2016/08/31

ما هي حدود الطموح الروسي في سوريا؟

د. ليلى نقولا
أشار البيت الأبيض إلى أنه من المحتمَل أن يلتقي الرئيس الأميركي باراك أوباما مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين في الرابع من أيلول المقبل، وسيبحث الرئيسان ملف كل من أوكرانيا وسوريا.

بغض النظر عن إمكانية اللقاء أو عدمه، فإن التفاؤل الذي يسوقه البعض حول إمكانية إيجاد حل، أو على الأقل رسم خريطة طريق لحلّ ما في سوريا، يبدو من الصعب تصديقه، لأسباب جوهرية عدّة، أهمها:

أولاً: لن يقبل الأميركيون بسهولة تقاسم النفوذ مع الروس في المنطقة، إذ يعتبر الأميركيون أن روسيا لم تعد إلى صفة " الدولة العظمى" المؤهَّلة للعب دور عالمي بعد، بينما يهدف الانخراط الروسي في سوريا من جملة الأهداف التي يتوخاها؛ إجبار الولايات المتحدة على التعامل مع الروس كندٍّ عالمي وليس كقوة هامشية كما اعتادت أن تنظر إليها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

أساساً، ينطلق الخلاف الأميركي - الروسي حول تحديد ماهية ما حصل عام 1990، وتعريف سقوط الاتحاد السوفياتي، فالأميركيون والغرب بشكل عام يعتبرون أنهم انتصروا في الحرب الباردة وأسقطوا الاتحاد السوفياتي، وهو ما عبّر عنه بوضوح الرئيس جورج بوش الأب حين قال: "الحرب الباردة لم تنتهِ، بل تمّ الانتصار فيها"، بينما يرى الروس أن غورباتشوف حاول نقل روسيا إلى اقتصاد السوق، ولم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي ربحاً غربياً للحرب، لذا لا يحق للولايات المتحدة الادعاء بالتفوُّق والأحقية بحكم العالم بشكل آحادي.

من هنا، فإن الروس يرون أن كل ما يطبع سياسات الغرب اليوم هو التعالي والغرور، ومحاولة منع روسيا من استعادة قوتها ودورها العالمي، ويأخذون على الأميركيين أنه ما أن بدأ الروس بمحاولة استعادة بعض من القوة كدولة، حتى بدأ حلف "الناتو" بالتوسُّع شرقاً، وجذب الدول التي تشكّل عمقاً استراتيجياً لروسيا.

ثانياً: يأخذ الأميركيون على الروس استعمالهم القوة العسكرية للتوسُّع على حساب دول أوروبا الشرقية، وأنهم يستعملون تلك القوة لضرب المجموعات التي تدعمها الولايات المتحدة في سوريا.

واقعياً، لا يملك الروس الكثير من الخيارات، إذ تلعب الجغرافيا الروسية دوراً هاماً في صياغة الاستراتيجية الروسية العالمية، فتواجد روسيا على تماس جغرافي مع كل أوروبا والشرق الأوسط والصين، وغياب الموانع الطبيعية (باستثناء المحيط الأطلسي والقطب الشمالي) يجعل من الاستراتيجية الروسية "هجومية" بشكل دائم.

باعتبارها دولة تحتوي على الكثير من السهول، قامت الاستراتيجية الروسية الأمنية دائماً على استراتيجية توسيع الدائرة حول المركز للتخلص من الأخطار التي تتهدده، لذا ومن أجل الدفاع عن مصالح روسيا القومية، يحرص الروس على عدم القتال على حدودهم، بل يجب نقل المعركة إلى أبعد من الحدود المباشرة. وهكذا، يعتمد الروس التوسُّع واستراتيجية "الهجوم الدفاعي" باستمرار، لأنهم ببساطة يؤمنون أن التوسُّع هو الحل الوحيد لحماية الأمن القومي الروسي.

قبل فلاديمير بوتين، لم يهضم الروس قيام "الناتو" بقصف صربيا، ثم محاولة التمدُّد الغربية في الحديقة الخلفية للروس عبر الثورات الملوَّنة، التي أسقطت الحُكام المرتبطين بروسيا وأحلّت مكانهم حُكاماً موالين للغرب، ثم محاولة جذب أوكرانيا وجورجيا وباقي دول أوروبا الشرقية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلى أن وصل الأمر بالاستراتيجيين الروس إلى الاقتناع المطلق بأن الأمر لا يمكن مقاومته أو الحد من تأثيره إلا باستعمال "القبضة الحديدية".

ثالثاً: تنطلق المقاربتان الروسية والأميركية والنظرة إلى النفس والدور من نفس الرؤية، أي الإيمان باستثنائية تاريخية وتفوُّق حضاري؛ كما الأميركيون يؤمن الروس بأن الله خلق هذه الأمة وأوكلها مهمة حضارية في العالم. نزعة التفوُّق هذه جعلت الروس - كما الأميركيين - يرفضون الانضمام إلى المؤسسات الدولية إن لم يكونوا فاعلين فيها، أو إن لم يضطلعوا بدور قيادي.

مع العلم أن الشعور بالاستثنائية هو ما يجعل الروس بكافة شرائحهم يشعرون بالفخر الوطني الذي يغذي السخط على كل محاولة غربية "لإذلال روسيا"، وهذا بالضبط ما يتقن بوتين اللعب على وتره؛ أي تغذية شعور الافتخار الوطني، وتسويق الاستراتيجية الروسية بأنها محاولة استعادة المجد الروسي، وهو ما يمنحه تأييداً ساحقاً في الداخل.

نتيجة لما سبق ذكره من الأسباب وغيرها، ولأن الأميركيين ما زالوا يملكون الكثير من الأوراق الاستراتيجية التي يستطيعون استعمالها لاستنزاف الجميع في الشرق الأوسط، بدون خسائر من قبَلهم، ولأنهم لم يقتنعوا بعد بضرورة إفساح المجال للروس بكسب مناطق نفوذ جديدة في الشرق الأوسط، لن يكون هناك حل ولا خريطة طريق روسية - أميركية خلال عهد أوباما،وكل ما يستطيعه الروس وحلفاؤهم هو البناء على انشغال الأميركيين بانتخاباتهم الرئاسية، لتغيير موازين القوى في سوريا بشكل جذري خلال ستة أشهر، ما يدفع بالرئيس الأميركي الجديد للقبول بتقاسم بخريطة نفوذ جديدة في الشرق الأوسط، فإن استطاعوا القيام بذلك، يمكن التوصُّل إلى تسوية، وإن لم يستطيعوا، فقد تستمر الأزمة السورية عقوداً مقبلة.

2016/08/25

المقامرة الكردية... الأفق والنتائج


د. ليلى نقولا
خلال أسبوع، طغى الاشتباك بين الجيش السوري وقوات "الاسايش" الكردية في مدينة الحسكة على ما عداه من أخبار المعارك في سوريا سواء في حلب أو دمشق أو سواها، وتبادل الطرفان الاتهامات حول أسباب هذا الاشتباك، الذي يُعدّ الأخطر بين الاثنين منذ عام 2011، خصوصاً أن الجيش السوري نفسه هو من سلّح الأكراد عام 2012.

في خضمّ المعارك، وتبريراً لها، تحدّث الجيش السوري في بيانه عن أعمال استفزازية يقوم بها الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني «الأسايش»، والإعتداء على مؤسّسات الدولة، بينما أشار الأكراد إلى أن النظام السوري يريد أن يكسب ودّ أردوغان بقصفه للأكراد، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشل، وتوتر العلاقات بين الأميركيين والأتراك، والتقارب التركي مع كل من إيران وروسيا.

وبغض النظر عن صحة أي من الاتهامات المتبادَلة بين الاثنين، فإن السعي الكردي لإقامة دولة كردية في سورية لا شكّ أنه يثير الكثير من التساؤلات والتحفّظات لدى كل من دمشق وتركيا وإيران، ما يسهّل إمكانية التنسيق فيما بينها للقضاء على الحلم الكردي بإنشاء دولة مستقلة.

بداية، إن الادعاء الكردي بالحق بالانفصال عن الدولة السورية واقتطاع جزء من الأراضي السورية باعتبارها جزءاً من كردستان التاريخية هو ادعاء لا صحة تاريخية له، وذلك لما يلي:

1-      تاريخيًا، يختلف الوضع الكردي في سورية عن كل من العراق وتركيا، التي يتواجد فيها الأكراد منذ مئات السنين، إذ إن النزوح الكردي إلى سوريا لم يتم إلا بعد المذابح التي تعرض لها الأكراد من "الحركة الكمالية" في تركيا بعد ثورتهم في العام 1925، ما يعني أن الظاهرة الكردية في سورية لم تكن يوماً جزءاً من حركة قومية كردية تاريخية عمرها مئات السنين.

2-      جغرافياً، دولة كردستان بحسب خريطة "اتفاقية سيفر"عام 1920، والتي تُعتبر أول وثيقة دولية تُثبت حق الأكراد في تقرير مصيرهم، والتي يستشهد بها الأكراد للمطالبة بقيام دولة مستقلة، لا تضم لا من قريب ولا من بعيد أي منطقة سورية، ببساطة لأنه لم يكن هناك أي أكراد كقومية تاريخية في تلك المناطق.

3-      هذا بالنسبة للتاريخ والجغرافيا، أما في السياسة فالأكراد في سوريا - كما حالهم في العراق - ليسوا موحَّدين أصلاً في النظرة حول مستقبلهم، بل هم منقسمون بين فريق يطالب بالانفصال وقيام دولة مستقلة، وآخر يريد البقاء ضمن الوحدة السورية، مع ضمانات بحكم لامركزي، وحقوق ثقافية ولغوية.

4-      بالرغم من التهديدات الخارجية وخطر "داعش"، يبدو الانقسام واضحاً بين مكونات الشعب الكردي، وبينهم وبين القوى العربية والسريانية والآشورية الموجودة في الشمال السوري، ويعود هذا الانقسام، كما الانقسام بين الأحزاب السياسية الكردية في العراق، إلى الاحتدام الإقليمي الذي ينعكس تبايُناً في التحالفات الإقليمية للأكراد؛ فبعضهم يتحالف مع الأتراك وتجده جزءاً من "الائتلاف السوري"، بينما يستمدّ البعض الآخر الدعم من الإيرانيين والنظام السوري.

5-      إن الإرث العشائري الكردي ونمط التفكير الاجتماعي الذي ينقسم بطريقة عامودية قائمة على ثنائية الأضداد، وسيادة الفكر الإقصائي والشخصانية والحزبية الإلغائية بين الأكراد يجعلون تحقيق حلم "الدولة المستقلة" صعب المنال، خصوصاً في غياب الممارسة الديمقراطية، وتغليب روح الانقسام على روح التعاون لبناء الدولة الوطنية الكردية. إن دخول الأحزاب الكردية في محاور متناقضة، والتناحر القائم بينها إلى حد الإفناء والإلغاء، يجعلان من الصعب عليها الالتقاء على رؤى موحَّدة لتأسيس "الدولة" الموعودة.

6-      يعيش الأكراد اليوم "نشوة" إحساسهم بأنهم صلب الاستراتيجية الأميركية في سوريا، خصوصاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد أردوغان، والتي جعلت الثقة مفقودة بينه وبين الأميركيين، ما يعني بطبيعة الحال عدم قدرة الأميركيين على فرض قرارهم على جميع المجموعات المسلحة في الشمال السوري.. لكن النشوة الكردية تلك لا تأخذ بعين الاعتبار أن تركيا - العضو في حلف شمال الأطلسي - تُعتبر ركناً من الأركان التي ترتكز عليها السياسة الأميركية في الشرق الأوسط ككل، ولا يستطيع الأميركيون التخلي عنها بسهولة ورميها في أحضان الروس، لذلك فإن الأميركيين، ولو كانوا يستندون إلى المقاتل الكردي لتكريس نفوذهم في سورية، إلا أن تأسيس دولة مستقلة للأكراد دونه عقبات كبيرة، ما يجعل الفيدرالية أو اللامركزية أقصى ما يمكن أن يصل إليه الأميركيون في إقناع حليفهم التركي بالقبول به.

من هنا، يبدو الطموح الكردي المتفاقم قاتلاً أكثر منه عاقلاً، فالسير بمسار قتال الجميع، ودفع الأضداد الإقليميين إلى التحالف بناءً على تقاطع المصالح ضد الأكراد، والاكتفاء بالدعم الأميركي المحرَج بالحليف التركي، يجعل من المغامرة الكردية - حتى لو استطاعت اكتساب بعض الجغرافيا السورية - مقامرة غير مضمونة النتائج.

2016/08/18

بعد "الغَزل" الروسي - التركي.... هل يمكن الوثوق بأردوغان؟

د. ليلى نقولا
قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، كان المسؤولون الأتراك قد أصدروا بعض التلميحات التي تشير إلى تغيّر ما في السياسة التركية تجاه سوريا، ترافقت مع اعتذار تركي من الروس حول إسقاط الطائرة الروسية، بالإضافة إلى "ضبط نفس" تركي غير مسبوق حيال تصريحات أوروبية كانت قد بدأت تصدر من هنا وهناك، تدين "الابتزاز التركي" لأوروبا، وتدعو إلى التنصُّل من تنفيذ صفقة اللاجئين وغيرها.

وحدهم الأميركيون بقوا في حالة تفاوض صعب مع أردوغان، تخلّلتها مراحل من الضغط والضغط المقابل بين الاثنين، فلا أردوغان رضخ بسهولة للمطالب الأميركية باستعمال قاعدة انجرليك في الحرب على الإرهاب، ولا الأميركيون قبلوا بالتهويل الأردوغاني حول الخطوط الحمراء بالتعاون مع الأكراد والسماح لهم بالوصول إلى مناطق معيّنة في سورية تسمح له بإنشاء "دولتهم" الموعودة.

اليوم، وبعد لقاء بوتين - أردوغان، وزيارة ظريف لتركيا، يتحدث كثيرون عن "انعطافة" تركية وتنسيق روسي -إيراني - تركي في مكافحة الإرهاب، قد تؤدي إلى حل سوري، أو على الأقل قد تؤدي إلى تخلٍّ تركي عن بعض الإرهابيين، مقابل المصالحة والمكاسب الاقتصادية التي يوفّرها التفاهم مع الروس، لكن هذا دونه عقبات كبيرة، بالإضافة إلى أن الثقة بأردوغان تبدو شبه مستحيلة، والتاريخ القريب يشير إلى هذه الاستحالة، ونذكر بعض الشواهد:

أولاً: تشير التقارير الواردة من حلب إلى تورّط تركي مباشر في تحشيد ودعم المقاتلين، علماً أن التجارب السابقة في الثقة بأردوغان أثبتت فشلها، فعلى سبيل المثال، بالتزامن مع تقديم أردوغان اعتذاره لبوتين، وبدء الحديث عن تطوُّر في الموقف التركي تجاه سوريا، هاجمت المجموعات المسلَّحة الموالية للأتراك منطقة كنسبا في شمال اللاذقية، كما قام الأتراك بتقديم أسلحة حديثة للمجموعات الإرهابية، وأهمها "جبهة النصرة"، التي حصلت على صواريخ مضادة للطائرات، ثم قامت شركات تركية خاصة بنقل دبابات وعربات مدرَّعة وتقديمها للمسلحين في حلب.

ثانياً: كما مع الروس، كذلك مع الأميركيين، فمقابل الوعود الكثيرة التي أعلنها أردوغان حول مشاركته في مكافحة الارهاب، من خلال التحالف الدولي الذي أنشأه الأميركيون، استمرّ الدعم التركي - المباشر وغير المباشر - للإرهابيين، من خلال السماح للمقاتلين بالعبور للالتحاق بـ"داعش"، وشراء النفط، بالإضافة إلى المشاركة في حصار عين العرب وغيرها.
 "صبرَ" الأميركيون كثيراً على أردوغان ووعوده التي لم ينفّذ منها شيئاً، فاستعمال قاعدة انجرليك في عمليات التحالف ضد "داعش" أخذت الكثير من الشدّ والجذب، وحين قرر الأميركيون إنشاء "جيش سوري جديد" قوامه 5000 مقاتل لقتال "داعش"، قدّم لهم الأتراك بضع عشرات من المقاتلين، صرف الأميركيون على تدريبهم ما يقارب 500 مليون دولار أميركي، ولم يلبث هؤلاء أن بدّلوا ولاءاتهم وسلّموا أسلحتهم لـ"جبهة النصرة" بعد دخولهم الأراضي السورية للقتال.

وحتى قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، وتوتر العلاقة بين أردوغان والأميركيين، كان الرئيس التركي قد بدأ ممارسة "الابتزاز" مع الأميركيين، كما مارسها مع الأوروبيين في السابق، فخلال قمة "الناتو" الأخيرة، كان الأتراك يلعبون لعبة مزدوجة؛ استمرار تدفق المقاتلين والعتاد والسلاح إلى سوريا لإرضاء الأميركيين وتحويل الميدان السوري إلى مستنقع لاستنزاف الروس، وفي المقابل قطع الطريق على الأميركيين في محاولتهم "تطويق" الأسطول الروسي في شبه جزيرة القرم، برفض القبول بـ"وجود دائم" لقوات حلف الناتو في البحر الأسود.

بنتيجة قتال خمس سنوات، وبعد انهيار مشروع "الإخوان" لحكم العالم العربي، وبعد خيبات أمل كثيرة من حلفائه، وآخرها بعد محاولة الانقلاب، فهم أردوغان أن جعل تركيا رأس حربة في المشروع الأميركي، والقطيعة مع الآخرين، سيجعله يخسر حلم قيادة المشرق الذي لطالما حلم به، لذا ستكون الاستراتيجية التركية من الآن فصاعداً قائمة على محاولة لعب دور "الموازن" بين المحورَين المتواجهَين في المنطقة، بحيث يهرع كل طرف لإرضاء تركيا وإعطائها المزيد من المكاسب، لمنعها من الانخراط كلياً في المحور الآخر.

يقول المثل الشعبي اللبناني: "من جرَّب المجرَّب، كان عقله مخرّب"، فهل سيصدّق الإيرانيون والروس المزاعم الأردوغانية والدعوة إلى التفاهم والتقارب؟ وما الذي سيطلبه أردوغان من نائب الرئيس الأميركي الذي سيزوره نهاية شهر آب؟ الأكيد أن تركيا تملك الكثير من المفاتيح الإقليمية الاستراتيجية التي تجعلها قادرة على ابتزاز الجميع، لكنها تحتاج "بقوة" إلى تحالف موثوق يمنع نشوء "الكونتون" الكردي على حدودها مع سورية، فما الذي ستقدّمه للإيرانيين والروس مقابل ذلك؟ الأجوبة ملك الأشهر المقبلة.

2016/08/11

الاستنزاف" في حلب: ماذا يريد الأميركيون؟

"د. ليلى نقولا
تشهد معارك حلب مزيدًا من الكرّ والفرّ، وحشد الجهود والقوى لمعركة أطلق عليها الرئيس السوري بشار الأسد عليها يومًا توصيف "ستالينغراد سوريا"، أي أن هذه المعركة - برأيه- ستكون مقبرة المجموعات المسلحة، كما كانت ستالينغراد مقبرة قوات هتلر الغازية للأراضي الروسية.
يملك الروس وحلفاؤهم في معركة حلب أرجحية ميدانية، بدليل تكرار الهجوم والغزوات والانتحار على أبواب حلب، وسقوط المئات من القتلى الارهابيين من جنسيات متعددة. بينما تتكل الولايات المتحدة الأميركية على المجموعات المرتبطة بحلفائها الاتراك والسعوديين والقطريين لخوض معركة مفصلية ستؤدي خسارتها الى خسارة العديد من الأهداف المرتبطة بالحرب السورية.
وتبدو الأهداف الأميركية في الحرب السورية متعددة ومترابطة ومتناقضة في آن، وذلك على الشكل التالي:
أولاً: هدف منع الروس أو أي جهة دولية أخرى من كسب النفوذ في الشرق الأوسط، وتقاسمه مع الولايات المتحدة: وهذا الهدف إنما هو هدف ثابت في السياسة الخارجية الأميركية ويعني منع أي قوة دولية من الهيمنة أو إزاحة نفوذ الولايات المتحدة في العالم.
ثانيًا: المحافظة على توازن القوى بين الدول الاقليمية الموجودة في المنطقة ومنع ايران من تحقيق تفوق كاسر للتوازن مقابل حلفاء أميركا الاقليميين أي تركيا والسعودية.
ثالثًا: القدرة على تصميم مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي كما تريده الولايات المتحدة، وعدم العودة الى حالة ما قبل عام 2011.
رابعًا: منع تحقيق التوازن في الصراع العربي الاسرائيلي ، ومنع حزب الله من زيادة قوته بشكل يخرق التفوق العسكري الاسرائيلي.
خامسًا: مكافحة ارهاب داعش وباقي المجموعات الارهابية حسب التصنيف الأميركي.
وتبدو هذه الاهداف الأميركية في سوريا مترابطة ولكنها متناقضة في آن:
- قتال الارهابيين بشكل جدي ومكافحتهم والقضاء عليهم، سيكون لصالح كل من الروس والايرانيين والجيش السوري وحلفاؤه ما يعني تحقيق الهدف الخامس على حساب الاهداف الأربعة الاولى التي ستكون بخطر.
- التخلي عن مكافحة الارهاب للتفرغ لإسقاط النظام السوري بالقوة وتحقيق الهدف الثالث، دونه عقبات كبرى تتجلى في الخسائر البشرية والمادية، وتفشي الارهاب وحيازته أراضٍ شاسعة تحت أعين المقاتلات الاميركية كما حصل في العديد من المناطق العراقية والسورية من قبل، والانجرار الى صراع دولي كبير مع الروس عالي التكلفة والمخاطر.
- محاولة تحجيم ايران لمنعها من كسر التوازن بينها وبين الدول الاقليمية الاخرى الحليفة للولايات المتحدة، وإعطاء دور أكبر لكل من تركيا والسعودية، تبين خلال الحرب السورية أنه جعل الحلفاء يتمردون على الولايات المتحدة ويحاولون التفرد ببعض القرارات الاقليمية، مما جعل وزير الخارجية الأميركي يعد بالكثير من الوعود بدون القدرة على ايفائها.
- أما الهدف الاول وهو منع الروس من القدرة على المطالبة بتقاسم نفوذ جدي وحقيقي في الشرق الاوسط، فهو هدف بات من غير الواقعي محاولة الحفاظ عليه، فتحقيق أي من الاهداف (2-3-4-5) بات يحتاج تعاونًا روسيًا أميركيًا، اللهم إلا استطاع الأميركيون وحلفاؤهم هزيمة الروس هزيمة كبرى في سوريا وهذا أمر من المستبعد حصوله.
إن فهم هذه الأهداف وترابطها وتناقضها، تجعل الأميركيين يجنحون الى تفضيل استنزاف جميع القوى في سوريا، ومحاولة منع أي طرف من الانتصار، فلا هم سمحوا لحلفائهم بمد الارهابيين بما يريدون من صواريخ أرض - جو وغيرها من الاسلحة، ولا هم تدخلوا عسكريًا وجويًا للقضاء على الارهاب بشكل جدّي، لكنهم في المقابل استعملوا كل ما استطاعوا من وسائل لمنع الروس وحلفائهم من الانتصار الساحق والسريع، وهو ما حصل فعليًا بعد طلب الهدنة حيث استطاع الاميركيون وحلفاؤهم ترميم القدرة القتالية للمجموعات المسلحة السورية خلال الهدنة التي فرضوها على الروس، وهو ما سيجعلهم يضغطون على اردوغان لعدم التنازل للروس في الموضوع السوري.
في النتيجة، يدرك جميع الأطراف أن معركة حلب ستكون معركة مفصلية في تاريخ الحرب في سوريا، فإذا انتصرت المجموعات المسلحة وسيطرت على حلب - وهو أمر مستبعد جدًا- ستكون نكسة كبيرة للروس وحلفاؤهم، أما إذا انتصر النظام  السوري وحلفاؤه في هذه المعركة واستطاعوا إقفال الحدود التركية السورية، فهذا يعني نهاية ما سمي "المعارضة السورية المسلحة" والمجموعات الارهابية التي تقاتل معها.
من هنا، إن أيًا من المحورين المتقاتلين يصعب عليه التنازل بسهولة والاستسلام في هذه المعركة، وهو ما سيعقّد الحرب ويطيلها، ولكن، الأرجحية تبقى للجيش السوري، إلا أذا أدت الضغوط الى هدنة سوف تؤدي الى خطوط تماس جديدة في حلب.

2016/08/03

قراءة هادئة في انتخابات التيار الوطني الحر


د. ليلى نقولا
بغض النظر عن الأرقام، والصراخ والاتهامات المتبادلة التي سادت مواقع التواصل الاجتماعي قبل الانتخابات التمهيدية للتيار الوطني الحر، وخلالها وبعدها، فإن أي مراقب موضوعي لتلك العملية الديمقراطية التي انفرد فيها التيار، لا يمكن إلا أن يسجّل ملاحظات عدّة تندرج في ما يلي:

أولاً: مجرد قيام الانتخابات التمهيدية، ومهما كانت الشوائب التي سادتها، تؤشر إلى أن التيار، وبرغم المصاعب التي تعترض طريقه، ما زال يشكّل حالة تغييرية ترتكز إلى الأسس الديمقراطية في اختيار مرشحيه للسلطة السياسية، وهي آلية تفتقدها معظم الأحزاب اللبنانية التقليدية.

ثانياً: أظهرت الأرض الأحجام بالأرقام، وهذا ما قد يوفّر جهداً ويقلل من الانتقادات التي سادت خلال انتخابات 2009؛ حين اعتقد كل مرشح للنيابة لم يسمِّه العماد عون أنه مظلوم، وأن للعماد عون تفضيلاته بين أبنائه. لن يكون هذا الكلام متاحاً بعد الآن، اللهم إلا إذا احتاجت التحالفات السياسية للتضحية بأحد الناجحين في منطقته، فمن يستطيع أن يقنع الناجحين اليوم أنهم لم يصبحوا نواباً بعد؟

ثالثاً: الترويج الذي مارسه المعترضون حول نتائج الانتخابات التمهيدية، وأنهم - أي "المعارضين" - شكّلوا الأكثرية الفائزة في معظم المناطق، يثبت دون شكّ وبشكل قاطع عدم صحة ما ساقه بعض المفصولين من أن التيار تحوّل إلى ديكتاتورية الفرد - الرئيس، وأن الاعتراض من الداخل غير ممكن، لذلك اضطروا لاستخدام وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لإسماع صوتهم. لقد دخل هؤلاء في مسار من التناقض، فإن كان التغيير من الداخل مستحيلاً، كيف يمكن أن يربح المعارضون في معظم المناطق كما يقولون؟

رابعاً: لقد أثبت أهل التيار أنهم قادرون على المحاسبة والمساءلة، والمحاسبة هنا هي بالدرجة الأولى لبعض القياديين والمنسقين، الذين انفصلوا عن الأرض، وتصرفوا بعنجهية وفوقية مع المناصرين والناشطين من أبناء مناطقهم.

بعكس حالة ما قبل عودة العماد عون، حيث كان كل ناشط في التيار يجد نفسه معنياً بإيصال الرسالة للمستقلين، ويمارس التعبئة الدائمة لمن هم في محيطه، بعكس تلك الحالة الشديدة الالتزام، كان تصرف بعض "القياديين" منذ عام 2005 ولغاية الآن مشوباً بالتكبُّر وعدم الاكتراث بالتواصل مع "الأرض"، على اعتبار أن قربه من بعض المسؤولين، أو مجرد قدرته على زيارة العماد عون في الرابية تجعله في حلّ من العمل، وقادراً على الاستئثار بالسلطة..لكن قرار التيار بالعودة إلى القواعد الحزبية سيجعل من الصعب من الآن فصاعداً الاكتفاء بالطلات الإعلامية، والتبجيل للقيادة، أو الاتكاء على إرث تاريخي للاحتفاظ بالمناصب.

رابعاً: أثبتت الحالة العونية قدرتها على فرز قيادات شبابية جديدة، بغض النظر عن حجم مواردها المالية أو قدراتها الاقتصادية. نعم، إن نجاح الكثير من المناضلين الذين يحملون في سيراتهم الذاتية الكثير من النضال، يعطي أملاً للشباب الجامعي الجديد بأن المناصب السياسية في لبنان لن تكون بعد اليوم حكراً على الإقطاع القديم وأصحاب رؤوس الأموال وبعض متسلقي المناصب من الانتهازيين النفعيين، بل يمكن للشباب الانخراط في الأحزاب، والعمل من أجل تغيير حقيقي وجدّي في بنية وتركيبة السلطة السياسية في لبنان.

مع ذلك، يبقى من أكثر العلامات السوداء التي شابت هذه الانتخابات، قلة عدد السيدات المرشحات للانتخابات التمهيدية، ما سيؤدي إلى انعدام وصولهن إلى الندوة البرلمانية عبر التيار الوطني الحر.

يُسجّل على التيار بقوة عدم تشجيع السيدات على الانخراط في العمل السياسي، وعدم فتح المجال الكامل أمامهن لتبوّء مراكز نيابية ووزارية، فباستثناء وصول النائب جيلبيرت زوين لم يسجّل تكتل التغيير والاصلاح أنه حالة تغييرية حقيقية في موضوع دخول المرأة المعترك السياسي.

اليوم، وبعد نجاحهم في الامتحان الديمقراطي، لم يعد يكفي أهل التيار التبجح بأن ميثاقهم يؤكد على إيمانهم بالمساواة بين الرجل والمرأة، بل عليهم إقران القول بالفعل، لا بل بأكثر من الفعل: بفرض كوتا نسائية حقيقية للمناصب القيادية في التيار ولنوابه، وعدم الاكتفاء بالتذرع بأن المرأة لم تقدِم.. لكي تقدم، عليها أن تجد تشجيعاً كافياً ومستمراً ومتواصلاً وغير ظرفي.