2014/05/29

سيناريو ما بعد الانتخابات السورية

د. ليلى نقولا الرحباني

بدأت الانتخابات السورية في الخارج، في ظل انقسام دولي حولها؛ فقد سمحت بعض الدول للحكومة السورية إجراء الانتخابات في السفارات السورية على أراضيها، بينما رفضت معظم الدول الغربية الداعمة لـ"المعارضة السورية" إجراء الانتخابات في السفارات السورية المنتشرة على أراضيها، وكان اللافت أن فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وأميركا وأستراليا رفضت السماح بإجراء الانتخابات، علماً أنها دول لطالما تغنّت بالديمقراطية، وبحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكانت في وقت سابق أعلنت أن إجراء هذه الانتخابات هو "مهزلة".

تتلاقى سياسة الغرب اليوم مع سياسة "داعش" الرافضة لإجراء الانتخابات السورية، فمنهم من يمنع الناخبين بسلطة القانون، ومنهم من يمنعهم بالإرهاب، علماً أن هذا الإجراء الأوروبي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على عدم قدرة المعارضة السورية والدول الداعمة لها، بكل الحشد الإعلامي والتسويقي الذي استخدمته، على كسب أصوات السوريين المقيمين في تلك الدول، فلو كان الأمر كذلك، لسمحت للسفارات السورية بفتح أبوابها للانتخابات، وحينها لن يكون هناك نسبة مشاركة سورية اغترابية فيها، ويتأكد ما كان قد أعلنه قادة تلك الدول من أن الرئيس السوري بشار الأسد قد فقد شرعيته فعلاً.

من المؤسف أن الغرب يتعامل بعشوائية مع موضوع الحرب في سورية، ما يوحي بأن حجم المعاناة والضحايا غير ذي قيمة في التخطيط الاستراتيجي الدولي للسلام في سورية.

إن فكرة الهيئة الانتقالية التي طرحها الغرب خلال مفاوضات "جنيف 3"، لا تعني بالضرورة تقويض الهياكل المؤسسية السورية، بل بالعكس؛ تفترض الحفاظ عليها لنجاح تطبيق آليات العدالة الانتقالية في المستقبل، التي ستسمح إما بإنهاء الاقتتال، وإما الردّ على الانتهاكات المنهجية والواسعة النطاق لحقوق الإنسان التي حصلت خلال النزاع، وهو أمر أعلنت فرنسا والدول الغربية أنها في صميم اهتمامها، من خلال طرح مشروع قرار على مجلس الأمن لإحالة القضية السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية.

إن تعزيز إمكانيات السلام والمصالحة والديمقراطية في سورية يفترض أن تقدّم الدول اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية بالمؤسسات، وتقوّي سيادة القانون والديمقراطية، لذا على المجتمع الدولي تشجيع كل ما من شأنه إحلال السلام ومحاربة الإرهاب، بالإضافة إلى إدراك الدرجة العالية من التعقيد والطبيعة الديناميكية لعمليات العدالة الانتقالية، والتي تفترض قدراً مقبولاً من الشرعية السياسية للمؤسسات السياسية والعسكرية كشرط مسبق من أجل التغيير.

إن كلمة "انتقالي" بحدّ ذاتها تفيد أن هذه العمليات هي عمليات مؤقتة وغير دائمة، ومصمَّمة خصيصاً لتؤمّن جسراً بين الحاضر والمستقبل، أي الانتقال من الحرب إلى السلام، ومن الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وبهذا الإطار، يكون الهدف الأساس إنهاء حالة الحرب، وترسيخ مفهوم الديمقراطية، ومنها تشجيع التطور الذي حصل بتحويل الانتخابات السورية من مجرد استفتاء على شخص الرئيس إلى انتخابات تعددية، مع المطالبة بمزيد من الإصلاحات التي تؤمّن التعددية السياسية والحريات العامة في البلاد.

في النتيجة، وتأسيساً على ما سبق من تطورات في النزاع السوري خلال سنوات ثلاث، سيكون المشهد في الأشهر المقبلة كما يلي: تجري الانتخابات السورية في الخارج وفي الداخل السوري، فتخرج الدول الداعمة للنظام السوري لترحّب بهذا "الحدث الديمقراطي"، وتخرج الدول الغربية لتتحدث عن "عدم شرعية" تلك الانتخابات، وتتحدث معارضة الفنادق عن تزوير شاب الانتخابات، وأن الكثير من المناطق السورية لم تشارك.. لكن في النهاية ستمرّ الأيام، ويستمر الجيش السوري في تقدُّمه الميداني، وستعود الوفود الأجنبية إلى سورية وتقدم أوراق اعتمادها إلى الرئيس السوري، ويتغنّى الغرب بقدرة الجيش السوري بالتعاون مع الجيش العراقي لمحاربة الإرهاب، وتغيب القضية السورية ومعها الجربا وزملاؤه عن أجندات الإعلام الغربي والدولي.

2014/05/26

معادلة "اسرائيل - المقاومة": من التفوق الى الردع، فالخوف!!!

د. ليلى نقولا الرحباني
كما كان متوقعًا ومنتظرًا، أطل السيد حسن نصرالله في عيد المقاومة والتحرير في 25 أيار، ليعيد للانتصار اللبناني على الاسرائيليينزخمه وقيمته، ويعطي صورة عن المقاومة ضمن رسائل وجهها إلى الداخل والخارج، ولعل أبرزها إعادة تكريس صورة فائض القوة المتحصلة لدى المقاومة منذ انسحاب اسرائيل من جنوب لبنان وبعدها انتصار تموز في العام 2006، وتأكيد على قوة الردع التي تحصّلت للبنان من خلال حديثه عن التحرشات الاسرائيلية التي ازدادت وتيرتها في الاشهر الاخيرة، مؤكدًا أن هذه التحرشات ليست دليل قوة كما يخيل للبعض بل انها دليل خوف عند الاسرائيلي، امتد من الساسة الى الجنود والجبهة الداخلية، داعيًا الجنوبيين الى "البناء وعدم الخوف، فاسرائيل الاسطورة أضحت حكاية من الماضي يتسلى بها الأطفال، ولا نريد إستعجال الامور إنما إذا وصلت الامور الى نقطة تستدعي تدخل المقاومة، فالمقاومة لن تسكت على أي تجاوز أو إعتداء على أي من أهلها على طول الحدود".
هكذا إذًا، وبحسب خطاب السيد نصرالله، ولأول مرة منذ انتصار تموز، يبدو أن معادلة "اسرائيل- المقاومة اللبنانية" انتقلت من حالة التفوق الهجومي الاسرائيلي، مرورًا بالتوازن الردعي بين الاثنين، الى الخوف الاسرائيلي من المقاومة.
إن هذا التحوّل في المعادلات، ليس أمرًا بسيطًا، فقبل عام  2006، أي في المرحلة الاولى، كانت إسرائيل تملك قرارين أساسيين: قرار الدخول في الحرب وقرار الخروج منها وإنهائها ساعة تشاء، وبالشكل الذي تريد. لقد شكّل التفوق العسكري الاسرائيلي عاملاً مساندًا لها في الهيمنة في المنطقة، حيث استمرت اسرائيل في الاقتناع بأنه يكفي قرار اسرائيلي بالنزهة الى لبنان، حتى تصل قوات الجيش الاسرائيلي الى حدود الليطاني. وفي تلك المرحلة بالذات، كانت إسرائيل، وبمجرد التهويل بالحرب، تتدخل في قرارات عربية كبرى وتصيغها لصالحها وتخلق في ذهن العرب أن كلفة الاستسلام أخفّ من كلفة الحرب، فتدفعهم الى الانهيار الادراكي الذي يسبق الانهيار العسكري الفعلي، فتحقق بالتهويل ما تريد تحقيقه بالحرب وبكلفة أقل.
أما في المرحلة الثانية، أي مرحلة التوازن الردعي بين الاثنين، التي فرضها الانتصار في حرب تموز، فقد أثبتت النتائج أن قراراً واحداً فقط كان بيد إسرائيل، وهو قرار الدخول في الحرب، لكن قرار الخروج منها وبأي ثمن وبأي خسائر فقد فقدته إسرائيل لأول مرة في تاريخها، ولم تستعده لغاية الآن. كما فقدت اسرائيل، في هذه المرحلة، القدرة على أخذ "الحرب إلى أرض العدو"، وأن يعيش الشعب الاسرائيلي بمأمن بينما تئن الشعوب العربية تحت ضربات الجيش الاسرائيلي القاتلة. لكن التجربة التي فرضتها حرب تموز، وقدرة المقاومة على قصف العمق الإسرائيلي خلال الحرب، وبعدها فرض معادلة ردعية دقيقة جدًا أي عاصمة مقابل عاصمة، ومدينة مقابل مدينة.. جعل إسرائيل تفقد معياراً أساسياً من معايير القوة والنفوذ المعتمدة في العلاقات الدولية، وهي القدرة على التأثير على قرارات الغير، من خلال التهديد والتهويل بالحرب، التي تعني أن يقوم العدو بما تريده أن يقوم به، أو يمتنع عن القيام بما لا تريده أن يفعله، وذلك من دون أن تضطر إلى الحرب. وهكذا باتت اسرائيل تتمنى الحرب وتخشاها في نفس الوقت.
أما المرحلة الثالثة والتي أعلن عنها السيد نصرالله في خطابه الأخير، فهي انقلاب موازين الردع لأول مرة، بما يعني أن ميزان الردع المتوازي بات مختلاً لصالح المقاومة في لبنان، التي امتلكت من الخبرة القتالية ما يجعل الاسرائيلي يخاف من "حفيف الشجر، وضربات المعاول..." على الجزء اللبناني من الحدود كما قال الأمين العام لحزب الله. وهكذا، قد يكون هذا الخوف الاسرائيلي، مردّه الى أمور عدّة منها ما يلي:
- تجربة المقاومة في قتال التكفيريين في سوريا، وقد اعلنت التقارير الاسرائيلية في وقت سابق أن هذه التجربة تدرّب حزب الله على احتلال الجليل، بل أكثر من ذلك.
- تجارب اسرائيل خلال الأشهر المنصرمة في اختراق الحدود اللبنانية، وتصدّي المقاومة لها بطريقة احترافية جدًا فاجئت الاسرائيليين وأشعرتهم بأن عدوهم خلف الحدود، بات عدوًا محترفًا جدًا.
- وقد يكون لا هذا ولا ذاك، إنما هناك أمور عسكرية استخبارية غير معلنة، يعرف معها الاسرائيلي أن حزب الله قد تحوّل الى "قوة مخيفة" في المنطقة.
وبكل الأحوال، وبغض النظر عن الأسباب، فإن تحوّل المقاومة الى "قوة مخيفة" لاسرائيل، يريح اللبنانيين المتوجهين الى معارك لحفظ حقهم في نفطهم وحدودهم البحرية التي تحاول اسرائيل الاستيلاء عليها، بعد طمعها التاريخي في حدودهم البرية ومياههم.

2014/05/21

بوتين يشنق نفسه؟

د. ليلى نقولا الرحباني

في تحليل لسياسة ما بعد ضم القرم إلى روسيا، يتحدث الكثير من الباحثين الأميركيين والأوروبيين عن أن ما يظهر أنه "خسارة للغرب" في معركة أوكرانيا، وضم القرم ليس إلا "وهم" يتوهمه البعض الذي يريد أن يصدق أن بوتين ضمّ القرم ولم يستطع الغرب أن يحرك ساكناً، بل بالعكس، إن ما يبدو أنه "انكسار" بسبب عدم استطاعة الرئيس الأميركي فرض عقوبات جدّية على الروس لعدم وقوف الأوروبيين إلى جانبه في فرض تلك العقوبات، هو انتصار وذكاء حاد للسياسة الأميركية التي استطاعت أن تكبّد الاقتصاد الروسي خسائر كبرى، بدون عناء، وبدا بوتين كمن يلف الحبل حول رقبته ويشنق نفسه بدل أن يشنقه الآخرون.

وقد يكون جزء من هذه النظرية صحيح، فالاقتصاد الروسي بلا شكّ قد تأثر بالعقوبات أو حتى التهويل بها، فالرأسمال معروف بأنه جبان، يهرب بسرعة من البلدان العديمة الاستقرار أو المرشحة لعدم الاستقرار، ولكن، هل فعلاً شنق بوتين نفسه، وخسرت روسيا بدل أن تربح في القرم؟
في البداية، يجب العودة إلى تبدّل معايير القوة وسباق النفوذ الذي طرأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد سارع الغرب إلى تبديل أسس الصراعات الدولية التي اعتمدت الجيوبوليتيك التقليدي خلال الحرب الباردة، لصالح المعايير الليبرالية واقتصاد السوق والانفتاح على العولمة، فتمّ التخلي عن السباق التقلدي نحو التوسع لاحتلال الجغرافيا وزيادة القوة العسكرية ومعايير الأمن القومي، لصالح الاقتصاد ومعايير الاعتماد المتبادل والنظام العالمي، وبات السعي إلى الهيمنة يتم عبر الهيمنة الاقتصادية على السوق التي يمكن للغرب أن يتفوق فيها بدل أن تكون عسكرية جغرافية مكلفة مادياً وبشرياً، وهكذا قلّص الغربيون موازنات الدفاع الوطنية، وفرضوا سياسة تقشفية على حلف الناتو.

وانطلاقاً مما حصل من تطورات خلال الأعوام الثلاث الأخيرة، وتأسيساً على الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت نظام السوق بالصميم، يمكن القول إن ما قام به بوتين في إعادة ضمّ القرم، أعاد الاعتبار إلى المعايير التقليدية للجيوبوليتيك، والارتكاز إلى القوة العسكرية للهيمنة والتوسع، وهو ما يجعله رابحاً بمجرد سحب البساط من تحت أرجل الغربيين، وإعادة الاعتبار إلى المعايير التي تتقنها روسيا جيدًا، بدل أن تكون روسيا لاعباً في مسرح دولي يفرض قواعده الغرب (الاقتصاد). علماً أن القبول بعودة معايير الجيوبوليتيك التقليدي قد تؤدي إلى دورة معاكسة لما قام به الغرب مع الاتحاد السوفياتي، حين فرض عليه الأميركيون سباق تسلح جديد في الثمانينات من القرن الماضي دفعه إلى زيادة الإنفاق على برامج التسلح في وقت كان اقتصاده يعاني الأمرّين، ما سرّع في انهياره، لذا إن العودة إلى الهيمنة من خلال التوسع عسكرياً وجغرافياً أمر مقلق للولايات المتحدة التي أعلنت نهاية التدخلات العسكرية المباشرة، خصوصاً في ظل عدم رغبة داخلية بالتدخل العسكري المباشر وهو ما ظهر جلياً خلال الأزمة السورية، وبعد حربي العراق وأفغانستان.
وبما أن الاقتصاد هو عصب الحياة، فقد توجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نحو الصين لتوقيع عقود تجارية وتعاون متبادل ومنها تزويد الصين بالغاز الطبيعي الروسي، وهي خطوة إن تمّت ستعيد تعويم الاقتصاد الروسي وتسمح للروس بتخطي أي عقوبات أو توجّه أوروبي للتخلي عن الغاز الروسي في المستقبل.

وفي الحالتين، لا يبدو - لغاية الآن - أن بوتين قد خسر في ضمّ القرم، فالخسائر الاقتصادية القصيرة المدى يمكن تعويضها بالانفتاح على أسواق جديدة أهم وأكثر وعداً كالاقتصاد الصيني، كما أن الأرباح الاستراتيجية التي حققها الروس إن على صعيد الإقليم أو على الصعيد الدولي، تستحق أثماناً أعلى بكثير مما تكبده الاقتصاد الروسي الذي تشير المؤشرات إلى عودته للارتفاع بعد زيارة بوتين إلى الصين هذا الأسبوع.

2014/05/18

حين تصبح نكبة فلسطين.... نكبات

د. ليلى نقولا الرحباني

لطالما احتلت قضية فلسطين موقعًا هامًا في الوجدان العربي، واعتُبرت بحق من أكثر القضايا المعاصرة إشكالية وتعقيدًا. عام1947 صدر قرار الامم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين الذي تبنته الجمعية العامة، أعقبه اعلان دولة اسرائيل في 15 أيار 1948 التي سرعان ما تم الاعتراف بها واكتسبت قانونية في الامم المتحدة، بينما ساهمت الانقسامات العربية والتشرذم كما طمع بعض الدول العربية بالاراضي الفلسطينية، في تأخير اعلان الدولة الفلسطينية المستقلة التي نص عليها قرار التقسيم، فخسر الفلسطينيون دولتهم منذ ذلك الحين بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية العربية، وانعدام التنسيق. وها هم اليوم، بعد مرور ست ستين عامًا على اعلان الاسرائيليين دولتهم، يطالبون بـ "حل" رفضوا أفضل منه - بتحريض من العرب- في ذلك الحين.
ولعله من المفيد، وخاصة للأجيال الجديدة التي لم تطلع بشكل كافٍ على مسار القضية ، أن نذكر كيف تمّ سلب فلسطين في الأمم المتحدة، حين عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 28 نيسان 1947 جلسة خاصة بالقضية الفلسطينية تقرر فيها تشكيل لجنة دولية للتحقيق، فأوصت بتقسيم فلسطين إلى:
- دولة عربية: تتكون حدودها من الجليل الغربي ونابلس الجبلية والسهل الساحلي الممتد من أسدود جنوب يافا حتى الحدود المصرية، بما في ذلك منطقة الخليل وجبل القدس وغور الأردن الجنوبي، وتبلغ مساحة هذه الدولة 12 ألف كيلومتر مربع.
- دولة يهودية: تتألف من الجليل الشرقي ومرج بن عامر والقسم الأكبر من السهل الساحلي ومنطقة بئر السبع والنقب، وتبلغ مساحة هذه المنطقة التي تعتبر أخصب الأراضي الفلسطينية 14200 كيلومتر مربع.
- أما الأماكن المقدسة فتشمل مدينة القدس ومنطقتها وتوضع تحت الوصاية الدولية ويعين مجلس الوصاية للأمم المتحدة حاكماً غير عربي وغير يهودي لهذه المنطقة.

