2011/09/29

الراعي .. بين حفظ المسيحيين وخسارة الصورة الاميركية

تتحدث الأوساط الإعلامية عن اتصال الدوائر الفرنسية بالدوائر الأميركية، وبالتحديد اتصل الرئيس الفرنسي ساركوزي بالرئيس باراك أوباما ونصحه بعدم استقبال البطريرك الماروني مار بشارة الراعي، بسبب مواقفه المعلنة، وتشير صحف الأقلية إلى أن لقاء البيت الأبيض الملغى هو خسارة كبيرة للمسيحيين، وللموارنة بالتحديد، وأن لقاء الراعي بأوباما كان ضرورياً جداً لإطلالة الكنيسة المارونية من على أعلى منبر دولي، على هذا المستوى، ولاسيما أن أوباما سمّى الموارنة بالاسم في أول خطاب له في جامعة القاهرة في الرابع من حزيران عام 2009 حين قال إن "التعددية الدينية هي ثروة يجب الحفاظ عليها، ويجب أن يشمل ذلك الموارنة في لبنان، أو الأقباط في مصر".
وهنا لا بد من قراءة هادئة وموضوعية لهذا التحسر الأقلوي لإلغاء اللقاء بين البطريرك الماروني والرئيس الأميركي باراك أوباما، وتفنيد الأسباب الموجبة للتحسر ومدى صوابيتها وأحقيتها، ونورد في هذا الشان الملاحظات التالية:
أولاً: تبلغ الراعي أن الرئيس الأميركي لن يستقبله نظراً لتصريحاته بعد زيارته لفرنسا، تماماً كما فعل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون مع البطريرك صفير عندما رفض استقباله عندما كان صفير من المطالبين بحرية وسيادة واستقلال لبنان، ويعتبر أن حزب الله في لبنان "مقاومة مشروعة".
ولم يتغير موقف البيت الأبيض من البطريرك الماروني ويقدم بوش على استقبال البطريرك صفير مرتين خلال سنتين، إلا عندما تقاطعت مصالح الأميركيين مع مصالح صفير، الذي انحاز ضد المقاومة، ودعم قوى 14 آذار في مطالبتها بنزع سلاح المقاومة، فكان قبول الرئيس الأميركي بلقاء صفير تحقيقاً لمصلحة أميركية بحت، وتكريماً له على الدعم الذي قدمه صفير للأميركيين حين غطى بعباءته العدوان على لبنان ووافق على خطة اجتثاث فئة من اللبنانيين. لذا، أين تكمن مصلحة لبنان ومصلحة مسيحييه بالتحديد، حين يتنازل الراعي عن ثوابته وحق المسيحيين في وجودهم وعيشهم بكرامة وأمان في هذا الشرق، طمعاً في صورة تلتقط للقاء بين الرجلين في البيت الأبيض؟
ثانياً: لا يمكن للراعي أن يتنازل عن مصلحة مسيحيي المشرق بهدف لقاء رئيس أميركي، يعرف الجميع أن استماعه لوجهة نظر مغايرة للسياسة الأميركية المرسومة للشرق، لن يؤدي إلى تغيير في وجهات نظر الأميركيين حيال قضايا الشرق الأوسط، ولا حيال ما يحصل للمسيحيين فيه. فالمشاريع الغربية التي ترسم للشرق، والتي تتحدث عن تغيير كامل للخريطة فيه، لا تلحظ مكاناً للمسيحيين ولا تكترث لمصيرهم، بل هي مستعدة للتضحية بهم لتحقيق مصالح أخرى.
