثير من الاستقلالية والصلاحيات المفترض بالدولة الاضطلاع بها. وهكذا قامت علاقة عكسية بين سيادة الدولة وقوة الطوائف في لبنان، فكلما زادت قوة الطوائف تقلصت سيادة الدولة والعكس بالعكس.

 

وعليه، ومن أجل الخروج من هذه الدوامة المستمرة من التدخلات والتدخلات المضادة، ومن أجل العبور  بلبنان من دولة الرعايا الى دولة المواطنين، والتخلص من الفكرة الدولية التي ترى في لبنان “الدولة الحاجز” أو “الدولة الساحة”، علينا أن نقضي على المحاصصة الطائفية والزبائنية والسير باتجاه دولة مدنية، مع تأسيس مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف، وإقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، وتحقيق لامركزية إدارية موسعة تسمح بإنماء المناطق وعدم هجرة الأرياف الى المدن.

 

واقعياً، لن تكون الطريق معبّدة أمام طرح كهذا، لأنه سيضرّ بالكثير من مصالح النفوذ السياسية، والمحميات الطائفية، علماً أن علاقة منافع متبادلة تقوم بين الطبقة السياسية والسلطات الدينية حيث يخدم كل منهما الآخر، ويخدم هؤلاء جميعاً قوى خارجية تتستر بالحمايات الطائفية لتمرير مشاريعها في لبنان.

 

في النتيجة، لبنان أمام مفترق تاريخي هام، فإما أن يتطلع اللبنانيون الى المستقبل بذهنية القرن الحادي والعشرين، وأما يغرقون في الماضي ويكررون تجارب ومآسي القرن العشرين، وخيارهم هذا سيسمح ببناء دولة أو يغرقها في الفشل الى الأبد.