2023/06/26

توقف مسار "أستانا"...تقدم الحل السوري!

ليلى نقولا
بالرغم من تأكيد البيان المشترك الصادر عن الاجتماع في دورته العشرين أن الدول المشاركة في اللقاءات اتفقت على عقد جولة جديدة قبل نهاية عام 2023، كان الاعلان الكازاخي عن انتهاء مسار "أستانا" الذي بات يقود مسار المصالحة التركية السورية مفاجئاً للعديد من المراقبين، وذلك لأن المسار يكاد ينتج اتفاقاً تركياً – سورياً بات اليوم أقرب من أي وقت مضى.
وبالرغم من بعض الاحاديث الاعلامية المعارضة التي أعادت أسباب إنهاء المسار بصيغته الحالية الى خلافات بين كازاخستان وروسيا وعدم رغبة كازاخستان في تحدي الولايات المتحدة، وأن هذا مؤشر على تعثّر المسار وفشله وأنه لم يعد يقدم اي شيء.. لكن المؤشرات حول الملف السوري تجعل من تغيير المكان عاملاً في توسعه و- ربما – تقدمه بشكل أوسع، وذلك من خلال دمجه مع المسار العربي للحل، وذلك بناءً على رغبة موسكو وعدم اعتراض أميركي، للأسباب التالية:
- منذ عودة سوريا الى محيطها العربي، تهتم الدول الكبرى والاقليمية المعنية بالشأن السوري الى إعطاء مزيد من الزخم للانخراط العربي في مسار المصالحة السورية، وعدم إيجاد تضارب أو فتح مسارات متعددة للحل، بل حصرها بمسار واحد تنضوي تحته جميع المسارات التي تسعى لحلّ المشاكل المتشعبة والمعقدة.
- الاعتقاد السائد لدى الدول الفاعلة بأن المسار العربي بات الأقدر والأفعل على إيجاد صيغ حلٍ مقبولة في سوريا، خاصة بعد التقارب السعودي الايراني الذي باستطاعته أن يذلل الكثير من العقبات التي كانت مطروحة سابقاً.
- تسعى موسكو الى توحيد المسارات ودمجها وذلك لقطع الطريق على العراقيل الاوروبية لمسار المصالحة والتطبيع مع النظام السوري، فبعد إنهاء "مسار أستانا" ودمجه بالمسار العربي، يتم إنهاء "مسار جنيف" الذي ودمجه بالمسار العربي أيضاً.
- تريد روسيا إنهاء المسار الاوروبي (جنيف) ونقل التفاوض من سويسرا بسبب الموقف العدائي السويسري المتضامن مع عقوبات الاتحاد الاوروبي (بعد حرب أوكرانيا)، بالاضافة الى نزع ورقة من يد الاوروبيين الذين يحاولون استخدام مسار جنيف الدبلوماسي "المعطّل" وورقة عودة اللاجئين لوقف مسار الحل في سوريا، ولتحقيق مكاسب سياسية لم يستطيعوا الحصول عليها في الميدان.
- ضوء أخضر صريح من الأميركيين للدول العربية الخليجية بالاستمرار بمسار التقارب مع سوريا، وذلك في تصريح لوزير الخارجية الأميركي (حسم الجدل) قال فيه أن الأميركيين متفقين بالاهداف مع ما يقوم به العرب في سوريا، وأنهم (أي الأميركيين) لن يطبعوا مع النظام السوري ولكنهم يفسحون بالمجال للعرب لتطبيق تلك الاهداف من خلال المسار الدبلوماسي الذين يقومون به.
- رغبة أميركية غربية اسرائيلية في إعطاء زخم للمبادرة العربية أملاً في أن يحقق العرب توازناً مقبولاً في سوريا يحدّ من النفوذ الايراني، ويساعد السوريين على تطبيق مبادرة "خطوة مقابل خطوة".
- قدرة العرب على تمويل أي حلٍ يعيد اللاجئين الى ديارهم، وقدرتهم على إعطاء حوافز للحكومة السورية لانحراط أكبر في مسار المصالحات وذلك عبر دعم حكومي وتمويل مشاريع إعادة الاعمار.

 

2023/06/25

خطورة الشركات الأمنية الخاصة: "بلاك ووتر" و"فاغنر" نموذجاً

 

لمدة يوم كامل، عاش العالم يترقّب مصير "الانقلاب" الذي بدأته مجموعة "فاغنر" الروسية على قيادات الجيش الروسي، حيث طالب قائد المجموعة يفغيني بريغوجين بإقالة كل من وزير الدفاع وقائد الأركان الروسي، وإلا إنه سيزحف وقواته إلى موسكو لفعل ذلك بنفسه.

 

ولم يكد النهار يمرّ حتى أدّت وساطة بيلاروسية إلى إنهاء التوتر العسكري، والتوصل إلى تسوية تقضي برحيل بريغوجين وبعض قواته إلى بيلاروسيا، بينما ينضم من يريد من مرتزقته إلى القوات الروسية النظامية.

 

ولا شكّ أن المسألة تلك والتوتر الذي شهدته المدن الروسية، يطرح على بساط البحث مسألة الشركات الأمنية الخاصة، وأهمية دورها وخطورته في آنٍ واحد على الدول التي تستعين بها.

 

- ما هي الشركات الأمنية الخاصة؟

تنقسم الشركات الخاصة بحسب مهامها إلى قسمين: عسكرية، وأمنية. الأولى تقوم بمهام عسكرية شبيهة بمهام الجيوش النظامية، فتقوم بالمهام القتالية والاقتحام ودعم الجيوش وتحرير أو احتلال الأراضي إلخ، بينما تقوم الشركات الأمنية بحماية المنشآت والمقار وحقول النفط، وتستخدم في التدريب والاستخبارات والحروب السيبرانية وغيرها.

 

تهدف الدول التي تستعين بخبرات وخدمات شركات خاصة لتأدية مهام عسكرية إلى تخفيض النفقات والخسائر البشرية لجنودها، خاصة في ظل حروب العصابات التي تؤدي إلى سقوط كمّ من الضحايا-الجنود ما يثير انتقادات واعتراضات داخلية، ويؤثّر على قدرة الدولة على الاستمرار في حرب خارجية بعيدة عن حدودها.

 

هذا إضافة إلى تجنّب الدولة المساءلة القانونية لجنودها النظاميين الذين يكونون مجبرين على احترام القانون الدولي الإنساني وقواعد الحرب، فتوكل للشركات الخاصة ومرتزقتها القيام بالمهام القذرة.

 

المسار التاريخي:

يستخدم الجيش الأميركي خدمات الشركات الخاصة للدعم واللوجستيات منذ زمن بعيد، ويعيد بعض الباحثين هذا الاستخدام إلى زمن الحرب الأهلية الأميركية. وكانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحوّل، حين كان استخدام المقاولين الخاصين من قبل الجيش الأميركي ميزة بارزة في المناطق الأمامية، وأصبح الممثل الفني للشركة المصنّعة إضافة مرحّب بها في المطارات الأمامية والمستودعات ومرافق الإصلاح.

 

وشجّع التوجيه الصادر عام 1955 جميع الوكالات الفيدرالية على استخدام الشركات الخاصة، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع الأميركية إلى استخدام الشركات الخاصة في حرب فيتنام، ما شكّل سابقة في هذا الإطار. في فيتنام، وصل استخدام المتعاقدين العسكريين الخاصين من قبل الأميركيين إلى مستوى غير مسبوق، حيث قاموا بأداء مجموعة واسعة من المهام العسكرية والأمنية المختلفة، وتمّ ونشرهم بأعداد أكبر داخل مسرح العمليات.

 

عام 1985، أصدر الجيش الأميركي "برنامج التعزيز المدني اللوجستي"، ما جعل المقاولين – رسمياً-جزءاً من إجمالي القوة العسكرية في عام 1990. على مدار التسعينيات، وسّع الجيش الأميركي بشكل كبير إطار الاستعانة بالمقاولين، الذين تولواّ تقديم دعم واسع النطاق لكل من عمليات درع الصحراء في العراق (1990) وعاصفة الصحراء (1991).

 

مع بيل كلينتون، باتت الاستعانة بمصادر خارجية أولوية بالنسبة للقوات المسلحة الأميركية، وذلك بعد أن قدّر التوفير المحتمل في الكلفة من الاستعانة بمصادر خارجية بما يتراوح بين 30% و40%.

 

-   الشركات الأمنية في الشرق الأوسط:

بدأت ظاهرة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الشرق الأوسط بعد الاحتلال الأميركي للعراق، حيث استخدم الأميركيون الشركات الخاصة التي قامت بتجنيد مرتزقة للقتال ولحماية المقار العسكرية. وانتشرت تلك الشركات على نطاق واسع بالتزامن مع الحروب التي اندلعت بعد "الربيع العربي". وتعد شركتا "بلاك ووتر" الأميركية وشركة "فاغنر" الروسية، أشهر شركتين في هذا الإطار.

 

أ‌-"بلاك ووتر" الأميركية

اشتهرت "بلاك ووتر" وذاع صيتها بعدما تمّ تسريب وثائق وصور وفيديوهات توثّق تورّط مرتزقتها بارتكابات جسيمة لحقوق الإنسان في العراق، وتورّطها في قتل المدنيين العراقيين العزل.

 

تأسست الشركة عام 1997 على يد ضابط سابق في مشاة البحرية الأميركية (مارينز)، وحصلت على عقود أمنية واسعة النطاق من الحكومة الأميركية خاصة في العراق عام 2003.

 

قامت الشركة بتجنيد مرتزقة من مختلف أنحاء العالم، استخدمتهم للقتال لقاء مبالغ مالية طائلة. وتورّط مرتزقة الشركة بالعديد من المجازر في العراق، منها مجزرة "ساحة النسور" في بغداد حيث قتل مرتزقة "بلاك ووتر" 17 مدنياً عراقياً وجرحوا 20 آخرين. أُدين 4 مقاتلين منهم في الولايات المتحدة، لكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عفا عنهم لاحقاً في 22 كانون الأول/ديسمبر 2020، قبيل مغادرته البيت الأبيض.

 

وبسبب سجلها الحافل بالانتهاكات، تمّ تغيير اسمها مرتين xe services عام 2009، ثم academi عام 2011، واستمرّت في الحصول على عقود كبرى من المؤسسات الأميركية الحكومية، بالرغم من كل الضرر الذي تسبّب به المرتزقة لصورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

 

بـ ‌-"فاغنر" الروسية:

اشتهرت "فاغنر" على نطاق واسع بعد اشتراكها في الحرب في سوريا، وليبيا، وفي الحرب الأوكرانية وغيرها. وقد شاركت "فاغنر" في الحرب ضد "داعش"، وجنّدت الكثير من المرتزقة من جميع أنحاء العالم للقتال ولحراسة المنشآت في سوريا بعد عام 2014، وقتل العديد من هؤلاء في غارات أميركية قرب حقول النفط التي كانت تحتلها "داعش" في سوريا.

 

وفرضت واشنطن عقوبات على رئيس مجموعة "فاغنر" يفغيني بريغوجين، كما أدرجت الشركة نفسها على لائحة العقوبات الأميركية.

 

بالنتيجة، مع الانقلاب الذي حاولت "فاغنر" القيام به، ومع الفضائح التي قامت بها "بلاك ووتر" وأضرّت بسمعة الجيش الأميركي نفسه، بات السؤال المركزيّ هو مدى خطورة انتشار ظاهرة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على الدولة التي تستخدمها، خاصة إذا ما أعطيت أدوراً عسكرية كبرى من دون القدرة على محاسبتها ومساءلتها، كما حصل مع مرتزقة "فاغنر" و"بريغوجين" والتسوية التي سمحت لهم بالانتقال إلى بيلاروسيا من دون محاسبة، أو الإفلات من العقاب لمرتزقة "بلاك ووتر".

2023/06/19

سيناريو المحادثات الإيرانية – الأميركية: أقلّ من اتفاق وأبعد من تفاهم

رغم نفي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن المستمرّ إمكانية إبرام اتفاق جديد بين الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية في إيران بشأن الملف النووي، فإن العديد من الوسائل الإعلامية والتصريحات السياسية المختلفة يشير إلى أن المفاوضات بين الطرفين تسير على قدم وساق، وقد تصل إلى نتائج إيجابية قريباً، وخصوصاً بعدما أعلن المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن بلاده تواصل محادثاتها غير المباشرة مع الولايات المتحدة في العاصمة العُمانية مسقط.

ويناقش الطرفان -بحسب ما تمّ الكشف عنه- مواضيع تجميد إيران الحدّ الأقصى لتخصيب اليورانيوم وتعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مقابل تجميد بعض العقوبات الأميركية المفروضة عليها وتبادل السجناء بين الطرفين.

وكان المرشد الإيراني السيد علي خامنئي قد أعطى الحكومة الإيرانية الحالية الغطاء السياسي والضوء الأخضر للتفاوض مع الأميركيين والتوصل إلى اتفاق مع وضع سقف لحدود التنازلات الممكنة، عندما أعلن بوضوح: "قد ترغبون في إبرام بعض التوافقات، وهذا ممكن. اتفقوا، لكن من دون المساس بالبنى التحتية والتسبّب بتدمير ما أنجزه المسؤولون والمعنيون بالصناعة النووية على مدى السنوات الماضية".

ولا شكّ في أن الإنكار الأميركي والتهرب والتلاعب بالكلمات لتوصيف الاتفاق الذي تنوي الإدارة الحالية عقده مع إيران، والذي يتراوح بين "تفاهم" و"اتفاق مؤقت" و"اتفاق جزئي" وغير ذلك، يعود بشكل أساسي إلى عدم قدرة الإدارة الأميركية الحالية على مواجهة سلسلة من الاعتراضات الداخلية والغربية، وأبرزها:

أولاً: مواجهة اعتراض الكونغرس الأميركي، إذ ألزم المشرعون في الكونغرس في وقت سابق أي إدارة أميركية تريد أن تعقد اتفاقاً مع إيران بعرضه على الكونغرس الأميركي للموافقة عليه.

إضافة إلى ذلك، وفي توجّه يعكس انسحاب معارضة إيران على الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، أقرّ الكونغرس الأميركي في كانون الأول/ديسمبر 2022 مشروع قانون يلزم وزير الخارجية الأميركي بتشكيل مجموعة عمل تضم مسؤولين من الخارجية والاستخبارات ووزارة الطاقة، تتخصص في مراقبة برنامج إيران النووي، على أن تقدم تقريراً فورياً للكونغرس في فترة لا تتخطى 72 ساعة في حال حققت طهران تقدماً ملحوظاً على صعيد السلاح النووي.

 ثانياً: يجد الأميركيون والأوروبيون حرجاً في موضوع تحسين علاقاتهم مع إيران والانفتاح على تفاهم معها، وذلك بعد اتهامها بتقديم دعم عسكري لموسكو في الحرب الأوكرانية، وخصوصاً في إطار بيع الطائرات المسيّرة.

ثالثاً: استمرّ الإعلام الغربي في التحريض على الحكم في إيران واتهامه بقتل المعارضين والتضييق على النساء والناشطين الذين خرجوا في تظاهرات تنادي بمزيد من الحريات. وبناء عليه، إن أي انفتاح إيجابي على الحكم الإيراني وأي اتفاق يتوّج بمصافحات وابتسامات تنقل عبر وسائل الإعلام سوف يسببان حرجاً للدول الغربية ولإدارة بايدن؛ الطرف الرئيسي في تلك الاتفاقيات المزمع عقدها.

أما الإطار الإيجابي الّذي يحضّ الإدارة الأميركية على التوصل إلى اتفاق مع إيران، فيعود بشكل أساسي إلى حاجتها إلى إنجازات في الشرق الأوسط تسجل لبايدن في إطار تجديد ولايته، أهمها الإفراج عن سجناء أميركيين وإنجاز "وضع سقف للتخصيب النووي الإيراني يمنع الإيرانيين من امتلاك سلاح نووي"، وهو ما يريده الإسرائيليون والمشرعون في الكونغرس.

وهكذا، بما أنَّ الأميركيين تيقّنوا بفشل خطة ممارسة الضغوط على إيران لدفعها (من دون مقابل) إلى العودة إلى بنود اتفاق 2015 والعودة إلى سقف 3.75%، وهو سقف التخصيب السابق الذي تخطته إيران بعد خروج ترامب من الاتفاق بصورة أحادية، وبما أن خيار العودة التامة إلى الاتفاق السابق غير متاح للإدارة في الوقت الحالي للأسباب التي تمّ ذكرها، فإنّ التكهّن بمستقبل المفاوضات الإيرانية الأميركية يحيلنا إلى السيناريوهات التالية:

- بقاء الحال كما هي عليه الآن، أي إبقاء نافذة الحوار مفتوحة وعدم السماح بوصول الأمور إلى حائط مسدود. هذا السيناريو واقعي، لكنه لا يقدم أي شيء للإدارة الأميركية التي تريد إنجازاً ما في الشرق الأوسط. وبالرغم من ذلك، يبقى احتمالاً ممكناً.

- الإعلان عن التوصل إلى "تفاهم" على مبادئ عريضة بانتظار الانتخابات الأميركية عام 2024 وعودة الديمقراطيين مجدداً إلى البيت الأبيض، وهو أمر غير واقعي، لأنَّ إيران لن تقبل بتقديم تعهدات مستقبلية بسبب عدم ثقتها بالجانب الأميركي، وعدم وضوح مَن سيكون الرئيس التالي، وإمكانية فوز ترامب في انتخابات 2024.

- الاتفاق على "التجميد مقابل التجميد"، أي تجميد العقوبات في مقابل تجميد سقف التخصيب، الذي يسير على مبدأ تجميد التخصيب على سقف معين، في مقابل تجميد جزء من العقوبات على إيران، وخصوصاً في القضايا التي تعتبرها إيران حيوية لتجارتها الدولية (وخصوصاً الطاقة)، وهو السيناريو الأكثر قابلية للتطبيق واقعياً في حال توافرت الإرادة المشتركة للتوصل إلى اتفاق إيراني – أميركي في الفترة الحالية 

أوكرانيا... مبادرات سلام تنتظر الميدان

وصل وفد الوساطة الأفريقي المكون من رؤساء أربع دول وممثلين عن رؤساء أوغندا والكونغو ومصر وبقيادة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا الى روسيا بعد زيارة لأوكرانيا لم تكن مشجعة إذ أبلغهم زيلينسكي أنه يرفض أي حوار أو تسوية لا تتضمن انسحاب الروس الى حدود عام 1991.

وبالتزامن، يطرح على بساط البحث ثلاث خطط للسلام في أوكرانيا، وهي كما يلي:

1- المبادرة الأفريقية للسلام:

وتتضمن وقف إطلاق النار وإطلاق مفاوضات للسلام، والتشديد على سيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وتقديم ضمانات أمنية للجميع، والسماح بتصدير الحبوب، وتقديم الدعم الإنساني للضحايا، وتسوية مسألة تبادل الأسرى وعودة الأطفال، وأخيراً، ضمان إعادة الإعمار بعد الحرب. وذكرت بعض التقارير الاعلامية أن المبادرة تتضمن إلغاء بعض العقوبات على روسيا ووقف التعقّب بحق بوتين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، مقابل قيام روسيا بإزالة الأسلحة النووية التكتيكية من بيلاروسيا. وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد ردّ على مبادرة الوفد الأفريقي بعرض وثائق اتفاقية سلام سابقة كان قد تمّ توقيعها مع الجانب الأوكراني، بوساطة تركية في بداية الحرب عام 2022، وذكر بوتين أن موسكو التزمت بالاتفاق المبدئي وسحبت قواتها من محيط كييف، الأمر الذي استغله الأوكران للعودة عن ذلك الاتفاق الذي تمّ الاتفاق عليه مع موسكو ونقضه، علماً أنه كان يقضي بحياد أوكرانيا، والتعهد بعدم امتلاك سلاح نووي، وعدم الدخول في حلف الناتو مطلقاً.

2- المبادرة الصينية للسلام:

وتتضمن وقف اطلاق النار والبدء بمفاوضات سلام تقوم على احترام سيادة الدول، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، وحلّ الأزمة الانسانية، وحماية المدنيين والأسرى، والمحافظة على سلامة المنشآت النووية، وعدم التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو استخدامها، وتسهيل تصدير الحبوب، ووقف العقوبات الأحادية، وعدم تسييس النظام الاقتصادي العالمي، والبدء والمساهمة الدولية بإعادة الاعمار.

3- مبادرة الفاتيكان:

لم يتم الاعلان عن بنودها رسمياً بعد، ويبدو أن البابا فرنسيس يتريث في الاعلان عن بنود تلك المبادرة لمزيد من التشاور حولها ولاكتشاف مدى قدرته على تحقيق اختراق في الحائط المسدود، والذي يقول البابا أنه بسبب " مصالح إمبراطوريات عديدة هي التي تحرك الحرب في أوكرانيا، وليست روسيا فحسب".

في المحصلة، وبالرغم من المبادرات العديدة التي تسعى لإنهاء الحرب الأوكرانية الدائرة حالياً، فإن مصير السلام مرتبط بما سيتم تحقيقه في الميدان، حيث يشنّ الاوكران بدعم غربي هجوماً عسكرياً مضاداً لاستعادة الأراضي التي احتلها الروس. علماً أن الهجوم لا يجري وفق التوقعات الغربية والاوكرانية المسبقة له، وتشير التقارير الى أن الاوكران يتكبدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد (الغربي).

وهكذا، بانتظار تحقيق نتائج كبرى في الميدان، يأمل الغربيون باستنزاف روسيا والحصول منها على تنازلات مؤلمة وتلقين الصين درساً مستقبلياً حول النزاع في تايوان، أما الروس فهم يريدون تحقيق انتصارات ميدانية، والسيطرة على كامل الاجزاء الشرقية من أوكرانيا، والتي اعترفوا بها كجزء من روسيا الاتحادية بالإضافة الى إعلان حياد أوكرانيا، ونزع أسلحتها، و"إنهاء النازية الجديدة"، والحصول على ضمانات حول عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي بشكل نهائي.

بالنتيجة، أهداف اقليمية وعالمية كبرى لكل من روسيا والغرب، تنتظر الميدان الاوكراني، الذي سيكون له الكلمة الفصل في النهاية. 

2023/06/12

السعودية من "الحزم" الى "صفر مشاكل" الى "الحياد الايجابي"