واللافت، أن السائل في الغرب عن مصير مسيحيي المشرق في ظل المخططات التي ترسم لإعادة هيكلته، يلقى جواباً مفجعاً مفاده: "أن هجرة المسيحيين من الشرق، تعد بمنزلة "أضرار جانبية"، يجب تحمل تكلفتها من أجل فرض الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، والقضاء على الديكتاتوريات"... إذاً، مادام مصير المسيحيين وإلغاء وجودهم ودورهم هي أضراراً جانبية، فماذا يمكن للراعي والصورة الملتقَطة مع أوباما الداعم لإسرائيل بكل ما أوتي هو ودولته وإدارته من قوة، أن تقدم للمسيحيين ووجودهم؟ قد تحقق هذه الصورة، المأسوف على ضياعها، للمسيحيين تماماً كما قدمت الصور الملتقطة للرئيس الفلسطيني محمود عباس مع الرئيس الأميركي إلى الفلسطينيين في صراعهم للتحرير وإعلان دولتهم والانضمام إلى المم المتحدة.
ثالثاً: إن الإشارة إلى خطاب أوباما في القاهرة، والتذكير بحديثه عن الأقباط والمورانة في ذلك الخطاب، يبدو في غير محله، فماذا تبقى من خطاب أوباما في القاهرة؟ وماذا الذي فعله أوباما للأقباط، في ظل ما يُحكى عن السير بدستور مصري يحد من الحريات الدينية في البلاد؟ وأين اهتم أوباما بمصير الأقباط خلال التحضير لمرحلة ما بعد مبارك، من خلال الاتصالات التي أجرتها كلينتون مع قيادات الإخوان المسلمين، تمهيداً لدعم وصولهم إلى الحكم في مصر؟ وما الذي فعله أوباما للعالم الإسلامي الذي خاطبه في القاهرة مستعيناً بآيات قرآنية لإثارة عواطفه وكسب ودّه؟ وماذا فعل للفلسطينيين الذين تحدث عن حقهم في إنشاء دولة في نفس الخطاب؟
رابعاً: إن الحديث الذي يثار عن "حلف الأقليات" يهدف إليه الراعي هو افتراء تام، وذر الرماد في العيون، ولإثارة مشاعر المسلمين ضد المسيحيين، والسير بالمخطط الجهنمي لطردهم من المشرق بغية توطين الفلسطيينيين مكانهم والسير بمشروع "الدولة اليهودية" العنصرية والأحادية العرق.
إن ما يطرحه الأقليون اليوم، وما نلمسه في خطابات زعمائهم المسيحيين والمسلمين على حد سواء، هو دعوة صريحة وواضحة للسير بمشروع "حلف الأصوليات" التي لا ترى إمكانية للتعايش مع الآخر، ولا تحترم حقه في الاختلاف، وتتقاطع أهدافها مع مشروع  إقامة الدويلات الطائفية الصغرى المتناحرة، والذي لن يبقي أديان وطوائف في هذا الشرق، بل قبائل تتصارع على ملكية الله، وادعاء امتلاك الحقيقة وتكفير الآخر أياً يكن هذا الآخر.
بحسب تجربة المسيحيين السابقة مع الأميركيين، لن يخسر الراعي كثيراً بخسارة الصورة التذكارية مع الرئيس أوباما، فلطالما مُني المسيحيون المتكلون على الأميركيين بخيبات كبرى، بسبب تخلي الأميركيين عنهم عند أول مفترق طرق، وبيعهم بسوق المصالح الدولية التي لا تعرف دين ولا أخلاقاً ولا عواطف، بل يمكن أن يكون لإلغاء اللقاء فائدة ترجى، هي أن يقتنع المسيحيون وباقي العرب، أن آذان الأميركيين والأوربيون لا تستمع إلا للصوت الإسرائيلي، ولا يهمها غير مصلحته، فيكفون عن التمني والمطالبة بالمساعدة، فما مساعدة الغرب المرجوة إلا لاقتناص مكاسب لإسرائيل وأمنها وتفوقها، أو سعياً لهيمنة على العالم واكتساب عقود نفطية وإعمارية هنا وهناك.

