2022/04/26

لبنان: الاستثمار الخليجي الانتخابي سيفشل

 

ضمن إطار محاولة الدول الاقليمية التأثير في محيطها الجغرافي وتوسيع إطار نفوذها الى الحدّ الأقصى الذي يمكن أن تمتد إليه بحسب قدرتها، تنظر الدول الى الفضاء الذي يمكن لها التأثير فيه للتمدد، والذي يقسم الى نوعين: فضاء طبيعي، وفضاء مكتسب.

 

بالنسبة للفضاء الطبيعي، تشكّل الثقاقة والدين والتاريخ والهوية دورًا هامًا في إنشائه، خاصة أن التفاعلات ضمن هذا الفضاء تبدو طبيعية ومنطقية ولا تثير أي حساسيات بل تبدو نوعاً من الروابط التي تهيمن على العقول والقلوب. أما الفضاء المكتسب فهو ما تحاول الدولة الاقليمية أن تصنعه وتكتسبه بواسطة المساعدات التنموية والإقتصادية والتعاون العسكري والاستراتيجي وغيرها... ولا شكّ أن علاقات الفضاء الأول هي أعمق وأثبت وأكثر صلابة من علاقات وتفاعلات الفضاء الثاني التي تحكمها المصلحة المشتركة والتي عادةً ما تكون متبدلة بتبدل الأحداث والظروف الدولية والاقليمية.

 

من ضمن ما تقدم، يمكن أن نرى أن للسعودية فضاءً طبيعيًا في لبنان، حيث يمثل العامل الثقافي والديني بعدًا هامًا في العلاقة بين السعودية والشعب اللبناني، خاصة في البيئة السنية اللبنانية، التي ترتبط بروابط لغة وتاريخ ودين مع المملكة. ولقد دعمت السعودية ورسّخت نفوذها في لبنان تاريخياً عبر هذا الرابط بالتحديد، وخاصة بعد الحرب اللبنانية، حيث قام الرئيس الراحل رفيق الحريري برعاية المصالح السعودية في لبنان وتعزيزها وإكسابها أبعاداً شعبية، استطاعت معها وراثة المدّ الناصري القومي – العروبي الذي ساد في لبنان خلال الستينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي.

 

ساءت العلاقات اللبنانية السعودية في العقد الأخير نتيجة عوامل عدّة منها الحرب في سوريا وفي اليمن وموقف اللبنانيين منها، وغير ذلك. وحصل الانكفاء السعودي عن لبنان بعد سلسلة من الأزمات كان أولها اعتقال الحريري في الرياض في تشرين الثاني 2017، وآخرها افتعال أزمة نتيجة حديث وزير الاعلام جورج قرداحي، والتي انتهت بإجبار سعد الحريري على الاستقالة من الحياة السياسية.

 

واليوم، نشهد محاولات سعودية للعودة الى لبنان من بوابة دعم القوات اللبنانية، التي تتمتع بدعم سياسي ومالي سعودي هائل. وتسعى السعودية من خلال دعم القوات التأثير في نتائج الانتخابات النيابية لتغيير الغالبية النيابية لمواجهة وعزل حزب الله.

 

المشكلة تكمن في أن الاستثمار السعودي في دعم القوات لتحقيق هدف عودة النفوذ  السعودي الى الساحة اللبنانية، تشوبه عدّة مقاربات خاطئة ستؤدي الى الفشل في تحقيق الأهداف المرجوة سعودياً، وذلك للاسباب التالية:

 

أولاً: إذا كانت القوات هي الطرف الوحيد الذي تنطح ووعد بمواجهة حزب الله عسكرياً، فإن ذلك لا يعود الى قدرة لدى القوات في ظل عجز الآخرين، بل الى واقعية الآخرين وعدم انجرارهم الى إعطاء وعود غير قابلة للتنفيذ.

 

يشعر السعوديون بالاستياء من عدم اندفاع تيار المستقبل للتنطح لهذه المهمة، ولكن تجربة تيار المستقبل مع السنيورة الذي اعطى وعوداً لوزيرة الخارجية الأميركية بنزع سلاح حزب الله عام 2005، والتي أدّت الى 7 أيار 2008، تدفعهم الى عدم إعطاء وعود لا يمكن تنفيذها، ويمكن أن تؤدي الى حرب سنية شيعية في لبنان، سيكون الجميع فيها خاسر.

 

ثانياً: بدا من التعليقات على مشاهد الإفطار الرمضاني الذي أقامه جعجع ومشهد العمائم التي أتت لمبايعته، أن محاولة تنصيب جعجع "زعيماً للسنّة" في لبنان لن تمر مرور الكرام، ولا يمكن أن تلقى استحساناً لدى الجمهور السنّي في لبنان. انتخابياً، هناك اجواء سائدة تشجّع التصويت الانتقامي ضد اللوائح التي تدعمها القوات لدى السنّة، كما تتهم أجواء جمهور تيار المستقبل أن لوائح "القوات" في المناطق السنية موّجهة ضد الحريري أكثر مما هي موجّه ضد قوى 8 آذار.

 

ثالثاً: بالرغم من كل محاولات القطع مع تاريخ الحرب الأهلية، ومحاولة نزع صفة الميليشيا التي رافقتها، يعيد القواتيون دائماً تذكير اللبنانيين بتاريخهم، وما أن تتاح لهم فرصة لترويع المواطنين العزّل الآمنين حتى ينتهزونها.

 

خير مثال على ذلك، الاعتداء على وزير الطاقة وليد فياض (وهو أعزل وبدون مرافقة في الشارع) من قبل عناصر القوات اللبنانية، وقيام مجموعة قواتية أخرى بترويع المواطنين في المطاعم في العاصمة وطردهم بحجة  الحداد على ضحايا غرق المركب في طرابلس. مشاهد أعادت التذكير بالغدر والقتل الذي اعتمدته القوات لمعارضيها خلال الحرب الأهلية، والتنكيل بالناس العُزل كلما سمحت لها الظروف بذلك. واللافت كان محاولة تخفّي المعتدين تحت شعار "الثورة"، ما دفع بالعديد من رموز "الثورة" الى التنصل من هؤلاء واتهام القوات بمحاولة تشويه صورة "الثورة" عمداً.

 

بالنتيجة، إن الاستثمار السعودي والخليجي بالقوات اللبنانية طمعاً بتغيير سياسي في لبنان لا يبدو أنه استثمار ناجح، فبالرغم من القدرة المادية الهائلة، والتنظيم والدعم غير المحدود الاعلامي والسياسي والمالي الذي تحصل عليه القوات اللبنانية، إلا أنه من الصعب تسويق القوات كقوة وطنية عابرة للطوائف، أو كقوة زعامة للمعارضة، ومن الأصعب تسويق سمير جعجع كرئيس للجمهورية (مهما كانت حجم الكتلة التي سيحصل عليها).

 

وعليه، إن استبدال الفضاء الطبيعي بفضاء مكتسب، ومحاولة فرض زعامة سياسية خارجية على بيئة معينة، لا يمكن أن تنجح خاصة في لبنان الذي يعيش شحناً طائفياً ومذهبياً وتقوقعاً طوائفياً يجعل من الصعب على السعودية تنصيب سمير جعجع زعيماً للسنّة في لبنان مهما بلغت قدرتها وضغوطها. 

2022/04/25

مَن يستفيد من الفوضى الأمنية؟

مَن يستفيد من الفوضى الأمنية؟ تعكس الأجواء الانتخابية في لبنان عودة للمجلس النيابي بتركبيته وغالبيته القديمة، بالرغم من خلط بعض الأوراق وتوّقع دخول بعض وجوه المجتمع المدني الجديدة، لكن بدون قدرة على تحقيق اختراق كبير.

وتشكّل هذه الاحصاءات والاستطلاعات (إن صحّت)، خيبة لداعمي المجتمع المدني من قوى محلية وشعبية وسفارات وقوى خارجية، خاصة وأن كثر في الخارج راهنوا على تغيير سياسي شامل في لبنان بعد انتفاضة 17 تشرين، متكلين على أن أوان التغيير السياسي قد حان وأن الغالبية النيابية التي حصل عليها ح ز ب الله والتيار الوطني الحر والحلفاء في المجلس النيابي السابق قد حان أوان انهائها الى الابد.

كانت خطة الإطاحة بنفوذ ح ز ب الله والتيار الوطني الحر في لبنان، تسير على قدم وساق، وكان من المفترض أن تتوّج بانتخابات نيابية تعيد تشكيل السلطة بشكل شامل، لكن واجهتها المشاكل التالية:

1- انقسام عامودي وأفقي بين أحزاب وقوى المجتمع المدني:

كان المأمول من هذه الانتخابات، أن تقوم قوى 14 آذار بالتحالف مع قوى المجتمع المدني لتشكيل لوائح موحدة تطيح بالتيار الوطني الحر وقوى 8 آذار، مستعينة بمال وفير وإعلام مجنّد لخدمتها منذ ما قبل تشرين الأول 2019، ودعم سفارات خارجية تقوم بمهمتين: تقويض كل أنواع الانفراج السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحياتي للضغط على العهد والقوى السياسية الأخرى (الموجودة في السلطة) وتحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع، وتقديم دعم غير مسبوق للقوى الأخرى لمساعدتها على النجاح في الانتخابات. لكن التنافس بين تلك القوى، وعدم قبول بعض قوى المجتمع المدني  التحالف مع قوى 14 آذار باعتبارها قوى السلطة، عطّل هذه الامكانية.

2- تغيّر المزاج الشعبي بعد مرور أكثر من سنتين على "الثورة"

كان يمكن لحركة 17 تشرين الأول أن تشكّل فارقاً نوعياً في الاشهر الأولى لحصولها، ولكن الوقت كشف الكثير من الحقائق حول هذه "الثورة" ومموليها وأهدافها وشعاراتها ومَن وراءها. هذا دفع بالعديد من المواطنين الى العودة الى أحزابهم القديمة بعدما تبيّن أن الجديد المطروح لا يرقى لمستوى التغيير المطلوب في لبنان، أو أنه يشكّل ( في بعض الأحيان) نموذج أسوأ من السلطة الحالية بكثير، بدليل أن المساعدات التي أعطيت للمجتمع المدني بعد انفجار بيروت،  كما الاموال التي صرفت في 17 تشرين وما تلاها قد ذهب بمعظمها في جيوب المستفيدين من دعاة التغيير، الذين أثروا على حساب المساعدات الإنسانية والاموال الخارجية.

واليوم، يبدو ان هناك مَن هو متضرر من حصول الانتخابات، سواء لجهة الوعود التي قطعها للجهات التي ينتمي إليها، أو لجهة الإحراج الذي يمكن لأن تسببه له بعودة الغالبية والقوى السياسية نفسها مع تغيير طفيف في الوجوه، لذا قد يكون هناك حاجة لتوترات أمنية ومشاكل تعطّل الانتخابات أو على الاقل تؤجلها الى أن تنجلي التطورات في الاقليم فلا يحتسب ربح ح ز ب الله الانتخابي من ضمن الأوراق التي يمكن استخدامها في مفاوضات التسوية في الاقليم. كما قد يكون في التوتر الأمني فائدة مزدوجة: إنهاء الاحراج الانتخابي ومنع زيارة البابا الى لبنان في عهد الرئيس عون.

2022/04/21

جزر سليمان وأوكرانيا: تجزئة الأمن شرارة الحرب العالمية

 

أعربت كل من اليابان والولايات الأميركية ونيوزيلندا واستراليا عن قلقها من الاتفاقية  الموّقعة بين الصين وجزؤ سليمان، مدّعية بأنها تمسّ بالامن الإقليمي وتقوّض أمنهم القومي في موقف مشابه لما اعلنته روسيا من توسع الناتو الى حدودها خاصة في أوكرانيا.

 

وبالرغم من كل محاولات العرقلة من قبل واشنطن واستراليا ونيوزيلندا، وقّعت الصين وجزر سليمان الواقعة في المحيط الهادئ اتفاقية أمنية تعطي الجيش الصيني موطئ قدم في تلك الجزر، وتسمح بانتشار أمني وعسكري صيني في الجزيرة لتحقيق الاستقرار وإرساء "النظام الاجتماعي" في الجزيرة، ويعطي الصين سلطة "حماية سلامة الموظفين الصينيين والمشاريع الكبرى" بمجرد وصولهم إلى الجزر.

 

وتشكل جزر سليمان وهي أرخبيل من مجموعة جزر في جنوب المحيط الهادئ منطقة استراتيجية مهمة تتسابق عليها كل من أميركا والصين للتوسع والتمدد فيها، وتقع جغرافياً أقرب الى استراليا ونيوزيلندا. وترى الدول المجاورة أن التوسع الصيني الأمني يمسّ بالأمن القومي للدول المجاورة لجزر سليمان في المحيط ويقوّض التوازن الأمني في المنطقة.

 

لا شكّ أن الأمن القومي للدول يتأثر بشكل بشكل أساسي بالأمن في الجوار الإقليمي، إذ أن الجغرافيا والتفاعلات عبرها تؤدي الى أن تكون القضايا الأمنية للدول متصلة ببعضها البعض، بحيث لا يمكن النظر إلى أمن الدول بشكل يفصلها عن بعضها البعض.

 

في نظام دولي فوضوي، يشكّل الأمن الاقليمي مرآة عاكسة لصورة النظام الدولي في شكله الكلّي وحدوده، ويتأثر بمستويات عدّة أبرزها:

 

1الظروف المحلية لدول الإقليم بما فيها ذلك مقومات القوة والضعف لكل دولة،

 

2العلاقات بين الدول في المحيط الاقليمي وهل هي علاقات تعاونية أو تنافسية أو عدائية، وهذا يتأثر بتمازج التاريح والجغرافيا والسياسة والموروثات التاريخية والذاكرة الجماعية.

 

3دور ونفوذ ومدى تغلغل لقوى الكبرى في المحيط الاقليمي، وهو ما يؤدي الى اختلال التوازنات وتحفيز الدول على معاداة جيرانها أو التسبب بأخطار أمنية لهم وهو بالضبط ما حصل في أوكرانيا.

 

4العلاقة بين إقليم معين والأقاليم الأخرى خصوصًا مع الدول المتجاورة التي يمكن أن تسبب قلقاً أمنياً إضافياً.

 

وهكذا، تضع الدول بشكل عام، استراتيجيتها للأمن القومي آخذة بعين الاعتبار التحديات والأخطار التي تعانيها في الداخل والخارج وفي الدول المحاذية، وتحدد كيفية الردّ على هذه التحديات. وإنطلاقاً من هذه العوامل تطرح الدول فكرة أن أي مسّ بالاستقرار الاقليمي يؤثر على استقرارها الداخلي بسبب القدرة على الانتشار والتأثير، لذا تقوم الدول ما بوسعها لمنع التهديدات الداحلية والخارجية وخاصة تلك التي تأتي من جوارها الاقليمي  والتي تمسّ بأمنها القومي.

 

وعليه، إن الفشل في توفير الأمن الكافي يمكن أن يؤدي إلى زوال الدولة،  لذا تضع الدول أولى أولوياتها الحماية ضد التهديدات العسكرية، أي إن الهدف رقم واحد بالنسبة للدول هو البقاء. ويمكننا تقسيم الأمن القومي إلى نوعين أكثر تحديدًا: الأمن والسيادة الاقليمية والاستقلال السياسي. أي إن كل دولة تريد حماية سلامتها الإقليمية، أو حدودها الترابية واستقلالها وسيادتها. وتعدّ السلامة الإقليمية جزءًا لا يتجزأ من هوية الدولة واحترام الذات. ويشير الاستقلال السياسي إلى قدرة الدولة على البقاء خالية من التأثير الأجنبي، أو غير المرغوب فيه، قدر الإمكان. علمًا أنه في عالم مترابط ويعيش ضمن مبدأ "الاعتماد المتبادل"، لا يمكن لأي دولة أن تظل مستقلة تمامًا بهذا المعنى.

 

ولقد توسع مفهوم الأمن الحديث، فلم يعد يرتبط  فقط بالتهديدات التقليدية أي سلامة اقليم الدولة ووحدتها الترابية وبقاءها واستمرارها وسيادتها، وإنما توسع الأمر فبات يشمل الجريمة المنظمة عبر الحدود، والتهديدات الإرهابية والتحديات البيئية وسواها التي باتت تشكّل تهديدًا لأمن الدولة.

 

وهكذا تطور مفهوم الأمن فلم يعد يشمل الأمن العسكري فقط، بل بات يشمل المجالات الأخرى كلّها، كالأمن الاقتصادي، والبيئي، والغذائي والاجتماعي، إلخ... إن الهدف الأعلى وهو الأمن، يرتبط بهدف أقل مرتبة يقود إليه، وهو القوة العسكرية. وهكذا تصبح القوة العسكرية هدفًا ووسيلة في آن معًا؛ الهدف هو الحفاظ على القوة العسكرية أو زيادتها، وذلك لتحقيق الأمن (وسيلة لتحقيق هدف أكبر وأعلى). ويترتب على هذا الهدف (القوة العسكرية) أهداف أقل تعتبر وسائل في الوقت نفسه أيضًا، منها إقامة الأحلاف العسكرية، إضعاف قوة الآخرين، الاستحصال على المعرفة التكنولوجية العسكرية أو اقتناؤها، إلخ...

 

وهكذا، إن إقامة الأحلاف العسكرية في إقليم معين، لا تعني فقط الدولة ذات السيادة في ذلك الاقليم، بل تعني الدول المجاورة لأن تتعلق بأمنهم أيضاً ولا يمكن أن تعتبر جزءًا من سيادة الدولة فحسب.

 

بالنتيحة، إن إعتراف الغرب بأحقية الأمن لكل من الصين وروسيا، كما هو حق لهم، يجعل من العالم أكثر استقراراً ويحقق السلام في العالم. وبالعودة الى واقعة الاتفاقية الأمنية لجزر سليمان مع الصين، والتي يراها الغرب تهديداً أمنياً تماماً كما ترى روسيا توسع الناتو تهديداً لها، فإن الحل يكون بمقاربة أمنية طرحها الروس في وقت سابق،  وأعلنها لافروف قبل بدء الحرب في أوكرانيا وكررها الروس مراراً وهي: "عدم قابلية الأمن للتجزئة. أما أن يكون الأمن، واحد للجميع، أو لا يكون هنا أي أمن لأي أحد". 

2022/04/18

فلتكن الانتخابات بديل الحرب

 

منذ انتفاضة تشرين الاول عام 2019، يعيش لبنان مرحلة مفصلية تاريخية، سيكون لتداعياتها تأثير على مسار الأحداث لعقود قادمة. كان من المفترض أن تقوم حركة 17 تشرين الأول، بتغيير سياسي شامل في لبنان وتعزل المقاومة، وذلك بعدما قدم وزير الخارجية الأميركي الأسبق الى بيروت، وحثّ اللبنانيين على مواجهة ج ز ب الله.

 

وبعدما تبين أن الواقع اللبناني في مكان آخر مختلف عما يريده بومبيو، كان لا بد من تحرّك لإحداث تغيير سياسي، يحتاج الى مقدمات لحصوله، فتوالت الضغوط الاقتصادية التي ساهمت في كشف "الفقاعة المالية الوهمية" التي يعيشها لبنان منذ 30 سنة وانكشف حجم السرقات والنهب بعدما افلست خزينة الدولة، وأقفلت المصارف أبوابها فور انطلاق الاحتجاجات، ما سمح بتهريب الأموال الى الخارج وهو ما زاد الأزمة وفاقم حدّة الإنهيار المالي.

 

الأكيد، أنه لم يكن هناك أي صدفة في التزامن والترابط بين الأحداث التي رافقت تحركات 17 تشرين الأول، وأن من كان يحرك الاحتجاجات ويواكبها من إعلاميين وسياسيين ومتعهدي ثوار، كان يسير وفق خطة مرسومة كان يجب أن تنتهي بفراغ سياسي وانهيار اقتصادي شامل، على أن تحصل انتخابات نيابية مبكرة وتحصد قوى 14 آذار وحلفائها من المجتمع المدني الأغلبية النيابية التي تسمح لها بتشكيل حكومة وانتخاب رئيس جمهورية، والضغط على المقاومة لتسليم سلاحها أو لأخذ تنازلات منها بالحد الأدنى.

 

لم تنجح الخطة، فالطرف المقابل يتمتع بحيثية شعبية وسياسية أيضاً، ويمتلك الكثير من المفاتيح السياسية، بالاضافة الى إعلان أمين عام ح ز ب الله، السيد حسن ن ص ر الله صراحة "العهد ما فيكم تسقطوه". فكان العجز عن التغيير في الشارع فالسير بمشروع التغيير السياسي في صناديق الاقتراع، على أن تتوالى الأزمات على اللبنانيين "من أزمة الى أزمة.. حتى النصر"

 

واليوم، تتحضر الأطراف كافة لمعركة داحس وغبراء انتخابية، ويشهر كل طرف كل ما يستطيع من أسلحة لكسب الغالبية النيابية، وللسيطرة على لبنان في مرحلة تتسم بتغييرات عالمية هامة جداً، والأكيد سيكون اللبنانيون أمام مشهد يتجلى بما يلي:

 

-      مال انتخابي هائل سيتم صرفه، وسيتم الاستفادة من الأزمة المالية لشراء الأصوات بأبخس الأثمان.

 

-      تجييش طائفي مذهبي بدون سقف، وسيكون التخويف من الآخر المسمار الذي ستدقه هذه الانتخابات في نعش الميثاقية اللبنانية.

 

-      فلتان أمني يرده البعض الى الأزمة الاقتصادية والفقر، ولكنه في الحقيقة لا يعود فقط الى  تقاعس الأجهزة عن آداء دورها فحسب، إنما سيستخدم لأهداف انتخابية أيضاً

 

-      استطلاعات رأي متباينة هدفها التشويش على الحقائق، إما لحثّ الناخبين على التصويت أو لدفع ناخبين آخرين الى التراخي وعدم التصويت.

 

وعليه، على اللبنانيين الانتباه لما يحاك لهم. الانتخابات النيابية هي مرحلة في تاريخ لبنان وليست تاريخه كله. فليصوّت كل إنسان لمن يراه مناسباً، ولكن ليحفظ خط الرجعة مع جاره وشريكه في الوطن. غدًا سيعود اللبنانيون الى أشغالهم وأعمالهم والتجول بين المناطق، لذا لا يجب أن يسمحوا بأن تؤسس الانتخابات النيابية لجذوة حرب أهلية جديدة، ستكون مفاعيلها ونتائجها والفظائع فيها أسوأ من تلك التي مرت على اللبنانيين. 

2022/04/14

الهجوم الأميركي العالمي: قوانين لاستفزاز الصين

بينما العالم منشغل بالأحداث في أوروبا، تعمد الولايات المتحدة الى استفزاز الصين في شرق آسيا، تماماً كما فعلت مع روسيا في أوكرانيا، فكما استمر توسع الناتو شرقاً، ضارباً بعرض الحائط الهواجس الأمنية لروسيا، الى أن اندلعت الحرب في أوكرانيا، تندفع إدارة بايدن لاستفزاز الصين بنفس الطريقة عبر التوسع في جوارها الاقليمي والتخلي عن الاعتراف بسياسة "الصين الواحدة"، وإقامة الأحلاف الدفاعية الجديدة (اوكوس)، ومحاولة نشر الفوضى في محيط الصين الاقليمي وعلى مسار طريق الحرير الجديد.

وأعلن البنتاغون أن وزارة الخارجية الأميركية وافقت على إبرام صفقة مع تايوان لصيانة أنظمة الدفاع الجوي "باتريوت". وتبلغ قيمة العقد 95 مليون دولار، وتمت الموافقة على صفقة مماثلة بقيمة 100 مليون دولار لتوفير خدمات لتايوان وبيع معدات لدعم وصيانة وتحسين نظام الدفاع الجوي "باتريوت" في أوائل شباط/ فبراير الماضي.

ويقلق الأميركيون من الصعود الصيني، ليس الاقتصادي فحسب، بل التكنولوجي أيضاً والذي يشير بعض الخبراء الأميركيين الى أن الولايات المتحدة قد تخلفت في مجال التطوير والأبحاث، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإن الصين سوف تتفوق على الولايات المتحدة في المدى المتوسط.

وعليه، فإن الأميركيين يعمدون الى استخدام الوسائل كافة لمنع هذا السيناريو وذلك عبر سنّ قوانين داخلية لمنع التقدم الصيني بالاضافة الى محاولة استفزاز الصين لتوريطها في تايوان، ومنها ما يلي :

-      قانون حول تايوان

في أواخر عام 2020، نشرت الصين خطتها للتنمية الجديدة لمدة خمس سنوات قادمة بالاضافة الى أهداف طويلة المدى، وأكدت الخطة على التمسك بمبدأ "صين واحدة" مع تعزيز التنمية السلمية والمتكاملة للعلاقات عبر المضيق (تايوان)، وإعادة التوحيد الوطني.

تشكّل استراتيجية "عبر المضيق" ركيزة أساسية في سياسة الصين، لذا ركزت الوثيقة "على تعزيز التعاون الصناعي عبر المضيق وتدعيم السوق المشتركة للجانبين، وضبط السياسات لضمان حماية أفضل لرفاهية المواطنين التايوانيين وضمان تمتعهم بنفس المعاملة في البرّ الرئيسي، وذكرت الوثيقة أنه سيتم تشجيع رجال الأعمال والشركات التايوانية على المشاركة في مبادرة الحزام والطريق والاستراتيجيات الوطنية للتنمية الإقليمية المنسقة. وأكدت الوثيقة إنه سيتم دعم الشركات المؤهلة الممولة من تايوان ليتم إدراجها في البر الرئيسي، وأنه سيتم دعم مقاطعة فوجيان لاستكشاف طرق جديدة للتكامل والتنمية عبر المضيق.

ولمنع الصين من تطبيق استراتيحية "التوحيد السلمي عبر المضيق" التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومي، يذكر مشروع القانون الذي قدمته إدارة بايدن للكونغرس مؤخراً الى "الاعتراف بتايوان كجزء حيوي من إستراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ." ويدعو إلى "النقل المنتظم لمواد الدفاع إلى تايوان"، وهي قد تكون وصفة جديدة لتحفيز الصين على الهجوم على تايوان عبر إثارة قلقها وهواجسها الأمنية كما حصل مع روسيا.

ويشير مشروع القانون الأميركي الجديد المعنون "معاملة حكومة تايوان" على أن الولايات المتحدة ستتخلى عن ممارسة "الإشارة إلى الحكومة في تايوان على أنها سلطات تايوان" وتتعامل بدلاً من ذلك مع الإدارات الحكومية باعتبارها "الممثل الشرعي لشعب تايوان"، وأن الولايات المتحدة ستقوم  بـ"تدريب إعلامي للمسؤولين التايوانيين والكيانات التايوانية الأخرى المستهدفة بحملات التضليل".

-      قانون المنافسة في إطار التكنولوجيا

في محاولة لمنع صعود الصين، أقرّ للكونغرس الأميركي قانوناً بعنوان America COMPETES Act of 2022 [1] لتعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد والشركات الأميركية، ومكافحة الإجراءات المناهضة للمنافسة التي تتخذها جمهورية الصين الشعبية، و يولي اهتماماً خاصاً بموضوع التكنولوجيا والبحث العلمي ويمنع على الشركات استخدام التكنولوجيا الصينية، ويفرض عقوبات على العديد من الشركات الصينية ويتهم الصين بأعمال غير قانونية عالمية بالتواطؤ مع طالبان وبانتهاكات لحقوق الإنسان الخ.

الهدف الأبعد لمشاريع القوانين الأميركية تحت عنوان "البحث والتطوير التكنولوجي" هو منع دول العالم من التعامل مع الصين في مجال التكنولوجيا، وأن تستفيد الولايات المتحدة من تعزيز العلوم والتكنولوجيا لديها بحيث تصبح هي المسيطر على هذا السوق الواعد في المستقبل وحرمان الصين من قدرتها على المنافسة، كما يحصل في مجال الطاقة مع الروس بعد الحرب الأوكرانية.

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، تضغط الولايات المتحدة الأميركية على شركائها الاوروبيين في حلف الناتو وعلى حلفائها الآخرين لتقليص اعتمادهم على الغاز والنفط الروسي، ويضطر الاوروبيون اليوم الى شراء الغاز الأميركي ولو بأسعار أعلى، بينما زادت الولايات المتحدة مشترياتها من النفط الخام الروسي بنسبة 43 في المائة في الشهر الماضي، بحسب صحيفة " جلوبال تايمز".