وفي جلسة عقدتها الأمم المتحدة في 23 أيلول 1947 تقرر تحويل المشروع إلى لجنة خاصة تشكلت من ممثلين عن كل الدول الأعضاء بما فيهم ممثل يهودي وآخر فلسطيني. رفض المندوب الفلسطيني المشروع بعد استعراض تاريخي لجذور القضية الفلسطينية، في حين أعلن المندوب اليهودي موافقته على المشروع مع مطالبته بضم الجليل الغربي ومنطقة القدس إلى الدولة اليهودية. وفي 29 تشرين الثاني 1947 طرح مشروع التقسيم على التصويت فصودق عليه بأغلبية 33 صوتاً مقابل معارضة 13 صوتاً وامتناع عشر دول عن التصويت.
في 15 آذار 1948 أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب على فلسطين، وأعلنت الجلاء في آب من العام نفسه وأكدت أنها لن تمارس أي سلطات إدارية أو عسكرية. وسرعان ما تم الانسحاب البريطاني في 14 ايار 1948 ليعلن قادة اسرائيل دولتهم في اليوم التالي.
وهكذا اعتبر هذا اليوم أي 15 أيار، نكبة في تاريخ الأمة العربية. ولكن، منذ ذلك التاريخ ولغاية اليوم، تعرضت فلسطين لنكبات أكبر وأخطر، منها ما هو لأسباب خارجية، كما حصل عام 1967 على سبيل المثال، ومنها ما هو فلسطيني بحت كالاشتراك الفلسطيني في الحرب اللبنانية، والوقوف الى جانب صدام حسين في حربه ضد الكويت الخ، ولعل آخرها كانت النكبة التي نُكب بها الشعب الفلسطيني بطريقة التفاعل الفلسطيني مع ما سمي "الربيع العربي" أو بالأحرى إعادة مشروع العثمانية الجديدة تحت مسمى حكم "الإخوان المسلمين".
وبسقوط المشروع، وسقوط حماس بصفتها مقاومة فلسطينية معه، بعد ما قامت به في كل من سوريا ومصر ومبايعتها لأردوغان زعيمًا للعالم الاسلامي، كانت نكبة لفلسطين بكل ما للكلمة من معنى. نكبة فيما لو صحت التقارير التي تقول ان الطلقات الاولى في درعا على الجيش السوري كانت من أنصار حماس. ونكبة فيما لو صحت التقارير التي تقول أن ما اكتسبته حماس من دعم من سوريا وحزب الله، وخاصة الدعم العسكري والسلاح والتعلّم على حفر الانفاق استعملته حماس للانقضاض على النظام السوري بدل العدو الاسرائيلي. وكارثة إن صحّ ما تثيره السلطات المصرية من أن التفجيرات الارهابية التي تحصل في سيناء، قد تكون حماس وراءها.
إن صحت هذه المقولات والادعاءات على حماس، فإن نكبة فلسطين باتت مضاعفة، نكبة بالاحتلال ونكبة بالتنازلات، ونكبة بمقاومتها التي أضاعت بوصلة طريق فلسطين، فمرة كانت تمر في جونيه، ومرة في القاهرة، وأخيرًا باتت تمرّ في دمشق.

2014/05/15

الرئيس اللبناني المقبل.... من هو؟ وماذا عليه أن يفعل؟


د. ليلى نقولا الرحباني

لا شكّ أن رئيس الجمهورية المقبل، ورغم أن الصلاحيات التي بقيت له في الطائف لم تعد تحمل الأهمية نفسها التي كانت لرئيس ما قبل الطائف، لكن يبقى أن الرئيس اللبناني بما يحمله من صفات، وبكون الدستور اللبناني جعله "حَكَماً" بين الأطراف، وبحسب قدرته وشخصيته، يستطيع أن يلعب دوراً في الوفاق بين الأطراف اللبنانية، خصوصاً في ظل الصراع المذهبي المستشري في المنطقة، والذي ينعكس على لبنان في مجالات شتى.

حُكي الكثير عن ضرورة وجود رئيس قوي في سدّة الرئاسة، بحيث اعتبر البعض أن هذا الأمر يشكّل نوعاً من الاسترجاع المسيحي للدور المفترض أن يلعبه رئيس الجمهورية في النظام، ولكن - ومع أحقية هذا الشعار - لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس "القوي" المطلوب يجب أن يكون ذا حيثية واسعة؛ مسيحية وسياسية ووطنية، وقادراً على أن يُسهم في حل الأزمات المستعصية، لا أن يديرها فحسب، فالتحديات التي تواجه لبنان في هذه الفترة غير مسبوقة في جميع المجالات، ونذكر أهمها:

- أولاً: في الصراع مع "إسرائيل": لطالما كان الصراع مع "إسرائيل" مرتبطاً بملفات وجودية عدّة، لكن الطمع "الإسرائيلي" بالجغرافيا اللبنانية تقليدياً، والتنازع معها على الحدود البرية، أضيف إليه صراع مستجد مع "إسرائيل" بعد اكتشاف النفط في البحر اللبناني، يفرض التنازع والصراع على الحدود البرية والبحرية معاً، فبالإضافة إلى الأطماع "الإسرائيلية" بمياه لبنان الممتدة منذ تأسيس الكيان "الإسرائيلي"، على الرئيس المقبل أن يتعامل مع أطماع "إسرائيلية" بالنفط اللبناني، وهو تحدٍّ يبدو أكبر من موضوع المياه.

