2020/09/01

مستقبل لبنان على وقع الصراع بين الطوائف والدولة

 

 

منذ أن تمّ إعلان دولة لبنان الكبير منذ مئة عام ولغاية اليوم، يعيش لبنان أزمات متوارثة ومتكررة، كنتيجة لصراع الدول على أرضه، وحيث مارست الطوائف اللبنانية نوعًا من رأس الجسر لتلك الدول، انطلاقًا من نزعات الخوف على الوجود والمصير والشعور بالغبن وغيرها.

 

ولقد حاذر اللبنانيون على مدى مئة عام المسّ بنظامهم الطوائفي الذي بناه الفرنسيون على فكرة بأن الديمقراطية في لبنان لا يمكن أن تكون ديمقراطية مبنية على حرية الفرد، بل على المساواة السياسية بين الطوائف، على أن تكون الدولة مجرّد حَكَم في صراع الطوائف فيما بينها، وهو في النتيجة والواقع العملي  “صراع الدول التي تستخدم تلك الطوائف”.

 

 واليوم، وبعد الأزمات المتكررة والانهيار الاقتصادي والمالي والاخلاقي الذي يعاني منه لبنان، يطرح على بساط البحث عقد مؤتمر تأسيسي لتغيير النظام في لبنان وتطويره، وفي هذا المجال يمكن أن نعالج فرضيتين:

 

- الفرضية الأولى؛ هي الاستمرار بنظام الطوائف التحاصصي، وتعديله بما يتناسب مع موازين القوى السائدة كما حصل بعد اتفاق الطائف، حيث تمّ تكريس هزيمة المسيحيين في الحرب فأتت النتائج على حساب حصتهم ودورهم وصلاحياتهم في النظام. وعليه، إن الطروحات الطائفية لتعديل النظام واستمراره على أساس المحاصصة الناتجة عن ميزان قوى جديد سيكون خياراً كارثياً على لبنان.

 

إن السير بهذا الخيار الترقيعي اليوم، سوف يؤدي الى أخطار كبيرة على لبنان، وذلك لأنه سيسمح بالدخول الى الغرائز الطائفية والهويات الجماعية لتحفيزها للقتال "خوفاً على المصير والوجود"، وللإدعاء بأن طائفة تمتلك فائض قوة تريد أن تمارسه على الآخرين وتستأثر بالصلاحيات على حساب الطوائف الأخرى.

 

- الفرضية الثانية؛ أن يقتنع اللبنانيون - مرة لكل المرات- أن النظام الطائفي لم يعد يستطيع أن يستمر ولم يعد يواكب تطلعات الأجيال الجديدة من اللبنانيين، وبالتالي علينا السير مجبرين نحو إقامة دولة مدنية وإلا خسرنا الأمل ببناء دولة.

 

إن نظام المحاصصة الطائفية الذي بدأ مؤقتًا عام 1943 وتحول الى عرف دائم فيما بعد، وتمّ تكريسه في الدستور اللبناني بعد التعديلات التي أقرّت عام 1990 بناءً على اتفاق الطائف، جعل الدولة مساحة لتحاصص الطوائف المختزلة بزعمائها، وجعل التناقضات والصراعات بينهم تأخذ طابعًا طائفيًا مقيتًا، فتعيق عمل السلطة، وتعرقل بناء دولة القانون والمؤسسات، وتفتح المجال لتغطية الولاءات والمراهنات الخارجية ولحماية وتفشي الفساد والفاسدين ونمط الزبائنية.

 

لقد أنتج النظام اللبناني القديم فتنًا وحروبًا أهلية متكررة، وجعل لبنان ساحة مفتوحة لصراع تتداخل فيه العوامل الخارجية مع الأوهام الداخلية، فتضعف سيادة الدولة الخارجية والداخلية المنقوصة أساسًا.

 

لقد تنازلت الدولة عن صلاحياتها للطوائف، أو بالاحرى إن الطوائف التي سبق وجودها وجود الدولة أسست دولة هشّة ومحدودة القوة وتركت لنفسها الكثير من الاستقلالية والصلاحيات المفترض بالدولة الاضطلاع بها. وهكذا قامت علاقة عكسية بين سيادة الدولة وقوة الطوائف في لبنان، فكلما زادت قوة الطوائف تقلصت سيادة الدولة والعكس بالعكس.

 

وعليه، ومن أجل الخروج من هذه الدوامة المستمرة من التدخلات والتدخلات المضادة، ومن أجل العبور  بلبنان من دولة الرعايا الى دولة المواطنين، والتخلص من الفكرة الدولية التي ترى في لبنان “الدولة الحاجز” أو “الدولة الساحة”، علينا أن نقضي على المحاصصة الطائفية والزبائنية والسير باتجاه دولة مدنية، مع تأسيس مجلس شيوخ تتمثل فيه الطوائف، وإقرار قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، وتحقيق لامركزية إدارية موسعة تسمح بإنماء المناطق وعدم هجرة الأرياف الى المدن.

 

واقعياً، لن تكون الطريق معبّدة أمام طرح كهذا، لأنه سيضرّ بالكثير من مصالح النفوذ السياسية، والمحميات الطائفية، علماً أن علاقة منافع متبادلة تقوم بين الطبقة السياسية والسلطات الدينية حيث يخدم كل منهما الآخر، ويخدم هؤلاء جميعاً قوى خارجية تتستر بالحمايات الطائفية لتمرير مشاريعها في لبنان.

 

في النتيجة، لبنان أمام مفترق تاريخي هام، فإما أن يتطلع اللبنانيون الى المستقبل بذهنية القرن الحادي والعشرين، وأما يغرقون في الماضي ويكررون تجارب ومآسي القرن العشرين، وخيارهم هذا سيسمح ببناء دولة أو يغرقها في الفشل الى الأبد.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق