2020/07/27

لبنان وفرصة الاصلاح الأخيرة: هل تبادر الحكومة؟

 

في زيارة هي الأولى التي يجريها مسؤول أجنبي رفيع منذ أشهر إلى لبنان، أتى وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان ووجّه رسائل متعددة الاتجاهات، ولعل أهمها هي التي دأب على تكرارها بعد كل لقاء، ومفادها "فرنسا مستعدة للتحرك بشكل كامل وأن تحشد كافة شركائها لمساعدة لبنان لكن يجب تنفيذ إجراءات تصحيح جدية وذات مصداقية".

 

هذه الرسالة الجديّة، والحاجة اللبنانية للدعم الخارجي تفترض على اللبنانيين وعلى الحكومة اللبنانية بالتحديد، أخذ الرسالة على محمل الجدّ، والاستفادة من هذه الضغوط الخارجية لتحقيق ما يلي:

 

أولاً- استغلال الفرصة لتحقيق إصلاح جدّي وحقيقي، والمواجهة في السير بالمشاريع الاصلاحية مهما كان حجم الضغوط الداخلية ومهما كبر حجم الاعتراض الداخلي على الاصلاح الجدّي والحقيقي والذي بات من المعروف والواضح ان هناك قوى عديدة في الداخل لا تريده وتريد أن تتهرب منه، وهي نفسها كانت دائمًا قادرة في السابق على تعطيل أي مبادرات إصلاحية.

 

ثانيًا- يمكن للحكومة الاستفادة والسير بمشاريع خطة الكهرباء وبناء معامل تؤمّن الكهرباء للبنانيين وتمنع مافيات المازوت والمولدات وداعميهم من السياسيين من خنق اللبنانيين ومنع السير بخطة الكهرباء المعطّلة منذ عام 2010، خاصة وأن هناك اصرارًا خارجيًا على القيام بخطوات اصلاحية في موضوع الكهرباء الذي يستنزف الخزينة اللبنانية.

 

ثالثًا- يجب على الحكومة اللبنانية استغلال الوضع الطارئ والضغط الخارجي عليها للقيام بإصلاحات جدية، لتتخذ قرارات جريئة بخصوص الخطة الحكومية وتحديد الخسائر وكيفية تعويضها في مفاوضاتها مع المصارف.

 

إن قيام رأس الدولة العميقة (البنوك) بمحاولة السطو على أموال اللبنانيين مرة أخرى لا يجب أن يمر، ولا يجب أن تكون أملاك الدولة وعقاراتها بندًا مقبولاً في التفاوض بين الحكومة والمصارف بأي شكل من الأشكال.

 

لقد استفادت المصارف طويلاً من الهندسات المالية والأموال التي منحها إياها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، ومن الفوائد والعائدات المرتفعة جدًا لسندات الخزينة، وسطت على أموال المودعين وحجزتها لديها، والآن تحاول ان تسطو على عقارات الدولة اللبنانية والارباح الناتجة عنها، ويجري الحديث عن اتعويض خسائر البنوك عبر امتلاك الواجهة البحرية والمرفأ وعائداتهما.

 

ولعل المثال الأوضح لإنكشاف البنوك وحاكم المصرف المركزي هو التقارير المسربة عن شركات التدقيق العالمية التي تعمل في مصرف لبنان، والتي تُظهر أن سلامة ومنذ عام 2009 كان يقوم بألاعيب مالية تستفيد منها المصارف على حساب الدولة اللبنانية، وانه في العام 2017 قام بإقراض الاموال لبعض المؤسسات بفائدة 2 بالمئة ليعودوا ويقرضوها للمصرف المركزي بفوائد أعلى بكثر!.

 

بالمحصلة، هناك دعم وضغوط خارجية على الحكومة اللبنانية للقيام بالاصلاحات المطلوبة، انطلاقًا من مقولة لورديان نفسه "ساعدوا أنفسكم لنساعدكم"، أما التشاطر الذي تمارسه بعض القوى السياسية والبنوك على الحكومة اللبنانية لمنع الاصلاح ولتكبيد المواطن اللبناني ثمن الفساد والسرقة مرة تلو المرة فلا يجب أن يمر بأي شكل من الأشكال.

 

على الحكومة اللبنانية أن تستفيد من الضغوط الخارجية ومن حاجة لبنان الماسّة للدعم الخارجي، وأن تبادر وتهاجم بدل ان تبقى في موقع الدفاع ورد الفعل، فإما أن تبادر في هذه الفرصة السانحة، وإلا خسرت وخسر معها اللبنانيون معركة الاصلاح ومكافحة الفساد للأبد.

  

الاستفزاز الأميركي للطائرة الايرانية: مقاربة قانونية وسياسية

 

 

في خطوة تصعيدية غير متوقعة، اعترضت مقاتلة أميركية طائرة ركاب مدنية إيرانية متجهة الى بيروت، فوق منطقة التنف التي تسيطر عليها قوات التحالف الأميركي في الأراضي السورية. وقد أقرّ المتحدث باسم القيادة المركزية الأميركية أن : "طائرة أميركية من طراز إف-15، كانت في مهمة جوية روتينية بالقرب من قاعدة التنف في سوريا، قامت بتفقد بصري عادي لطائرة ركاب ماهان على مسافة آمنة تبلغ حوالي 1000 متر". وأنه "عندما تعرف قائد الإف-15 على الطائرة على أنها طائرة ركاب لماهان إير، ابتعد بأمان عن الطائرة"، مؤكدًا أن عملية "الاعتراض المهنية جرت وفق المعايير الدولية".

 

وقد تسبب الحادث بهلع لدى المسافرين في الطائرة حين اضطر قبطان الطائرة الى تغيير مسار الطائرة بطريقة فجائية ليتحاشى الاصطدام، وأصيب بعض الركاب بجراح مختلفة، وبرزت مطالبات مختلفة تطالب بتحويل القضية الى المحاكم الجنائية الدولية أو سواها.

 

وفي هذا الإطار، يبدو من المفيد مقاربة هذا الحادث الخطير من الناحية القانونية والسياسية، واستكشاف الامكانيات القانونية التي يمتلكها الأطراف المتضررون للمواجهة، وعدم تكراره في المستقبل.

 

- في الإطار القانوني:

 

يعود للمنظمة الدولية للطيران المدني "أيكاو"  التابعة للأمم المتحدة التحقيق في الحادث، وتبيان إن كان الأميركيون قد خرقوا "اتفاقية شيكاغو  1944" واتفاقية مونتريال 1971" فعلاً، وواتخاذ القرار في ما يترتب على ذلك.

 

بالنسبة لاتفاقية شيكاغو عام 1944، التي تمّ على أساسها تأسيس منظمة إيكاو، فهي تنص على أن لكل الدول الموقعة عليها السيادة الكاملة على مجالها الجوي، بحيث جاء في المادة السادسة؛ "لا يجوز لأي خط جوّي دولي منتظم أن يطير فوق إقليم دولة متعاقدة (…) إلا إذا كان يحمل إذنًا خاصًا أو ترخيصًا من قبل تلك الدولة".

 

وهذا يعني أن الطائرات الأميركية بالأساس قد خرقت السيادة السورية، باعتبار ان المجال الجوي فوق التنف هو أرض سورية خاضعة للسيادة السورية، ولم تكن الطائرات الأميركية تنفّذ مهماتها في إطار "محاربة الارهاب" التي تعمل قوات التحالف ضمن إطاره القانوني.

 

أما اتفاقية مونتريال والتي انبثقت عن المؤتمر الدولي لقانون الجو في مونتريال في 23 أيلول / سبتمبر 1971، ودخلت حيز التنفيذ في 26 يناير 1973، فهي اتفاقية متعددة الأطراف تهدف الى قمع الأعمال غير المشروعة الموجهة ضد سلامة الطيران المدني والتي تنص على حظر ومعاقبة السلوك الذي يهدد سلامة الطيران المدني.

 

وعليه، يمكن لكل من سوريا وإيران التقدم بشكاوى أمام المنظمة الدولية للطيران المدني، للفصل في القضية، والحكم في ما إذا كانت الطائرة الأميركية قد انتهكت اتفاقية مونتريال وعرّضت سلامة الطيران المدني للخطر بالفعل.

 

أما بالنسبة للمطالبات بتحويل القضية الى المحاكم الجنائية كما يطالب البعض، فيجب أن نذكر أن الموضوع ليس من اختصاص المحاكم الجنائية الدولية لا من قريب ولا من بعيد، والتي تختص بجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، والإبادة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وليس من مهمتها النظر في الاستفزازات التي تحصل للطيران المدني.

 

- أما في الإطار السياسي:

 

وبغض النظر عن التبريرات الأميركية للحادث واعتباره أمرًا روتينيًا لا يخرق المعايير الدولية، إلا أن الاستفزاز بحدّ ذاته يطرح علامات استفهام كبرى حول المدى الذي يمكن للأميركيين أن يذهبوا به في ممارسة سياسة حافة الهاوية، وتوتير الأجواء في الشرق الأوسط الذي يبدو على شفا الانفجار منذ مقتل اللواء سليماني من قبل الأميركيين والرد الإيراني على قاعدة عين الاسد الأميركية في العراق، هذا بالاضافة الى التوتر غير المسبوق الناتج عن سياسة الضغوط الاقتصادية القصوى التي يعتمدها الرئيس الأميركي على دول محور المقاومة، والتي تهدد شعوب المنطقة بالجوع، وتهدد الاستقرار الاقليمي برمّته.

 

2020/07/20

عقوبات ترامب: مؤشر ضعف لا قوة

 

 

لا ينفكّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن استعمال الوسيلة الأحب الى قلبه في السياسة الخارجية وهي تطبيق العقوبات على المنافسين والأخصام السياسيين والتجاريين، أو التلويح والتهديد بها، لجني مكاسب سياسية أو تجارية أو كليهما.

 

وفي جولة سريعة على الدول والشركات والمؤسسات التي شملتها عقوبات ترامب، نجد الصين وروسيا وايران وكوريا الشمالية وسوريا وتركيا وفنزويلا الخ... كما نجد المحكمة الجنائية الدولية، والشركة العملاقة الصينية هواوي، والشركات العالمية العاملة في مشروعي جرّ الغاز الروسي الى أوروبا؛ "السيل التركي" و "السيل الشمالي 2" الخ...

 

وتنقسم عقوبات ترامب على العالم في إطارين:

 

الأول- الإطار السياسي والذي يهدف الى ما يسميه ترامب والإدارة الأميركية "تغيير سلوك" المستهدفين بالعقوبات، أي فعليًا إخضاع الخصم وجرّه الى طاولة المفاوضات مكسورًا مفلسًا، ليسهل على ترامب إخضاعه وأخذ مكاسب سياسية منه.

 

الثاني- الإطار التجاري، والذي يهدف من خلاله ترامب ممارسة سياسة "تنافس غير مشروع" في التجارة العالمية. على سبيل المثال، يريد ترامب من إلمانيا أن تشتري الغاز من الشركات الأميركية، وبدل من أن تقوم تلك الشركات بتقديم أسعار تنافسية مقابل أسعار الغاز الروسي الذي يستورده الألمان، يقوم ترامب وإدارته بتهديد الشركات الإلمانية والاوروبية بالعقوبات لمنع استجرار الغاز الروسي، وتأخير إفتتاح أنبوب غاز "السيل الشمالي 2"، طمعًا بتوقيع إتفاقيات غاز مع إلمانيا تحت وطأة التهديد بالعقوبات.