ثانياً: مشكلة اللاجئين، فقد شهدت العهود الرئاسية السابقة منذ عقود مشاكل وتحديات جدّية فرضتها قضية اللجوء الفلسطيني في لبنان، وسعي لبناني دائم لتثبيت حق العودة للاجئين الفلسطينيين للعودة إلى أرضهم، يضاف إلى هذا التحدي القديم الدائم تحدٍّ أكبر، قوامه وجود ما يقارب المليوني نازح سوري يقطنون في مخيمات عشوائية، ويشكّلون ضغطاً غير مسبوق على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية في البلاد.

ثالثاً: الدَّيْن العام، فبالإضافة إلى الدَّيْن العام المتصاعد كل سنة، تعيش البلاد أزمات اقتصادية واجتماعية وإضرابات وتظاهرات، تضاف إلى الأزمات السياسية المستفحلة، بالإضافة إلى سوء الإدارة والفساد المعشش في القطاع العام، علماً أن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية مرشَّحة لمزيد من التفاقم، خصوصاً في المناطق التي تستضيف اللاجئين السوريين، منها البقاع وعكار على سبيل المثال، وهي في الأصل مناطق تعاني من التهميش والحرمان المزمنين.

رابعاً: التحديات الأمنية التي لطالما شهدها لبنان؛ بوجود بؤر إرهابية ومناطق مستعصية على الدولة، فكيف بوجود مسلحين سوريين هربوا من المناطق السورية التي طهّرها الجيش السوري، وبعضهم استقبلتهم سابقاً بعض الجماعات المؤيدة للثورة السورية في لبنان؟!

خامساً: الخلاف السابق حول سلاح "حزب الله" وجدواه، وحول الاستراتيجية الدفاعية الأفضل لحفظ لبنان، يضاف إليه الخلاف المستجد حول دخول "حزب الله" في المعارك السورية، وما اعتبره البعض توريطاً للبنان في الحرب السورية الدائرة، والتي لا يبدو أنها ستنتهي في وقت قريب.

لكل هذه الأسباب وغيرها، يحتاج لبنان إلى رئيس قوي يعيد الاعتبار للمكوّن المسيحي في النظام، ويُسهم في تثبيت وجود مسيحيي المشرق، ويستطيع الردّ على هذه التحديات المطروحة، لمعالجتها بالتفاهم بين جميع الأطراف الداخلية، ولعل من المواصفات المطلوبة بإلحاح هي أن يكون موثوقاً به لدى المقاومة والحكم في سورية، فاليوم أكثر من أي وقت مضى يحتاج الحكم اللبناني إلى إقامة أفضل علاقات مع الدولة السورية، التي سيحتاجها للتنسيق في موضوع عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وهو موضوع إن استمر على ما هو عليه قد يؤدي إلى انهيار الدولة اللبنانية اقتصادياً، أو يمكن أن يشكّل قنبلة أمنية موقوتة لن تسلم من تشظياتها أي منطقة في لبنان.

2014/05/11

الاستنزاف في سوريا: واقعي أم افتراضي؟

يشير العديد من الباحثين والكتّاب العرب، ومعهم بعض السياسيين الأميركيين، الى أن السياسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية في سوريا، هي سياسة "ذكية جدًا" تقوم على توريط كل من روسيا وايران والنظام السوري وحزب الله في حرب استنزاف طويلة ستؤدي الى انهاكهم جميعًا وبالتالي تجعل من الربح الأميركي- الغربي- الاسرائيلي ربحًا صافيًا بدون خسائر أو تداعيات أو تكلفة كبيرة.
وفي شرح لهذه النظرية، يعتبر هؤلاء أن النظام السوري - ولو كان يبدو أنه متماسك ويحقق بعض التقدم- إلا أن المعارك ستنهك الجيش السوري وستجعله في النهاية جيشًا ضعيفًا، منهكًا بمعارك داخلية ومع القاعدة وستجعله عديم الجدوى في الصراع مع اسرائيل.
أما بالنسبة لإيران، فيعتقد هؤلاء أن تورّط إيران في الشأن السوري لا يضعفها عسكريًا واقتصاديًا فحسب، بل يمنعها من الانفاق على المشاريع التنموية في الداخل، ويزيد من عزلتها السياسية في المنطقة، ما يعني أن سياسة الاستنزاف في سوريا ستتآكلها من الداخل أكثر مما تفعل العقوبات الدولية.
 بالنسبة لحزب الله، تعتقد هذه النظرية، أن الخسائر البشرية التي يتكبدها الحزب والمشاركة في الحرب الدائرة في سوريا ستضعفه وتمنعه من تحصين الجبهة اللبنانية مع اسرائيل في ظل امتعاض داخلي لبناني من مشاركته في الحرب الى جانب النظام السوري.
وأما موسكو، فيقول هؤلاء أن الأميركيين قد قاموا بسياسة "توريط" لروسيا في الصراع السوري، بحيث بات عداء القاعدة والارهابيين والجهاد العالمي ينصّب حول موسكو بدل واشنطن، وفي النهاية سيستنزف الروس في حرب على الارهاب لم تكن يومًا معركتهم.

هذا في النظرية، أما النتائج الفعلية على الأرض، فإلى ماذا تشير؟

- بالنسبة لاستنزاف النظام السوري: بالرغم من أن انهاك الجيش السوري في معارك داخلية لمدة سنوات ثلاث قد يكون طبيعيًا، لكن النتائج الميدانية، لا تشي باستنزاف بل بانتصارات. علمًا أن مسألة تحييد سوريا من الصراع مع اسرائيل بسبب قتالها مع القاعدة، قد لا يؤدي الى ربح اسرائيلي كما تقول النظرية، فالقاعدة، وإن حيّدت اسرائيل في صراعها، فهي ليست جسمًا واحدًا متماسكًا قد تستطيع اسرائيل التحالف معه، وكما إن اختراقها من جميع استخبارات العالم، لا يعني عدم امكانية خرقها استخباريًا من قبل أعداء اسرائيل، وبالتالي قيامها بعمليات انتحارية أو "جهادية" ضد اسرائيل.
هذا بالنسبة لاسرائيل، أما بقية داعمي المعارضة السورية من غربيين ودول جوار، فحدث ولا حرج عن قلقهم من تنامي الارهاب في سوريا، فالاوروبيين رفعوا مستوى الخطر الى الأحمر في لقائهم في بروكسل هذا الأسبوع، والدول العربية طلبت من واشنطن عدم إعطاء الجربا أسلحة يطلبها، وهي في الأساس لم تكن مستعدة لذلك، وقد أعلن كيري أن الجربا يدرك أكثر من غيره حساسية مسألة "محاربة الإرهاب".
- بالنسبة لإيران: قد يكون الانفاق الايراني المالي في سوريا هو مصدر من مصادر الاستنزاف، لكن إن ما يتحقق على صعيد الملف النووي الايراني، وهرولة الغربيين الى ايران لمحاولة الانفتاح الاقتصادي، والتنافس فيما بينهم للاستحصال على مشاريع استثمارية وتنموية ونفطية هائلة مع ايران، كما الاعتراف الاميركي بالدور الاقليمي لايران، لا يعني أن الاستنزاف المالي سيجعل ايران تنهار. يضاف الى ذلك، أن ما تنفقه ايران، لا يوازي بأي حال من الأحوال المكاسب الاستراتيجية التي حققتها وتحققها من الانتصارات التي يحققها الجيش السوري وحلفاؤه في الداخل.
- بالنسبة لحزب الله، وبحسب التقارير الاسرائيلية، لقد اكتسب حزب الله خبرة إضافية، وقد يكون في معرض قيامه بالقتال في سوريا يتدرب على اجتياح الجليل. علمًا أن الضغوط السياسية في الداخل اللبناني على حزب الله لانخراطه في الحرب السورية، قد تراجعت - لا بل اختفت كليًا- بعد تشكيل الحكومة والانتصار في القلمون وتطهير حمص وعزل الحدود اللبنانية السورية عن الصراع السوري.
وأخيرًا، نصل الى روسيا التي لا تبدو بأي حال من الأحوال بأنها محرجة أو منهكة، وهي تقاتل الغرب بأكمله في اوكرانيا، واستطاعت ضمّ القرم بدون نقطة دم، وعلمًا أنه وبالرغم من كل التهديدات السابقة، لم نعد نقرأ أي تهديد غربي في موضوع القرم: استستلم الغرب ببساطة للانتصار الروسي فيها.
في النتيجة، يبدو أن حساب الحقل السوري لم يطابق حساب البيدر الغربي المخطط للاستنزاف، فها هي حمص "عاصمة الثورة" قد تمّ تطهيرها، وها هو الجيش السوري يستعد لمعارك أخرى أو تسويات أخرى تفرضها الانهيارات والخسائر الميدانية للمسلحين، وبالتالي، سيتّجه السوريون الى انتخابات رئاسية في حزيران القادم وقد عادت جميع المدن الكبرى الى كنف الدولة... ولم يحقق الاستنزاف مآربه بعد.

2014/05/08

قراءة هادئة لزيارة الراعي الى الأراضي المقدسة

د. ليلى نقولا الرحباني
شكّل الإعلان عن الزيارة المرتقَبة للبطريرك الماروني بشارة الراعي مناسبة لتظهير الانقسام اللبناني وتبادل الاتهامات والتخوين، وهي العادة التي يألفها بعض العرب ويشتهرون بها، وقد أعلن البطريرك الماروني أن مرافقته للبابا هي زيارة رعوية وليست سياسية، فالأراضي المقدسة في فلسطين تابعة لبطريركية أنطاكيا وسائر المشرق، وبالتالي من الطبيعي أن يكون فيها، لاستقبال البابا، ولزيارة رعاياه هناك.

وما أن تمّ تسريب خبر الزيارة، حتى اشتعلت الساحة الإعلامية اللبنانية مخوِّنة البطريرك ومعتبرة أنه أخطأ "الخطيئة الكبرى"، وتبارز البعض في اتهامه بالخيانة والعمالة والتطبيع، مقابل أساقفة وسياسيين دافعوا عن البطريرك وحريّة خياره.

وبغض النظر عن الرأي بالزيارة، من المفيد قراءتها بهدوء عقلاني، بعيداً عن خطاب التشنج والتخوين والاتهامات المتبادلة:

أولاً: في موضوع اتهام الراعي بخرق القانون اللبناني، ووصول البعض إلى التخوين والاتهام بجرم الاتصال بالعدو، يجب الإشارة إلى أن البطريرك الراعي لا يخرق القانون، فقانون العقوبات اللبناني يجرّم التعامل مع "إسرائيل" والاتصال بالعدو، لكن ما يقوم به الراعي لا يُعتبر تعاملاً ولا اتصالاً من الناحية القانونية، بل عملاً كهنوتياً أجازته الأعراف القانونية، فمنذ بدء العمل باتفاق الهدنة عام 1949 ولغاية عام 1996، كانت الأراضي المقدسة تتبع أبرشية صور المارونية في جنوب لبنان المارونية، وكان الاكليروس الماروني يتنقل بين جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة عبر معبر الناقورة الحدودي، وبعد العام 1996 فُصلت الأراضي المقدّسة عن أبرشية صور، لتصبح مستقلة باسم أبرشية حيفا والأراضي المقدسة المارونية، ويشرف عليها مطران تعيّنه البطريركية المارونية.

ثانياً: في موضوع التطبيع مع "إسرائيل": تتباين الدراسات الأكاديمية وآراء المفكرين حول تعريف "التطبيع"، ويمكن أن نعرّفه بأنه "أي تصرف أو عمل، مادياً كان أو معنوياً، فردياً كان أو جماعياً، من شأنه جعل الاحتلال "الإسرائيلي" أمراً طبيعياً، بما يعني ذلك من تخلٍّ نهائي عن الحقوق المشروعة للشعوب العربية".

انطلاقاً من هذا التعريف، لا تشكّل زيارة الراعي إلى الأراضي المقدسة تطبيعاً مع "إسرائيل"، فهو لا يتخلى عن الحقوق المشروعة، ولا يجعل وجود الاحتلال في القدس أمراً طبيعياً، وقد يكون من الأحقية بمكان الخشية التي أوردها البعض بأن تكون هذه الزيارة فاتحة للمسيحيين للذهاب إلى الأراضي المحتلة، بما يفيد التأقلم مع الاحتلال ووجوده، لكن هذه الخشية لا تجد لها مبرراً قانونياً، فما يجوز على الراعي كرجل دين لا يجوز على باقي المسيحيين الذين يسري عليهم قانون العقوبات اللبناني بتجريم كل من دخل أراضي العدو أو اتصل به، وهذا يحدّ من رغبتهم أو قدرتهم على زيارة الأراضي المقدسة في فلسطين.

هذا من الناحية القانونية، أما من الناحية السياسية، فيمكن لوجهتي النظر أن تحملا بعضاً من الصحة؛ فالذين عارضوا زيارة البطريرك للقدس اعتبروا أنه لن يستطيع تحاشي الإحراج "الإسرائيلي"، خصوصاً أن "إسرائيل" تبدو مصرّة على إحراجه وتركيز الإعلام عليه، ومحاولة الاستفادة منها إعلامياً.

لكن وجهة النظر الأخرى تشير إلى الحصار الذي تمارسه سلطات الاحتلال على الفلسطيني، وسياسة تغييب الهوية الوطنية الفلسطينية، بالإضافة إلى منهجية الاحتلال في إفقار القدس وسكانها، ودفعهم إلى البحث عن لقمة العيش خارج المدينة لإكمال حلقات التهويد عبر تضييق الخناق على النشاط الاقتصادي للمقدسيين، وتعزيز اقتصاد المحتلين.

من هنا، فإن زيارة البطريرك تأتي لتكسر حلقة الحصار "الإسرائيلي" على القدس، في محاولة لتهويدها ونزع الطابع المسيحي الإسلامي عنها، لذا يجب عدم اتهام الراعي، بل تجنيد القدرات المسيحية والإسلامية لمواكبته في كسر مشروع التهويد الذي تريده "إسرائيل".

أصحاب هذه النظرية يحاولون إثبات وجهة نظرهم من خلال الإشارة إلى أن خبر الزيارة تم تسريبه من قبل "الإسرائيليين" إلى الإعلام، لحشر الراعي لعدم القيام بها، وعندما أصرّ عليها غير آبه بالانتقادات، سرّب "الإسرائيليون" خبراً باسم مصادر دبلوماسية أنهم "أبلغوا دوائر الفاتيكان أن لديهم بعض الشروط على زيارة البطريرك للأراضي المقدسة في مواجهة الالتزامات التي أعلنها سابقاً، ومنها عدم مصافحة أي مسؤول إسرائيلي"، وهذا إن دلّ على شيء فعلى عدم رغبة "إسرائيل" بزيارة الراعي، وقيامه بتفقد الرعايا المسيحيين، والاستماع إلى مطالبهم وهواجسهم ونقلها إلى البابا.

ويتساءل هؤلاء: أمَا آن الأوان لدراسة جديّة لجدوى مقاطعة زيارة الأراضي المقدسة، التي تركت الفلسطينيين لمصيرهم في مواجهة سياسات التهويد، خصوصاً المقدسيين منهم الذين يتناقصون يوماً بعد يوم؟

بكل الأحوال، مهما يكن من وجهات النظر المتباينة حول جدوى الزيارة وصحتها، يبقى أن استسهال التخوين والاتهام بالعمالة هو أمر معيب، ولا يجوز إطلاقاً مع أي كان، فكيف مع شخص البطريرك الراعي الذي لم يقصّر يوماً في دعم المقاومة والقضايا العربية المحقة، ومنها وقوفه ضد الإرهاب الذي يحاول أن يقوّض الدولة السورية ويلغي التعددية فيها.

2014/05/03

زيارة اوباما الى آسيا: بين الدوافع وخلق التحديات لأميركا

د. ليلى نقولا الرحباني
أنهى الرئيس الأميركي باراك اوباما رحلة الى آسيا استمرت أيام، زار خلالها أربع دول آسيوية حليفة للولايات المتحدة- محاذية للصين - استهلها من اليابان، ومرورًا بكوريا الجنوبية والفليبين، ثم انتهاءً بماليزيا. وقد تكون الزيارة التاريخية تلك لاوباما قد تأخرت عما كان متوقع لها، خاصة بعدما كان اوباما قد أعلن عن نيته الاستدارة نحو آسيا والمحيط الهادئ خلال اعلانه عن سياسة الولايات المتحدة الأميركية خلال خطابه في حال الاتحاد عام 2013، وقد أشار حينها الى رغبة الولايات المتحدة في إعادة التوازن لاهتماماتها الخارجية والتوجه شرقًا، وقد ظهر جليًا أن الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط سيتقلّص خاصة بعد إعلان الانسحاب من العراق والنيّة بالانسحاب من أفغانستان مع نهاية العام 2014.
ولعل التأخير في الزيارة الآسيوية لأوباما، قد يكون مردّه الى أمور عدّة أهمها:
-  تعثّر المخططات الأميركية في الشرق الأوسط، ليس فقط في سوريا، بل في كل من مصر وتونس وليبيا، والخليج خاصة تعرّض العلاقات السعودية- الأميركية الى بعض التشجنات، وكما في تلك الدول كذلك في ملف المفاوضات بين الاسرائيليين والفلسطينيين، التي حاول جون كيري دفعها الى الإمام، ولكن التعنّت الاسرائيلي عطّل امكانية التقدم الى الإمام.
وقد يكون التقدم الوحيد في ملفات الشرق الأوسط، هو في الملف النووي الايراني، لذلك ستعمد الإدارة الأميركية الى التمسك بحلّ ذلك الملف، وخاصة قبل دخول البلاد في مرحلة الانتخابات النصفية للكونغرس، لأنه الملف الذي سترفعه الإدارة في وجه منتقدي سياستها الخارجية من الحزبين.
- الصراعات الداخلية على الساحة السياسة الأميركية، وعلى رأسها ما جرى في خريف عام 2013 عندما أغلق الجمهوريون الحكومة الفيدرالية، وعطّلوا عملها، لرفضهم المصادقة على رفع سقف الاستدانة.
- انفجار الوضع في اوكرانيا، والسياسة الهجومية الروسية التي أدّت الى إقتطاع القرم، وما يحصل في شرق تلك البلاد من تحديات أمنية، ربما قد تؤدي الى تقسيم أوكرانيا، وهزّ الاستقرار في اوروبا الشرقية برمّتها.
هذه الأزمات وغيرها، أخّرت زيارة الرئيس الأميركي الى الشرق الأقصى، ولكن الحاجة الأميركية الى تطمين الحلفاء الآسيويين بشأن استمرارية الحضور الأميركي في المنطقة، وبقاء المظلة الأمنية التي استفادوا منها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحافظت على الاستقرار في آسيا، كانت ضرورية تمامًا كما الزيارة التطمينية التي قام بها اوباما الى الخليج بعد القلق الخليجي المتصاعد من التفاهم مع ايران، خاصة في ظل صعود الصين، وعودة شبح الحرب الى المنطقة في ظل عودة التشنج على خلفية بروز التوجهات القومية، والصراعات الحدودية التاريخية التي تعود الى الواجهة بين الفترة والأخرى، ومنها الصراع بين الصين واليابان على ملكية مجموعة من الجزر الصغيرة التي تسيطر عليها اليابان والتي تطالب بها الصين، والتي أشار اوباما إلى أنها مشمولةٌ بمعاهدة الدفاع اليابانية الأميركية.
وبكل الأحوال، وبالرغم من أن اوباما، حرص خلال خطاباته الآسيوية الى عدم استفزاز الصين مباشرة ، لكن لا يمكن الحديث عن خطة التوجه الأميركي نحو الشرق الأقصى، بدون الحديث عن رغبة أميركية أكيدة في القيام بعملة "إحتواء" للقوة الصينية المتصاعدة، علمًا أن هذه الخطة تثير بعض الملاحظات حول آداء السياسة الخارجية الأميركية وعقلانيتها، وخدمتها للمصالح الأميركية:
أولاً: لقد ظهر جليًا من خلال الأزمة السورية، أن هناك تقاربًا جيدًا بين كل من الصين والروس في نظرتهم الى القضايا الشرق أوسطية، ولكن الصين - بطبيعة الحال- قد لا ترغب في رؤية عملاق روسي على حدودها، وعلى الساحة الدولية يعيد تجربة القطبين خلال الحرب الباردة، لذلك إن ما يقوم به الأميركيون من محاولات في الشرق الأقصى قد لا تترك للصين العديد من الخيارات، وبالتالي تدفعها الى الحذر من السياسات الأميركية، والتوجه أكثر الى توطيد الحلف مع الروس.
ثانيًا: إن القلق الأميركي من الخطر الصيني، أو الهيمنة الصينية قد يكون مبالغًا فيه، فبالرغم من أن الصين تشكّل عملاقًا اقتصاديًا، إلا أنها تعيش مشكلات داخلية كبرى، منها تباطؤ النمو الاقتصادي، والمشاكل الاجتماعية الكبيرة، والتحديات البيئية المتفاقمة، لاسيما تلوث الهواء والمياه، بالإضافة إلى الجهود التي يبذلها الحزب الشيوعي الصيني لتطهير صفوفه من الفساد، بعد سلسلة من الفضائح التي تثبت تورط مسؤولين كبار في السلطة، ما يحدّ من قدرتها على تشكيل عملاق عالمي مهيمن.
ثالثًا: إن التحديات العالمية والداخلية التي تواجهها الولايات المتحدة، بالإضافة الى المشاكل الاقتصادية الداخلية، التي باتت تفرض سياسة  أكثر تقشفية في الانفاق على الدفاع، يجب أن تدفع الأميركيين الى اقناع كل من حلفائهم الأوروبيين والآسيويين، بتحمّل المزيد من المسؤوليات المرتبطة بالدفاع عن أنفسهم؛ حينها فقط سيعتمدون سياسات جوار  أكثر عقلانية تقوم على المنافع المتبادلة بدل التحدي الدائم، متّكلين على قوة "العضلات" الأميركية في هذا المجال.
لكل هذه الأسباب وغيرها، قد يكون من المجدي للإدارة الأميركية إعادة تقييم السياسات الخارجية التي تتبعها، خاصة في الشرق الاقصى، حيث تلوح في الأفق نُذر الحرب في العديد من الدول، والتي قد يؤدي التدخل الأميركي فيها الى صب الزيت على نار الانقسامات والأطماع، والنزعات القومية.