2014/07/27

السيد نصرالله: رسائل جديدة للخصوم والحلفاء

د. ليلى نقولا الرحباني
أطل السيد نصرالله  شخصيًا في يوم القدس العالمي، هي المرّة الأولى التي يطلّ فيها نصر الله شخصياً لمدة 55 دقيقة، بالرغم من كل التهديدات الأمنية التي تزايدت في السنوات الأخيرة إذ أضيف الى التهديد الاسرائيلي باغتيال السيد نصرالله، تهديدات بتفجيرات انتحارية في الضاحية الجنوبية، لم تتوقف وتيرتها منذ أن استعر الصراع المذهبي في المنطقة، بعد الحرب في سوريا.
وكما في كل خطاب، وجه السيد نصرالله رسائل الى العدو والصديق على حد سواء، فلم يكتفِ السيد بالرسائل القديمة التي وجهها الى الاسرائيلي، بل أضاف اليها رسائل مستجدة وجهها الى الأصدقاء على حد سواء:
بالنسبة للرسائل في الخطاب والتي باتت تقريبًا معروفة، أعاد السيد نصرالله التركيز على وهن الاسرائيليين وخوفهم وإمكانية المقاومة على هزيمتهم، وأعتبر ان استكمالهم لهذا المشروع التدميري وهذه الحرب انتحارًا، وذكّر العالم بالانتصار الذي حققه اللبنانيون خلال عدوان تموز 2006، من خلال ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، وحدد لفلسطين ثلاثيتها  الذهبية الخاصة بها التي تتجلى بثلاثية الميدان، الصمود الشعبي، والصمود السياسي، مجددًا العهد بدعم المقاومة الفلسطينية، بفصائلها كافة.
أما الطارئ والمستجد في خطاب السيد، فكان:
- إعادة البوصلة الى فلسطين القضية المركزية، وفي هذا رسالة الى العرب الذين انشغلوا عن فلسطين بقضاياهم الداخلية، وبعض الفلسطينيين الذين خرجوا من فلسطين الى عقيدة تحرير دمشق والقاهرة وعمان وبغداد وتناسوا فلسطين الوطن الأم لصالح مشاريع أممية ومخططات تقسيمية....بينما بعضهم بعضهم الآخر انخرط في مشاريع تكفيرية الغائية للآخر وبعضهم تمّ استخدامه في عمليات انتحارية ارهابية، علمًا أن فلسطين كانت وستبقى مهد الديانات السماوية الثلاث، ما يعني أنه لا يجب على أي فلسطيني نشأ في هذه الأرض وشرب من مياهها، وجُبل من ترابها المقدس إلا أن يعرف انه مزيج من حضارات سماوية عليها أن تطبعه بحس تسامح وقبول بالآخر المختلف دينيًا، طالما فيه شيء من تراب هذه الأرض.
- بالرغم من اعلانه دعم المقاومة الفلسطينية، إلا أن السيد نصرالله بدا واضحًا في التركيز على الشعب الفلسطيني وليس على أحد فصائل المقاومة الفلسطينية بشكل خاص، وكان واضحًا اختلاف الخطاب عن سابقه بخصوص "حماس"، التي كانت فيما مضى "المركز" في خطابات السيد في حديثه عن المقاومة الفلسطينية، بينما أتى ذكرها بمعرض تعداد الفصائل أو الحديث عن التوجه العربي أو الرغبة  بالقضاء عليها والانتهاء منها، منبهًا من سخافة الاعتقاد ان الهدف الاسرائيلي هو القضاء على حماس وحدها دون بقية فصائل المقاومة، أو دون الشعب الفلسطيني الصامد والمضحي وإلغاء وجوده.
_ إعادة التركيز على المخططات الاسرائيلية البعيدة المدى، بتوطين اللاجئين في الاراضي التي تهجروا اليها، من ضمن إلغاء الوجود الفلسطيني وإلغاء حق العودة، وإلغاء المطالبات الفلسطينية بالأرض الفلسطينية التاريخية، وقد بيّنت أحداث ما يسمى بالربيع العربي، أن هذه المخططات ما زالت قوية، وقد دغدغت عقول بعض الفلسطينيين الذين وُعدوا بحكم دول أكبر وأكثر ثراء مما تبقى من فلسطين، وهو ما يحتّم إعادة التنبيه من خطورتها.
- إعادة التركيز على دور سوريا باعتبارها كانت وستبقى الجدار المتين في وجه المشروع الصهيوني والحضن القوي للمقاومة وللقضية الفلسطينية، وفي هذا رسائل عدّة وجهها السيد في اتجاهات عدّة:
- رسالة الى حماس، حيث ظهر خالد مشعل قبل يومين بخطاب حدد فيه مطالب المقاومة الفلسطينية وشروطها لوقف القتال، وكرر معزوفة بالوثوق بتركيا وقطر، ورفض المبادرة المصرية، بدون أن يتوقف ولو لدقيقة لشكر الدول التي رعت وما زالت ترعى المقاومة الفلسطينية والتي طعنتها حماس في الصميم، ومنها ايران وسوريا، أو بدون أن يظهر - ولو بالتلميح المبطن- أن حماس قد ندمت على الخيانة التي قامت بها للحضن السوري الذي حضنها حين تخلى العالم كله عنها واضطهدها.
- رسالة الى الغرب ووكلائه من السوريين المعارضين، الذين تباهوا بأنهم سيرفعون العلم الاسرائيلي في قلب دمشق، وبعضهم الذي اعتبر اسرائيل صديقًا، ويجب ان تنتهي الحرب السورية بوصول المعارضين وتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل.
- رسالة الى الاصدقاء وداعمي المقاومة، بأنه بالرغم من كل الخيانات والجحود، فسوريا ستبقى على دعمها لفلسطين، وأن خيانة حماس وجحودها لا يجب أن يختزل القضية الفلسطينية التي تبقى البوصلة والقضية المحورية للأمة.
أما الرسالة الأخيرة والجديدة، فهي الربط بين ما تقوم به داعش في العراق، والنفق المظلم الذي دخله العراق،  وبين المخططات الاسرائيلية، فلطالما حلم الاسرائيليون بهدم المسجد الاقصى، ولطالما حفروا تحته، فما تقوم به داعش اليوم من هدم المساجد والأضرحة والكنائس، في ظل سكوت عربي واسلامي، قد يغري اسرائيل بتنفيذ مخططاتها بهد المسجد الاقصى، من خلال تحضير "الجو النفسي" لذلك.
.