2011/09/22

اعلان الدولة ..توقيت دولي قاتل

يقصد الفلسطينيون اليوم الأمم المتحدة لإعلان دولتهم في ظل وضع عالمي متغير، وبعد حراك عربي مستمر منذ بداية السنة الحالية بدّل الكثير من معالم المنطقة سياسياً.

وللمرة الثالثة منذ عام 1948، تنوي القيادة السياسية الفلسطينية إعلان الدولة الفلسطينية، فبعد إعلان حكومة عموم فلسطين بغزة في أيلول عام 1948 والتي أعلنت الدولة على كامل أرض فلسطين التاريخية، ثم "إعلان الاستقلال" في تشرين الثاني 1988، وذلك بعد إعلان ياسر عرفات الدولة الفلسطينية من الجزائر، وذلك بحسب قرار التقسيم رقم 181 والذي يعطي الفلسطينيين نسبة 44 بالمئة من أرض فلسطين، تتجه السلطة الفلسطينية اليوم إلى الأمم المتحدة لإعلان الدولة الفلسطينية على حدود لا تتعدى 22 بالمئة من أرض فلسطين، وبدون إشارة إلى قضية اللاجئين والقدس وغيرها من الثوابت الفلسطينية وحقوقهم المشروعة.

ويشير داعمو هذه الخطوة، إلى أن الفلسطينيين اليوم يصرون على التوجه للأمم المتحدة مستفيدين من تغيرات الربيع العربي، وبعدما بات للشعوب في المنطقة العربية رأي وشأن في تقرير ما يحصل على ساحتها. لكن، سواء أكان هذا الكلام صحيحاً أم لا، فإننا نعتقد أن الفلسطينيين يتوجهون اليوم إلى الأمم المتحدة في جو دولي سياسي غير ملائم لإعلان دولتهم، أو لكسب معركة دولية ضد إسرائيل، وذلك لأسباب عدة أهمها:

أولاً: يتجه كثير من الرؤساء الغربيين اليوم، ومنهم أوباما وساركوزي، للتحضير لانتخابات داخلية يريدون كسبها بأي ثمن.
بالتأكيد، وفي ظل ما يُعرف عن تأثير اللوبي اليهودي في الانتخابات الأميركية، فإن الرئيس الأميركي باراك أوباما، لن يجازف بدعم الفلسطينيين في حقهم في إعلان دولتهم، مقابل خسارة الدعم اليهودي الداخلي في الانتخابات المقبلة، وله في المعركتين القاسيتين الخاسرتين اللتين خاضهما مع نتنياهو في السنة المنصرمة عبرة ودرس مستفاد منه على صعيد تقرير سياسات الداخل الأميركي.
أما ساركوزي، الحالم بعودة مظفرة إلى الإليزيه في ظل تدنٍ هائل في شعبيته كما تشير استطلاعات الرأي، فإنه لن يجازف بخسارة الدعم الصهيوني، بالرغم من أنه سيحمي نفسه من غضب العرب، من خلال التستر بالموقف الأوروبي الموحد تجاه القضية الفلسطينية، والظهور بمظهر الداعم للشعوب العربية في حقها في الديمقراطية والحرية.

ثانياً: إن الربيع العربي اليوم الذي يقال إنه قد يكون عاملاً مؤثراً في كسب معركة فلسطينية دولية في الأمم المتحدة ضد إسرائيل، يبدو في هذا الوقت بالذات سيفاً ذا حدّين:
من جهة أولى، قد يكون صحيحاً ما يثيره البعض حول عدم رغبة الأميركيين في استثارة الشعوب العربية وإغضابها والظهور بمظهر المعادي لها بعدما أسقطت حكامها المتعاملين مع الغرب، وهي تحاول الآن أنْ تفرض أجندتها الداخلية والخارجية على الصراع الدائر في المنطقة، والتي تبدو بشكل واضح أنها ستكون في غير مصلحة إسرائيل.
لكن من جهة أخرى، ولنفس الأسباب أيضاً وبسبب ما تعانيه إسرائيل اليوم من فقدان حليف استراتيجي هام في مصر، وفقدان الحليف التونسي وبسبب تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، فإن الغرب والأميركيين بالتحديد، لا يمكن لهم أن يتهاونوا في السماح للفلسطينيين بإحراج أكبر لإسرائيل ومحاولة عزلها على الساحة الدولية، في ظل ما تعانيه من فقدان للشرعية على الساحة الدولية منذ حربي لبنان وغزة وحتى الآن.
ويخشى الإسرائيليون بحسب مسؤوليهم والباحثين الاستراتيجيين لديهم، أن يتحول تهديد نزع الشرعية إلى "تهديد وجودي" لدولتهم، فقد كشفت حربَا لبنان وغزة والتقارير الدولية التي صدرت إثرهما وبعدها الأحداث التي حصلت في العالم العربي، وجود فجوة مهمة بين مكانة إسرائيل لدى الزعامات السياسية في أنحاء العالم وبين مكانتها العامة لدى الشعوب. ويخشى الإسرائيليون من أن يؤدي انهيار شرعية إسرائيل في الخارج والداخل إلى انهيارها على غرار ما حدث لجنوب أفريقيا البيضاء والاتحاد السوفيتي، اللذين انهارا نتيجة ضغوط سياسية واجتماعية داخلية، وضغوط اقتصادية وسياسية دولية، وتراجع حلفائها التقليديين من الأوروبيين عن تأييدها والتعاطف معها.
في ظل كل هذا التخوف الإسرائيلي من فقدان الشرعية، وفي ظل وضع عربي إقليمي متحرك ضاغط ضد إسرائيل، لن يسمح قادة الغرب المتعاطفون معها بالسماح للفلسطينيين بمزيد من الإحراج للإسرائيليين على الساحة الدولية، من هنا يبدو التوقيت في غير صالح الفلسطينيين أيضاً.

ثالثاً: تأتي الخطوة الفلسطينية بالتوجه إلى الأمم المتحدة بعد تجربة ليبية أظهرت، خلال التحضير لها، فشل الآليات الأوروبية الاتحادية في التعامل مع المستجدات بصوت أوروبي واحد.
لقد كادت ليبيا أن تتحول إلى العاصفة المثالية للإطاحة بأوروبا الاتحادية، والتي أظهرت أن آليات لشبونة ما زالت غير ناضجة، وأن الأحلام بتحوّل أوروبا إلى قوة سياسية وعسكرية ضخمة قد تبخرت، وتبين أن الأوروبيين لا يصلحون كـ"اتحاد" إلا للأعمال الإنسانية.
من هذه الخلاصة المتشائمة التي خرج منها الأوروبيون بعد الخلافات التي سادت بينهم خلال التعامل مع التجربة الليبية، سيحاول الأوروبيون اليوم، الظهور بمظهر الصوت الواحد في التعامل مع قضية إعلان الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة. من هنا، فإن صقور الدول الأوروبية وأهمهم ميركل وساركوزي لن يسمحوا للحمائم بفرض وجهة نظرهم، في الصوت الأوروبي الموحّد الذي سيصدر تجاه القضية الفلسطينية اليوم، وهذا ليس في صالح الفلسطينيين أيضاً في معركتهم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

إذاً، لا تبدو الأجواء الدولية ملائمة اليوم لانتزاع مكسب فلسطيني - ولو لفظي - في الأمم المتحدة، وقد تكون السلطة الفلسطينية في محاولتها الهروب من الواقع الذي وضعت نفسها فيه، قد أدخلت نفسها في معركة خاسرة لم تعد العدة لها بشكل كامل، خصوصاً أن الإعلان في نيويورك حتى لو تمّ، فإنه لا يُنشئ دولة واقعية فعلية "ذات سيادة" على الأرض. كما أن الإعلان كما تريده السلطة الفلسطينية بدون مشروع متكامل يحفظ حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، ويحفظ القدس عاصمة لأهلها، سيؤسس لتآكل إضافي للقضية الفلسطينية التي قد تغدو نوعاً من "الندبيات" العربية التي يتم تذكرها بين الحين والآخر في ذكرى النكبة والنكسة فيما لو استمرت السلطة بالتنازل عن الحقوق وقضمها شيئاً فشيئاً لإرضاء إسرائيل.
ليلى نقولا الرحباني
أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/09/15

البطريرك الراعي والتخلي عن دور "الطائفة – السفارة"

يعيش العالم العربي اليوم في خضم تحولات كبرى تشبه التحولات التي واكبت سقوط الإمبراطورية العثمانية، وإعادة تشكيل المنطقة على أسس جديدة أفرزت دولاً جديدة بحدود مستحدثة، يقول البعض عنها إنها من صنع الاستعمار، ويدافع البعض الآخر عنها باعتبارها مقدّسة، في حين يرى بعض المسيحيين أنها كانت غلطة تاريخية.

لا شك أنه في كل مرحلة تحولات تاريخية، فإن الأقليات الدينية التي تقطن منطقة ما، لا بد أن تتأثر بهذه التحولات سلباً أو إيجاباً، وقد تُستخدم أحياناً كذريعة لتدخل الدول الكبرى، أو حجاباً ساتراً لممارسات تآمرية لأهداف بعيدة كل البعد عن الله والدين المتذرّع بهما.

شهد القرن التاسع عشر، ولغاية نهاية القرن العشرين، توجهاً مسيحياً مشرقياً نحو الغرب، الذي استغلّ خوف الأقليات الطائفية المتعددة، وحاجتها للحماية خلال عهد السلطنة العثمانية، ليوكل إليها وظائف تتمركز بمعظمها على مفهوم «الطائفة - السفارة»، التي تقوم على تبادل المنافع: "الدولة تؤمن الحماية للطائفة، وزعماء الطوائف يؤمنون مصالح الدولة الحامية في الشرق"، وهكذا، ومن ضمن إطار تبادل المنافع، حمت فرنسا الموارنة، وروسيا حمت الأرثوذكس، والإمبراطورية النمساوية حمت الروم الكاثوليك، والإنكليز حموا الدروز، أما السلطنة العثمانية فحمت السُّنة.

وبنتيجة هذه المعادلة، كان توجّه لدى جزء من المسيحيين المشرقيين نحو الغرب، الذي وعد بضمان الحماية للوجود والدور، مقابل توجّه مناقض لفئة أخرى من المسيحيين، والتي اختارت القومية العربية منهجاً وهدفاً يُعمل له في مواجهة نزعة التتريك وهيمنة الأتراك على التراث العربي وطمسه.

من تلك الحماية وذلك الدور، استمر جزء من المسيحيين كتقليد سنوي بأداء مراسم الشكر والتعلق بفرنسا، التي أتاحت لهم فرصة حكم لبنان في وقت من الأوقات بعد إعلان دولة لبنان الكبير، إلى أن كان اتفاق الطائف بتراجع مسيحي وتقدّم إسلامي، عمل السوريون - حُكام لبنان لمرحلة ما بعد الطائف - على تجميله، فحافظوا على التوازن، إلى أن كان التطبيق المتفلت من أي سقف لهذا الاتفاق؛ باستئثار الحريرية بالحكم عام 2005، وما تلاها من سنوات لغاية بداية العام الحالي، فتمّ تهميش المسيحيين، عبر محاصرة من يمثلهم في السلطة، وتجاوز منصبه وسلب صلاحياته، أي رئيس الجمهورية إميل لحود، الذي حاولوا عزله ولم ينجحوا، وعبر رفض الإشراك في السلطة لممثليهم الحقيقيين المنتخبين (التيار الوطني الحر)، ولم يتدخل الغرب في هذه المراحل إلا ليقنع المسيحيين بالقبول بالتراجع، أو يعرض عليهم الهجرة، وهنا لعبت البطريركية المارونية دوراً أساسياً في التيئيس والدفع نحو القنوط، الذي أدى، بالإضافة إلى الظروف المادية والاقتصادية الصعبة، إلى هجرة مسيحية لبنانية في تلك الأعوام، وقد فاقت الهجرة التي سببتها الحرب اللبنانية بسنواتها الخمس عشر.