ليلى نقولا

كان عام 2015 مفصلياً في تاريخ المملكة العربية السعودية، حيث استلم الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في المملكة، وعيّن ابنه محمد بن سلمان وزيراً للدفاع، بالإضافة إلى تعيينه رئيسًا للديوان الملكي ومستشارًا خاصًا للملك، ثم أتبعه بأمر ملكي آخر يقضي بإنشاء مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية
برئاسة نجله أيضاً.
استلم الأمير محمد بن سلمان وزارة الدفاع، ودفة الحكم في السعودية (باسم والده) في فترة تشهد فيها منطقة الشرق الأوسط مشاكل كبرى، بعد اشتعال ثورات الربيع العربي وتحوّلها الى فوضى عارمة وحروب في كل من اليمن وسوريا .... وفي ظل اشتداد الخلاف الخليجي الخليجي بسبب تلك الثورات، وكذلك العداء بين كل من السعودية من جهة وإيران وتركيا من جهة أخرى وغير ذلك من المشاكل الأمنية والسياسية وتفشي الارهاب.
بدأ بن سلمان حكمه عام 2015 بإطلاق تحالف عسكري من عشر دول تقوده السعودية سمي بـ "التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن" ، وانخرط في حرب اليمن مطلقاً ما سماه "عاصفة الحزم لاستعادة الشرعية وهزيمة الحوثيين". وفي نفس السنة، توترت العلاقات بشكل كبير بين إيران والسعودية بسبب حادثة تدافع مِنى التي راح ضحيتها العديد من الحجاج الايرانيين، وانقطعت العلاقات كلياً بين الدولتين في كانون الثاني /يناير من عام 2016 بعد اعدام "الشيخ نمر النمر" في السعودية، وقيام المتظاهرين الايرانيين بالاعتداء على القنصلية والسفارة السعودية في إيران، ما دفع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الى اعلان قطع العلاقات بين البلدين.
لا شكّ أن احداثاً كثيرة وقعت خلال الفترة الممتدة من 2015 ولغاية عام 2022، حيث طبع التشدد والتصعيد والتشدد سياسة المملكة داخلياً ضد المعارضين، وخارجياً من ايران الى تركيا الى لبنان ومصر والاردن الخ... وسمحت العلاقات الممتازة لولي العهد السعودي مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بممارسة تشدد إضافي وصل الى حدّ القيام بحصار قطر، وتهديد إيران الخ...
برحيل ترامب، بدأ الأميركيون سياسة جديدة في المنطقة وأعلن بايدن أنه "سيجعل السعودية دولة معزولة"، ثم ما لبث أن تراجع عن ذلك بعد الحرب الاوكرانية وحاجة الأميركيين للسعودية لضبط أسعار النفط.
كان عام 2022 مفصلياً، حيث ظهر أن بن سلمان يقود المملكة في 3 خطوط استراتيجية رئيسية:
- داخلياً: تحقيق نمو اقتصادي، وانفتاح سياسي واجتماعي وتقليص سيطرة رجال الدين.
- اقليمياً: الانطلاق في سياسة "صفر مشاكل" عبر التخلص من إرث السياسة المتشددة الحربية السابقة، والسعي الى التهدئة في المنطقة حيث أعرب بن سلمان عن رؤيته لتحقيق التنمية والازدهار والاستقرار في منطقة الشرق الاوسط ككل.
- دولياً: اتخذت السعودية موقفاً جريئاً بعدم الانحياز لأي طرف في الحرب الاوكرانية، ورفض بن سلمان طلب بايدن بتخفيض أسعار النفط، وأبلغه أنه ملتزم بقرار أوبك بلس، وهو أمر استفادت منه روسيا بشكل كبير.
أما عام 2023، فيمكن أن نقول ان السعودية انتقلت من "صفر مشاكل" في المنطقة الى سياسة "الحياد الايجابي" في المنطقة والعالم، بعكس تركيا التي تعتمد مع أردوغان سياسة "التحوط الاستراتيجي"، والتي تعني فعل الشيء وعكسه في السياسة الخارجية لمواجهة تهديد استراتيجي (راجع مقالنا في هذا الموضوع) .
اليوم، نجد أن السعودية تحاول أن تستفيد من الاستقرار السياسي الداخلي وقدرة الدولة الاقتصادية والنفطية والاستثمارية لخلق ظروف خارجية مواتية لعلاقات متساوية ومتبادلة المنفعة في المجال الاقتصادي، وفي الوقت نفسه محاولة لعب دور اقليمي يسمح لها بالاستفادة من التغييرات في النظام العالمي لتكريس نفسها دولة فاعلة في النظام، اي باختصار ممارسة "الحياد الايجابي".
وطد الأمير محمد بن سلمان علاقات السعودية الدولية الاقتصادية والسياسية مع كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وتصالح مع إيران برعاية صينية، وأعاد سوريا الى الجامعة العربية، ودعى الرئيس الاوكراني فلوديمير زيلينسكي ليلقي كلمة في القمة العربية، ويرعى حالياً محادثات إطار للحل في السودان، واستقبل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو قبيل ساعات قليلة من وصول وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، وتلقى اتصالاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مباشرة بعد مغادرة بلينكن الخ..
الحياد الايجابي السعودي هو سياسة جديدة أبعد من أن تكتفي السعودية بتصفير المشاكل، وأوسع من عدم الانحياز في العلاقات الدولية، ولا يعني النأي بنفسها عن المشاكل الاقليمية والدولية، بل على العكس من ذلك تعمل لأن تكون لاعباً فاعلاً، ووسيطاً مقبولاً يمتلك علاقات جيدة مع جميع الأطراف، ما يسمح لها بتحقيق مكانة دولية واقليمية فاعلة.
في الخلاصة، لقد انتقلت السعودية في أقل من عقد من الزمن من "السياسة الهجومية" الى "صفر مشاكل" الى "الحياد الإيجابي"، أي الحياد النشيط، المتفاعل إيجابياً وساعياً لدور فاعل في القضايا الدولية والإقليمية.
All reacti

إدانة ترامب: هل تمنعه من الترشّح والفوز بالرئاسة؟


وجّهت وزارة العدل الأميركية تهماً جنائية فدرالية إلى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بعد اكتشاف وثائق سرّية في منتجع مارالاغو في فلوريدا، تتضمّن معلومات عسكرية ونووية ومعلومات استخبارية عن دول أجنبية إلخ... وقد تمّ توجيه الاتهام لترامب بجرائم تصل عقوبتها إلى السجن لعدة سنوات (تتراوح بين 10 و20 سنة) في حال تمّ إثبات التهم الموجّهة إليه، وهي تهم بالتجسس والتآمر لعرقلة العدالة والإدلاء بتصريحات كاذبة، وتوجيه موظفيه لإخفاء الوثائق عن المحقّقين والإدلاء بتصريحات كاذبة عن وجودها.

ولا شكّ أن اتهام رئيس أميركي سابق بهذه التهم، هو سابقة فريدة من نوعها في الولايات المتحدة الأميركية، وهنا يمكن أن ندرج الملاحظات التالية في مدى الأثر الذي ستتركه تلك المحاكمات على الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، وأبرزها ما يلي:

اليمين المسيحي: "حرب مقدّسة"

يشكّل ترامب حالة استثنائية وفريدة في التاريخ الحزبي في الولايات المتحدة الأميركية، فإضافة إلى الخطابات الشعبوية والقدرة على حشد التأييد ومهارته في مهاجمة الخصوم، استطاع ترامب أن يتحوّل إلى زعيم أشبه بزعماء العشائر في دول العالم الثالث، حيث يتمتع بنفوذ استثنائي، وقدرة على التأثير على من يؤيّدونه، خاصة لدى المحافظين أتباع الكنائس الإنجيلية، الذين يصفونه بصفات "الزعيم الملهم" "المرسل من عند الله" وغيرها.

مباشرة بعد توجيه الاتهامات، اعتبر العديد من قادة اليمين المسيحي أنّ جو بايدن يشنّ حرباً "روحية" على دونالد ترامب لدفاعه عن القيم المسيحية الأساسية وقيم العائلة وسواها، واعتبر آخرون أن "جو بايدن يستخدم وزارة العدل لتوجيه الاتهام إلى خصمه السياسي الأكبر، تماماً كما استخدمها سابقاً لملاحقة "الوالدَين" الذين يريدون حماية أطفالهم فاعتبرهم "إرهابيين محليّين"، وللتجسّس على الأبرشيات الكاثوليكية، ولترويع ومضايقة المسيحيين المؤيّدين للحياة".

وهكذا، يبدو أن ترامب سيستخدم الاتهام لتقوية نفوذه في أوساط "اليمين المسيحي" الأميركي، باعتباره "يدفع فاتورة الدفاع عن القيم المسيحية المؤيدة للحياة والرافضة للإجهاض والمثلية وسواها".

 

الجمهوريون: مكيدة ضد المعارضين

تُعدّ مواجهة رئيس سابق لاتهامات فدرالية مشكلة كبيرة في حد ذاتها، فكيف إذا كان هذا الرئيس هو الرئيس الأكثر شعبية لدى الجمهوريين والمرشح الأكثر تقدّماً في استطلاعات الرأي في الحزب الجمهوري والذي يُتوقّع أن يخوض السباق الرئاسي ضد الرئيس الحالي جو بايدن؟.

يعتبر العديد من الجمهوريين أن لائحة اتهام ترامب من قبل وزارة العدل الأميركية هي مكيدة مدبّرة من قبل الرئيس جو بايدن ضد ترامب الذي يُتوقّع أن يهزمه في انتخابات 2024. وتذكر بعض المواقع الصحافية التابعة للجمهوريين أن تعيين المحامي الخاص لإصدار لائحة اتهام ترامب هي مجرّد غطاء سياسي لمؤامرة سياسية يقوم بها بايدن.

وقالت حملة ترامب إن الاتهام يمثّل "إساءة استخدام غير مسبوقة للسلطة من وزارة العدل، ومحاولة للتدخّل بالانتخابات، وإن إدارة بايدن تقوم بمحاكمة شاملة لزعيم المعارضة من خلال تلك الخطوة، وإن "هجمات الدولة العميقة أضحت أكثر شراسة مع تنامي هيمنة ترامب".

وتفنّد بعض المقالات الصحافية الاتهامات المساقة ضد ترامب، فتعتبر أن قانون السجلات الحالي الذي يسمح للرئيس بالوصول إلى الوثائق، ويسمح بالتفاوض مع من يمتلكون تلك الوثائق بحسن نية، هو ما تمّ تطبيقه مع الرئيس جو بايدن الذي تمّ اكتشاف ملفات سرية قديمة مخزّنة في مرأب منزله إلى جوار سيارته، بينما لم يطبّق القانون نفسه على دونالد ترامب الذي يتم اتهامه بإحدى وثلاثين تهمة بـ "الاحتفاظ المتعمّد بمعلومات الدفاع الوطني" وهي تنتهك قانون التجسس القديم والذي نادراً ما يتمّ تطبيقه مع مسؤولين ورؤساء سابقين.

وهكذا، يتهم الجمهوريون الحزب الديمقراطي والرئيس جو بايدن بأنهم يريدون أن يحوّلوا انتخابات عام 2024 استفتاءً على ترامب، وتحويل الأنظار عن فشل بايدن في الاقتصاد والتضخّم والركود الذي تعاني منه الولايات المتحدة الأميركية وعن سوء أداء الإدارة الحالية التي تحوّل أموال دافعي الضرائب إلى أوكرانيا.

قدرة ترامب على الترشّح والفوز بالرئاسة

قال ترامب على منصته Truth Social إنه بريء، وإنّه سيكون حرّاً في تنظيم حملته الانتخابية حتى لو أدين وأرسل إلى السجن.

ينصّ دستور الولايات المتحدة على أن المرشح الرئاسي يجب أن يكون مواطناً أميركياً ولد في الولايات المتحدة الأميركية، ويبلغ من العمر 35 عاماً وما فوق، ويعيش في البلاد منذ 14 عاماً، ولا يشير الدستور المذكور إلى أي مانع للترشّح كتوجيه اتهام له أو السجن أو غير ذلك.

 وعليه، إن التهم الجنائية الموجّهة لترامب لا تمنعه من الترشّح والاستمرار بحملته الانتخابية، والأكثر من ذلك لا تمنعه من تولّي الرئاسة في حال أدين بها. ويقول خبراء قانونيون إنه لن يكون هناك أساس لمنع أداء اليمين كرئيس حتى لو سُجن.

في المحصّلة، سيستخدم ترامب تلك الاتهامات إلى أقصى حد في حملته الانتخابية، لجني التبرّعات، ولكسب التأييد والتعاطف باعتباره ضحية مكيدة سياسية من قبل الديمقراطيين، والادّعاء بأنه يدفع ثمناً لتأييده للقيم المسيحية المحافظة وحماية العائلة. والمعضلة الأميركية الرئيسية تتجلّى في: ماذا لو تمّت إدانة ترامب وفاز بالانتخابات الرئاسية؟

x

2023/06/06

أوروبا: خسرنا روسيا إلى الأبد

لطالما أكَّد الباحثون أنَّ الهوية مكوّن أساسي من محددات السياسة الخارجية الروسية، وخصوصاً النظرة إلى العلاقة مع أوروبا بشكل أساسي، إذ شكّلت عامل انقسام بين الروس حول تشكيل هُويتهم وتحديد أولوياتهم ونظرتهم إلى العالم.

يشير العديد من المؤرخين إلى أن "كاثرين العظيمة"، وبوحي من صداقاتها مع شخصيات التنوير الفرنسية، أقرّت انتخابات "اللجنة التشريعية" عام 1767. وعام 1815، انخرطت روسيا بفاعلية في "نظام الوفاق الأوروبي"، وكانت جزءاً من النظام السائد الذي انهار بعد خسارتها الحرب في شبه جزيرة القرم عام 1856.