وهكذا، تبدو إدارة بايدن مندفعة الى إثارة التوتر في محيط الصين الاقليمي، وفي الجزء الأكثر حساسية بالنسبة للصين وهو مبدأ "الصين الواحدة"، والتوحيد السلمي للصين.  يهدف الأميركيون من تسعير الحرب والدفع إليها في الجوار الصيني، عبر تحريض تايوان على استفزاز الصين و"زيادة انفاقها الدفاعي" الى تحقيق ربح جيوسياسي واقتصادي، عبر بيع السلاح وفرض عقوبات على القطاعات الصينية الهامة ومنها قطاع التكنولوجيا، لتقويض قدرة الصين على تطوير اقتصادها والاستثمار في البحث العلمي، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي.

 

 

2022/04/11

مجازر أوكرانيا ومعضلة الخطر الاخلاقي

 

تتبادل كل من الحكومة الأوكرانية من جهة، وروسيا وجمهورية دونيتسك الشعبية من جانب آخر الاتهامات بالقصف الصاروخي الذي استهدف محطة كراماتورسك، وفي وقت سابق كانت كل من كييف وموسكو قد تبادلتا الاتهامات بمجزرة بوتشا. وكما هو متوقع، اتهم الغرب روسيا بالقيام بالمجزرة ودعا قادة غربيون الى محاسبة بوتين والجيش الروسي على تلك "الارتكابات" المزعومة.

 

وبغض النظر عن الجهات الضالعة بتلك الارتكابات، والتي تحتاج تحقيقاً شفافاً وحيادياً لكشفها والحكم عليها، يواجه العالم منذ قيام التدخلات العالمية باسم حقوق الإنسان، ما يسمى معضلة "الخطر الاخلاقي Moral Hazard، وهي تعني قيام بعض الجهات بأعمال إبادة أو تطهير عرقي أو ارتكابات جسيمة وذلك بغية تحفيز التدخل الخارجي، أو استجلاب الإدانات العالمية لنظام من الصعب الاطاحة به.

 

"معضلة الخطر الاخلاقي" –  نظرية معتمدة جدًا في تأمين السيارات- ترمز الى حالة تشجع بطريقة غير متعمدة، أعمالاً غير مرغوبة، وذلك لان القائمين بهذه الاعمال يشعرون بأنهم محميين بشكل كامل من نتيجة أعمالهم. وبتعريف أوضح، يعني "الخطر الاخلاقي"، تحفيز لاشخاص أو مؤسسات للقيام بأعمل خطرة لا يقومون بها عادة، وذلك لاعتقادهم ان أحدًا ما سيتحمل تبعة أعمالهم ونتائجها وتداعياتها اذا كانت سيئة للغاية.

 

بتطبيق هذا الامر على التدخل الخارجي، نستطيع ان نقول انه في حال شعرت مجموعة داخل دولة ما انها لا تشعر بالاكتفاء، أو تريد تغيير النظام القائم والوصول الى السلطة لكنها لا تستطيع لانها ضعيفة، او لأن ميزان القوى ليس في صالحها، فانها تقوم بأعمال إجرامية، تتجاوز الحد المعقول وذلك لتحفيز المجتمع الدولي على التدخل بحجة فظاعة الجرائم التي ارتكبت. وهكذا، كلما زاد حد الاجرام، لكي يبلغ حد الابادة او الجرائم الكبرى الموصوفة، كلما كان طلب التدخل الدولي لايقاف الانتهاكات والمجازر أسهل.

 

لقد أظهرت الحرب في أوكرانيا، أنه بالتوازي مع الحرب العسكرية الدائرة والتي ينخرط فيها الناتو دعماً لأوكرانيا تسليحاً وتدريباً وقيادة، فإن الحرب الاعلامية والسياسية الدائرة تجعل من مرحلة ما بعد الحرب العسكرية، لا تقل ضراوة عن الحرب العسكرية. إن نجاح الروس في تحقيق أهدافهم من التدخل العسكري في أوكرانيا سينقل الصراع الى الآليات الدولية القضائية لاتهام الروس بجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.

 

  الأكيد أنه سيكون من الصعب على الغرب أو أي محكمة دولية عالمية، جلب أي متهم روسي الى المحاكمة، لذا فإن الهدف سيكون مرتكزاً على أمرين:

 

1منع بوتين من التنقل بحرية في العالم، فبعد قيام الغرب وحلفائه بفرض العقوبات التي تمنعه من التنقل في الدول التي فرضت العقوبات، سيكون هناك محاولة منعه من السفر الى الدول التي وقّعت على نظام روما الأساسي (المحكمة الجنائية الدولية).

 

2محاولة تشوية صورة بوتين العالمية كمجرم حرب، وبالتالي إثبات صحة ما قاله بايدن مراراً لوسائل الاعلام، وحتى قبل وصوله الى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، وتعيير كل من سيتعامل مع روسيا في المستقبل بأنه يتعامل مع مجرمي حرب.

 

2022/04/05

أي نظام دولي بعد الحرب الأوكرانية؟

توعّد الرئيس الأميركي جو بايدن روسيا بفرض مزيد من العقوبات رداً على الأحداث في بوتشا الأوكرانية، كما توعد الفرنسيون ومفوضية الاتحاد الأوروبي بفرض حزمة جديدة من العقوبات على الروس في الاسبوع القادم.

يقول الخبراء الاقتصاديون أن العقوبات على روسيا والتي يبلغ عددها 6000، هي في بعضها لم يسبق له مثيل في التاريخ، فعلى سبيل المثال، قام بنك التسويات الدولية في بازل في سويسرا (المعروف باسم البنك المركزي للبنوك المركزية) بتعليق عضوية روسيا ومنعها من الوصول الى احتياطاتها الخارجية، في إجراء تاريخي لا سابقة له منذ إنشاء البنك عام 1931، وحتى لم يحصل مثيل له خلال الحرب العالمية الثانية.