هنا كان لا بد للمسيحيين أن يعوا من منطلق الوعي والواقعية أن مصيرهم ووجودهم ودورهم يحكمه انتماؤهم للشرق، وأن الغرب العامل لمصالحه أبداً لم يعد يجد فيهم حاجة، وأن وظيفة «الطائفة - السفارة» انتهت، وبالتالي لا بد لهم من أن يعيشوا الانتماء المشرقي عيشاً أكيداً، لا أن يكونوا مجرد وجود اغترابي يحكمه انتماء إلى غرب يستعملهم ولا يعمل لهم.

من هنا يمكن فهم الخيارات الانفتاحية التي تبناها التيار الوطني الحر، فقد أدرك العماد ميشال عون مبكراً منذ عودته من المنفى، أن لا خيار للمسيحيين اللبنانيين إلا الانتصار لوطنهم وأرضهم، ولا نهوض للبنان إلا بمسيحييه ومسلميه، فرفض فكرة عزل فئة تمهيداً لاجتثاثها، وعمل على تثبيت المسيحيين في السلطة والوطن، وحفظ دورهم وكرامتهم، مبتعداً عن أساليب "النعي والنق" التي تؤدي إلى تيئيس المواطنين لتهجيرهم، كما رفض السير بالمشاريع الأميركية المعدّة لتفتيت المنطقة دويلات طائفية متناحرة، لن تبقي لهذا الشرق سوى الدمار والدموع. وكذلك وعى البطريرك الراعي لهذه المسلمات، فقام بضخ أمل ورجاء جديديْن بين المسيحيين في فاصل زمني قصير، ممتد ما بين انتخابه بطريركاً وعودته من فرنسا، وما بينهما من لقاءات وجولات.

منذ اعتلائه سدة البطريركية، والراعي يحاول تغيير النظرة التي يجب أن ننظر لها إلى رجال الدين؛ أراد أن يقول إن العظات الكنسية التي تبدأ بكلام الإنجيل ودعوات السيد المسيح للمحبة، يمكن لها أن تنتهي بدعوات مشابهة للمحبة والشراكة، وترسيخ الوئام بين اللبنانيين، وهو أمر لم نعتده منذ زمن طويل؛ حين كانت العظة تبدأ بكلام الإنجيل وتنتهي ببيان أشبه ببيان "الأمانة العامة لقوى 14 آذار"، التي عادة ما تتضمن تحريضاً وإثارة للنعرات وبثاً للأحقاد.

لكل هذه الأسباب، تبدو الهجمة التي يشنها مسيحيو الأقلية على البطريرك الراعي غير مبررة، فهو لم ينحَز لفريق ضد آخر كما فعل رجال دين آخرون، ولم نشهد أن الراعي اصطف سياسياً إلى جانب فئة، بل أراد ان يكون راعياً لكل الرعية، لذا لم يقم موقفه خلال تشكيل الحكومة الحالية على أن "بقرة المعارضة وقعت" وعلى الموالاة سلخ جلدها لا مساعدتها على النهوض وإشراكها في الحكم؛ كما كان يحصل سابقاً.

إذا لم يقبل البطريرك السير بمشاريع التقسيم والانعزال والتقوقع التي يدفع إليها البعض الذي ما زال يحلم بإقامة كونتون طائفي مغلق، فذلك لا يعني رجمه وإطلاق أبشع النعوت عليه، كما يفعل مسيحيو الأقلية النيابية.. ببساطة، يريد البطريرك أن يثبت أن "الراعي الصالح" الذي يقود خرافه، يمكنه أن يتكلم بالسياسة، وفي الوقت نفسه ينأى بنفسه عن ممتهني السياسة، الذين يدركون أن لا أخلاق في السياسة ولا براءة، ولا "أحبوا أعداءكم"، ولا "باركوا لاعنيكم"، بل مكيافيلية صرف تقوم على "الغاية تبرر الوسيلة، ويُحكم على الوسيلة المستخدمة بنتائجها السياسية وليس على أخلاقيتها أو عدمها"..