2014/07/24

محاسبة الاسرائيليين جنائيًا: متى وكيف؟

د. ليلى نقولا الرحباني
تشهد الحرب الاسرائيلية العدوانية على قطاع غزة، انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الانساني، بالرغم من أن اسرائيل كانت قد صادقت على "اتفاقية جنيف الرابعة" بتاريخ 6 تموز 1951، وعلى البروتوكول الاضافي الأول الملحق باتفاقيات جنيف في نيسان 1977، وبالرغم من أن محكمة العدل الإسرائيلية العليا في قرارها الصادر في 30 أيار 2004  كانت قد أقرّت رسميًا بانطباق "اتفاقية جنيف الرابعة" على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يلزمها باحترام قواعد النزاعات المسلحة وخاصة مبدأ "التمييز بين المدنيين والمقاتلين" الذي يعدّ أحد أسس القانون الدولي الانساني.
وحتى لو لم تكن اسرائيل قد وقعت على "اتفاقية جنيف الرابعة" الخاصة بحماية المدنيين خلال الحرب، فاسرائيل ملزمة باحترام هذه القواعد، إذ أن قواعد القانون الدولي للنزاعات المسلحة تعتبر ذات "قيمة عرفية"، وذلك بحسب ما قررته المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ وأكدته لاحقاً محكمة العدل الدولية حول شرعية التهديد باستخدام أو استخدام الأسلحة النووية، وفي رأيها الاستشاري المؤرخ في 8 تموز 2004 حول النتائج القانونية لبناء جدار في الأراضي الفلسطينية المحتلة (فقرة89)، وقد اعتبرتا أن هناك مبادئ في القانون الدولي العرفي وعدد كبير من القواعد في القانون الإنساني لا يمكن تجاوزها في النزاع المسلح، وأهمها على الاطلاق حظر استهداف المدنيين.
من هنا، فإن ما تقوم به اسرائيل في غزة من قتل متعمد للمدنيين بدون تمييز، ومن عدم احترام "حصانة المدنيين" غير المشاركين في القتال، ومن اعتماد سياسة الأرض المحروقة واستخدام الاسلحة المحرمة دوليًا، بالاضافة الى العديد من الانتهاكات الأخرى للقانون الدولي الإنساني، تعتبر جرائم حرب موصوفة، ومعظمها يرقى - بدون شكّ- الى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، هذا ناهيك عن أن الحصار التجويعي المفروض على غزة منذ سنوات، يعدّ من أنواع العقاب الجماعي المحظورة في القانون الدولي، والذي قد يصل الى حدّ يمكن وصفه بالتخطيط لإبادة جماعية للشعب الفلسطيني في غزة.
انطلاقًا من كل ما سبق، هل يمكن محاسبة اسرائيل على كل الجرائم الدولية المرتكبة في غزة؟
بما أن آلية المحاسبة الداخلية الاسرائيلية متعذرة، يبقى للفلسطينيين آلية المحاسبة الدولية، وفيها ما يلي:
- بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية، تبقى هذه الآلية متعذرة كون اسرائيل ليست طرفًا في المحكمة، كما إن إحالة القضية من قبل مجلس الأمن - وهي الحالة الوحيدة الممكنة لدولة غير طرف أو لم تقبل إختصاص المحكمة- تبدو متعذرة بسبب الفيتو الأميركي.
- بالنسبة لإنشاء محكمة دولية خاصة، لمعاقبة الأشخاص المسؤولين جنائيًا عن الجرائم المرتكبة في غزة، يتعذر أيضًا إنشاءها بسبب الفيتو في مجلس الأمن لإنشاء محكمة خاصة Ad Hoc شبيهة بمحكمتي رواندا ويوغسلافيا السابقة، ثم عدم إمكانية قبول اسرائيل آلية كهذه تنتهك سيادتها وتحوّل مسؤوليها الى المحاكمة لإمكانية تأسيس محكمة مختلطة Hybrid، شبيهة بمحاكم سيراليون وتيمور الشرقية وغيرها.
- يبقى للفلسطينيين امكانية استخدام مبدأ "الولاية القضائية العالمية"، في إحدى المحاكم الداخلية الاوروبية التي تسمح أنظمتها بمحاكمة جرائم دولية حتى لو لم يكن المرتكب من مواطنيها، إلا أن الحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في 14 شباط 2002 والذي أكّدت فيه على "ضرورة الإعتداد بحصانات المسؤولين السياسيين في مواجهة الدول الأجنبية ولو بمناسبة الجرائم الدولية المنسوبة إليهم؛ ما دامت دولة جنسية الجاني لم تتنازل عن الحصانة التى كفلتها له وما دامت صفته الرسمية لم تزول بعد"، بالاضافة الى الاعتبارات السياسية الاوروبية تجاه اسرائيل، تضعف إمكانية محاسبة نتنياهو وأركان حكومته وجيشه أمام المحاكم الاوروبية في الوقت الحاضر، ولنا في ما حصل مع تسيبي ليفني في لندن عام 2009، عبرة وتأكيد.

وهكذا، نجد أنه في الوقت الراهن قد يستطيع القادة الاسرائيليون الافلات من العقاب، لكن هذا لا يعني أن على الفلسطينيين أن يكفّوا عن توثيق هذه الجرائم ومحاولة استغلال أي تغيّر في موازين القوى في المستقبل من أجل مساءلة الاسرائيليين جنائيًا عن كل الجرائم والمجازر التي حصلت وتحصل في غزة، على مرأى من العالم أجمع.

2014/07/17

إقفال الجامعة الوطنية: لماذا؟... ولصالح مَن؟

د. ليلى نقولا الرحباني

يلفّ الضباب مصير الحكومة اللبنانية وفعاليتها، بعدما قرر الرئيس تمام سلام عدم الدعوة إلى اجتماع ما لم يتمّ التوافق على ملف الجامعة اللبنانية، علماً أن ما حصل في ملف الجامعة من تعطيل قام به وزراء حزبي "الاشتراكي" و"الكتائب" يشي بأن كل منهما يحاول الاستفادة مما يمكن الاستفادة منه من مكاسب سياسية، على حساب العمل الحكومي، وعلى حساب مصالح البلد الذي يعيش أسوأ أزماته الاقتصادية والاجتماعية منذ الحرب الأهلية ولغاية اليوم، وعلى حساب الجامعة اللبنانية التي تعاني من محاولات لإقفالها، أو تحويلها إلى مؤسسة غير منتجة وغير موثوق بنتائجها؛ تماماً كما حصل سابقاً مع التعليم الرسمي الأساسي.