ويفرض الغرب هذه العقوبات بهدفين:

1-  تأليب الشارع الروسي ضد بوتين وبالتالي تشجيع الداخل على الاطاحة به.

في البداية، تحدث الغرب عن قيام النخبة الاوليغارشية بالاطاحة ببوتين بسبب تضررها المالي من العقوبات المفروضة عليهم، ثم في وقت لاحق وبعدما تبين عدم قدرتهم أو عدم رغبتهم  بالانقلاب على بوتين، تحدث الغرب عن سخط شعبي على بوتين سيتسبب به الانهيار الاقتصادي.

وتشير التقارير والاحصاءات من روسيا، ان شعبية بوتين لم تتأثر بالعملية بالعسكرية، لا بل إن بعض مراكز الاحصاء الروسية تشير الى تحسّن شعبيته وإقتناع  شعبي روسي بالدوافع التي حددها الكرملين للعملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا.

2-  انهيار الاقتصاد الروسي وبالتالي وقف العملية العسكرية الروسية بسبب الافلاس.

وهذا يبدو متعذراً أيضاً. لقد استعدّ الروس للعقوبات منذ عام 2014، وقد بنى الروس "حصناً مالياً" عبر بناء الاحتياطيات الدولية للبلاد وتنويعها بعيدًا عن الدولار الأميركي والجنيه الإسترليني. كما عززوا تعاونهم الاقتصادي مع الصين، وحققوا اكتفاءً ذاتياً في مجال الغذاء والدواء والتكنولوجيا.

الخطأ الذي ارتكبه الروس هو ترك ما يوازي 45 %  تقريباً من تلك الاحتياطيات في البنوك المركزية الأجنبية (فرنسا، اليابان، إلمانيا، الولايات المتحدة، بريطانيا)، ما أدى إلى مصادرتها الآن. لكن مع ذلك، يشير الخبراء الى أنه لدى روسيا إمكانية الوصول إلى أكثر من 300 مليار دولار من احتياطيات الذهب والعملات الأجنبية، أي أكثر من معظم دول العالم.

وبالرغم من الدعاية الغربية التي تقول أن العقوبات سببت تقصيراً روسياً في دفع رواتب الجنود و عدم قدرة على شراء الأسلحة، فإن الخبراء العسكريين يشيرون الى أن الآلة العسكرية الروسية، في معظمها، لا تعتمد على الواردات بل إن روسيا مصدر رئيسي للأسلحة في العالم، وبالتالي يتم الحصول على السلاح محلياً، ويدفع ثمن السلاح ورواتب الجنود بالروبل الروسي ولا أزمة لدى الروس في هذا المجال.

 

في المقابل،  يبدو أن نظام العقوبات سيرتد سلباً على معدّيه، وذلك على الشكل التالي:

-      تراجع هيمنة الدولار:

أشارت جيتا جوبيناث، نائب مدير عام صندوق النقد الدولي، في حديث لصحيفة فاينانشيال تايمز إن العقوبات المالية المفروضة على روسيا تهدد بالتخفيف تدريجيًا من هيمنة الدولار الأميركي ويمكن أن تؤدي إلى نظام نقدي دولي أكثر تشتتًا"[1].

-      تراجع نفوذ الغرب:

إن نظام العقوبات الذي استخدمه الغرب ضد فنزويلا وسوريا وإيران وكوريا الشمالية، سوف يفقد أهميته وسيؤدي لتقليص نفوذ الغرب في العالم، فعلى سبيل المثال، استطاع الغرب حصد تأييد سياسي لإدانة الحرب الروسية في أوكرانيا في الجمعية العامة للامم المتحدة (143 من 193)، لكنهم لم يستطيعوا فرض عزلة اقتصادية على روسيا، حيث امتنعت معظم دول العالم عن تأييد تلك العقوبات، حتى تلك التي صوتت ضد روسيا في الأمم المتحدة رفضت الاشتراك في تطبيق العقوبات، بل إن بعضها اندفع الى مزيد من التعاون التجاري والاقتصادي مع الروس.

-      صعود الآليات الصينية الموازية:

تستعمل الصين  نظام صيني CIPS بديل لنظام SWIFT الذي يديره الغرب. إن الدول والشركات والمؤسسات المالية التي تريد التعامل مع الروس أو مع دول أخرى مفروض عليها عقوبات، سوف تضطر لاستخدام البديل الصيني وهو ما سيحوّله الى آلية عالمية موازية، بالاضافة الى استخدام اليوان في التعاملات التجارية الدولية.

تشير دراسة أعدها الدكتور غراهام أليسون، ونشرتها هارفرد أن العملة الصينية ستصبح عملة عالمية نظرًا لحجم وتطور الاقتصاد الصيني[2]، وهو ما سيعزز نفوذ الصين الأقتصادي، ويسمح لها بتسييله سياسياً في المستقبل.

إن اتجاه الصين الجديد باستخدام نفوذها السياسي لحماية حلفائها كما حصل مع عمران خان في باكستان ودعوتها الى تحقيق الاستقرار في افغانستان، وتأسيس قواعد عسكرية لها خارج حدودها كما حصل في جيبوتي، وتوسعها الاقليمي وتوقيعها اتفاقيات أمنية  كما حصل مع جزر سليمان (الواقعة بالقرب من استراليا) الخ... كلها عوامل تفيد بأن عصر الهيمنة الغربية السياسية والمالية والاقتصادية على العالم، سيكون من الماضي، وأن سياسة العقاب عبر العقوبات  التي يمارسها الغرب على كل من يقف ضد سياساته ستصبح بلا جدوى، وسيكون نظام الهيمنة الآحادية الأميركية على العالم، أقصر نظام عرفه العالم في تاريخه.