من هنا، يجد الراعي نفسه ملزماً بوضع الخط الفاصل بين كلام في السياسة من منطلق واجب وطني وأخلاقي وديني، وبين امتهان السياسة للوصول إلى هدف سياسي ضيق أو تحقيق فوز انتخابي هنا، أو عزل فئة سياسية هناك.

2011/09/08

بين العتمة الخارجية ونور الداخل.. أين خيار اللبنانيين؟

لم يؤدِّ تشكيل الحكومة اللبنانية إلى انفراج كبير من ناحية الشلل السياسي والإنمائي والاقتصادي الذي دخلته البلاد منذ فترة طويلة، ما يجعل اللبنانيين في قلق على مصيرهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم، في حين تبدو الأطراف السياسية من الأكثرية والأقلية مشغولة بالكيدية السياسية، في مؤشر يدل على استهتارهم بمصير الناس ورزقهم وحياتهم.
فمن ناحية الأقلية، بات كل حدث لبناني أو إقليمي مدعاة لتحريض مذهبي وطائفي لا ينتهي، وفي أحيان أخرى يخترع هؤلاء أحداثاً ومواقف لشحن النفوس والمواقف وتشنيج الأجواء طائفياً، غير آبهين بما يمكن أن يجر اللبنانيين من ويلات.
أما بالنسبة إلى أطراف الأكثرية التي تشكّل الحكومة العتيدة، فما ظهر من ملف الكهرباء يؤشر إلى مؤشر خطير يفيد بأن الإصلاح والخطط الهيكلية لإعادة بناء الدولة على أسس حديثة ستعترضه عقبات كثيرة، تشلّ البلد كلما لاح في الأفق بوادر خطة تقطع أذرع المافيات المتحكمة بالدولة، ولعل المؤشر الأبرز الذي عكس قلقاً كبيراً لدى اللبنانيين من المستقبل والتطورات التي تحصل في المنطقة، كان الاستطلاع الذي أجرته "الدولية للمعلومات"، والذي انقسم فيه اللبنانيون حول إيمانهم بأن هذه الحكومة ستنفذ تعهداتها، ما يوحي أن الأداء الحكومي لغاية الآن، لم يكن على القدر المأمول منه شعبياً. وكان اللافت للنظر، النسب العالية المؤيدة التي حظي بها "دعم بقاء حزب الله"، والتي بلغت 61%، مقابل نسبة غالبية كبرى أيضاً تعتبر أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مسيّسة، و67 بالمئة تؤيد خطة الوزير جبران باسيل للكهرباء.
وفي قراءة واقعية للأرقام الواردة في الاستطلاع، وفي تقييم لخيارات الشعب اللبناني التي يجب أن تنعكس عادة، وكما في أي نظام ديمقراطي برلماني، على سياسات الحكومة اللبنانية وقرارات مجلس النواب، فمن الواضح أن خيارات الشعب اللبناني لا تتناسب مع الخيارات المعلنة من بعض الأطراف السياسية، ومع الوعود المعلنة من رئيس الحكومة اللبنانية.
ففي وعد جديد للأوروبيين، وعد الرئيس نجيب ميقاتي الأوروبيين بتأمين تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وذلك بالرغم من أن الفضائح التي تتوالى ظهوراً يوماً بعد يوم، وكل التسييس الذي تعتمده المحكمة، بما يشير صراحة لا مواربة إلى أنها أداة لفتنة في لبنان، ولمؤامرة خارجية على المقاومة التي حررت الأرض ودافعت عن الوطن وانتصرت على إسرائيل وحمت لبنان بواسطة قوة الردع التي امتلكتها منذ عام 2006 ولغاية الآن.
