بشكل مسرحي مفاجئ أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيّته سحب جنوده من سوريا، ما استدعى استقالات من داخل إدارته وانتقادات من سياسيين واعلاميين أميركيين وأوروبيين. وكان اللافت ما نقلته شبكة سي أن أن الأميركية وقالت أنه مقتطفات من مكالمة هاتفية دارت بين ترامب، والرئيس التركي أردوغان، حيث قال ترامب لنظيره التركي: "سوريا كلها لك.. لقد انتهينا".
وتبدو هذه الخطوة والمكالمة لافتة ومفاجئة لجميع المراقبين، خاصة في أمرين:
الأول: إن إطلاق يد أردوغان في سوريا والقول "سوريا كلها لك"، يعني أن ترامب تخلى بشكل كلي عن الأكراد الذي استخدمتهم الولايات المتحدة كجيش برّي لقتال داعش، وتركهم فريسة لأردوغان، وهم الذين كانوا يعوّلون على الأميركيين لدعمهم في مطالبهم الإنفصالية. لطالما لعب الأميركيون دور الموازن بين الطرفين - الحليفين، أما اليوم فكأنما الولايات المتحدة تطلق يد أردوغان لينتهي من الظاهرة الكردية السورية، فيكونون أمام خيارين: أما الاستعانة بالأسد أو الاستسلام لأردوغان.
أما الأمر المفاجئ الثاني، فهو قيام ترامب بالإشادة بأردوغان. فمن المعروف أن الكيمياء مفقودة بين الرجلين، فبالإضافة الى تفضيله المملكة العربية السعودية، ومقايضته المال السعودي مقابل الدعم والمظلة الأمنية، كان الرئيس ترامب مستاء الى حدٍ بعيد من وقوف الأتراك ضد سياسته الشرق أوسطية وخاصة وقوف أردوغان ضد نقل السفارة الأميركية الى القدس، بالإضافة الى التصعيد اللفظي الذي مارسه أردوغان ضد الأميركيين خاصة في معرض قضية برونسون.
يجمع الأميركيون من الحزبين، أن شخصية أردوغان وغروره مسبب للكثير من التوتر على صعيد العلاقات الثنائية، ففي غياب مؤسسات قوية وفي احتكاره للسلطة، إن نظرة أردوغان إلى العالم والضرورات السياسية المحلية تدفعه الى تصعيد المواجهة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وبنتيجة الشحن الذي يقوم به أردوغان، والتصعيد اللفظي الذي يمارسه فإن 18 % فقط من الإتراك ينظرون نظرة ايجابية الى الولايات المتحدة ، و72% يعتبرونها تهديدًا كبيرًا لبلدهم ، علمًا أن استطلاعات الرأي تلك حصلت في وقت سابق (2017) لقضية برونسون وانهيار الليرة التركية كنتيجة للعقوبات الأميركية المفروضة على بلدهم.
كما يأخذ الأميركيون على تركيا، بحسب السفير الأميركي السابق في تركيا، بأنها تدير الدبلوماسية، باستخدام سياسة "اللوم، العار، ثم المطالبة" blame, shame and claim approach .
في المقابل، يدرك الأميركيون الاعتبارات الايديولوجية لأردوغان وتأثير السياسة المحلية على علاقاته الخارجية، لذا يحاذرون دائمًا من أي عمل يسعى الى إحراجه لإخراجه. كما يدركون أن السياسة الاستقلالية التي ينتهجها أردوغان لن تعود الى الوراء، لذا عليهم أن يبقوا على العلاقة معه، مع الأخذ بعين الاعتبار تأمين بدائل عن التعاون التركي في كل من العراق، وآسيا الوسطى والبلقان.
أما أهداف ترامب من توكيل حليفه اللدود أردوغان، فقد تكون متعددة، نذكر منها ما يلي:
- لا شكّ أن ترامب، ومن خلال الاعلان عن نيّته الانسحاب من سوريا وأفغانستان يريد حرف الأنظار عن الاحراج الذي يعانيه في الداخل خاصة في الأمور القضائية، لذا هو يحتاج الى أردوغان لتحميله مسؤولية مكافحة الارهاب بغياب الجنود الأميركيين، وذلك خوفًا من أي نتائج معاكسة وعودة داعش الى سوريا وتحمّله المسؤولية عن ذلك، كما حصل مع أوباما وانسحابه من العراق.
- برمي الكرة الى أردوغان، يعتقد ترامب أن الجيشين التركي والسوري (المدعوم من الايرانيين) قد يتقاتلان على بقعة الجغرافيا السورية التي سيتركها الأميركيون، وهذا يفيده ويفيد الاسرائيليين أيضًا. يدرك ترامب جيدًا أن الايرانيين والأتراك سيهرعون لسدّ الفراغ الاستراتيجي، ما يعني صدامهم الحتمي.
وبرأيي، إن الخيار الذي اتخذه ترامب بالخروج من سوريا لا عودة فيه، وسيتم تنفيذه، مع الإبقاء على قواعد عسكرية قريبة من الحدود العراقية السورية، ليبقى للجيش الأميركي قدرة على السيطرة على تدفقات السلاح والرجال ولإحتواء النفوذ الإيراني الممتد بين البلدين. بالطبع، لن يخلي الأميركيون الأجواء السورية بل سيقصفون الأهداف التي يعتقدون أنه ستمسّ بتوازن القوى، وسيتم سحب بعض الجنود الى الداخل العراقي معوّلين على قدرة دول التحالف الدولي (الغربية) والجيش التركي على سدّ الفراغ الذي ستخلّفه إعادة إنتشار جنودهم.
- أما الأهم، فيبدو الى أن كل ما يقوم به ترامب في سياسته الخارجية والداخلية هو تحضير للانتخابات الرئاسية القادمة عام 2020، لذا يبدو حريصًا على تنفيذ كل ما وعد به في حملته الانتخابية، بالاضافة الى توفير الأموال التي يتم صرفها في الحروب الخارجية وتحويلها لتحفيز النمو في الداخل وتشجيع الدورة الاقتصادية. وبالفعل فإن الارقام التي نشرتها وزارة الدفاع الأميركي تبدو مقلقة، إذ قدّرت حجم الكلفة العسكرية المباشرة للحروب الأميركية منذ عام 2010 بأنها بلغت 1.77 تريليون دولار؛ منها 756 مليار للحرب على العراق وسوريا، 730 مليار في الحرب على أفغانستان...