أما الصراع حول الهوية في روسيا، فيعود إلى القرن التاسع عشر، مع الانقسام بين التيار السلافي الذي يعتقد أنَّ الروس هم أصحاب حضارة خاصة، والتيار الغربي داخل روسيا الذي يعتقد أنَّ الحضارة الروسية جزء من الحضارة الأوروبية، وأن عليها الاستفادة من عقلانيتها

أدت هذه الطبيعة المتضاربة للمجتمع الروسي دوراً مهماً للغاية في تحديد هُويته الذاتية الوطنية، وخصوصاً علاقته بالحضارة الأوروبية. ولطالما استفاد الغرب من هذه التوجهات لمحاولة تأسيس حالات اعتراضية داخل روسيا نفسها، إذ شكّل التيار الغربي نواة المعارضة وجذب الشباب إلى المفاهيم الغربية الأوروبية.

فكرياً، كان دوستويفسكي وبوشكين من أنصار التيار الثاني، لكنهما اعتبرا أن الحضارة الروسية هي حضارة عالمية ذات مهمة إنسانية عالمية، وأنها تتضمّن في داخلها الحضارة الأوروبية.

في الفكر السياسي، كان لينين أول من ناصر فكرة الاتحاد مع أوروبا قبل أن يغيّر رأيه في ما بعد، ويعدّ خروتشوف وغورباتشوف من أبرز القادة السوفيات المنادين بعلاقة وطيدة مع الغرب. وعلى الرغم من النزعة الوطنية لبوتين، التي تعتبر روسيا حضارة عظيمة بحد ذاتها، فقد ظلّ إلى ما قبل الحرب الأوكرانية يطلق على الأوروبيين والغرب بشكل عام صفة "الشركاء".

التخلّي عن فكرة "روسيا الأوروبية"

في تسعينيات القرن العشرين، ازدهر التيار الفكري المنادي بانضمام روسيا إلى أوروبا والغرب، لكنه سرعان ما تراجع بعدما عامل الغرب روسيا كدولة مهزومة. ومنذ عام 2012، بدأ الإعلام الروسي يركّز على الاتحاد الأوروبي بصفته مؤسسة غير أخلاقية تسوّق للمثلية الجنسية وتريد تقويض أوراسيا أخلاقياً من الداخل.

يرى العديد من المفكرين في الغرب اليوم، ومعهم عدد من المفكرين الروس، أنَّ هذا التاريخ الحضاري المشترك بين روسيا والغرب تغيّر بعد الحرب الأوكرانية، وأن مساراً حضارياً طويلاً من التفاعل والانتماء بينهما منذ القرون الوسطى وحتى اليوم انتهى.

ويقول أحد المعلّقين الروس الليبراليين، المعروف بانتمائه إلى التيار الروسي الغربي، والذي كان مديراً لمركز "كارنيغي"-روسيا لفترة طويلة، ديمتري ترينين: "عندما تنتهي الحرب، لن تسعى روسيا لتكون جزءاً من الغرب... هذا الفصل من تاريخ روسيا انتهى".

في المقابل، بات هناك اعتقاد واسع داخل النخبة الروسية بأنَّ على روسيا حسم هذا الجدال الهوياتي التاريخي، والتخلّي نهائياً عن فكرة الانخراط في الغرب لمصلحة فكرة روسيا كحضارة قائمة بذاتها، وأن على الروس أن يقفوا على الطريق الصحيح من التاريخ والانضمام إلى "الغالبية العالمية".

روسيا كجزء من "الغالبية العالمية"

يؤمن الروس منذ روسيا القيصرية، مروراً بالاتحاد السوفياتي ولغاية اليوم، بأهمية بلادهم، وبأنها "إمبراطورية" عظمى. على الرغم من الاختلافات الداخلية على الحكم أو في التوجهات السياسية، سواء كانوا مؤيدين للتقارب مع أوروبا، أو مؤمنين بالأوراسية، أو المسيحية الأرثوذكسية الشرقية أو أنصار التوجه الإسلامي... فإن العنصر الموحد في الثقافة السياسية الروسية المعاصرة هو الصورة الذاتية لروسيا كقوة عظمى.

وفي هذا الإطار، وبما أن الروس لا يعتبرون أنفسهم دولة من دول العالم الثالث أو من دول العالم النامي الذي يطلق عليه الغرب الآن مصطلح "الجنوب العالمي"، وبما أنهم حسموا خيارهم بأنهم لن يكونوا جزءاً من الغرب الذي "يتأكّل سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وقيمياً"، كما يقولون، ولا يريدون حصر أنفسهم بكونهم جزءاً من أوراسيا، حيث ستكون الصين صاحبة النفوذ الأقوى... لذا، فإن فكرة "الغالبية العالمية" تأتي بحلول للمعضلة الروسية حول ملامح الهوية الجديدة في الصراع العالمي المقبل.

وفي هذا الإطار، يشير الاقتصاديون الروس إلى أن الكثافة البشرية في الكون، ومعظم الناتج المحلي الإجمالي في العالم، يتكدس خارج العالم الغربي، إذ يمثل الغرب نحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. لذا، إن انضمام روسيا إلى النسبة المتبقية البالغة 70% يصب في مصلحتها.

 في المحصلة، أدّت الحرب الأوكرانية إلى تغييرات عميقة داخل روسيا دفعت التيار الأوروبي إلى التخلي عن فكرة "الاتحاد مع الغرب" التي لطالما ألهمت العديد من الشباب، وأدّت -من ضمن أمور أخرى- إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي.

لكن يبقى استمرار هذه التغييرات وترسيخها مرتبطاً بنجاح نظام "الأغلبية العالمية"، البديل للنظام الليبرالي الذي فرضه الغرب في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. هذا النجاح يحتاج إلى تأسيس آليات اقتصادية موازية لآليات بريتون وودز، وإعادة الاعتبار إلى المضامين الناظمة للعلاقات الدولية، وأهمها السيادة ومبدأ "عدم التدخل في الشؤون الداخلية" للدول الأخرى، وهي مبادئ أقرتها القوانين والمواثيق الدولية منذ عام 1945، لكنها لم تُطبق عملياً، وبقي التدخل سمة العلاقات الدولية السائدة.