 

ونفس الأمر بالنسبة لشركات هواوي الصينية، واتفاقيات التجارة مع الصين والتي استخدم ترامب سيف العقوبات والضرائب جمركية على البضائع الصينية، ليفرض على الصين توقيع عقد مع الولايات المتحدة بشراء ما قيمته 200 مليار دولار سنويًا من البضائع، وهو ما سيكون على حساب البضائع الأوروبية التي تستوردها الصين سنويًا.

 

لكن سلوك إدارة ترامب في سياستها تلك، لا يبدو دليل قوة، فالقوي يفاوض في السياسية ويقدم تكنولوجيا بديلة وحوافز إقتصادية لتحقيق مكاسب وأفضلية تجارية. وبالمحصلة، لا بد من أن ترتد تلك السياسة سلبًا على النفوذ الأميركي في العالم، وعلى نظرة العالم للولايات المتحدة الأميركية:

 

- فعليًا، ولغاية كتابة هذه السطور، لم نجد أن ترامب استطاع أن يُخضع الدول التي فرض عليها العقوبات، فلم يتغيّر سلوكها الدولي، ولم يستطع جرّها الى طاولة المفاوضات، أو يدفعها الى التنازل عن رغبتها في مقاومة النفوذ الأميركي. يمكن القول أنه قد نجح موضعيًا في بعض الأماكن، كدفع تركيا - على سبيل المثال لا الحصر- الى إطلاق سراح القس برونسون نتيجة للضغوط الأميركية والتهديد بالعقوبات والتي أدّت الى انهيار دراماتيكي في سعر صرف الليرة التركية، ولكن بالمحصلة العامة لم يستطع ترامب تغيير السلوك التركي كليًا، ولم يستطع منع تركيا من التعاون مع روسيا وشراء منظومة "أس 400".

 

- وفي الإطار التجاري، إن العقوبات التي يفرضها ترامب بدأت تدفع العالم الى التفكير بالاعتماد على النفس، سواء في الإطار التكنولوجي(الصين) أو في إطار الدعم الحكومي (روسيا مثلاً) للشركات التي تتعرض للعقوبات الأميركية.

 

- في الإطار الإنساني، باتت العقوبات الأميركية على الدول غير الخاضعة لمشيئة دونالد ترامب، تؤثر على السكان المدنيين، وتحوّلت الى عقوبات جماعية، بالرغم من إدعاء إدارة ترامب أنها عقوبات "ذكية وهادفة" وأنها لا تطال شرائح المجتمع في البلدان المستهدفة، وهو ما أضرّ بالقوة الناعمة الأميركية وقدرة الأميركيين على تسويق نموذجهم للحكم في العالم.

 

- في الإطار القانوني، تنتهك العقوبات التي يفرضها دونالد ترامب لتحقيق أهداف تجارية وإقتصادية قواعد التجارة العالمية واتفاقيات منظمة التجارة العالمية. كما تنتهك العقوبات الاقتصادية المفروضة على الدول قانون حقوق الإنسان؛ والذي ينصّ على الحق في الحياة والصحة والعيش الكريم والكرامة والتحرر من الجوع، وبالتالي ينبغي على أي عقوبات ألا تُنزل مستوى معيشة شريحة كبيرة من السكان إلى ما دون مستوى الكفاف أو تحرمهم من الحقوق الإنسانية الأساسية في الحياة والبقاء، كما يحصل في كل من فنزويلا وسوريا.

 

وعليه، يبدو أن الضرر الذي توقعه العقوبات الاقتصادية الأميركية على الدول والكيانات المستهدفة ليس بدون ثمن، وسيكون الضرر الذي تلحقه إدارة ترامب بالنفوذ الأميركي في العالم فادحًا، سيحتاج الى وقت طويل وجهد كبير لإعادة ترميمه.

التدقيق الجنائي... معركة لا بد من ربحها وإلا!


يومًا بعد يوم، يجد اللبنانيون أنفسهم عالقين في أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة، بدون أي آفاق ملموسة للحل أو لتغيير الوضع القائم. وفي خضّم تلك الأزمة،  يتناتش السياسيون المسؤولية وإلقاء التهم على بعضهم البعض بدون أي اجراءات ملموسة أو تصوّر لحلّ الأزمة التي يتحمل السياسيون أنفسهم الجزء الأكبر من مسؤوليتها. وتبدو الحكومة "بطيئة" ماشية كالسلحفاة في وقت تحتاج الأمور الى سرعة وديناميكية وقرارات جريئة، تبدو الحكومة بتركيبتها الحالية أعجز من أن تقوم بها.

وفي خضّم هذه المصاعب، يطرح على بساط البحث على طاولة مجلس الوزراء أمر التدقيق الجنائي المالي، الذي بات مطلبًا حيويًا ينطلق منه الاصلاح الحقيقي والجدّي وبدونه لا يبدو أن هناك إمكانية فعلية للتقدم الى الامام في مجال بناء الدولة، والحفاظ على المال العام.

لا شكّ ان هذا التدقيق هو المفتاح لبدء إصلاح جدّي وحقيقي، يبدأ بالاعتراف بأن هناك مسؤولين متورطين في نهب المال العام وسرقته، وأن أي محاولة لفتح صفحة جديدة بدونها، والتخلي عن تحميل المسؤوليات الجنائية لمرتكبيها، يعني تحميل المواطنين مرة جديدة وزر ما ارتكتبته الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ 30 عامًا وتعاملت مع الدولة كأنها "بقرة حلوب".

