2023/10/31

المشهد الإسرائيلي الداخلي: "الخراب" قادم سريعاً



ما زال الإسرائيليون يحاولون الخروج من صدمة ما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والاختراق الأمني الكبير الذي لم يكن أحد في "إسرائيل" أو في العالم يتوقّع حصوله، وحيث كانت جميع التحذيرات تتأتى من الأخطار الداخلية، حيث نبّه الرئيس الإسرائيلي من خطورة الانقسامات على بقاء "إسرائيل"، من دون أن يتخوّف أحد من الخطر القادم من غزة.
قبل عملية طوفان الأقصى، ولسنوات عديدة، استمرّ الإسرائيليون من قيادة عسكرية وسياسية، بتهديد كلّ من إيران ولبنان، واستمر نتنياهو يعرض صوراً في الأمم المتحدة والمحافل الدولية ويطلق تهديدات بقصف إيران وبتحرّك إسرائيلي منفرد، في حال لم تتحرّك الولايات المتحدة الأميركية للقضاء على برنامج إيران النووي، متناسين أن قدرة الفلسطينيين على تحمّل الظلم والجور، ستنتهي في يوم من الأيام.
سقوط وهم فائض القوة العسكرية
لفترة طويلة، استمر شعور الإسرائيليين على الصعيدين السياسي والعسكري بوهم فائض القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، حيث أن التقييمات العالمية أعطت "إسرائيل" تفوّقاً واضحاً على جيرانها، وعلى معظم دول العالم الثالث، إضافة إلى وهم قوة الردع وصورة "الجيش الذي لا يقهر" والتي استمرت راسخة في أذهان الإسرائيليين بالرغم من تجارب حرب لبنان وغزة المتعدّدة.
خلطت عملية "طوفان الأقصى" الأوراق في "إسرائيل"، وقارن بعض الإسرائيليين الإخفاق الإسرائيلي بـ "حرب أكتوبر" عام 1973، معتبرين أنها "خسارة" يمكن تخطّيها كما حصل في السابق، إلا أن الخبراء الإسرائيليين قلّلوا من واقعية هذه المقارنة معتبرين الإخفاق في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أكبر بكثير من الهزيمة عام 1973.
ويذكر العديد من الخبراء العسكريين، أن الجيش الإسرائيلي خسر الحرب عام 1973، لكنه كان في جاهزية عالية ومستوى عالٍ، بينما الأحداث الحالية أكدت وجود "فشل عسكري واستخباري وسياسي كبير" في "إسرائيل". ويشير الأستاذ في العلاقات الدولية، أوري بار يوسف والذي ألّف كتاباً عن حرب أكتوبر، في مقال له في هآرتس، إلى أن "الإخفاق عام 1973 كان إخفاقاً فرديّاً لبعض المسؤولين السياسيين والعسكريين، في حين أن الإخفاق في أكتوبر 2023 كان إخفاقاً مؤسساتيّاً أصاب المؤسسة العسكرية والسياسية برمّتها".
وفي حوار مع مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إيال هولاتا، خلال ندوة في واشنطن، يقول هولاتا "لقد تمكّنوا من خداع مجموعتنا وتحليلاتنا واستنتاجاتنا وفهمنا الاستراتيجي" وأضاف: "لا أعتقد أنّ أيّ شخص كان منخرطاً في شؤون غزة لا ينبغي أن يسأل نفسه كيف وأين موقعه أيضاً من هذا الفشل الذريع".
المشهد السياسي والمجتمعي: الانقسام العمودي
في مقال لشعبة التخطيط الاستراتيجي في هيئة الأركان، اللواء يعقوب بنغو، نشرته مجلة "الجيش" في كانون الثاني/يناير عام 2023، حذّر بنغو من مخاطر انهيار التماسك المجتمعي على الأمن القومي وعلى صورة "إسرائيل" في عيون أعدائها.
ويذكر بنغو "أن من بين العناصر الهامة التي ساعدت "إسرائيل" على تنفيذ استراتيجيتها في العقود الأولى من وجودها، هو تماسك المجتمع ومناعته واستعداده لتحمّل العبء المطلوب لصالح الردّ الأمني، بما في ذلك الاستعداد للخدمة في الجيش وارتفاع تكاليف الأمن، والاستعداد لمنح المنظومة الأمنية وزناً كبيراً في عملية صناعة القرارات في قضايا الأمن القومي"، معتبراً أن التحدّي الذي تُواجهه "إسرائيل" يكمن في "كيفية المحافظة على هذا الاتّجاه بمرور الوقت".
تاريخياً، ومَن يدرس المجتمع الإسرائيلي خلال الحروب المتعددة التي خاضتها "إسرائيل" ضد العرب، يجد أن التلاحم والتكاتف يكون على أشدّه في "إسرائيل" خلال تلك الأزمات، وأن الإسرائيليين، دائماً، كانوا يؤجّلون المطالبات بالاستقالة والمحاسبة لما بعد الحرب.
اليوم، تبدو "إسرائيل" مختلفة كلياً، حيث تخرج المظاهرات المطالبة باستقالة نتنياهو وحكومته، وبتحمّل المسؤولية، وتشكّك في كفاءة مجلس الحرب الوزاري، وتطالب بإعادة المختطفين والأسرى من غزة. كما تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مشاعر الغضب الإسرائيلية من الإخفاق الحكومي، ويتهمون أطرفاً في الداخل الإسرائيلي بالتواطؤ. وكان البعض نشر صورة ابن نتنياهو على شواطئ ميامي، متسائلين لماذا لا يتم استدعاؤه كما تم استدعاء الشباب من الاحتياط من جميع أنحاء العالم للمشاركة في الحرب.
ويتهم الإسرائيليون نتنياهو بأنه كان مستفيداً من الانقسام الفلسطيني، وأنه "أراد استخدام حماس" كذريعة لتقويض حكم السلطة الفلسطينية، وعدم الاعتراف بأي حقوق للفلسطينيين في دولة، ولتوسيع المستوطنات، وقطع التواصل بين الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي محاولة للهروب إلى الأمام، حاول نتنياهو التنصّل من المسؤولية وإلقاء اللوم على القادة الأمنيين، حيث كتب تغريدة بهذا الشأن، ثم تراجع فمحاها واعتذر، بعد موجة الغضب والانتقادات التي طالته.
لا شكّ، أن مستقبل نتنياهو السياسي، الذي قوّض المؤسسات السياسية والقضائية للمحافظة عليه، قد انتهى. لكن، وبالنظر إلى تاريخ نتنياهو في محاولة الإفلات من المساءلة، مهما كانت الأثمان والنتائج على المؤسسات الإسرائيلية، من المتوقّع أن تشهد "إسرائيل" بعد هذه الحرب، انقسامات كبرى، ستعمّقها نرجسية نتنياهو وتمسّكه بالسلطة، وقد يكون السلاح الذي يوزّعه بن غفير على المستوطنين، ودعوة نتنياهو للإسرائيليين لحمل السلاح، وصفة حقيقية لحرب أهلية إسرائيلية ستبدأ حالما تهدأ المعارك على قطاع غزة. 

2023/10/30

ماذا حقق حزب الله في حرب غزة؟

ليلى نقولا

تصدر الكثير من التساؤلات والاتهامات الممزوجة بالعتب، أو بالتنمر، أو باللعب على الوتر الغرائزي، والتي تقول أن "غزة تركت وحيدة" وأن "المحور" تركها لمصيرها، وهناك من يتساءلون "لماذا لا يتدخل حزب الله؟".

 

وبغض النظر عن هوية المتسائلين المتباينة، وأهدافهم، ونياتهم، ولا مجال للخوض فيها هنا، إذ منهم مَن يسأل بحسن نية، وبعضهم يسألون أما لتوريط لبنان، أو لاستنقاذ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، والجيش الاسرائيلي من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه. 

وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمير نقلت عن مسؤولين أميركيين "أن إسرائيل عدلت خططها العسكرية بشأن غزة، بشكل يتماشى مع اقتراح وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، وذلك بعدما أثارت خطط الغزو البري انزعاج المسؤولين الأميركيين، الذين أعربوا عن قلقهم من افتقار تلك الخطط إلى أهداف عسكرية قابلة للتحقيق وكذلك من عدم قدرة واستعداد القوات الإسرائيلية بعد لشن غزو بري".

 

وبالعودة الى حزب الله، لا شكّ أن الاتهامات التي تساق له ولـ "المحور" غير منطقية، وذلك للأسباب التالية:

 

- استمرار حزب الله في لبنان في إشغال ثلث الجيش الاسرائيلي على الحدود مع لبنان، مع ما يعني ذلك من استنزاف للجيش الاسرائيلي، وعدم قدرته على التحشيد لاقتحام غزة برياً. وبالرغم من تسميتها مناوشات، فإن ما يحصل على الحدود الجنوبية اللبنانية هو حرب فعلية وحقيقية، ولكن إطارها الجغرافي محدود.

 

- أظهر حزب الله للجميع وخاصة للبنانيين، أن اسرائيل مردوعة، ولولا هذا الردع لقامت بقصف جوّي لمناطق لبنانية واسعة رداً على استهداف قواعدها العسكرية في داخل فلسطين المحتلة، كما كانت تفعل دائماً.

 

- الرسائل النارية التي تمّ إرسالها الى الأميركيين، والتي دفعتهم الى نصح الاسرائيليين بعدم توسيع الحرب وعدم إعطاء ضوء أخضر لنتنياهو لشنّ حرب برّية على غزة.

 

- بالرغم من كل ما حصل خلال الحرب السورية، دخلت جبهة الجولان عامل ضغط إضافي على اسرائيل ومن ضمن إرسال الرسائل المحذّرة من مغبة توسيع الصراع.

 

- تهجير واسع وشامل للمستوطنات المحاذية للبنان، وهي المرة الأولى – منذ بداية الصراع العربي الاسرائيلي- حيث تُمنع اسرائيل من تطبيق مبدأ "أخذ الحرب إلى ديار العدو".

 

- الاستنزاف وعدم القدرة على الدخول البرّي الى غزة، ستسمح بظهور الانقسامات الاسرائيلية، وانهيار الجبهة الداخلية خاصة في ظل وجود عدد كبير من الاسرى الاسرائيليين في غزة، ويطالب أهلهم بإعادتهم.

 

في المحصلة، من المبكر الحكم على نتائج هذه الحرب التي ما زالت دائرة لغاية اليوم، لكن بكل الاحوال، ما جرى في 7 اكتوبر، سيذكره التاريخ بأنه نقطة تحوّل فاصلة، ستغيّر وجه المنطقة الى الأبد، ولن تعود اسرائيل كما كانت، كما أثبتت التطورات أن الترجيحات بأن دور حزب الله تراجع في المنطقة بعد حصول التسويات وبعد توقيع اتفاق الترسيم، أثبتت عدم صحتها، وها هي التطورات عادت وقلبت موازين القوى في المنطقة، بشكل لم يكن أحد يتوقعه.

  

2023/10/26

حرب غزة: "إبادة" وليست "تطهيراً عرقيّاً"


بالرغم من أنّ كلّ ما تفعله "إسرائيل" في غزة اليوم، ينطبق عليه وصف "إبادة" بجميع المعايير القانونية الدولية، ما زال الغرب يصرّ على أن هذه الأعمال هي "دفاع عن النفس"، في حين قال بعض الخبراء في الأمم المتحدة إنه "تطهير عرقي"، علماً أن هذا المصطلح يصف جريمة غير موجودة، ولم يشملها نظام المحكمة الجنائية الدولية والتي دخلت فلسطين عضواً في نظامها.

ويأتي الحرص الغربي على تبرئة "إسرائيل" من تهمة "الإبادة"، لأنها تعتبر "جريمة الجرائم" في القانون الدولي، ولأنه إضافة إلى وجودها في نظام روما الأساسي (نظام المحكمة الجنائية الدولية)، فهي الجريمة التي خصصها القانون الدولي، مبكراً، باتفاقية خاصة لمنعها عام 1951.

 

1-جريمة الإبادة:

أوّل من صاغ مصطلح "الإبادة الجماعية" هو المحامي البولندي اليهودي رافائيل ليمكين عام 1944 من خلال الجمع بين كلمة geno، من الكلمة اليونانية التي تعني العرق أو القبيلة، مع كلمة -cide، المشتقّة من الكلمة اللاتينية وهي مرادف للقتل.

 

طوّر ليمكين مفهوم الإبادة الجماعية جزئياً ليصف الهولوكوست، ولكن أيضاً ليشير إلى الجرائم السابقة التي اعتبر فيها أن أمماً ومجموعات عرقية ودينية قد تمّ تدميرها بشكل كامل أو جزئي، ومنها مذبحة الأرمن.

 

وبعدها، باتت جريمة الإبادة الجماعية جريمة مستقلة يعاقب عليها القانون الدولي، وذلك في اتفاقية خاصة أقرّت عام 1948، والتي دخلت حيّز النفاذ عام 1951، وذلك لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ثم أقرّ نظام روما الأساسي تجريمها وكذلك في النظام الأساسي لمحكمة رواند ومحكمة يوغسلافيا السابقة وغيرها.

 

وذكرت محكمة العدل الدولية في عدّة قرارات، أن أحكام "اتفاقية الإبادة الجماعية" تجسّد المبادئ التي تشكّل جزءاً من القانون الدولي العرفي العام، ما يعني أنه سواء كانت الدول صدّقت على اتفاقية الإبادة الجماعية أم لا، فهي ملزمة من الناحية القانونية بمبدأ اعتبار الإبادة الجماعية جريمة بموجب القانون الدولي، وعليها بالتالي التزام قانوني بمنعها والمعاقبة عليها.

 

وتتضمّن اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 (المادة 2) تعريفاً للإبادة الجماعية بأنها "أياً من الأفعال التالية، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية ..."، بما في ذلك:

 

- قتل أعضاء من الجماعة؛

 

- إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛

 

- إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛

 

- فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛

 

- نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

 

2- التطهير العرقي:

أصبح "التطهير العرقي" المصطلح السائد المستخدم لوصف جرائم الإبادة الجماعية لتجنّب استخدام كلمة "إبادة جماعية". وعلى النقيض من "الجرائم ضد الإنسانية" المتمثّلة في الترحيل أو النقل القسري للسكان، وجريمة "الإبادة الجماعية" و"جرائم الحرب"، فإن هذا المصطلح لا يظهر في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولا توجد معاهدة تجرّم "التطهير العرقي".

كذلك، التطهير العرقي لم يُعترف به كجريمة مستقلة في القانون الدولي. ولا يوجد تعريف دقيق لهذا المفهوم أو ماهية الأفعال الجرمية التي يمكن تصنيفها على أنها "تطهير عرقي".

 

3- التوصيف القانوني لما ترتكبه "إسرائيل" في غزة:

عملياً، إنّ استخدام مصطلحات "التطهير العرقي" أو "الإبادة الجماعية" أو "الجرائم ضد الإنسانية" لا علاقة له بعدد الأشخاص الذين قتلوا، بل بمعايير قانونية محدّدة. وينطلق الإثبات القانوني للقول إن هناك فعل "إبادة جماعية" والفرق بينها وبين الجرائم الأخرى، وهو إثبات "النية" لدى مرتكبي الجرم، بإهلاك تلك الجماعة كلياً أو جزئياً بوصفها جماعة (وهو عنصر يصعب غالباً تحديده).

 

على سبيل المثال، في قضية دارفور(السودان)، قالت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة بقيادة القاضي أنطونيو كاسيزي إن مقتل عشرات الآلاف من المدنيين في دارفور، لا يمكنها اعتباره جريمة "إبادة" لأنها لم تجد دليلاً كافياً على "نية" حكومة السودان بإهلاك الجماعة بصفتها "جماعة". ولكن، هذا لا يعني تبرئة المتهمين من حكومة السودان بارتكاب جرائم دولية، بل تمّ اتهامهم بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية" وذلك بحسب المعطيات القانونية المتوافرة.

 

أما في الموضوع الإسرائيلي، فمن الواضح أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي وصفت الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، وتلك التي دعت إلى قتل جميع سكان غزة، وإلى ترحيلهم جماعياً بالقوة إلى سيناء، وغيرها... تثبت "النية" الإسرائيلية بإبادة أهل غزة كلياً أو جزئياً بصفتهم الجماعية.

 

وبما أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية يشمل جميع الأراضي الفلسطينية، فإن المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، يستطيع أن يباشر بنفسه التحقيقات ضد الحكومة الإسرائيلية، ومن دون أن تكون "إسرائيل" عضواً في تلك المحكمة، وذلك لأن تلك الجرائم وقعت على أرض "دولة" عضو. هذا وكانت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة، أصدرت حكمها في 5 شباط/فبراير 2021، ورأت "أن المحكمة تملك اختصاصاً في حالة فلسطين، وأن المنطقة المعنية تشمل غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية".

 

في النتيجة، وبالرغم من أنه لن يكون متعذّراً إثبات "النية" الإسرائيلية في إهلاك أهل غزة جزئياً أو جماعياً، ولكن في حال تمّ تجنّب استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية" قانونياً لسبب ما، فمن المستحسن عدم استخدام مبدأ "التطهير العرقي"، لأنه جريمة لا تقع في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية التي انضمت إليها فلسطين، ومن الأفضل استخدام "جرائم ضد الإنسانية" و"جرائم حرب" على مصطلح "التطهير العرقي"، لوجودهما في صلب نظام المحكمة.

 

 

2023/10/22

أوروبا وفلسطين... سقوط سياسة توزيع الأدوار

أوروبا وفلسطين...سقوط سياسة توزيع الادوار

تستمر الوفود الأميركية والأوروبية المؤيّدة لـ "إسرائيل" في التقاطر على المنطقة، وإبداء الدعم غير المحدود لحكومة نتنياهو في ما يريد فعله، وما يفعله من إبادة للمدنيين في غزة، وقصف المدنيين من دون تمييز ومن دون التزام بأي قاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني، والتي تحظر استهداف المدنيين وتهجيرهم، وتحظر تعمّد قصف المستشفيات والأعيان المدنية.

 

وكان اللافت أن قادة الدولتين الأوروبيتين الأقوى في الاتحاد الأوروبي، وهما ألمانيا وفرنسا، تخلّوا عن سياسة توزيع الأدوار التي لطالما استخدموها مع العرب منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، وكشفوا الأقنعة اليوم وتشاركوا في توزيع التهديدات والتحذيرات يميناً ويساراً على لبنان بالأخص، وعلى كلّ من يساعد الفلسطينيين في دفاعهم عن أنفسهم ضد آلة القتل الإسرائيلية.

 

وقد كشفت الصحف اللبنانية أن وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا حملت إلى لبنان رسالة تحذيرية وتهديدية في آنٍ، معتبرة أن "لبنان سيدفع ثمناً باهظاً في حال قرّر حزب الله دخول المعركة ضد إسرائيل".

 

أما على الجانب الألماني، فقد نقلت وزيرة الخارجية الألمانية إلى المسؤولين في لبنان التحذيرات والنصائح نفسها التي نقلتها وزيرة الخارجية الفرنسية. ودعت الوزيرة الألمانية رئيس الحكومة اللبنانية نجيب الميقاتي إلى التواصل مع حزب الله لثنيه عن الانجرار إلى الحرب "ناصحة بأن يبقى لبنان بمنأى عمّا يجري".

 

ومع وصولها إلى "إسرائيل"، ارتفعت نبرة تهديدات الوزيرة الألمانية، التي اعتبرت أن أمن "إسرائيل" خط أحمر بالنسبة لألمانيا، وقالت "أحذّر إيران، وأحذّر الميليشيات الشيعية في العراق، أحذّر الحوثي في اليمن من إشعال الإرهاب والانضمام إليه".

 

وبعد هذا التوافق الكلّي في سياسات الدول الأوروبية، تتبدّل أحد أبرز السياسات التي كانت تطبع السياستين الألمانية والفرنسية تجاه الشرق الأوسط، وذلك كما يلي:

 

- السياسة الفرنسية: السياسة العربية Politique Arabe

بعد الحرب العالمية الثانية، قامت الجمهورية الفرنسية الرابعة بمحاولة يائسة لتجميع إمبراطوريتها المتهالكة، لكن الأمر لم يكن ممكناً واعترف شارل ديغول أخيراً بالهزيمة في حرب استقلال الجزائر.

 

وبالرغم من التاريخ الاستعماري في المنطقة، حاول ديغول أن يصيغ لفرنسا دوراً محورياً في الشرق الأوسط، وأن يحوّل نظرة الشعوب إليها من قوة استعمارية إلى "بطلة الاستقلال الوطني"، وذلك ليحقّق لفرنسا نفوذاً في المنطقة، يوازي النفوذ الذي كانت تتمتع به سابقاً، ولكن بأسلوب مختلف تماماً يؤمّن لفرنسا استمرار امتيازاتها التجارية والاقتصادية والنفوذ السياسي، ونشر الفرنكوفونية.

 

وبالرغم من أن فرنسا كانت حليفة لـ "إسرائيل"، لكنها استطاعت أن تؤمّن لها مكانة خاصة لدى العديد من الدول العربية باعتبارها مناصرة لقضاياهم، وأدّى الرؤساء الفرنسيون هذا الدور بمهارة، فكانوا يحرصون على الظهور بمظهر "العرّاب" للبنان وسابقاً سوريا في السياسات الأوروبية والغربية.

 

-  السياسة الألمانية: التوازن Ausgewogenheit

منع الوضع الدولي ألمانيا من تطوير طموحاتها الاستعمارية في الشرق الأوسط في أواخر القرن التاسع عشر. وبعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن أولوية ألمانيا الغربية الحفاظ على مكانة ما في الشرق الأوسط، بل بقيت سياستها من ضمن السياسة الأميركية.

 

وبمجيء المستشار الألماني كونراد أديناور وتشديده على ضرورة تطوير علاقات وثيقة مع "إسرائيل" لاعتبارات "أخلاقية" وكوسيلة لإعادة تأسيس ألمانيا على المسرح العالمي، تفاوضت ألمانيا على اتفاقية تعويضات مع "إسرائيل" للتعويض عن جرائم النازية، ما جعل ألمانيا واحدة من أبرز الشركاء الرئيسيين في المساعدات والتجارة، والتزمت ببرنامج لتسليم الأسلحة سراً إلى "إسرائيل".

 

أعادت ألمانيا النظر في سياستها تجاه المنطقة في عهد المستشار فيلهلم براندت واعتمدت نهجاً سمي "سياسة التوازن"، وسعت هذه السياسة الجديدة إلى مواءمة علاقات ألمانيا الخاصة مع "إسرائيل" بشكل أفضل مع مصالحها الاقتصادية والأمنية المتنامية في الشرق الأوسط، فاعتمدت خطاباً أكثر توازناً تجاه الصراع العربي الإسرائيلي.

 

على عكس المملكة المتحدة وفرنسا، ليست لألمانيا علاقات تاريخية طويلة الأمد مع العالم العربي، ولا شكّ أن علاقتها الخاصة والمميّزة مع "إسرائيل" ومصالحها الأوسع في منطقة الشرق الأوسط، أبقت الصراع بين "إسرائيل" وجيرانها العرب على رأس أجندة السياسة الخارجية الألمانية. وهكذا، استمرت العلاقات الألمانية الإسرائيلية راسخة، وتتمتع بمستويات عالية من تبادل المعلومات والاتصال والتعاون.

 

واجهت "سياسة التوازن" أولويات متضاربة لدى الحكومات الألمانية، وبالرغم من تبدّل الخطاب العلني في فترات مختلفة ومع حكومات مختلفة، إلّا أنّ الثابت الدائم للسياسة الألمانية في الشرق الأوسط هو الشراكة الألمانية – الإسرائيلية، حيث حافظت ألمانيا على شحنات الأسلحة السرية والتعاون الاستخباراتي والتعويضات المالية، وظلت ألمانيا داعماً مخلصاً لـ "إسرائيل" في الأزمات الدولية، وحتى قرار مشاركة ألمانيا في قوات اليونيفيل في جنوب لبنان بعد حرب عام 2006 عزته ميركل إلى التزام ألمانيا بأمن "إسرائيل".

 

في النتيجة، إن تاريخاً من التباين في السياسات الألمانية والفرنسية في التعامل مع الشرق الأوسط، وأولويات كلّ دولة في تحالفاتها الشرق أوسطية والعربية، انتهى. هكذا، اقتربت سياسة الدولتين من بعضهما البعض، حين شعرت "إسرائيل" بالخطر، فظهرت الأولوية الحقيقية للسياسة الخارجية للدولتين: "أمن إسرائيل".