يبدو من خلال السياسات الحكومية المتعاقبة منذ ما بعد الطائف، أن هناك مؤامرة حقيقية على الجامعة الوطنية، تعيدنا بالذكرى إلى ما كان يحصل مع مؤسسة الجيش اللبناني من محاولات سيطرة وتغيير العقيدة، واقتطاع موازناته، وهو ما ظهر جلياً خلال سنوات عجاف مرّت على الجامعة الوطنية منذ عام 1997، حيث اقتنص السياسيون منها استقلاليتها، وسيطروا عليها، في محاولة واضحة لتحجيمها وإفشالها لصالح التعليم العالي الخاص، حيث تنتشر الجامعات - الدكاكين على أطراف الجامعة اللبنانية كالفطريات، بدون حسيب أو رقيب.

وإن كان حزبا "الكتائب" و"الاشتراكي" قد برزا مؤخراً كمعطّلين لملف الجامعة، فالتعطيل كان قد مورس في وقت سابق من جهات عدّة؛ منذ أن عُرض الملف خلال حكومة الميقاتي ولغاية اليوم، وبالرغم من تباين أسباب الجهات السياسية للعرقلة، إلا أن التعطيل واحد وقد يكون مرده أسباب عدّة منها:

- تريد بعض الأحزاب السياسية أن تستغل الواقع الحكومي والفراغ الرئاسي لتفرض واقعاً سياسياً لها أكبر من حجمها، في محاولة لإظهار قوة مضخَّمة كانت تتمتع بها وانقرضت لصالح أحزاب جديدة.

- لطالما احتوت الحكومات المتعاقبة رجال أعمال دخلوا عالم السياسة من بوابة رأس المال، وهؤلاء يتعاطون مع الوطن وقضاياه بمنطق "الشركة"، فيحتسبون كل قرار بمنطق الربح والخسارة المادييْن، ومن هنا فإنهم يعتبرون الاستثمار الوطني الرسمي في العقول غير مُجْدٍ أو مكلف ومسبِّب للخسارة، والخسارة هنا صنفان: الخسارة المادية، باعتبار أن التعليم الرسمي للفقراء غير مربح، بينما تنتفخ جيوب المتمولين من السياسيين وغير السياسيين الذين افتتحوا جامعاتهم الخاصة، والأهم الخسارة السياسية؛ باعتبار أن تعليم الفقراء يجعلهم متعلمين وغير محتاجين إلى السياسي من أجل لقمة العيش، فيخسر السياسي هنا أفواهاً جائعة تحتاج إليه للعمل والتوظيف والمساعدات، فيتعذّر عليه جعلها زبائن له في الانتخابات والتحشيد المذهبي والطائفي، والاقتتال الغرائزي.

- قد يكون المستهدف من التعطيل أيضاً التيار الوطني الحر بالتحديد، فالكلام المتداوَل منذ تعطيل الملف خلال حكومة الميقاتي، يقول إن التعطيل يأتي لأن التيار الوطني الحر والعماد ميشال عون قد تبنّيا قضية الجامعة الوطنية، واعتبراها من أركان السياسة الإصلاحية التي يطمح من خلالها لبناء دولة، يضاف إلى ذلك تبنّي وزير التربية الياس بو صعب لملف الجامعة اللبنانية تبنٍّ كامل، مما يشير إلى أن بعض العُقد المستجدّة كانت في وجهه وليست في وجه الجامعة وأساتذتها بالتحديد.

في النهاية، وضع القطاع التربوي في لبنان بات مُبكياً، والمبكي الأكثر أن سورية - الدولة الجارة - التي تعيش حرباً كونية على أرضها، والتي تشهد خراباً ودماراً غير مسبوقيْن في تاريخها منذ أربع سنوات، كانت قد أعلنت هذا الأسبوع عن نتائج امتحانات الثانوية العامّة، ويتحضّر الطلاب السوريون للدخول إلى الجامعات، مطمئنين على مستقبلهم العلمي، ولو كانوا غير مطمئنين على مستقبل بلادهم الأمني والسياسي، بينما ينتظر طلاب لبنان نتائج امتحاناتهم على وقع أخبار سلسلة الرتب والرواتب والعُقَد السياسية المفتعَلة التي تتلهى بمصيرهم ومستقبلهم، والتي لا يبدو أن لها حلاً في الأفق المنظور، ما يهدد مستقبل آلاف الطلاب اللبنانيين الذين يتحضرون للدخول إلى الجامعات في لبنان وخارجه، ويهدّد مستقبل عشرات الآلاف من طلاب الجامعة اللبنانية المهدَّدة بالإقفال وتأخير العام الدراسي، فيما لو يعي المسؤولون السياسيون أن الاستثمار المُجدي والأفعل هو الاستثمار في العقول، فلا خلاص للبنان من كبواته الاقتصادية والامنية والطائفية إلا بالتعليم، الذي يؤدي إلى خفض معدل الجريمة، ويُنعش الاقتصاد الوطني، ويخفف من غلواء التعصب المذهبي، وإمكانية استغلال الشباب في اقتتال محاور عبثي.