لقد اعتادت السلطة السياسية اللبنانية على انتهاك القانون والافلات من العقاب بشكل مستمر، فها هم يتفاوضون لإقرار قانون عفو عام عن الجرائم التي ارتكبت من عمالة واتجار بالمخدرات وارهاب وقتل الجيش اللبناني وغيرها،  وذلك بعدما تمّ منح معظم أركان السلطة الحالية عفوًا شاملاً عام 1991 عن كل القتل والمجازر التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية، والتي مورس فيها التعذيب والإخفاء القسري والخطف والقتل على الهوية.

ويبدو أن منح العفو العام صار عادة متبعة في لبنان ومشجعًا للسياسيين وأزلامهم لمخالفة القانون، إذ صدر قانون عفو شامل عام 1958، ومنح العفو عن كل الجرائم المرتكبة خلال "ثورة ربيع 1958" لغاية 15تشرين الأول 1958. وبعد المشاكل والجرائم التي حصلت على أثر حرب حزيران 1967، صدر القانون رقم 8/69 بتاريخ 17/2/1969 الذي منح عفوًا عامًا عن الجرائم المرتكبة قبل 1/1/1968. أضف الى ذلك، قانون العفو الذي أقرّه مجلس النواب عام 2005، والذي منح العفو عن قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، وعن ارهابيي الضنية الذين قتلوا ونكّلوا بالمواطنين والجيش اللبناني.

وتبقى الخشية الفعلية من أن يطالب السياسيون بقانون عفو عن الجرائم المالية المرتكبة والتي أدّت الى إفلاس الخزينة العامة، كما يُخشى أن يعمد بعض المتضررين الى محاولة ابتزاز الحكومة عبر التهديد بخلط الأوراق السياسية برمّتها وإسقاط الحكومة أو القيام بما يمسّ بالسلم الأهلي، ودفع الأمور الى مكان لا يعود بعدها هناك قدرة على المطالبة بالتحقيق المالي.

وهنا، تبدو الخشية مضاعفة من أن يجد اللبنانيون أنفسهم امام معضلة كبرى مردها قدرة الدولة العميقة على المسّ بالاستقرار كلما تعرضت مصالحها للخطر أو كلما اقترب القانون من "جماعاتها". وهنا نستذكر - على سبيل المثال لا الحصر- قول الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله (في مقابلة اعلامية في أيار 2020) ان موضوع الفساد كبير ويحتاج الى وقت طويل جدًا، وأنه قد يسبب حربًا أهلية، وأن الطبقة السياسية بلا قلب!... بالرغم من أنه كان قد وعد بإطلاق "مقاومة الفساد" في آذار عام 2019، واعتبر ان "الفساد بات أشبه بالخطر الوجودي على لبنان واللبنانيين" معتبرًا أن هذه المعركة هي "الشق الآخر من معركة المقاومة" (راجع خطاب السيد نصرالله في 14 آذار 2019).

في المحصلة، لا بدّ للبنان من المواجهة وكما انتصر اللبنانيون في معركة كبرى هي معركة تحرير الأرض واستطاعوا هزيمة أعتى جيش في الشرق الأوسط وطرده مذلولاً، يمكنهم الانتصار في معركة الفساد الداخلي، فقط إذا توفرت الجرأة والإرادة بخوض معركة "بناء الدولة" بالفعل لا بالقول.

2020/07/14

هل يطبّق لبنان مبدأ الحياد؟


ما أن طرح الأميركيون عقوبات جديدة على سوريا بمعرض "قانون قيصر"، حتى انكب اللبنانيون على طرح أفكار ورؤى مختلفة منها؛ ما يحاول أن يجنّب لبنان هذه العقوبات عبر مطالبة الأميركيين بمنح لبنان استثناءات محددة، ومنهم من عرض المواجهة والتشبيك أكثر من السوريين لتحدّي الأميركيين، ومنهم من طرح فكرة "حياد لبنان" والنأي بنفسه عن كل ما يحصل.

ويبدو أن الدولة اللبنانية اختارت الخيار الأول، انطلاقًا من الإدراك بصعوبة وقدرة على اتخاذ الخيار الثاني (المواجهة والتشبيك) والثالث (الحياد) الذي يطل برأسه كل فترة، وتتناوب على طرحه بعض القوى السياسية بين الفينة والأخرى. 

وبغض النظر عن تعريف "الحياد" وهل يمكن أن يطبّق هذا التعريف على بلد كلبنان الذي هو نفسه جزء من الصراع الدائر في المنطقة بطريقة مباشرة وغير مباشرة، من المفيد أن نعالج مسألة "قدرة" لبنان على تبني خيار كهذا فعليًا.

يعيش لبنان في نظام اقليمي معقّد ومركّب، وينطبق عليه التعريف الذي قدمه "باري بوزان" وزميله "أولي وايفر" لمفهوم لمركّب الأمن الأقليمي وهو "مجموعة من الدول تترابط اهتماماتها الأمنية الأولية مع بعضها البعض بشكل وثيق، بحيث أن الأمن القومي لأي واحدة لا يمكن تحقيقه بشكل معقول بعيدًا عن الأخرى".

ما يمكن أن نفهمه من هذا التعريف، أن النظم الاقليمية المركّبة - كالنظام الإقليمي الذي يتواجد فيه لبنان- يتحلى بديناميكيات أمنية تخترق الحدود الوطنية للدول، بحيث يصبح الإستقرار الأمني للدولة محددًا بما يحدث في المنطقة الاقليمية المحيطة بها، وليس معزولاً عنها، ولا يمكن عزله عنها بطبيعة الحال.

