تتحدث الأوساط الإعلامية عن اتصال الدوائر الفرنسية بالدوائر الأميركية، وبالتحديد اتصل الرئيس الفرنسي ساركوزي بالرئيس باراك أوباما ونصحه بعدم استقبال البطريرك الماروني مار بشارة الراعي، بسبب مواقفه المعلنة، وتشير صحف الأقلية إلى أن لقاء البيت الأبيض الملغى هو خسارة كبيرة للمسيحيين، وللموارنة بالتحديد، وأن لقاء الراعي بأوباما كان ضرورياً جداً لإطلالة الكنيسة المارونية من على أعلى منبر دولي، على هذا المستوى، ولاسيما أن أوباما سمّى الموارنة بالاسم في أول خطاب له في جامعة القاهرة في الرابع من حزيران عام 2009 حين قال إن "التعددية الدينية هي ثروة يجب الحفاظ عليها، ويجب أن يشمل ذلك الموارنة في لبنان، أو الأقباط في مصر".
وهنا لا بد من قراءة هادئة وموضوعية لهذا التحسر الأقلوي لإلغاء اللقاء بين البطريرك الماروني والرئيس الأميركي باراك أوباما، وتفنيد الأسباب الموجبة للتحسر ومدى صوابيتها وأحقيتها، ونورد في هذا الشان الملاحظات التالية:
أولاً: تبلغ الراعي أن الرئيس الأميركي لن يستقبله نظراً لتصريحاته بعد زيارته لفرنسا، تماماً كما فعل الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون مع البطريرك صفير عندما رفض استقباله عندما كان صفير من المطالبين بحرية وسيادة واستقلال لبنان، ويعتبر أن حزب الله في لبنان "مقاومة مشروعة".
ولم يتغير موقف البيت الأبيض من البطريرك الماروني ويقدم بوش على استقبال البطريرك صفير مرتين خلال سنتين، إلا عندما تقاطعت مصالح الأميركيين مع مصالح صفير، الذي انحاز ضد المقاومة، ودعم قوى 14 آذار في مطالبتها بنزع سلاح المقاومة، فكان قبول الرئيس الأميركي بلقاء صفير تحقيقاً لمصلحة أميركية بحت، وتكريماً له على الدعم الذي قدمه صفير للأميركيين حين غطى بعباءته العدوان على لبنان ووافق على خطة اجتثاث فئة من اللبنانيين. لذا، أين تكمن مصلحة لبنان ومصلحة مسيحييه بالتحديد، حين يتنازل الراعي عن ثوابته وحق المسيحيين في وجودهم وعيشهم بكرامة وأمان في هذا الشرق، طمعاً في صورة تلتقط للقاء بين الرجلين في البيت الأبيض؟
ثانياً: لا يمكن للراعي أن يتنازل عن مصلحة مسيحيي المشرق بهدف لقاء رئيس أميركي، يعرف الجميع أن استماعه لوجهة نظر مغايرة للسياسة الأميركية المرسومة للشرق، لن يؤدي إلى تغيير في وجهات نظر الأميركيين حيال قضايا الشرق الأوسط، ولا حيال ما يحصل للمسيحيين فيه. فالمشاريع الغربية التي ترسم للشرق، والتي تتحدث عن تغيير كامل للخريطة فيه، لا تلحظ مكاناً للمسيحيين ولا تكترث لمصيرهم، بل هي مستعدة للتضحية بهم لتحقيق مصالح أخرى.
واللافت، أن السائل في الغرب عن مصير مسيحيي المشرق في ظل المخططات التي ترسم لإعادة هيكلته، يلقى جواباً مفجعاً مفاده: "أن هجرة المسيحيين من الشرق، تعد بمنزلة "أضرار جانبية"، يجب تحمل تكلفتها من أجل فرض الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، والقضاء على الديكتاتوريات"... إذاً، مادام مصير المسيحيين وإلغاء وجودهم ودورهم هي أضراراً جانبية، فماذا يمكن للراعي والصورة الملتقَطة مع أوباما الداعم لإسرائيل بكل ما أوتي هو ودولته وإدارته من قوة، أن تقدم للمسيحيين ووجودهم؟ قد تحقق هذه الصورة، المأسوف على ضياعها، للمسيحيين تماماً كما قدمت الصور الملتقطة للرئيس الفلسطيني محمود عباس مع الرئيس الأميركي إلى الفلسطينيين في صراعهم للتحرير وإعلان دولتهم والانضمام إلى المم المتحدة.
ثالثاً: إن الإشارة إلى خطاب أوباما في القاهرة، والتذكير بحديثه عن الأقباط والمورانة في ذلك الخطاب، يبدو في غير محله، فماذا تبقى من خطاب أوباما في القاهرة؟ وماذا الذي فعله أوباما للأقباط، في ظل ما يُحكى عن السير بدستور مصري يحد من الحريات الدينية في البلاد؟ وأين اهتم أوباما بمصير الأقباط خلال التحضير لمرحلة ما بعد مبارك، من خلال الاتصالات التي أجرتها كلينتون مع قيادات الإخوان المسلمين، تمهيداً لدعم وصولهم إلى الحكم في مصر؟ وما الذي فعله أوباما للعالم الإسلامي الذي خاطبه في القاهرة مستعيناً بآيات قرآنية لإثارة عواطفه وكسب ودّه؟ وماذا فعل للفلسطينيين الذين تحدث عن حقهم في إنشاء دولة في نفس الخطاب؟
رابعاً: إن الحديث الذي يثار عن "حلف الأقليات" يهدف إليه الراعي هو افتراء تام، وذر الرماد في العيون، ولإثارة مشاعر المسلمين ضد المسيحيين، والسير بالمخطط الجهنمي لطردهم من المشرق بغية توطين الفلسطيينيين مكانهم والسير بمشروع "الدولة اليهودية" العنصرية والأحادية العرق.
إن ما يطرحه الأقليون اليوم، وما نلمسه في خطابات زعمائهم المسيحيين والمسلمين على حد سواء، هو دعوة صريحة وواضحة للسير بمشروع "حلف الأصوليات" التي لا ترى إمكانية للتعايش مع الآخر، ولا تحترم حقه في الاختلاف، وتتقاطع أهدافها مع مشروع إقامة الدويلات الطائفية الصغرى المتناحرة، والذي لن يبقي أديان وطوائف في هذا الشرق، بل قبائل تتصارع على ملكية الله، وادعاء امتلاك الحقيقة وتكفير الآخر أياً يكن هذا الآخر.
بحسب تجربة المسيحيين السابقة مع الأميركيين، لن يخسر الراعي كثيراً بخسارة الصورة التذكارية مع الرئيس أوباما، فلطالما مُني المسيحيون المتكلون على الأميركيين بخيبات كبرى، بسبب تخلي الأميركيين عنهم عند أول مفترق طرق، وبيعهم بسوق المصالح الدولية التي لا تعرف دين ولا أخلاقاً ولا عواطف، بل يمكن أن يكون لإلغاء اللقاء فائدة ترجى، هي أن يقتنع المسيحيون وباقي العرب، أن آذان الأميركيين والأوربيون لا تستمع إلا للصوت الإسرائيلي، ولا يهمها غير مصلحته، فيكفون عن التمني والمطالبة بالمساعدة، فما مساعدة الغرب المرجوة إلا لاقتناص مكاسب لإسرائيل وأمنها وتفوقها، أو سعياً لهيمنة على العالم واكتساب عقود نفطية وإعمارية هنا وهناك.