2014/07/13

هل أتى الردّ الايراني: أفغانستان مقابل العراق؟

د. ليلى نقولا الرحباني
حيّدت الحرب التي تشنّها اسرائيل على قطاع غزّة، الانظار عما يحصل في سوريا والعراق؛ علمًا أن التطورات العراقية كانت في وقت سابق قد جعلت من الأخبار السورية في مرتبة ثانية من الأهمية. وهكذا، نجد أنه في الوقت الذي يتقدم فيه الجيش السوري على محاور عدّة في حلب، تعمّ الشاشات صور المجازر في غزة، ويحاول العراقيون مقاومة ما يدبّر لهم من مؤامرات تفتيتية تنعشها الغرائز المذهبية، بينما يحاول اللبنانيون تحييد النار الاقليمية عن الثوب اللبناني القابل في أي لحظة للاشتعال.
وفي ظل هذا المشهد المهيب من الدمار والاقتتال المذهبي، يتبارز العرب في تحليل ظاهرة "داعش" وسيطرتها على المحافظات السنية في العراق، وتقدمها في سوريا، ومحاولتها السيطرة على حقول النفط في كل من البلدين، فمنهم من يختار التحليل التبسيطي للأمور، فيعتبر ان الفراغ الأمني وإطالة أمد الحرب في سوريا أدّت الى ظهور داعش ومثيلاتها، والبعض الآخر يعتبر ان الولايات المتحدة الأميركية - بالتعاون مع حلفائها السنّة من الدول الاقليمية- أرادت أن تقطع الهلال الشيعي الذي تحاول ايران أن تقيمه، والممتد من ايران حتى لبنان مرورًا بالعراق وسوريا، ومنهم من يعتبر ان داعش صنيعة الاتراك، وهلم جرًّا.
وبغض النظر عن النظريات المختلفة لتأسيس داعش وظهورها، والمشهد المشرقي الذي يطغى على شاشات العالم واعلامه ويزيح الانظار عما يحصل في أماكن أخرى من العالم، لا بد لنا من مراقبة ما يجري في افغانستان باهتمام شديد، يوحي بترابط ما بين الساحتين العراقية والأفغانية كما يلي:
يتشابه البلدان في أنهما تعرضّا للاحتلال في خضّم الحرب الأميركية على الارهاب، وانهما يتصدران قائمة الدول الفاشلة منذ ذلك التاريخ، علمًا أن الاثنين يعانيان من الارهاب والانقسامات والأزمات السياسية، بينما تدور السلطة السياسية فيهما في الفلك الايراني - الأميركي المشترك. كما يتشابه جيشا البلدين، بأنهما نتيجة سنوات من التدريب والاستثمار الأميركي، وكان يؤمل منهما أن يستلما الوضع الأمني بعد الانسحاب الأميركي.
واليوم، وفي ظل انتظار الاميركيين نتائج الانتخابات الرئاسية الأفغانية، لتوقيع معاهدة أمنية - شبيهة بالاتفاقية الأمنية الموقعة مع العراق- تمهّد لانسحاب قوات حلف الناتو من البلاد، تعيش أفغانستان أزمة سياسية خطيرة جدًا، بسبب ما يقال انه تزوير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأفغانية بين عبد الله عبدلله وأشرف غاني، قد تؤدي الى تقسيم البلاد أو دخولها في حرب أهلية.
ويلاحظ أن نفس الكأس المرّة التي يتجرعها العراقيون بعد غزوة داعش، تعيشها أفغانستان اليوم، فالخوف من اقتتال مذهبي عراقي أو تقسيم العراق على أساس مذهبي يقابله قلق جدّي من اقتتال قبائلي بين الطاجيك والبشتون في أفغانستان، أو تقسيمها بحسب الانتماءات والاغلبيات التي تسيطر على المناطق، ما يصعّب المهمة على الجيش الأميركي وقوات حلف الناتو، فإما الانسحاب في نهاية السنة الحالية كما هو مخطط وترك البلاد غارقة في فوضى خطيرة قد تفجّر المنطقة، أو البقاء لما بعد الوقت المحدد، والغرق في مستنقع صراع قبائلي وارهاب متفلت.
ويبقى السؤال المشروع هنا: هل هي مصادفة أن تعيش أفغانستان والعراق نفس الأخطار التي تتجلى بين خيارين خطيرين: حرب وتطاحن بين مكونات الشعب أو التقسيم؟.
وفي الإجابة على السؤال، يمكن القول أنه لا شيء صدفة في العلاقات الدولية، لذا يمكن التكهن بأن السياسات الاقليمية والدولية في المنطقة هي التي رتبّت هذه المصادفة. وبما أن الأميركيين يتلهفون للخروج من أفغانستان وتوقيع الاتفاقيات معها، وبما أنهم يتعاملون مع الأزمة الأفغانية بقلق جدّي مختلف عن سياسة "التمييع" التي استخدموها في مواجهة ما استجد في العراق من أخطار، وهو ما دفع كيري للقدوم الى افغانستان على عجل... كل هذا يوحي بأن الطرف أو الأطراف المتضررة مما يحصل في العراق والتمييع الاميركي في الردّ، قد ردّت بقوة في أفغانستان، ضمن معادلة: افغانستان مقابل العراق- تقسيم العراق يقابله تقسيم أفغانستان، حرب مذهبية في العراق يقابلها حرب قبائلية في أفغانستان.... ولكن، من هي الجهة أو الدولة الاقليمية التي تملك من المقومات بأن تقلق الاميركيين في أفغانستان، وتفرض هذه المعادلة؟ إنها ايران طبعًا.