ويبقى الأهم هو حسم الصراع القيمي الحالي حول مفاهيم "العائلة والمثلية والدين والحريات الأساسية وحريات التعبير" وغيرها، إذ نجد أنَّ الصراع ليس بين الغرب و"الأغلبية العالمية" فحسب، بل بات حول هذه المفاهيم داخل الغرب ذاته أيضاً، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، التي يشتد فيها الصراع بين الليبراليين والمحافظين ليدخل في كلّ مضامين الحياة السياسية والاجتماعية والقضائية والتربوية، وحتى الرياضية. 

2023/06/05

القرار 2254...القرار الضائع في سوريا

استدركت قوى المعارضة السورية التطورات المتسارعة في المنطقة والتي تتمثل بالمصالحة بين كل من سوريا والدول العربية في مسار أول، وبين سوريا وتركيا في مسارٍ ثانٍ ترعاه كل من روسيا وإيران. وقامت قوى المعارضة بالدعوة إلى استئناف المفاوضات المباشرة مع النظام برعاية الأمم المتحدة، لتطبيق الحل السياسي الشامل وفق منطوق قرار مجلس الأمن الدولي 2254.

وتشكّل الدعوة من قبل المعارضة الى تطبيق القرار المذكور بدون ذكر بيان جنيف (2012)، إدراكاً بأن التطورات باتت تسبقها، وتجدر الاشارة الى الملاحظات التالية:

1-   القرار 2254 "حمالة أوجه":

يشكّل قرار مجلس الامن الدولي رقم 2254 "حمالة أوجه"، حيث يستطيع كل طرف أن يستقي منه ما يريده. فالحكومة السورية تعتبر ان القرار يستوجب "القضاء على الإرهاب وإعادة إنعاش الأوضاع الاقتصادية وإزالة العقوبات على سوريا المفروضة من الدول الغربية"، وذلك بحسب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد. بينما تركّز بعض القوى المعارضة على أن القرار المذكور يؤكد تأييده لبيان جنيف 2012 "كأساس لانتقال سياسي بقيادة سورية"، ويشير الى "تشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، وتشمل الجميع وغير طائفية".

وبالتالي، ليس هناك خارطة طريق واضحة وجازمة في نص القرار يمكن الاستناد إليها، علماً أن المقاربة الواقعية اليوم، وبعد كل التطورات، تعطي تفسيرات جديدة للقرار بعيدة كل البعد عما تطمح اليه المعارضة السورية وهو "تشكيل هيئة حكم انتقالية تطيح بالاسد وتسلم الحكم للمعارضة"، وهو أمر غير واقعي ولن يحصل.

 

2-   الميدان يفرض نفسه:

واقعياً، دائماً ما يفرض الميدان نفسه على المفاوضين وليس العكس، فالحرب ليست هدف بحد ذاته بل هي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية.

وعليه، إن ما تحاول أن تحييه قوى المعارضة وتشير إليه وهو "تسليم الحكم في سوريا الى هيئة حكم انتقالية" قد تخطاها الزمن وباتت من أشبه المستحيلات خاصة بعد عام 2015 وما تلاه من تطورات سمحت للدولة السورية بالسيطرة على 75 بالمئة من الجغرافيا السورية.

والجدير بالذكر، أن القمم العربية المتعاقبة منذ صدور القرار 2254، كانت قد أتت على ذكره وعلى بيان جنيف (2012) في بياناتها الختامية منذ عام 2016 ولغاية عام 2019، لكن قمتي عام 2022 و2023 لم تشيرا الى ذلك القرار مطلقاً، ما يعني أن التطورات قد تجاوزته ولم يعد قابلاً للتطبيق.

 

3-   الاقليم يفرض نفسه

لا شكّ أن الوقت لعب لصالح الحكم في سوريا، فقد تبدلت مواقف الدول العربية وتركيا من الرئيس السوري بشار الأسد، ولم تعد تطالب برحيله بل باتت تعتبره جزءًا أساسياً من الحلّ في المنطقة.

تبدلت الأولويات التركية مع مرور الزمن، وبات الجانب التركي يريد مصالحة مع الرئيس بشار الأسد تضمن له إعادة اللاجئين السوريين في تركيا، وتأمين الأمن القومي التركي عبر إزاحة التهديد الذي تشكّله وحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرقي سوريا.

كذلك تبدلت مواقف الدول العربية بعد فشل المعارضة المسلحة في تحقيق المطلوب منها، وباتت أولوية إعادة اللاجئين، ووقف إطلاق النار، ووقف تهريب المخدرات أولوية الدول العربية التي لم تعد معنية بالاطاحة ببشار الأسد كما كانت في بداية الحرب.

4-   حرب أوكرانيا تفرض نفسها

لا شكّ أن انخراط الدول الغربية في حرب مع روسيا بالوكالة في اوكرانيا، وأولوية أوكرانيا في الصراع الدولي الحالي، ترخي بظلالها على المواقف الدولية بخصوص سوريا.

وبالرغم من البيانات التي أطلقتها بعض الدول  مؤخراً، كوزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا التي أيدّت محاكمة الأسد، والموقف الأميركي الذي قال انه لا يشجع التطبيع مع الأسد.. إلا أن الحقيقة تكمن في مكان آخر.

في بيان صحفي رسمي صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، في 25 كانون الثاني / يناير من عام 2023، اعتبر ممثلو كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة مع المبعوث الأممي الخاص غير بيدرسون لمناقشة "حلّ الأزمة في سوريا بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم "2254، والعمل مع "الشركاء في المنطقة ومع المعارضة للمشاركة بشكل كامل ضمن إطار العمل هذا، بما في ذلك عبر عملية متبادلة خطوة بخطوة".

واقعياً، إن مقاربة "خطوة مقابل خطوة" التي تمّ الاتفاق عليها مع الحكومة السورية، والتي تحدث عنها بيان الخارجية الأميركية،تنسف فكرة الحل السياسي في سوريا على أساس القرار 2254، علماً أن القرار المذكور أتى نتيجة توافق أميركي روسي في حينه، والحلّ السياسي الشامل اليوم يحتاج الى توافق دولي(خاصة بين الروس والأميركيين) غير ممكن في المدى الزمني المنظور.