وفي هذا النظام الاقليمي المركّب لا يلعب حجم الدولة وجغرافيتها وقدراتها البشرية والمادية الدور الأبرز، بل إن كل دولة تستطيع أن تؤثر وتتأثر بالعلاقات الأمنية الإقليمية، وجزء منها هو ما يُعرف بدول "الخاصرة الرخوة" في النظام الإقليمي والتي تشكّل تهديدًا أمنيًا للدول المحيطة بها بغض النظر عن حجمها وقدراتها (لطالما قال السوريون أن لبنان يشكّل خاصرة رخوة لأمن سوريا واستقرارها).

وحين نقيس العوامل التي تحدد المركّب الأمني الاقليمي الذي نعيش فيه، والذي يمكّننا من قياس مدى تأثير وتأثّر لبنان بالوضع الاقليمي العام وقدرته على الحياد والنأي بالنفس عنه، فيمكن أن نحدد المؤشرات التالية والتي تلعب دورًا في جميع الأنظمة الإقليمية المشابهة:

1- التجاور الجغرافي: وهو الذي يجعل من أي أزمة أو عدم استقرار في دولة ما، أزمة زاحفة الى الدولة المتاخمة، وهو ما لاحظناه في تمدد الخلايا الارهابية من سوريا الى لبنان خلال الأزمة السورية، وهو ما يجعل لبنان محط أطماع التوسع الاسرائيلي الدائم.

2- العلاقة التاريخية، والتي قد تكون علاقة صداقة أو عداوة تاريخية، والأكيد أن العلاقات الأمنية الاقليمية تتأثر بالتاريخ بالضبط كتأثرها بالجغرافيا، وهو ما يجعل لبنان متأثرًا بالصراع السوري انطلاقًا من علاقة الصداقة والتنسيق الأمني التاريخي بين البلدين، وبالعكس يبدو لبنان معنيًا بالصراع العربي الاسرائيلي بتأثير العداوة التاريخية المتأتية عن الأطماع الاسرائيلية في لبنان.

3- الاعتماد المتبادل على صعد عدة ومنها الصعيد الأمني، ويزداد عادة الاعتماد المتبادل بعوامل الجغرافيا والتاريخ التي ذكرناها، بحيث يكون هناك أما تأثير أمني إيجابي (علاقات تعاون استخباري الخ) كما هي الحال مع سوريا، أو تأثير أمني سلبي (حروب ومشاكل، وتهديدات عسكرية) كما هي الحال بالنسبة لإسرائيل.

4- الإختراق الخارجي والذي يشكّل تهديدًا دائمًا لأطراف النظام الاقليمي، خاصة ذلك الذي تقوم أطراف النظام باستدعائه لفرض موازين قوى لصالحها في النظام، وهو الذي نشهده من خلال التدخلات الأميركية والروسية وسواها.

5- التباين في القوة بين الدول بحيث يمكن لدولة ما أن تشكّل تهديدًا للدول الأخرى، ما يدفعهم أما الى الاستعانة بالخارج أو محاولة امتلاك القوة لتقليص الفجوة الأمنية لديهم.

إذًا من خلال كل ما سبق، لا يبدو لبنان قادرًا على تطبيق فكرة الحياد التي ينظّر لها بعض القوى السياسية، لأسباب موضوعية وأمنية ومنطقية، ناهيك أن هناك قسم من اللبنانيين معنيين بالعقوبات الأميركية مباشرة  وهو ما يجعل كل لبنان متأثرًا بها، وبالتالي كيف يمكن للبنان ان يعلن الحياد عن نفسه وقسم من شعبه؟


2020/07/13

هل يتخلى الاميركيون عن لبنان؟


كان اللقاء الذي عقدته السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيّا مع الرئيس حسان دياب إيجابيًا، سرت بعده أجواء تفاؤلية تراهن على تحسّن العلاقة بين الطرفين الأميركي واللبناني الممثل بحكومة حسان دياب، خاصة بعدما عبّر دياب عن هذه الإيجابية بالقول إن السفيرة شيّا "أبدت كل استعداد لمساعدة لبنان في مجالات مختلفة".

وكانت بعض التقارير الإعلامية قد نقلت عن مصادر الرئيس برّي أن لقاءه مع السفيرة شيّا كان جيدًا، وأنها ابلغته استعداد واشنطن لإستثناء لبنان من العقوبات المفروضة على سوريا مع بدء تطبيق "قانون قيصر"، وأنها تنتظر لائحة الاستثناءات التي تعدّها الحكومة في هذا الشأن.

واقعيًا، لقد بالغ بعض اللبنانيين من قوى 14 آذار وبعض أركان "ثورة 17 تشرين" في المراهنة على ما يمكن أن تصل إليه السياسة الأميركية في ممارسة "الضغوط القصوى" على لبنان، وبالغوا في العداء مع المكوّنات اللبنانية الأخرى، متوهمين أن الأميركيين سيأتون بالأساطيل الى السواحل اللبنانية لإخراج عناصر حزب الله خارج لبنان كما حصل عام 1982 خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، والذي أفضى الى إخراج ياسر عرفات والمقاتلين الفلسطييين (هذا السيناريو كتبه على وسائل التواصل الاجتماعي أحد صقور 14 آذار).

ما لم يفهمه بعض اللبنانيين، أن السياسة الدولية تتخد بناءً على حسابات عقلانية، تأخذ بعين الاعتبار حسابات الربح والخسارة، فيعمد صاحب القرار العقلاني الى احتساب الأرباح النسبية، وبالتالي يختار الخيارات الأكثر ربحًا والأقل كلفة، ومن الصعب أن تذهب خيارات الدول الكبرى نحو سياسيات ذات نتيجة صفرية، أي أما تربح كل شي أو تخسر كل شي.

لا يسير الأميركيون بسياسة صفرية في لبنان، فهم وانطلاقًا من واقعيتهم والبراغماتية التي يتحلون بها، يدركون أن عليهم أن يتعايشوا مع نفوذ واقعي إيراني في كل من العراق ولبنان، وبالتالي هم يمارسون سياسة الضغوط القصوى لتغيير سلوك إيران و/أو حلفائها، أو للحصول الى تنازلات تعيد موازين القوى الى ما قبل عام 2018 في كلا البلدين. وبالتالي، المعادلة تتجلى في أنهم غير مستعدين للتخلي عن لبنان، ومدركين عدم قدرتهم على احتكار النفوذ كليًا في لبنان.

لماذا لا يتخلى الأميركيون عن لبنان؟

بداية، لأن لبنان يتواجد جغرافيًا في منطقة تسمى "قوس الأزمات" وهي المنطقة الممتدة من إيران إلى لبنان. ونظرية قوس الأزمات تعني المنطقة الجغرافية المحكومة دائمًا بالأزمات بسبب وقوعها في منطقة تنازع نفوذ قوى كبرى، ولعل الأصعب حين تكون تلك المنطقة واقعة في منطقة تجاذب نفوذ بين قوى بحرية كبرى وقوى برية كبرى. وتختلف منطقة قوس الأزمات عن المناطق الاستراتيجية الأخرى، بأن الدول الصغيرة في هذا القوس لها أهميتها، فانتقال دولة - مهما كان حجمها وأهميتها- من محور نفوذ إلى محور آخر، يستطيع أن يعدّل في موازين القوى القائمة، لذا تكون كل الدول في هذا القوس محورية في الصراع ولا تعتبر هامشية مهما صغرت جغرافيتها.

وهكذا، إن وجود لبنان في منطقة قوس الأزمات يجعله ذا أهمية مضاعفة بالرغم من صغر حجمه. زد على ذلك، أن المرحلة هي مرحلة صراع كبير في المنطقة يعتمد سياسة الضغوط الأقصى وتستخدم فيه كل أدوات القتال من عسكرية واقتصادية وتكنولوجية واستخباراتية...  وعليه، ليس من السهولة بمكان أن تتخلى أي دولة من الدول التي تشكّل طرفي قوس الأزمات عن نفوذها في لبنان، وهو ما ندفع ثمنه غاليًا من ناحية، ويعطينا دفعًا إيجابيًا لأن سقوطنا مكلف للأطراف المتحاربة من ناحية أخرى.

2020/07/07

الاستراتيجية الأوروبية... بين ماكرون الهجومي وميركل المترددة


بالرغم من القدرة المعقولة للاتحاد الأوروبي على لملمة الجراح التي خلّفتها السياسات الوطنية والحمائية التي اعتمدتها كل دولة على حدى في مواجهة أزمة كورونا، تعيش أوروبا اليوم على وقع تحديات ومشاكل متعددة تتعلق بالانكماش الاقتصادي المتوقع، وإفلاس الشركات الأوروبية الكبرى، والخشية من العودة الى المطالبات اليمينية بسياسات أكثر "وطنية وقومية" مما يهدد الاتحاد الاوروبي بمزيد من التشرذم والانقسام.

وفي ظل هذا الوضع الصعب، تتحضر إلمانيا لرئاسة الاتحاد لمدة ستة أشهر تبدأ في 1 تموز / يوليو 2020، ولغاية نهاية العام الحالي، ما يفرض عليها التعامل مع كل التحديات الآنفة الذكر، بالاضافة الى التحديات التي تواجه الاتحاد في تصوّره المستقبلي لعالم ما بعد كورونا، ولعالم متغير دوليًا حيث تشهد العلاقات بين ضفتي الأطلسي تشنجًا حقيقيًا لم تعرفه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

في دراسة ملامح الاستراتيجية الاوروبية القادمة للتعامل مع التحديات العالمية، نجد اختلافًا بين النظرة الفرنسية الهجومية التي تريد أن ترسم إطارًا مستقلاً وفاعلاً لدور أوروبي عالمي بغض النظر عن موقف الولايات المتحدة الأميركية، بينما يطغى التردد والحذر على موقف الإلمان ورؤيتهم لهذا المستقبل.

يطمح ماكرون الى "حكم أوروبي ذاتي استراتيجي"، يتلخص بالاستقلالية الأوروبية الدفاعية أي القدرة على الدفاع عن القارة دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وتفعيل "السيادة على المستوى الأوروبي".

وحدد ماكرون رؤيته للأهداف الأوروبية في العشر سنوات القادمة، بالإهتمام بما تريده الطبقات الوسطى، والسير بسياسة دفاعية فعّالة، وموازنة مالية أكبر وأسواق رأسمالية متكاملة، والتخلي عن حق النقض الذي يبطئ عملية صنع القرار في الهياكل الأوروبية العليا.

وكان ماكرون في شباط/ فبراير الماضي قد دعا ميركل الى "حوار استراتيجي" لرسم سياسة مستقبلية للاتحاد تأخذ بعين الاعتبار المستجدات على الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكن الإلمان لم يرسلوا جوابًا على الطرح الفرنسي كما أعلن ماكرون نفسه.

والمفارقة، أن التردد والضعف الذي لمسه دونالد ترامب من المستشارة الإلمانية أنجيلا ميركل، جعله يندفع بسياسته الهجومية ضدها، فأعلن رغبته بسحب 9,500 جندي أميركي من القواعد الأميركية المنتشرة في في إلمانيا، الأمر الذي ردّت عليه ميركل بحذرٍ أيضًا، فأكدت أن وجود الجيش الأميركي مفيد لإلمانيا والقسم الأوروبي من الناتو بالتأكيد، ولكنه مهم ومفيد للولايات المتحدة الأميركية أيضًا.

وفي تحذير ناعم للأميركيين، قالت ميركل: " لقد نشأنا على فكرة أن الولايات المتحدة أرادت أن تكون قوة عالمية. إذا رغبت الولايات المتحدة الآن في الانسحاب من هذا الدور بإرادتها الحرة ، فسنضطر إلى التفكير مليًا في ذلك".

إذًا تتباين دول الاتحاد الأوروبي الكبرى (فرنسا - إلمانيا) في نظرتها الى مستقبل الاتحاد وعلاقته مع الولايات المتحدة الأميركية، بينما تتفق كل من نظرة ميركل وماكرون الى ضرورة الحوار مع الصين وروسيا، وأن قطع العلاقات مع الصينيين غير مطروحة في قاموس الأوروبيين كما أكدت ميركل نفسها.

وعليه، يبدو أن الاتحاد الأوروبي لن يحسم خياراته الاستراتيجية قبل إنكشاف نتيجة الانتخابات الأميركية، وذلك على الشكل التالي:

- إن عاد ترامب الى الرئاسة لمدة أربعة أعوام إضافية، ستنتصر وجهة النظر الفرنسية. وسيكون هناك دافع قوي لدى الاوروبيين لمزيد من الاستراتيجيات الاستقلالية، وستطغى وجهة نظر ماكرون على تردد ميركل التي ستجد نفسها مجبرة على الدفاع عن بلادها وعن الاتحاد. وهكذا ستؤدي سياسات ترامب الى مزيد من عزلة الأميركيين في العالم وانفكاك العديد من الحلفاء من حولهم.

- أما إذا نجح بايدن في الوصول الى الحكم، فسيكون رئيسًا أميركيًا تقليديًا يطبق نفس سياسات أوباما السابقة وأهمها التركيز على التعددية، والتشبيك مع الحلفاء، وعودة السياسة التقليدية في الشرق الأوسط، ومواجهة روسيا، واحتواء الصين بطرق أقل هجومية، وسترتاح ميركل من اتخاذ خيار استقلالي هجومي لا تريده.

2020/07/06

الانكفاء الخليجي في لبنان.... الأتراك بالمرصاد


يعيش اللبنانيون منذ تشرين الاول 2019، حركة اقليمية وسياسية دولية ناشطة، تعمل على استثمار الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم لتغيير موازين القوى السائدة أو لفرض موازين قوى جديدة لم تكن مكرّسة في السابق.

وفي هذا الإطار، يُلاحظ الدخول التركي النشط على الساحة اللبنانية، وقيام الأتراك بدعم واضح لمجموعات من الثوار في طرابلس والتي كان لها تأثير واضح على مسار التظاهرات والتجمعات في الشمال ككل. علمًا أن لتركيا نفوذ طبيعي في العديد من الساحات السنيّة في طرابلس وعكار والمنية والضنية وصيدا، سواءً عبر الجماعة الإسلامية التي تسير على نهج الاخوان المسلمين، أو عبر الأقلية التركمانية في لبنان، أو سواها من مساحات النفوذ المكتسب، والتي اكتسبته عبر الدعم المالي والتنموي والثقافي وسواها.

وكان وزير الداخلية اللبناني العميد محمد فهمي، قد تحدث في مقابلة مع صحيفة اللواء عن  "تدخل خارجي تركي في لبنان"، وكشف أن "هناك طائرة خاصة قدمت من تركيا تمّ توقيف أربعة أشخاص كانوا على متنها اتراك وسوريين ينقلون أربعة ملايين دولار، وقد دخلوا على أساس أن لديهم شركة صيرفة. ولا ندري هل هذه الأموال هي للتهريب والتلاعب بالدولار أم لتغذية تحركات عنفية معينة في الشارع. هذا إضافة الى التعليمات التي تصل من تركيا عبر "الواتساب" لبعض أطراف الحراك الشعبي".

إنطلاقًا من هذه الوقائع، يمكن القول أن السياسة الخليجية في لبنان والتي تتلخص بـ "الانكفاء" قد ترتدّ سلبًا على النفوذ الخليجي في لبنان، فالإنكفاء الخليجي السابق والاحجام عن مساعدة لبنان الآن سواء كان ناتجًا عن سوء تقدير أو بسبب الضغوط التي تفرضها إدارة الرئيس دونالد ترامب، هي سياسة ستدفع بأطراف كثيرة اقليمية ودولية الى استغلال الفراغ في الساحة السنيّة للتعويض عن غياب النفوذ الخليجي فيها.

في علم السياسة الدولية عادةً ما تقوم الدول بمدَ نفوذها عبر نفوذ طبيعي ونفوذ مكتسب، والنفوذ المكتسب هو بالعادة نفوذ متحرك متقلب لا يُركن الى استمراريته، بينما يبقى النفوذ الطبيعي هو الأكثر ولاءً وتماسكًا، ولا نجد أي دولة في تاريخ العلاقات الدولية قد ضحّت بنفوذها الطبيعي لصالح نفوذها المكتسب.

وقد يكون التقدير الخليجي بأن الفراغ المؤقت الذي يسمحون به لن يؤثر بشكل دراماتيكي، باعتبار أن تاريخهم متجذر في لبنان ولن يتأثر بسياسة "الانكفاء المرحلي"، ولكن التاريخ المعاصر يثبت عكس ذلك:

في منتصف القرن العشرين وصلت موجة المدّ الناصري الى لبنان، واعتُبر جمال عبد الناصر ومبادئ العروبة والناصرية الملهم للعديد من المجموعات اللبنانية ومنها الشارع السنّي. لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وبعد أن كرّس الطائف ازدواجية نفوذ سعودي - سوري في لبنان، ومع صعود نجم الرئيس الراحل رفيق الحريري، استطاع الحريري الأب أن يحوّل وجهة هذا الهوى العروبي الى وجهة أخرى هي الوجهة السعودية، وتمّ تكريس نفوذ سعودي في لبنان بدا (سابقًا) من الصعب إزاحته.

وانطلاقًا من كل ما سبق، يمكن القول أن النفوذ الخليجي في لبنان ليس بمأمن عن الاختراق والتراجع، وأن التاريخ أكبر معلم، فلا شيء دائم مع تبدّل الظروف وتعاقب الأجيال؛ فكما انكفأ النفوذ الناصري لصالح النفوذ السعودي، وإذا استمر الانكفاء الخليجي عن مساعدة لبنان في هذه الظروف المصيرية التي تعيشها مكوناته المجتمعية، يمكن أن تتحوّل بعض الساحات الى الاستعانة بالأتراك، وسيجد هؤلاء يد الأتراك مفتوحة، خاصة وأن تركيا تطمح الى لعب دور في الحل السياسي في سوريا، كما أن العلاقات بين إيران وتركيا هي في أفضل حالاتها كما كشف وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف مؤخرًا، ما قد يعني تشجيعًا لإعادة إحياء مشروع أوباما للربيع العربي أو ما سماه الايرانيون "الصحوة الاسلامية".

2020/07/01

ضمّ الضفة: كيف يطوّع الاوروبيون قوانينهم لصالح "اسرائيل"؟


تعيش منطقة الشرق الأوسط والعالم، على وقع الأنباء الواردة من فلسطين المحتلة والتي تتحدث عن قرار اسرائيلي بضم أجزاء من الضفة الغربية وغور الأردن تنفيذًا لما سمي اصطلاحًا "صفقة القرن"، والتي تتبناها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وكان يفترض أن تبدأ إسرائيل عملية ضم أجزاء من الضفة الغربية يوم الأربعاء في 1 تموز/يوليو، لكن الولايات المتحدة الأميركية، وبالرغم من أن سفيرها في "اسرائيل" كان أكثر المتحمسين لعملية الضمّ، لم تعطِ الموافقة النهائية على آليات تطبيق الخطة، وذلك خوفًا من أن تأتي العملية بردود فعل عكسية تؤثر سلبًا على الانتخابات الأميركية ( كان ترامب بالأساس مستعجلاً على الضمّ لإستثمار الموضوع في الانتخابات، لكن ردود الفعل الدولية والفلسطينية المعترضة والخوف من نتائج عكسية دفعته للتريث).

ويبقى اللافت هو الموقف الأوروبي من القضية، فبالرغم من قيام الأوروبيين بالتعبير عن رفضهم للضمّ واعتبار الموضوع مخالفًا للقانون الدولي إلا أن العديد من الدول الأوروبية، ومنهم إلمانيا التي تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي، رفضت فرض عقوبات على "اسرائيل"، وقال البرلمان الإلماني (البوندستاغ) أن  "المباحثات حول عقوبات آحادية أو التهديد بعقوبات لا يحمل أي أثر بنّاء على عملية السلام". مع العلم، أن الاتحاد الاوروبي كان في وقت سابق قد أقرّ حزمة من العقوبات الاقتصادية على روسيا  بسبب ضمّ القرم، والذي اعتُبر عملاً مخالفًا للقانون الدولي.

فرض كل من الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة وكندا ودول أخرى، عقوبات اقتصادية على روسيا عام 2014، بعد ضمّ القرم، وتمّ تشديد هذه العقوبات في فترات لاحقة بعدما حصلت انتخابات في القرم وسواها من الأعمال التي كرّست السيادة الروسية على شبه الجزيرة. تنوّعت هذه العقوبات بين نوع يقيّد الوصول إلى الأسواق والخدمات المالية الغربية بالنسبة لمؤسسات روسية حكومية في قطاعات الصرافة والطاقة والدفاع. ويفرض النوع الثاني حظرًا على الصادرات إلى روسيا والأجهزة المستخدمة للتنقيب عن النفط وإنتاجه. أما النوع الثالث فيفرض حظرًا على الصادرات الدفاعية والعسكرية إلى روسيا.

وهكذا، يكون الاتحاد الأوروبي قد طبّق ازدواجية المعايير، خاصة في ظل مبدأ واضح وضريح في القانون الدولي، وهو "عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة أو خلال الحرب"، وقد أكد مجلس الأمن على هذا المبدأ في العديد من القرارات الدولية التي تعاملت مع الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967.

إن عدم الشرعية القانونية لضم الضفة أو سواها من الأراضي الفلسطينية، ينطلق من مبادئ أساسية وواضحة في القانون الدولي، أهمها مبدأ "عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير" وهو أحد القواعد القطعية التي لا يُسمح فيها باي استثناء، وقد أكدته القواعد القانونية، وقرارات محكمة العدل الدولية وكذلك قرارات الأمم المتحدة المختلفة بالإضافة الى "حق الشعوب في تقرير مصيرها" وهو من المبادئ الآمرة في القانون الدولي.

وهكذا، وبما أن الاتحاد الاوروبي ينطلق من نفس المبادئ الدولية لتجريم ضم روسيا للقرم، كان من المفترض بالاتحاد اتخاذ سياسات متسقة تعتمد وحدة المعايير، كأن يقوم الأوروبيون - على الأقل- بفرض نفس الإجراءات العقابية التي تمّ فرضها في القرم ومنها منع المواطنين والشركات الاوروبية من الاستثمار او السياحة أو تملك عقارات الخ... في المناطق التي يتمّ ضمّها في فلسطين.

لا شكّ إن التعامل الأوروبي اليوم مع ضمّ الضفة يتمّ بطرق ملتوية، وما الحديث عن عدم القدرة على فرض عقوبات خوفًا من الاضرار بالسلام، يؤكد أن الأوروبيين إنما يحاولون تطويع القانون الاوروبي والقانون الدولي لصالح حسابات سياسية، مرتبطة بالصراع الدولي وهي أبعد ما تكون عن احترام ذلك القانون.