2016/01/28

جنيف 3: الربح بالنقاط ...والحصاد بالجملة

د. ليلى نقولا
ينطلق قطار المباحثات السورية "جنيف - 3" يوم الجمعة في 29 كانون الثاني الجاري، ما يؤشر إلى أن المسار السياسي لحل الأزمة السورية قد بدأ مساره، بالرغم من أن التفاؤل بقرب أو بنضوج هذا الحل يعتبر نوعاً من السذاجة السياسية، إذ ما زالت العقبات التي تسيطر على جدية الوصول إلى حل سياسي كبيرة وعميقة.

قد يكون الإحباط من المسار الذي ستتخذه المباحثات في جنيف، والذي يلفّ المعارضين السوريين على مختلف توجهاتهم ومشاربهم طبيعياً، فالأمور كما تبدو تسير لمصلحة النظام السوري وحلفائه، علماً أن مجرد انعقاد المباحثات في جنيف، وبالطريقة التي سيتم بها، يشير إلى ربح مسبق للنظام بالنقاط على المعارضة، على الشكل الآتي:

1-   إلغاء أي مرجعية لـ"جنيف - 1"، والذي استطاعت فيه المعارضة السورية - في لحظة داخلية وإقليمية ودولية حرجة للنظام - أن تحصل على مكسب إعلان عن أن الحل السياسي سيتم من خلال تشكيل "هيئة حكم انتقالي"، بينما أدّت التطورات الميدانية خلال ثلاث سنوات ونصف، وانقلاب ميزان القوى لصالح النظام بعد التدخّل الروسي، إلى إجراء المباحثات اليوم حول آليات تطبيق "إعلان فيينا" حول سورية، والذي يتحدث عن حكومة وحدة وطنية من النظام والمعارضة، وعلى أن يكون "الحكم شامل ذي مصداقية وغير طائفي"، وهذا يعني أن أقصى ما يستطيع المعارضون النجاح به هو التفاوض على أي من الوزارات يمكن أن يحصلوا عليها في هذه الحكومة المرتقَبة.

2-   تبديل عبارة المفاوضات بعبارة المباحثات، لإرضاء المعارضين، لا يعني شيئاً في الميزان السياسي، لذا فإن اعتماد آلية "المباحثات غير المباشرة" سيعطي النظام نقطة إضافية، فالمعارضون الذين أعلنوا عدم شرعية النظام السوري وأنهم لن يذهبوا إلى أي مفاوضات قبل رحيل الرئيس بشار الأسد، سيمنحون النظام شرعية سياسية بقبولهم مجرد الذهاب إلى المباحثات بدون شروط مسبَقة، كما أعلن دي ميستورا، علماً أن عدم قبول وفد النظام بالجلوس بمواجهة المعارضة والتفاوض معها، يمنحه هامش الادعاء بعدم الاعتراف بشرعية المعارضين من حملة السلاح، والاستمرار في الحملة العسكرية التي يشنّها عليهم لتحرير الأرض.

3-   عمد بعض أعضاء المعارضة من وفد الرياض إلى قول إن وزير الخارجية الأميركي جون كيري قد ضغط عليهم للقبول بالذهاب إلى جنيف، لكن الإنصاف يقتضي القول إن الولايات المتحدة الأميركية قد صبرت كثيراً على تلك المعارضة ومجموعاتها المسلحة، فخلال سنوات خمس من الدعم الأميركي والدولي المتواصل والاعتماد المفتوح، لا هم استطاعوا أن يشكّلوا هيئة سياسية معارضة ذات مصداقية شعبية، ولا هم استطاعوا أن ينأوا بأنفسهم عن الإرهابيين، وعجزوا في سنوات خمس من القتال عن هزيمة الجيش السوري، الذي صمد سنوات عدّة، إلى أن أتى التدخّل الروسي ليُنهي إي إمكانية لاستنزاف طويل الأمد.

4-   الصراخ الذي يطلقه المعارضون السوريون بضرورة منع ترشّح الرئيس السوري بشار الأسد لأي انتخابات مقبلة أو فرض شرط تنحيه في نهاية الفترة الانتقالية، يشي بأن المعارضة بتلاوينها المختلفة غير واثقة من قدرتها على هزيمته في انتخابات حرة وديمقراطية برعاية الأمم المتحدة، وأنها بالرغم من إعلانها بأن "الشعب السوري" قد قام بـ"ثورة" عارمة وامتشق السلاح مرغماً لتغيير النظام، فإنها تبدو غير واثقة من قدرتها على إقناع هذا الشعب "ذاته" بعدم انتخاب بشار الأسد في الانتخابات!


قد لا يتسع المجال هنا لتعداد خسائر المعارضة السورية في سنوات خمس من الأداء المتعثر والتناحر، والفساد الذي جعلها نسخة مشوَّهة عن النظام الذي ادّعت أنها تحاربه، لكن الأكيد أن الميدان السوري سيشّكل الوجهة الحاسمة لأي مفاوضات أو نتائج تنجم عنها، وكما يبدو - لغاية الآن - أن الميدان يلعب بشكل قوي لصالح النظام، كما يبدو واضحاً من خلال إعلان فيينا، وقرار مجلس الأمن رقم 2254، أن ما سمي يوماً "الورقة الروسية"، وقبلها "الإعلان الايراني" عن تصوُّر لحل سوري، هو الذي سيتحقق. وهكذا، سيكون الجميع بانتظار فرض الحل في الميدان لتحصيل الأوراق، ومن يحصل على ماذا، ويبقى في هذا الوقت للمعارضين السوريين هامش التنافس فيما بينهم، ليُثبت كل واحد منهم نفسه أنه مؤهَّل ليكون شريكاً للنظام في المرحلة المقبلة.

2016/01/21

ما هي الأسباب الحقيقة للانقلاب القواتي؟

د. ليلى نقولا
في خطوة يُشهد لها بالجرأة والإقدام، أقدم رئيس حزب القوات اللبنانية على ترشيح العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وهي خطوة لها من الدلالات والأهمية السياسية والاجتماعية أكثر مما لها في موازين الأصوات الانتخابية في صندوق الاقتراع الرئاسي في مجلس النواب.
ولعل الجميع يدرك أن عدد أصوات القوات النيابية غير كافية لايصال العماد عون الى الرئاسة، ولكن خطوة الترشيح بحد ذاتها ذات مؤشر هام، وتوحي بانقلاب في الساحة السياسية اللبنانية، يختلف المراقبين في تفسيرها، فيطرحونها على الشكل التالي:
الطرح الاول، أتى بسرعة من قبل بعض الاعلاميين وخاصة المحسوبين على بعض قوى 8 آذار والرئيس برّي الذين يميلون لصالح رئيس تيار المردة، وهم حاولوا إحراج العماد عون وتياره بالقول أن رئيس القوات كرّس نفسه صانع الرؤساء، واستفاضوا في "تكبير" الرجل لدرجة يخال معها القارئ أن سمير جعجع سيكون الرئيس الفعلي الذي سيملي على العماد عون كيف يحكم الجمهورية في ما لو وصل الى رئاسة الجمهورية!.
الطرح الثاني، وأتى معظمه من صقور 14 آذار، الذي لم يرَ في مصالحة الرجلين سوى حلف مسيحي طائفي، يكرّس صراعًا مسيحيًا اسلاميًا، ويريد أن يلغي المكونات الأخرى. والمثير للدهشة في هذا الطرح، أن جميع الأحزاب اللبنانية التي تقاتلت في وقت من الايام خلال الحرب الاهلية، عقدت تفاهمات ومصالحات ولم يعب عليها أحد هذا الأمر، كما أن التراشق الاعلامي والحرب الدائرة بين حزب الله وتيار المستقبل لم تمنع الاثنان من التلاقي وأحيانًا من عقد الاحلاف، ولم يستاء أحد من التفاهم ولم يُرجم تفاهمهما بحجر!.
الطرح الثالث، وهو طرح لا يجد الكثير من الفسحة الاعلامية الواسعة لان الاعلام اللبناني المسيّس فتح صفحاته لأصحاب الرأيين الاولين، وانشغل اعلام التيار الوطني الحر بمباركة الحدث. وهذا الطرح يجد في الخطوة اعترافًا من القوات اللبنانية بانهزام مشروعها، خاصة في ظل الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش السوري وحلفائه في الميدان السوري، وادراك القوات أن المرحلة المقبلة قادمة على الكثير من خلط الأوراق الاقليمية، خاصة بعد بدء تنفيذ الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن ايران، واحراج السعودية اقليميًا وميدانيًا وماديًا وهو إحراج مرشح الى التفاقم كلما اقترب مسار الحل السياسي في سوريا من الانطلاق.
أصحاب هذا الطرح يعتبرون أن جعجع قرأ التطورات جيدًا، وأن جنبلاط المعروف بقراءته الجيدة سيكون التالي بعد جعجع في الاعتراف بهزيمة المشروع الذي دخل فيه الرجلان وباتوا رأس الحربة فيه.
وينقسم أصحاب هذا الطرح في تفسير قبول العماد عون تعويم جعجع وحزبه، فيطرحون سببين ومنهم من يدمجهما معًا. منهم من يعتبر ان العماد عون معروف بهذه الشيم، إذ لطالما قام بتعويم العديد من خصومه السابقين بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، ومنهم من عاد وطعنه في ظهره، وفي نفس السياق القيمي والاخلاقي يقوم اليوم بتعويم القوات باعتبارها مكونًا من مكونات المجتمع اللبناني والمسيحي، ولا يجوز عزله أو تهميشه لأن ذلك يؤدي الى إضعاف المسيحيين، وإضعاف بنية المجتمع اللبناني ما يؤدي الى الاضطرابات.
أما الرأي الآخر، فيرى أن للعماد عون وتياره مصلحة في تعويم القوات تمهيدًا الى التحالف معها في الانتخابات، إذ لن يكون للمجتمع المسيحي قدرة على النهوض والتغيير والتطلع نحو المستقبل إلا بالتخلص من الطبقة الاقطاعية المتجذرة التي أمعنت في التحكم بمصيره، وحرمت الشباب المسيحي من خارج الاطار التقليدي والعائلات السياسية من الوصول الى أي موقع من مواقع السلطة السياسية. وعليه، فإن الحزبين المسيحيين اللذان لم يخرجا من رحم العائلات الاقطاعية التقليدية، في حال تحالفا في الانتخابات النيابية، سيقدران على تأسيس حالة جديدة تسمح للكفاءات والشباب الجامعي المنضوي تحت رايتهما في الوصول وخلق دينامية جديدة في المجتمع اللبناني.
وفي المحصلة، وبغض النظر عن المسببات التي أملت هذا التحوّل القواتي، وبغض النظر عن نتائج هذا الترشيح على وصول العماد الى سدة الرئاسة، يبقى رأيي أن الخطوة التصالحية التي حصلت، إن تمّ استثمارها والبناء عليها ولم تبق في اطار الاعلان والذكرى، ستؤدي الى تقوية المسيحيين في الشراكة الوطنية، وستخفف من منسوب الحقد المتجذر في المجتمع المسيحي منذ التسعينات، وستكون بشارة أمل للمجتمع اللبناني لأن قوة المسيحيين تؤدي الى تقوية المجتمع برمتّه، ولمسيحيي المشرق بأن عهد التقاتل المسيحي الذي يؤدي الى استفرادهم فتهميشهم وهجرتهم قد ولّى.

2016/01/14

الرئاسة اللبنانية... تسوية أو انقلاب؟

د. ليلى نقولا
يعيش اللبنانيون على إيقاع التطورات السورية، ويعمدون في الوقت الضائع بين الانتصارات الميدانية التي يحققها الجيش السوري، والتحضير للسير بالتسوية المفترضة في جنيف، إلى الانشغال برئاسة جمهورية ضائعة بين الأمن المستلَب في عرسال، واقتصاد متردٍّ في أنحاء البلاد، وعجز عن إدارة ملف النفايات التي لم يعد الإعلام يتعاطى معه بما يستحق من أهمية.

وفي خضمّ صراع المحاور المحتدم في المنطقة، تختلط المحاور الداخلية اللبنانية، لا سيما المسيحية منها، فالوزير السابق سليمان فرنجية الذي يعيش على أمل إحياء تسوية وُلدت ميتة، يسافر ليلتقي الرئيس الأسبق سعد الحريري في باريس، وفي جرأة معلنة هذه المرة، على عكس المرة السابقة التي حاول الرجلان التستّر عليها، فكان أن جوبه النكران بصور مسرَّبة من قبَل فريق الحريري نفسه، ما جعل فرنجية يبدو كالرجل المضبوط بجرم نكران أمر ليس بجرم أصلاً.

أما على الجبهة المسيحية الأخرى، فإن التقارب بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" يشغل الإعلام والسياسيين، في ظل تساؤل عمّا يحضّره المسيحيون وماذا يريدون، علماً أن اللقاءات بين الأحزاب الأخرى كـ"تيار المستقبل" وحزب الله لا تثير استهجاناً لدى هؤلاء كالذي يثيره لقاء الأحزاب المسيحية، بالرغم من كل خطاباتهم المتشنّجة التي تصدر باستمرار، والتي تتلاقى دائماً مع التصعيد في الإقليم.

وفي ظل كل هذا، لا تبدو التسوية في لبنان تلوح في الأفق في الأفق، بغضّ النظر عن كل الحراك الرئاسي الدائر بين الرابية ومعراب من جهة، وبنشعي وباريس من جهة أخرى، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: تقود السعودية محوراً يعيش أكثر أوقاته إحراجاً على الإطلاق؛ فالأحلاف العسكرية التي تمّ الإعلان عنها من قبَل السعوديين ظهرت فعلاً أنها قنابل صوتية وهمروجات إعلانية أكثر مما هي فعلاً على الأرض، ولم يكن السعوديون ليُعدموا الشيخ النمر بما له من رمزية، لولا حاجتهم لتصعيد كبير يعطّل أسس التسوية السورية التي لاحت في الأفق، والتي لم تكن في صالح السعودية وحلفائها على الأرض السورية، علماً أن السعودية حاولت الالتفاف على كل مخرجات التسوية، بمحاولة دسّ اسم حزب الله وحركة أمل والبعث اللبناني في قائمة المنظمات الإرهابية التي أعدّها الأردن، ثم بمحاولة احتكار تمثيل المعارضة السورية.. وعندما لم تُفلح في وقف المسار كلياً، عمدت إلى التصعيد، أملاً في الوصول إلى كباش إقليمي كبير يحرف الأنظار عن التسوية السورية، ويعطّلها للأبد.

ثانياً: بالرغم من الخطأ الإيراني بالسماح للمتظاهرين بإشعال النيران في السفارة السعودية في طهران، فإن السياسة الإيرانية المتحلية بضبط النفس، والرد المتّزن والمتريث منذ حرب اليمن، وبعدها فاجعة منى التي راح ضحيتها المئات من الحجاج الإيرانيين، يشي بأن الإيرانيين يُدركون محاذير الانجرار إلى الرد العنيف على السعودية، ويريدون تفويت الفرصة على السعوديين بافتعال حرب إقليمية جنونية، تؤدي إلى خسائر بالجملة للإيرانيين، سواء في الإقليم أو في الملف النووي ورفع العقوبات الدولية.

هذا في السياسة، أما في الميدان السوري، فإن الصراخ المعارض الذي يتهم الأميركيين بالتخاذل، بالإضافة إلى تقدُّم الجيش السوري وحلفائه الثابت والوثيق، والانتصارات التي يحققها، وآخرها إسقاط منطقة سلمى، بما تعنيه من قيمة استراتيجية كأول "إمارة" كانت قد أنشأتها المجموعات المسلحة في سورية، يدفع إلى الاعتقاد بأن محور روسيا - إيران - سورية - حزب الله لن يكون مستعجلاً أبداً لعقد أي تسوية في أي مكان في الإقليم قبل حصد النتائج السياسية للميدان في سورية، فالتنازلات التي قد يجدون أنفسهم مضطرين لدفعها ثمناً للتسوية والحل السياسي، ستنخفض مع مرور الوقت تزامناً مع الانتصارات العسكرية.

انطلاقاً من هذا، فإن المشهد اللبناني لا يمكن أن ينفصل عن كل هذا الكباش، فلا حلفاء إيران مستعدون للسير بتسوية رئاسية وإعطاء "هدايا" للسعودية في لبنان تجعلها تعوّض خسارتها الإقليمية، وتمنحها زخماً أكبر للقتال والتصرفات العدوانية تجاههم، ولا السعوديون سيتسامحون مع أي انقلاب ضدّهم من قبَل حلفائهم، يؤدي إلى انتخاب رئيس للجمهورية متحالف مع المقاومة، ولو اضطرهم الأمر إلى إشعال النار في لبنان أو إغراقه بالدماء؛ كما هدد أحد قادة "تيار المستقبل" سابقاً.