لقد عرف العالم أنظمة عالمية متعددة، تغيرت بعد حروب كبرى، ومنذ عام 2008 والعالم يعيش على وقع إعادة تشكيل نظام دولي جديد، ستبرز ملامحه بعد الحرب (العالمية) على الأراضي الأوكرانية، ويبدو أن التنبؤ السابق نحو نظام متعدد الأقطاب قد أسقطه الغرب باستفزاز روسيا ودفعها نحو الحرب لكسرها عسكرياً وإقتصادياً ( وهو ما لم يستطع فعله لغاية الآن).

وعليه، يصبح توقع نظام ما بعد الحرب مكوّن من كتلتين: غربية تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وشرقية – أوراسية تقودها الصين.

 

2022/04/04

هل يخسر الروس الحرب؟


تتركز الحرب الاعلامية الغربية على "خسارة" روسية للحرب في أوكرانيا ويدرج كثيرون ومنهم الرئيس الأميركي جو بايدن، القوة الناعمة الروسية أو ما أطلق عليه جو بايدن عبارة "كسب القلوب والعقول" ضمن الخسارة الروسية، "حتى لو كسب الحرب والأرض" كما اعتبر بايدن في وقت سابق.

بغض النظر عن مسار الحرب العسكرية والتقدم العسكري الحاصل وتوقيته، وهو أمر مخصص للعسكريين لتقييمه، فمنهم من يقول أن الاستراتيجية الروسية تقضي بتجنّب الخسارة البشرية والمادية قدر الإمكان لذا فهم يتقدمون ببطء وينجحون، بينما يقول الغربيون أن الروس تفاجأوا بحجم المقاومة الأوكرانية  وأنهم يخسرون الحرب وأن لديهم نقصاً في الامدادات اللوجستية العسكرية الخ...

 بغض النظر عن هذا الجدال، كيف يمكن تقييم العملية العسكرية الروسية ونجاحها خارج الإطار العسكري لغاية الآن؟

عادةً، في أي ظاهرة سياسية في العلاقات الدولية، يتم تقييم النجاح أو الفشل عبر ما يلي:

1-  الاهداف التي تحققت والتي لم تتحقق.

2-  تقييم الوسائل التي استخدمت، والكلفة والأرباح التي تحققت من خلال استخدام تلك الوسائل.

 

1-  في تقييم الأهداف التي حققها الروس، يمكن الحكم النهائي على الحرب الاوكرانية من خلال ما ستقبل به أوكرانيا في الاتفاقية التي ستوّقع في النهاية بين الطرفين.

وبكل الأحوال، تحويل بحر آزوف الى بحر روسي داخلي، ومدّ المياه الى القرم بعد انقطاع دام سنوات (منذ 2014) وربطها جعرافياً بالدونباس، والسيطرة على الجغرافيا التي تشكّل أقاليم الدونباس بالكامل، وربطها بروسيا أو ضمّها اليها فيما بعد، وتدمير البنية العسكرية الأوكرانية التي بناها الأميركيون والناتو خلال سنوات طويلة، والتفاوض على الوضع المحايد لأوكرانيا وقبول أوكرانيا بالتعهد بعدم انضمامها الى الناتو مستقبلاً، يعدّ نجاحاً تاماً للأهداف الروسية الموضوعة مسبقاً قبل بدء الحملة العسكرية.

 

2-  أما بالنسبة للأكلاف، فلا شكّ أن الغرب استطاع أن يكبد روسيا خسائر اقتصادية ومالية منذ اليوم الأول لبدء الحرب، وحتى قبل بدء الحرب، حين اندفع الغرب (والأميركيون خاصة) الى العقوبات بمجرد أن أنهى بوتين خطاب "الاعتراف باستقلال الجمهوريات"، ومنها العقوبات على نورد ستريم 2. تكبد الروس أيضاً خسائر بشرية وحربية وعسكرية، وهذا متوقع في حرب عالمية، تخوضها أوكرانيا ضد روسيا بالوكالة عن الغرب وحلفائه.

لكن الخسائر الروسية لم تكن بدون خسائر في الجهة المقابلة، سواء في كييف أو في الغرب، فالكلفة الاقتصادية التي تكبدها الاقتصاد الروسي لم تكن بدون مقابل في الاقتصادات في العالم، حيث ارتفعت أسعار الطاقة والتضخم، واستقبلت أوروبا ملايين المهاجرين الجدد، وبات على أوروبا أن تفتش على مصادر بديلة للطاقة سوف تحصل عليها بأسعار أعلى بكثير من الغاز الروسي الأوفر بسبب القرب الجغرافي.

الردّ الروسي بفتح أسواق جديدة للغاز الروسي، ومنها الصين والهند، والشروط التي وضعها بوتين على بيع الغاز الروسي بالروبل، عوّضت الخسائر التي مُني بها الروبل في روسيا، ويُتوقع أن يتأقلم الاقتصاد الروسي على المدى المتوسط والطويل مع العقوبات الاقتصادية والمالية التي تمّ فرضها والتي يبدو أنه يتم التراجع عن العديد منها بدون إعلان، ومنها زيادة الطلب الأميركي على استيراد الغاز الروسي، والتي بحسب أحد المسؤولين الروس "زادت الولايات المتحدة إمدادات النفط من روسيا بنسبة 43% في الأسبوع الماضي".

بكل الأحوال، ليست كل الأرباح والخسائر تقاس بالمال، فهناك الأرباح الاستراتيجية التي يمكن للدول أن تضحي بالمال والرجال من أجل تحقيقها وهو ما يبدو في حالة روسيا وأوكرانيا، حيث أن الربح الاستراتيجي المتوقع من الحرب ومن تحييد أوكرانيا وتحويلها الى دولة منزوعة السلاح، بالاضافة الى تشكيلها "عبرة" لدول جوار روسيا الآخرين، هو هدف استراتيجي لروسيا "تهون معه الأكلاف الأخرى" بحسب التفكير الاستراتيجي الروسي.