2014/07/05

السعودية في دائرة الخطر الداهم

د. ليلى نقولا الرحباني

كان لافتًا وخطيرًا في نفس الوقت، الخبر الذي نقلته صحيفة السفير المحلية اللبنانية عن إحدى الصحف الكردية في تركيا والتابعة لـ"حزب العمال الكردستاني" والصادرة باللغة التركية، والتي أدرجت تفاصيل الخطة التي هيأت لاحتلال الموصل وباقي المناطق العراقية من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"-"داعش".

والأخطر ما ذكرته الصحيفة الكردية من أن التحضير لغزوة داعش للمناطق العراقية تمّ في الأردن في الأول من حزيران المنصرم، وبرعاية من الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية والأردن وتركيا، وقد هيأ للاجتماع حاكم إقليم كردستان مسعود البرزاني نفسه بوصوله إلى عمان قبل أربعة أيام من الاجتماع.

وإن صحّ ما أدرجته الصحيفة الكردية، تكون المملكة العربية السعودية والأردن وبموافقتها وترحيبها بالخطة، قد أدخلت نفسها في أكبر خطر استراتيجي على الاطلاق، وأوقعت نفسها في فخ مؤامرة اسرائيلية تستفيد من التشرذم والاقتتال المذهبي والطائفي على مساحة العالم العربي.
وإن كان المراقب قد يتصور أن الأردن وهو بلد صغير قد سهّل أو وافق على الخطة أو سمح بانعقاد المؤتمر على أرضه، بضغوط من الولايات المتحدة الأميركية، والدول "الشقيقة" الكبرى، لكن المحيّر هو موقف السعودية التي تواجه أكبر خطر استراتيجي في تاريخها المعاصر، وهو يتجلى بما يلي:

- من الناحية الشمالية، حيث تتشاطر السعودية مع العراق حدودًا مشتركة تمتد على مسافة ما يزيد على 800 كيلومتر، وقد استولت الجماعات الراديكالية التي تطمح للتمدد الى داخل المملكة، على الحدود المشتركة بين البلدين بعد انسحاب الجنود العراقيين في المنطقة - لم يؤكده بشكل كامل العراقيون ولكنه أكدوا انسحاب بعض الجنود نتيجة تقاضي الرشى- مما اضطر السعودية الى نشر 30 ألف جندي على حدودها مع العراق.

- من الناحية الجنوبية، أي الحدود مع اليمن والتي تبلغ حوالى 1800 كلم، والتي لا يقلّ الخطر فيها عن الخطر من الناحية الشمالية والتي ما انفكت تشكل تهديدًا أمنيًا دائمًا للمملكة، الأمر الذي دفع السعوديون عام 2013 الى الإعلان عن استكمال بناء جدار حاجز بين البلدين كان قد بدأوا بتنفيذه عام 2003 ، لإغلاق الحدود بينهم وبين اليمن. ويزداد الأمر خطورة بعد الاعلان عن هجوم انتحاري تمّ احباطه هذا الأسبوع على الحدود اليمنية السعودية، في ما قيل أنه محاولة لداعش للتمدد الى الداخل السعودي من الحدود الجنوبية.

- الخطر الداخلي، والذي يشي بمزيد من القلق للحكام السعوديين، فقد عانت المملكة العربية السعودية من الخطر الارهابي منذ عام 2003، والذي كلّفها الكثير من الضحايا من مدنيين ورجال أمن. وتذكر بعض التقارير الصحفية أن الوضع الداخلي السعودي متوتر وقلق خشية من القاعدة في الداخل السعودي، وقد ذكرت قناة العربية أن عنصرين من القاعدة فجرّا نفسيهما بعد محاصرة الأمن لهما داخل مبنى حكومي في جنوب السعودية.
وقد يضخّم خطر القاعدة الارهابي على السعودية، أمران:

الأول: بيئة سعودية داخلية حاضنة لفكر القاعدة، فبالرغم من كل السياسة الرسمية السعودية التي تحاول تجفيف منابع االفكر الارهابي وتمويله، ما زالت التقارير تذكر أن المصدر الأكبر لتمويل القاعدة وإمدادها بالرجال هي المملكة بالتحديد، مع ما يمكن أن يشكّله هذا من خطر حقيقي وداهم في ما لو وجد هؤلاء لأنفسهم عمق استراتيجي يأتيهم من الشمال أو الجنوب.

الثاني: الخطر الذي يتأتى من الحرب السعودية على الاخوان المسلمين في داخل وخارج المملكة، وما يمكن أن تردّ به قطر على الحرب عليها ومحاولة عزلها، بالاضافة الى السماح المصري - والذي أتى بتوجيه وتشجيع سعودي أكيد- لمعارضين قطريين من اعلان معارضتهم ومحاولتهم الإطاحة بالحكم في قطر.

وهكذا إذًا، نجد أنه يومًا بعد يوم، يتأقلم العالم مع وجود "دولة داعش" الراديكالية، على مساحة ممتدة بين العراق وسوريا، تحاول تدعيم نفسها بالمال المنهوب من المصارف في الموصل، وبيع النفط المسروق، والسلاح الذي غنمته من الجيش العراقي، بالاضافة الى الفكر العقائدي المذهبي. ولكن الخطر الحقيقي لهذه الدولة، ليس على ايران أو بغداد كما يعتقد البعض، حيث يشكّل الاختلاف المذهبي والعقائدي والإحساس بالخطر الوجودي حاجزًا أمام تمدد "داعش" اليها، بينما تشكّل وحدة المذهب والدين وأحلام الخلافة القديمة والبيئة الراديكالية الحاضنة، خطرًا حقيقيًا تواجهه المملكة العربية السعودية في محاولات داعش التمدد اليها.

2014/07/03

مبادرة "الجنرال".. والبازار الإقليمي

د. ليلى نقولا الرحباني
تستمر الحملة السياسية على طرح العماد ميشال عون انتخاب رئيس من الشعب مباشرة، والذي طرحه لمحاولة كسر حال الجمود والمراوحة السياسية التي دخلها البلد منذ ما قبل 25 أيار ولغاية الآن.

فعلياً، يدرك العماد ميشال عون تعقيدات الوضع الإقليمي، وهو أكثر العارفين بأن التوافق اللبناني يحتاج إلى أكثر من إرادة داخلية للتوافق والحوار والرغبة بالوصول إلى حل، بل إنه بحاجة إلى تفاهم إقليمي - دولي  يؤدي إلى تسوية، ويبدو أن هذا الأمر لم ينضج بعد، فقد تشعّبت القضايا الإقليمية وتعقدت، خصوصاً بعد قضية "داعش" في العراق، واحتلالها محافظات في العراق وربطها بمحافظات سورية، وإعلان "دولة الخلافة الإسلامية" ومبايعة أبو بكر البغدادي أميراً عليها، في ظل مراوحة إقليمية وتباينات دولية في التعاطي مع الموضوع.

من هذا المنطلق تبدو قضية الرئاسة اللبنانية مؤجلة، فلطالما شكّلت الرئاسة في لبنان موضوعاً دولياً وإقليمياً أكثر منه داخلي، وهكذا كان يُنتظر أن تنفرج الأمور اللبنانية الداخلية مع انفراج العلاقات الإيرانية - السعودية، لكن الأمور تعقدت نتيجة ما يلي:

- انتصارات ميدانية سجّلها الجيش السوري تضاف إلى انتخابات رئاسية أصرّت الحكومة السورية على إجرائها، وانتصار الرئيس بشار الأسد فيها بنسبة جيدة جداً، ومشاركة شعبية جيدة أيضاً، علماً أن كثافة التوجُّه إلى صناديق الاقتراع، خصوصاً في لبنان والأردن، أحرجت الحلف المعادي للنظام السوري، وأظهرت نوعاً من الخسارة الإضافية له.

- تسريب تقارير تشير إلى قبول الأميركيين بنتائج الانتخابات الرئاسية السورية، بالإضافة إلى تقارير صحفية نقلت عن فيلتمان عرضه بأن يتمّ تأمين مخرج للأميركيين للقبول بالأسد مقابل التعاون في مكافحة الإرهاب.

- انتصار كاسح للمالكي في الانتخابات في العراق، علماً أن بعض القيادات السعودية كانت قد أعلنت أن العراق مصيره التقسيم في حال انتصر تحالف المالكي في الانتخابات، وهذا ما أظهر الهجمة "الداعشية" المدعومة من بقايا حزب "البعث" العراقي، ومؤيدي الرئيس السابق صدام حسين، وكأنها ردّ على نتائج الانتخابات.

- إشارات هامّة عن إيجابيات كبيرة تطغى على المفاوضات بين الإيرانيين والدول الست، والأميركيين خاصة، بخصوص التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني بحلول نهاية تموز الجاري.

- اتجاه إيران لفرض نفسها لاعباً إقليمياً هاماً، له تفضيلاته في الصراع السُّني - السني الدائر في المنطقة، والحركة الإقليمية الإيرانية التي تشير إلى محاولة إيرانية لتعويم الدور التركي "الإخواني" على حساب السعودي "الوهابي" في المنطقة، ما شكّل حساسية لدى الطرف السعودي.

لكل هذه الأسباب وغيرها، تراجعت إمكانية التفاهم السعودي - الإيراني في المنطقة، وتراجعت معه إمكانية التوصل إلى اتفاق داخلي لبناني يُترجم في ملف الرئاسة، علماً أن ما بعد احتلال "داعش" لأقسام من العراق ليس كما قبله؛ فقبل الاحتلال "الداعشي" للمحافظات العراقية كانت إيران تبدو منتصرة في معظم الملفات التي تعالجها في منطقة الشرق الأوسط، والمنتصر لا يستسهل تقديم التنازلات أو إعطاء المكاسب المجانية للخصوم، في المقابل بدا أن المملكة العربية السعودية مُحرَجة في عدة ملفات إقليمية، باستثناء مصر ولبنان، وبما أنها بدت - ولو نظرياً - محرَجة، فلا يمكن لها أن تقدّم تنازلات من أجل التسوية ما يظهرها وكأنها مهزومة.. لذلك، كان من الصعب الوصول إلى تسوية بين الإيرانيين والسعوديين في ظل ظهور أحدهم بمظهر المنتصر والآخر بمظهر المحرج أو المأزوم.

وهكذا، خلطت "داعش" الأوراق الإقليمية من جديد، لكن المشكلة التي ظهرت، والتي دفعت المنطقة إلى أخطر مرحلة في تاريخها، هو أن من يعتقد أن بإمكانه الاستفادة من "داعش" لإحراج الإيرانيين، يجد نفسه محرجاً بين خيارين أحلاهما مُرّ: دعم "داعش" ضد الإيرانيين، مع ما يستتبع ذلك من تضخيم لدور "داعش"، ما يهدد وجوده ومستقبل دول المنطقة السُّنية بالدرجة الأولى، أو الدخول مع الإيرانيين في حلف ضد "داعش"، مع ما يعنيه هذا من تضخيم النفوذ الإيراني في المنطقة.

وهكذا، يجد اللبنانيون أنفسهم مرة أخرى ورقة تستخدم في بازار الشدّ والجذب الإقليمي، فإن كان الحريق سيلتهم المنطقة فهو لن يوفر لبنان، وإن كانت التسويات قادمة، فاللبنانيون سيتأثرون بها دون قدرة لهم على التغيير في نتائجها، من هنا تأتي أهمية المبادرة التي أطلقها العماد ميشال عون، أما السياسيون اللبنانيون فما زالوا يمارسون الكيدية السياسية، وعنزة ولو طارت.