  

2023/10/16

الحرب الإعلامية في "طوفان الأقصى".. هل انتصرت غزة؟


تترافق حرب الإبادة التي تقوم بها "إسرائيل" في قطاع غزة مع حرب نفسية تشنّ على الفلسطينيين في القطاع وحرب إعلامية لكسب الرأي العام العالمي لتأييدها في الحملة المنهجية التي تشنّها تحضيراً لتنفيذ إبادة في غزة وكسب التعاطف مع الإسرائيليين، مدّعين أنهم ضحايا، وأن الفلسطينيين مسؤولون جماعياً عما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

 

في المقابل، لم يكن الجانب الفلسطيني ودعاة السلام وحقوق الشعوب في العالم مكتوفي الأيدي، بل واكب هؤلاء مقاومة الفلسطينيين للعدوان الإسرائيلي مع مواجهة دفاعية إعلامية تؤكد حقهم في أرضهم وتوثق الهمجية الإسرائيلية، إضافة إلى قيام المقاومة بحرب نفسية على "الجيش" الإسرائيلي عبر توعده بتحويل توغله البرّي في غزة إلى مقبرة لجنوده وتكبيده خسائر فادحة في حال استمر في إبادة الفلسطينيين.

 

الحرب في وسائل الإعلام بين التقليدي والحديث

بدت تغطية معظم وسائل الإعلام الغربية التقليدية مطابقة للموقف الرسمي الذي يعتبر القصف الإسرائيلي من مبدأ الدفاع عن النفس، وكرر الإعلام الغربي السردية الإسرائيلية التي وصمت المقاومة الفلسطينية بالإرهاب.

 

ولترسيخ سردية وصورة تبرر أفعال الاحتلال واستهدافه المدنيين، نقلت وسائل الإعلام الغربية صوراً مزورة قالت إنها لأطفال قطعت رؤوسهم، وأكد بايدن مشاهدته لها، ليتبين فيما بعد أنها من صنع الذكاء الاصطناعي، وتقوم مذيعة شبكة "سي أن أن" بالاعتذار.

 

يضاف هذا إلى أن كبريات الصحف العالمية نقلت الخبر أيضاً من دون تحقق وتدقيق، ونقلت صوراً لأطفال فلسطينيين مدعيةً أنهم إسرائيليون من دون أن تقدم اعتذاراً أو تستدرك خطأها، بما يدل على فقدان المهنية وعدم الاكتراث بالاتهامات بتزوير الحقائق، بعدما كشفت حروب سابقة انخراط الإعلام الغربي في تزوير الحقائق تمهيداً لدفع الرأي العام إلى تأييد شنّ حلف الناتو الحروب.

 

يعدّ انتشار وسائل الإعلام الحديث عاملاً مهماً في تلك الحرب الإعلامية الدائرة حالياً، بعدما احتكر الإعلام الغربي التقليدي الصورة العالمية والسردية لمصلحة "إسرائيل" منذ زمن بعيد.

 

وقد أدى تطور وسائل الإعلام الحديث وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي إلى السماح في كسر الاحتكار الذي مارسه العرب طويلاً، وبدأ الناشطون يبثون الصور والأفلام المباشرة، ويوثقون المجازر، ويعرضون الأفلام التوضيحية... ما شكّل عاملاً مهماً في نشر الوعي وإطلاع الجمهور على جرائم الاحتلال وتعمده قتل المدنيين وعدم تمييزه بين المدنيين والعسكريين وعدم الامتثال لأبسط قواعد القانون الدولي الإنساني، ومنها مبدأ التناسب.

 

ويمكن لمراقب صفحات التواصل الاجتماعي أن يلاحظ ما يلي:

 

- الصفحات العربية: طغى الترحيب بعمليات المقاومة في الداخل الإسرائيلي على الصفحات الناطقة باللغة العربية. وفي وقت لاحق، بدأت تنتشر صور العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وتوثيق المجازر والدعوات إلى إيقاف "إسرائيل" حمام الدم في غزة.

 

 - الصفحات الغربية: في الأيام الأولى، سيطرت الصفحات التي تدعو إلى إدانة حماس وتؤكد حق "إسرائيل" في الانتقام على السردية العامة، وبدت أنها تكاد تفرض وجهة نظرها على الرأي العام الغربي، لكن سرعان ما بدأت هذه السردية تتحوّل لمصلحة فلسطين، بعد بث صور المجازر الإسرائيلية وانخراط الناشطين في كشف زيف السردية السابقة، ما أدى إلى ازدياد عدد المطالبين بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة.

 

وفي هذا الإطار، يلاحظ أن الصفحات الغربية والأميركية الموالية لـ"إسرائيل" تستمر في السعي لشيطنة كل من يحمل العلم الفلسطيني أو يؤيد فلسطين أو يدعو إلى عدم إبادة الفلسطينيين، معتبرة أنه "مؤيد لحماس" و"مؤيد للإرهاب" (كما يصفونه).

 

وطالبت الدول الغربية بطرد كل متظاهر أو كل من يحمل علم فلسطين، باعتبار "أنهم إرهابيون سيتحولون لقتل الأوروبيين فيما بعد"، داعيةً "إسرائيل" إلى "التخلص نهائياً من الفلسطينيين".

 

حرب إعلامية حول "النكبة الجديدة"

ترافق العدوان الإسرائيلي على غزة واعتماد استراتيجية الأرض المحروقة مع تكثيف استخدام أساليب الحرب النفسية على الفلسطينيين ورفع وتيرة استهداف المدنيين بالتزامن مع دعوات إعلامية إسرائيلية، وعبر رسائل صوتية، لأهل غزة للتوجه إلى جنوب القطاع، طالبة منهم مغادرة منازلهم قبل قصفها.

 

مخطط التهجير ودعوات الرحيل هذه لاقت استنكاراً واسعاً في مواقع التواصل، ودفعت الكثير من المعلقين، حتى الناشطين الغربيين، إلى التساؤل: إلى أين يمكن أن يذهب أهل القطاع؟ مستشهدين بما قاله رئيس الوزراء البريطاني يوماً من أن غزة سجن كبير مفتوح.

 

وهكذا، يندفع الإسرائيلي مصحوباً بدعم أميركي وغربي غير مسبوق لتنفيذ إبادة وتهجير جماعي جديد يشبه إلى حد بعيد نكبة عام 1948، فيدعو الفلسطينيين إلى مغادرة غزة جماعياً والتوجه نحو الحدود مع مصر التي رفضت مخططاً لإقامة مخيمات في سيناء، بعدما أعلن الإسرائيليون أنهم مستعدون للمساهمة في تمويل إقامة مدن للفلسطينيين في سيناء، وتحدث إعلاميون إسرائيليون عن عروض أميركية لمصر بشطب ديونها في مقابل ذلك.

 

في المحصلة، ومهما كانت نتائج هذه الجولة من القتال عسكرياً، لا شكّ في أن الاحتلال الإسرائيلي تعرّض لضربة شديدة لم يشهد مثلها منذ تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا إعلامياً ولا سياسياً ولا عسكرياً، إذ شهدت المناطق التي يسيطر عليها والمستوطنات التي أقامها على الأراضي الفلسطينية اشتباكات فعلية لأول مرة، فيما كانت "إسرائيل" في السابق تقاتل دائماً في الأراضي العربية، ويكون الضحايا عرباً.

 

هذه الضربات التي تعرض لها الاحتلال ستبقى في ذهن الإسرائيليين لفترة طويلة، وستؤثر في ثقة المستوطنين بـ"الجيش" وقدرته بعدما كانت ثقتهم بمؤسسات الحكومة والأحزاب والإعلام وسواها قد اهتزت سابقاً. ولا شكّ في أن ذكريات 7 أكتوبر ستبقى طويلاً في ذهن الإسرائيليين الذين سيمتنعون عن السكن في المستوطنات والمناطق القريبة من غزة، وقد يغادرون بشكل نهائي. 

متى يدخل حزب الله الحرب ضد اسرائيل؟


يعيش اللبنانيون ومعهم العالم على وقع التكهنات باندلاع حرب بين لبنان واسرائيل، نتيجة الاشتباكات اليومية التي تحصل بين حزب الله والفصائل الفلسطينية مع الجيش الاسرائيلي على الحدود مع لبنان، والتي ما زالت ضمن نطاق قواعد الاشتباك المعروفة والسائدة والتي تعتمد الاشتباك المضبوط والمتماثل.
وفي هذا الاطار، يعتمد حزب الله حالياً مبدأ الغموض حول نواياه، الذي يفيده من نواحٍ عدّة، أبرزها:
1- إبقاء اسرائيل في حالة استنفار دائم على الحدود مع لبنان، ما يربك صانع القرار في اسرائيل فهو غير متأكد من نوايا حزب الله.

2- يتيح هذا الغموض أوراق قوة إضافية لإيران في مفاوضاتها الدولية الحالية، مع ابقاء سيف الحرب مسلطاً كورقة قوة بيدها.

3- لا يريد حزب الله ان تكون المعركة بالتوقيت الاسرائيلي، بل يريدها بتوقيته هو.
بسبب الضعف والوهن، لربما يريد الاسرائيلي جرّ الولايات المتحدة لتقاتل الى جانبه، لذا فهو يعطّل عليه هذه الفرصة، ويرسل في الوقت رسائل الى الأميركيين بأنه مستعد وجاهز للمعركة حتى لو دخل الاميركيون في الحرب.

4- يراهن حزب الله على أن عامل الوقت يلعب لصالح غزة، فصور المجازر التي ترتكبها اسرائيل، والتأخير في الحرب البرية وعدم قدرة الاميركيين على تخطي الكارثة الانسانية في غزة، قد تقلب المعادلة ويتراجع التأييد لإسرائيل.
علماً أن الصور والافلام من غزة بدأت تظهر تراجعاً في المواقف الغربية المؤيدة لحرب اسرائيلية شاملة على غزة، بالإضافة الى الموقف العربي الرسمي والشعبي المتعاطف مع الفلسطينيين، والذي تجلى في فشل جولة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن الى المنطقة، والمظاهرات التي يشهدها الداخل الاسرائيلي والتي تزداد يوماً بعد يوم وتحمّل نتنياهو وحكومته المسؤولية عما حصل.

وعملياً، بدأ المخطط الاسرائيلي بتصفية القضية الفلسطينية يتكشف يوماً بعد يوم، وهو يقوم على إنهاء المقاومة في غزة، وتهجير أهل القطاع الى مصر.
وفي مفارقة لافتة، يطرح الاسرائيليون ويدعمهم الأميركيون، أن الحرب التي تشنّها اسرائيل على قطاع غزة، الهدف منها إنهاء حماس والمقاومة الفلسطينية، وتهجير الفلسطينيين الى مصر، تماماً كما حصل مع لبنان في حرب تموز عام 2006، حين اندفع الاسرائيليون والأميركيون الى وضع "القضاء على حزب الله، وأنهائه، وتهجير شيعة لبنان الى العراق" من ضمن أهداف تلك الحرب.

والمفارقة الأخرى، أن الاطمئنان الذي عاشه الإسرائيلي بأن حربه على لبنان ستكون سهلة وستحقق له أهدافه، وخاصة إنهاء حزب الله، حوّلت الحزب من قوة محلية الى قوة إقليمية، وعانت إسرائيل في تلك الحرب من مشاكل لوجستية وعسكرية وداخلية وسياسية، ما زالت تعاني من تداعياتها لغاية اليوم.

أما الاختلافات بين الأمس واليوم، أي بين حالة لبنان 2006، وحالة غزة 2023، أن المقاومة راكمت الخبرات العسكرية والميدانية، وأعدّت العدة لهذه الحرب مع اسرائيل لفترة طويلة، وامتلكت الأسلحة النوعية والصواريخ الدقيقة والمسيرات وتقنيات التشويش والتكنولوجيا المتطورة. أما الأمر الثاني، فهو الدعم العربي الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية اليوم، والبيانات الرسمية الصادرة من الدول الخليجية، ومنها السعودية على سبيل المثال التي تحدثت عن المغامرين عام 2006، بينما أكد ولي العهد السعودي حالياً على ضرورة إعطاء الفلسطينيين حقوقهم وضرورة رفع الحصار عن غزة.

في المحصلة، إن إنهاء حماس والمقاومة في غزة ليست أمراً يمكن تحقيقه بسهولة، والدخول البري في غزة لن يكون نزهة للجيش الاسرائيلي حتى لو تلقى دعماً أميركياً. إن اعتى وأقوى جيوش العالم لا تستطيع أن تنتصر في حرب شوارع، فكيف بقطاع غزة المليء بالأنفاق والذي خرج منه الاسرائيلي في السابق بسبب الكلفة المرتفعة.

وعليه، لا أعتقد أن الدول العربية ستقبل بشطب القضية الفلسطينية، ولن يسمح الايراني وحلفائه بالوصول الى إمكانية من هذا النوع، فإذا حقق الاسرائيلي انتصارات ميدانية على الفلسطينيين، ستندلع حرب كبرى في المنطقة. 

2023/10/09

تصدعات "بيت العنكبوت".. كيف تراجعت إرادة القتال لدى "الجيش" الإسرائيلي؟

تسبب الإرباك الذي فرضه الهجوم الفلسطيني على المناطق المحتلة من فلسطين ومراكز الاحتلال، واعتقال وأسر الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، بتبادل الاتهامات بين الإسرائيليين بشأن المسؤولية عن هذا الإخفاق الاستخباري والعسكري.

وقالت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في افتتاحيتها إن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو "مسؤول عن الكارثة التي ألمّت بإسرائيل في عيد فرحة التوراة". وأضافت أن "رئيس الحكومة الذي تفاخر بخبرته السياسية فشل كلياً في تشخيص الخطر الذي قاد إليه إسرائيل عندما أقام حكومة الضم ونهب الأراضي، وعيّن بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير في مناصب مركزية، وانتهج سياسة خارجية تجاهلت علناً وجود الفلسطينيين وحقوقهم".

لا شكّ في أن نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة غالت في تدنيس المقدسات وتوسيع الاستيطان، وجنحت نحو أقصى اليمين، وأدّت إلى انقسامات حادّة داخل "إسرائيل" نفسها، لكن من المفيد الإشارة إلى أن التحولات والتطورات في الداخل الإسرائيلي سبقت هذه الحكومة، بل إن هذه الحكومة أتت نتيجة لتلك التحولات التي دفعت الإسرائيليين إلى ما هم عليه الآن.

ونورد في ما يلي بإيجاز بعض تلك التطورات التي ستؤدي إلى مزيد من الهزائم الإسرائيلية في المستقبل:

 قتل عملية "السلام"

منذ توقيع اتفاق أوسلو ولغاية اليوم، لم يتعامل الإسرائيليون وحكوماتهم المتعاقبة مع "السلام" كخيار جدّي، بل إن كل ما حاولوا فعله هو أخذ تنازلات من الفلسطينيين في مقابل القليل، علماً أنهم عادوا وقضموا معظم ما حققه الفلسطينيون من اتفاقيات "السلام" تلك، ووسعوا الاستيطان، وشنوا عمليات عسكرية على قطاع غزة، وأعلنوا القدس عاصمتهم، وساروا -بدعم أميركي- بـ"صفقة القرن" التي حوّلت القضية الفلسطينية إلى مجرد قضية اقتصادية.

ومؤخراً، اعتقدوا أن اتفاقيات التطبيع مع الدول العربية تعفيهم من مسؤولية "السلام" مع الفلسطينيين وحلّ الدولتين الذي يحتاج إلى إعطاء الفلسطينيين حقوقهم في أرضهم وتكريس حق العودة.

 الشعبوية اليمينية

مدعوماً من مجموعة يمينية متطرفة، استغلّ نتنياهو الانقسامات الاجتماعية في "إسرائيل"، وخصوصاً الانقسام التاريخي بين الأشكناز والمزراحي (بين مَن يملكون ويحكمون ومَن لا يملكون)، ليمارس سياسة شعبوية ويضع نفسه خارج الطبقة السياسية التقليدية. وكمنشق عنها، صار يتحدث باسم الشعب ضد النخبة الحاكمة، ولزرع الانقسامات بين اليهود أنفسهم، وبينهم وبين العرب (من حملة الجنسية الإسرائيلية)، مؤكداً قدرته على مواجهة الأخطار الخارجية المتمثلة بإيران وحزب الله وحماس.

 تحولات مؤسسية لتشريع التطرف

لم تأتِ حكومة نتنياهو اليمينية من فراغ، بل أتت نتيجة مسارٍ من التحولات في النظام التعليمي والقانوني في "إسرائيل" دفعت الإسرائيليين إلى التطرف والتعصب وإلى اتجاهات يمينية.

التغيير التشريعي الأبرز في هذا السياق هو "القانون الأساسي لعام 2018: إسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي". يعرّف هذا القانون "إسرائيل" بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويؤكد مركزية اللغة العبرية ويوم السبت والأعياد اليهودية، ويحدد القدس "الكاملة والموحدة" كعاصمة لها.

يؤكد هذا القانون عدم المساواة بين المواطنين، ويميّز ضد كل الأفراد والجماعات غير اليهودية، ويشجع على الفصل العرقي وعلى قضم الأراضي الفلسطينية، إذ يؤكد البند 7 "تطوير الاستيطان اليهودي كقيمة وطنية".

نظام التعليم

تعد التربية المدنية في "إسرائيل" مادة إلزامية في المدارس الثانوية. تقوم وزارة التربية والتعليم بصياغة محتوى المنهج بشكل مركزي من خلال الموافقة على الكتب المدرسية، وتخصيص الموارد، والإشراف التربوي، ووضع مبادئ توجيهية تربوية.

منذ عام 1996، استلمت الأحزاب الدينية تلك الوزارة، فتم إجراء تغييرين مهمين في منهج التربية المدنية: التخلي عن منهج التعايش بين اليهود والعرب بشكل كامل تقريباً، وإدخال مادة إلزامية جديدة هي تعليم الثقافة والتقاليد الإسرائيلية، التي تركز بشكل أساسي على القيم اليهودية بدلاً من تعليم حقوق الإنسان والقيم العالمية.

ومن التطورات الأخرى خصخصة التعليم من خلال تعزيز وصول المنظمات غير الحكومية إلى المدارس. على سبيل المثال، في ميزانية التعليم عام 2018، حصل التعليم اليهودي على تمويل أكبر بـ119 مرة من الموارد التعليمية الداعمة للديمقراطية والتعايش اليهودي العربي. زد على ذلك أن الحريديم (اليهود المتدينون) لديهم مدارسهم الخاصة، وهؤلاء يتعلمون كره العرب والفلسطينيين وضرورة "التخلص منهم".

 ضعف الروح القتالية في "الجيش" وتراجعها

أدّت الأزمة الأخيرة حول التعديلات القضائية إلى مشكلات وانقسامات كبيرة بين الإسرائيليين، ورفض العديد من جنود الاحتياط الالتحاق بالخدمة، ورفض الطيارون الأوامر.

ومنذ حرب تموز/يوليو 2006، يتم وضع تقارير متعددة تحاول معالجة نقاط الضعف البنيوية لدى "الجيش" الإسرائيلي، التي أشارت إلى نقص استخباراتي وأمني وتكنولوجي، وتحدثت عن "وجود منظمة فاسدة وسلوك غير أخلاقي داخل البنية التحتية العسكرية في الجيش، وأن نتائج المناقشات والتقييمات لا يتم العمل بها دائماً بشكل فعّال على الأرض".

لا شكّ في أن "إسرائيل" تتفوق عسكرياً على جميع جيوش المنطقة، وتستفيد من دعم أميركي كبير، لكن التجارب أثبتت أن القبة الصاروخية لا تستطيع عملياً التعامل في وقت واحد مع كم هائل من الصواريخ يغطي جميع الأراضي المحتلة تقريباً، والتفوق الجوّي لا يحسم معركة.

لأسباب متعددة، تراجعت إرادة القتال لدى الجنود الإسرائيليين، وكما في المجتمع، كذلك في "الجيش"، يشكّل الحريديم مشكلة كبرى. من خلال ترتيب تم وضعه خلال بدايات تأسيس الكيان عام 1948، تمتع الرجال اليهود - الحريديم (المتدينون) بإعفاء فعلي من الخدمة الإلزامية في "الجيش" أو شرط الخدمة غير العسكرية الذي ينطبق قانوناً على جميع الإسرائيليين اليهود. وقد قامت حكومة نتنياهو الأخيرة بوضع أساس قانوني لهذا الترتيب، بضغوط من اليمين في حكومته وقاعدتهم الانتخابية، الأمر الذي شجع الآخرين من غير الحريديم على رفض الخدمة العسكرية لأسباب مختلفة.

ولخفض التكاليف، تم تقصير الخدمة العسكرية للرجال من 36 شهراً إلى 32 شهراً، والاستعانة بشركات خاصة لتأمين الإمدادات اللوجستية، وهذه جميعها أدت إلى فجوات بين المهام المطلوب تنفيذها والموارد اللازمة لتنفيذ ما هو مطلوب لمواجهة التهديدات.

في الخلاصة، ولّت الأيام التي كانت "إسرائيل" تتفوق فيها على العرب مجتمعين وتستفيد من انقساماتهم. وإذا كان الإسرائيلي يحاول مراراً سد الثغرات لمواجهة التهديدات، فإن قدرات المقاومة الفلسطينية واللبنانية تطورت أيضاً، والأهم أن الحرب قائمة بين صاحب الأرض والمستوطن الآتي من الخارج، إذ من المتوقع أن تشهد "إسرائيل" هجرة معاكسة كلما زادت المشكلات الأمنية والاقتصادية.

 

ملاحظات على هامش إعلان الحرب الاسرائيلي

في سابقة هي الأولى من نوعها منذ حرب اوكتوبر عام 1973، أعلنت الحكومة الاسرائيلية حالة "الحرب"، والتي تعني عملياً إعلان حالة الطوارئ، واستدعاء الاحتياط، ووضع جميع المقدرات بتصرف الجيش، والتي يهدف نتنياهو من خلالها الى التخلص من الاحراج الذي سببه الهجوم الفلسطيني، والانتقادات لسياساته في الداخل.

وهذا الاعلان، يدفعنا الى تسجيل ملاحظات عدّة:

1-     يتخوف كثيرون من أن يكون اعلان الحرب الاسرائيلي هذا مقدمة لعمل عسكري برّي يهدف الى إعادة احتلال قطاع غزة، اذ أن حرب تموز/ يوليو على لبنان والحروب المتعددة  التي حصلت بين اسرائيل وحماس أثبتت أن سلاح الجو لا يستطيع أن يحسم معركة، بدون تدخل برّي موازٍ. لكن الاشكالية التي قد تواجهها اسرائيل هي فتح الجبهات الاخرى ، فكيف يمكن أن تواجه حروباً على جبهات متعددة؟

وكانت اسرائيل في وقت سابق، وبعد تزايد التهديدات قد اعتمدت تعتمد مفهوماً  أمنياً جديداً سمته  "النصر الحاسم"، وهو مفهوم استراتيجي يغيّر الطريقة التي تقاتل بها إسرائيل ويعيد تعريف النصر في ساحة المعركة، ويركّز على هدفين أساسيين: نهاية سريعة للصراع المحتمل، واستخدام القوة الساحقة لتدمير قدرات العدو.

هذا المفهوم أتى لوضع أسس لكيفية التعامل مع احتمالات "التصعيد الأفقي"، أي فتح جبهات متعددة في نفس الوقت، وذلك عبر اعتماد عمليات هجومية سريعة تعتمد على استخدام وحدات أصغر ومدعومة بقوة نيران هائلة، وتركيز الهجوم على الجبهات الرئيسية قبل أن تطغى الهجمات الصاروخية على إسرائيل. مع العلم أن هذا يتطلب معلومات استخباراتية شاملة والقدرة على التعبئة بسرعة ضد القوة العسكرية المعادية.

2-     يتكل الكثير من الاسرائيليين على دعم الولايات المتحدة، خاصة ان الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن انه مستعد لإمداد اسرائيل بكل ما تحتاجه للدفاع عن نفسها، وهنا تطرح الاشكالية الأساسية حول تحويل الجهد الحربي الأميركي والمساعدات العسكرية الأميركية الى اسرائيل، وقدرة هذه المساعدات العسكرية على تأمين جبهتي أوكرانيا واسرائيل في الوقت نفسه، خاصة بعدما استنزفت اوكرانيا احتياطات دول الناتو الحربية. 

3-      على الصعيد الاقليمي، ستعيد هذه الحرب خلط الأوراق الاقليمية، في شقّين:

أ‌-       مسار التطبيع: بعدما كان الاتجاه السائد يتحدث عن تقدم مسار التطبيع السعودي الاسرائيلي، كيف يمكن التقدم بمسار التطبيع في ظل حرب اسرائيلية كبرى على قطاع غزة وسقوط الضحايا من الفلسطينيين؟.

ب‌-    سياسة الضغوط القصوى الأميركية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تجلت في الخروج من الاتفاق النووي، وفرض قانون قيصر على سوريا وغيرها.

هذه السياسة التي أدّت الى أزمات اقتصادية  كبرى في كل من ايران والعراق وسوريا ولبنان، والتي منعت "المحور" من تسييل الانتصارات الميدانية التي حققها على الجبهات المتعددة. والسؤال: هل تدفع اسرائيل الولايات المتحدة الى مقايضة  وتسوية تتجلى في التراجع عن تلك السياسة مقابل التهدئة في قطاع غزة واحتمالات الحرب على جبهات متعددة؟