واللافت في هذا التصريح - الوعد، أنه يأتي متناقض مع القرار الذي اتخذته لجنة المال والموازنة النيابية في وقت سابق؛ بعد نقاشات مستفيضة بين أعضائها، كما يأتي متناقضاً مع خيارات الشعب اللبناني في كيفية صرف أمواله والضرائب التي يدفعها.
من منطلق السيادة الشعبية، التي تجعل من الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، يمارسها عبر ممثليه في البرلمان، من المفترض أن يختار الشعب اللبناني الأولويات التي يريد لممثليه أن يحددوا صرف الأموال العامة على أساسها.
وبما أن الاستفتاء أمر غير معتمد في لبنان، يمكن الاستنارة باستطلاعات الرأي التي تحصل لمعرفة توجهات الشعب اللبناني وخياراته. من هنا، ومن خلال أرقام الاستطلاع المذكور، يتضح أن غالبية الشعب اللبناني، لا تريد أن تذهب أموالها إلى تمويل لمحكمة دولية مسيّسة، يشوبها الفساد وسوء صرف الأموال، والتي على سبيل المثال لا الحصر تقوم بدفع مبلغ 15 ألف دولار شهرياً لناطقة لا تعرف اللغة العربية، بل يظهر الاستطلاع أن الشعب اللبناني يريد أن ينعم بأبسط حقوقه الأساسية وهي الحق في الكهرباء، وهو حق بات يحصل عليه معظم شعوب العالم الثالث بدون منّة من أحد.
بلا شك، العدالة والحقيقة مطلبان أساسيان لكل اللبنانيين ويستحقان التمويل، لكن ما يظهر من هذه المحكمة أنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة والعدالة، هذا في المقام الأول، وفي المقام الثاني، لا يمكن المفاضلة في صرف الأموال بين الحاجات الأساسية للعيش وبين هذه المحكمة، فلا يستطيع تقرير بلمار أن يدفئ عائلة فقيرة في جبال لبنان في فصل الشتاء، ولا تقدر مقالات فرانسين الصحفية التي تتحول إلى بيانات باسم المحكمة، أن تطعم فماً لبنانياً جائعاً، ولا أن تدخل طفلاً إلى المدرسة، ولا أن تضيء عتمة ليالي لبنان القاسية.
المال غير متوفر للكهرباء، ولا للمياه ولا لضمان الشيخوخة، ولا للاستشفاء ولا للصحة، لكنه متوفر على ما يبدو لتمويل المؤامرات الخارجية على لبنان، وهنا لا يتحمل السياسيون وحدهم المسؤولية في ذلك، بل إن الشعب مطالب كل يوم بالتعبير عن رأيه بشتى الوسائل، والمطالبة بأبسط حقوقه الطبيعية والإنسانية.
بات من الواضح أن الإصلاح لن يتحقق في لبنان، ولا الوعود المستقبلية بالازدهار ستثمر، ما دامت العقلية الميليشيوية تسيطر على معظم الطبقة السياسية اللبنانية، ولا يمكن لحكم ديمقراطي أن يستتب وأمراء الطوائف والميليشيات ما زالوا يتحكمون بمفاصل الدولة الأساسية. إن الآمال التي أتت بها هذه الحكومة بدأت تظهر وكأنها سراب، بدليل الأكثرية الضئيلة بين نسبتي المتفائلين والمتشائمين من أدائها، وهو فارق بسيط لن يلبث أن يختفي إذا استمرت المراوحة والكيدية السياسية على ما هي عليه. كيف يمكن للبناني أن يتفاءل، والملفات تؤجَّل، والأسعار ترتفع، والأقساط المدرسية شبح يطل برأسه ويقلق العائلات اللبنانية، والمسؤولون مشغولون بكسب صوت من هنا، وإرضاء جهة خارجية من هناك، والفقير يدفع الثمن الأكبر؟!
ليلى نقولا الرحباني
أستاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية