2024/01/26

قرار محكمة العدل الدولية: جريء لكن ناقص

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها المبدأي في قضية جنوب أفريقيا ضد اسرائيل، حول قيام اسرائيل بانتهاك اتفاقية "منع ابادة الجنس" الصادرة عام 1951، والتي تشترك فيها كل من اسرائيل وجنوب أفريقيا.

وفي قراءة أولية للحكم الصادر عن المحكمة يمكن الاشارة الى ما يلي:

1-     قبلت المحكمة الاختصاص في النظر في هذه القضية،  وقالت انه لا يمكن قبول طلب إسرائيل برفض النظر في القضية. ووجدت أنه يحق لجنوب أفريقيا مساءلة إسرائيل بشأن عدم التزامها باتفاقية منع الإبادة الجماعية، وبالتالي، للمحكمة السلطة في اتخاذ تدابير ضد أي ضرر وخطر قائم، ويمكنها إصدار حكم نهائي.

وهذا يعني أن اسرائيل ستخضع للمحاكمة في القضية وهذه اشارة ايجابية، اذ لأول مرة في تاريخها – ومنذ اعمال القتل المنهجي من عام 1948- تكون اسرائيل عرضة للمساءلة أمام القانون الدولي.

وهكذا، ونظراً للمحاولات الغربية الدائمة لحماية اسرائيل، سيكون القانون الدولي والمؤسسات الدولية على المحك، لان الضغوط التي ستتعرض لها المحكمة وقضاتها ستكون كبيرة لمنع قرار نهائي بتجريم اسرائيل بارتكاب ابادة في غزة.

 

2-     أقرّت المحكمة أن الفلسطينيين هم "جماعة" محمية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، كما ارتكزت الى أحاديث رسمية من قبل مسؤولين اسرائيليين تثبت "النية الاسرائيلية" بإبادة الفلسطينيين في غزة.

وهذا الاقرار بأن الفلسطنيين "جماعة"، بالاضافة الى تأكيد المحكمة "وجود نية اسرائيلية" تثبتها التصاريح الرسمية الاسرائيلية من قبل الرئيس الاسرائيلي ووزراء ومسؤولين اسرائيليين، تكون المحكمة قد قطعت نصف الطريق المطلوب لتجريم اسرائيل بتهمة الابادة في غزة.

وكانت المادة 2 من اتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية، التي تستند اليها المحكمة في قرارها والنظر في القضية اليوم، تعرِّف الإبادة الجماعية على أنها أي من الأفعال التالية، المرتكبة بقصد التدمير الكلّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:

 

(أ) قتل أعضاء من الجماعة؛

 

(ب) إلحاق أذى بدني أو معنوي جسيم بأعضاء من الجماعة؛

 

(ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا؛

 

(د) فرض تدابير تهدف إلى الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛

 

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

 

وبالنظر الى ما أوردته رئيسة المحكمة من أعمال قامت بها اسرائيل في غزة، والاقتباسات التي نقلتها عن مسؤولين في الامم المتحدة والوكالات الدولية، فإن اسرائيل ارتكبت "عمداً" معظم هذه الاعمال، وكانت لديها "النيّة المسبقة" للقيام بتلك الاعمال "لاهلاك الجماعة كلياً أو جزئياً".

هذا القرار وهذه الحيثيات التي أوردتها المحكمة اليوم، تعتبر تاريخية وجريئة، وستكون علامة فارقة ومرتكزاً قانونياً، اذا انها ستشكّل معياراً لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في قضية فلسطين من ناحية المسؤولية الجنائية أن تتخطاها. وسيكون من الصعب على المحكمة الجنائية الدولية (اذا استمرت في القضية ضد اسرائيل) أن تتنكر للاثباتات التي أوردتها محكمة العدل الدولية.

وكان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية "كريم خان" قد زار اسرائيل وأطلق تصريحات أقل ما يقال فيها أنها ساوت الضحية بالجلاد، وسلط على ما سماه "الارتكابات التي قامت بها حماس والتي تنتهك القانون الدولي الانساني" بدون ان يشير بالمثل الى ما قامت به اسرائيل مؤكداً  لاسرائيل التزامه مبدأ "التكامل" اي ان المحكمة قد تتذرع بقيام المحاكم الاسرائيلية بالنظر في ارتكابات قام بها الجيش الاسرائيلي ليدعي بعدم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

3-     أمرت المحكمة في حكمها اليوم، أن تقوم إسرائيل "باتخاذ إجراءات لمنع أعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، ويجب تقديم تقرير عنها خلال شهر واحد"، وإنه يتعين على إسرائيل منع ومعاقبة التحريض على الإبادة الجماعية في القطاع، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وباتخاذ المزيد من الإجراءات لحماية الفلسطينيين.

اللافت في القرار أيضاً، أن المحكمة تخاذلت بينما لم تأمر اسرائيل بوقف العمليات العسكرية في القطاع (فوراً)، أمرت حماس وباقي المجموعات الفلسطينية باطلاق سراح الرهائن فوراً.

هذا القرار يثبت بما لا يقبل الشك انحياز المحكمة الى اسرائيل. ففي حكم صادر من قبل المحكمة في نزاع أوكرانيا ضد روسيا، أمرت المحكمة روسيا "بضرورة أن تعلّق روسيا العمليات العسكرية في أوكرانيا على الفور".

 

وجاء الحكم ضد روسيا رداً على دعوى رفعتها أوكرانيا في 27 شباط/فبراير، متهمة روسيا بالتلاعب بمفهوم الإبادة الجماعية لتبرير عمليتها العسكرية. وخلال اعلان القرار ضد روسيا، قالت رئيسة محكمة العدل الدولية: "في الواقع، فإن أي عملية عسكرية، وخاصة على النطاق الذي ينفذه الاتحاد الروسي على أراضي أوكرانيا، تؤدي حتماً إلى خسائر في الأرواح، وإلحاق أضرار نفسية وجسدية، وإلحاق أضرار بالممتلكات والبيئة."

وفي المقارنة بين الحكمين، وبين ما اوردته الرئيسة من حيثيات القرارين، فإن الدعوة لروسيا جاءت لوقف العملية (فوراً) لانها ستؤدي حتماً الى خسائر في الارواح، بينما قالت الرئيسة في قضية غزة "ان عمليات اسرائيل قتلت العشرات من آلاف الفلسطيينين، وهجرتهم وجعلت غزة مكاناً غير قابل للعيش"، وبالرغم من ذلك فإن القرار لم يطالب اسرائيل بوقف عدوانها (فوراً) بل اعطاها مهلة شهر لتقديم اثباتها أنها لا ترتكب اعمالاً تعتبر من أعمال الابادة في غزة.

 

في النتيجة، لم يكن قرار محكمة العدل الدولية على قدر التوقعات المأمولة منه، لكنه شكّل سابقة دولية قانونية، وتاريخية تدين اسرائيل على أعمالها ضد الفلسطينيين وهو قرار يمكن الاستناد الى حيثياته للدعاوى ضد اسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وفي المحاكم الوطنية في الدول التي تتيح قوانيها تطبيق مبدأ "الولاية القضائية العالمية".


 

2024/01/19

الحرب الاستباقية الاسرائيلية على لبنان: من منع الجنون؟

يوماً بعد يوم، تتكشف الحقائق حول حرب غزة، إن كان من ناحية عدد الشهداء الذين قتلتهم "اسرائيل عمداً"، أو الخطط بتهجير قسري للفلسطينيين، أو خطط  الضربات الاستباقية التي قال عضو كابينت الحرب الإسرائيلي، غادي آيزنكوت، إنه من خلال وجوده في حكومة الحرب منع "إسرائيل" من ارتكاب خطأ استراتيجي فادح في مهاجمة حزب الله في الأيام التي تلت هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وأكد آيزنكوت إنّ "إسرائيل" كانت على وشك "ضرب حزب الله، على الرغم من أنّ الأخير، لم يطلق النار بعد على إسرائيل"، مشيراً إلى أنه "أقنع المسؤولين في حكومة الحرب بالتأجيل".

ويلاحظ في هذا الاطار، أن التقارير تتباين في الجهة التي منعت الحرب على لبنان، فبعض التقارير أشارت الى نتنياهو وبعضها ينسب الانجاز الى الرئيس الأميركي جو بايدن، واليوم يخرج أيزنكوت لينسب هذا الامر لنفسه، متفاخراً بأنه منع حرباً على لبنان. ولا شك أن هذا التفاخر له مبرراته، ففي وقت تتخبط في اسرائيل في حربها على قطاع غزة، بحيث أنه بعد مرور أكثر من 100 يوم، لم تحقق اسرائيل الاهداف المعلنة التي تحدثت عنها، لا بل أنها لم تحقق أيضاً أهدافاً فرعية تعتبر أساسية لتحقيق الاهداف الأكبر المطلوب تحقيقها من الحرب العدوانية على غزة.

وعليه، واذا كان الاسرائيليون لم يستطيعوا تحقيق أي أهداف أساسية يمكن البناء عليها لتحقيق انجازات لفرض تصوراتهم لما يسمى اليوم التالي، فإن كشف الحقائق عن نيات اسرائيلية بالهجوم على حزب الله، والذي يمتلك أسلحة دقيقة ويتمتع بقدرات تنظيمية وعسكرية أكبر بكثير من قدرات المقاومة في قطاع غزة المحاصر منذ عام 2007، يشي بأن قيادات اسرائيل أما بالغت في تقدير قوتها واستخفت بقدرات أعدائها، أو أنها أرادت أن تستغل الدعم الأميركي والغربي، ووجود حاملات الطائرات الأميركية في شرق المتوسط، لتفتح حرباً مع لبنان. مع العلم أن التصريحات الأميركية التي تحدثت عن وجود حاملات الطائرات لردع أعداء اسرائيل ومنهم حزب الله وايران، قد تكون "أغرت" نتنياهو باستغلال الحرب على غزة لتحقيق هدف اسرائيلي مستمر منذ ما بعد حرب تموز 2006، وهو الانتقام من لبنان.

أما بالنسبة للادارة الأميركية والتي كانت قد أعلنت أن أولويتها التفرغ لاحتواء الصين وروسيا، فهي تعرف جيداً كلفة الانخراط في حروب مكلفة في الشرق الاوسط، وخاصة تكاليف الحروب الاستباقية أو الوقائية التي قام بها جورج بوش في العراق، علماً أن تلك الحروب محظورة في القانون الدولي.

وكان جورج بوش قد استخدم م مبدأ الضربة "الوقائية" في حربه على العراق، بالرغم من أن مفهوم "الحرب الوقائية" أو حق الدفاع الوقائي عن النفس، عمل محظور في القانون الدولي العام ويتناقض كليًا مع ميثاق الأمم المتحدةكذلك مبدأ الضربة الاستباقية المعروف في العلم العسكري، وسبق وأن استخدمته ألمانيا ضد النرويج، خلال الحرب العالمية الثانية، بذريعة منع غزو الحلفاء لألمانيا، لكن محكمة نورمبورغ رفضت الحجة الألمانية وأقرت بعدم شرعيتها.

مع العلم، أن الضربات الوقائية تكتفي بتشخيص إمكانية خطر قد يأتي من دولة أخرى من أجل شن حرب وإن قامت دولة ما بشنها منفردة، على عكس الضربة الاستباقية والتي كانت تعتمد في الحرب في حال وقوع خطر شديد وملموس، وتستخدم قبل وقوعه لتشل قدرة الخصم.

من جانب آخر، كان قرار مجلس الامن الدولي رقم 486 قد أدان بشدة استخدام الضربة الاستباقية ضد مواقع مشكوك فيها لتطوير أسلحة الدمار الشامل، وذلك بعد الهجوم الإسرائيلي ضد مفاعل تموز العراقية عام 1981،  وأدان أيضًا بشدة خرق إسرائيل لميثاق الأمم المتحدة وقواعد السلوك الدول.

وعلى هذا الأساس، وبغض النظر عن الجهة التي منعت حرب اسرائيل الاستباقية على لبنان، والتي كانت خياراً جنونياً ومكلفأ ولن تخرج فيها إسرائيل منتصرة، فأنها أيضاً وفّرت على الاميركيين الانجرار الى حرب مع لبنان، لا مبرر لها علماً أن لبنان ليس عدواً للولايات المتحدة، ولها نفوذ كبير فيه، وتتمتع بصداقات قوية مع معظم سياسييه.

في النتيجة، كما حصل بعد حرب تموز، ستكشف الاوراق الاسرائيلية بعد حرب غزة الكثير من الحقائق عن تلك الحرب وما قبلها والاخفاق الاسرائيلي فيها، واذا صح الحديث عن خطط اسرائيلية لشن هجوم استباقي على لبنان، كما قال ايزنكوت، فيكون انخراط حزب الله في هذه الحرب، شبيهاً بدخوله الحرب السورية ومحاربة الارهاب لمنع وصوله الى لبنان. 

2024/01/11

محكمة العدل الدولية: جنوب أفريقيا ستغيّر "النظام العالمي"

في أحد التعليقات اللافتة على بدء محاكمة اسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد اسرائيل واتهامها بارتكاب إبادة في غزة، قالت فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلة، "إن مشاهدة النساء والرجال الأفارقة وهم يقاتلون من أجل إنقاذ الإنسانية والنظام القانوني الدولي ضد الهجمات الوحشية التي يدعمها ويمكّنها معظم الغرب ستظل إحدى الصور المميزة لعصرنا. وهذا سوف يصنع التاريخ مهما حدث."

وبالفعل، سوف يذكر التاريخ، يوم 11 كانون الثاني/ يناير من عام 2024، بأنه يوم تاريخي في مسار العدالة الدولية، حيث تبدأ محكمة العدل الدولية بالاستماع الى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "اسرائيل" واتهمتها بارتكاب أعمال إبادة في غزة. وهكذا، ولأول مرة، تكون "اسرائيل" عرضة للمساءلة عن جرائمها المرتكبة بحق الفلسطينيين والعرب، بعدما قام الغرب باستخدام قوته ونفوذه لمنحها حصانة سياسية وقانونية لم تتمتع بها دولة عبر التاريخ.

استخدمت جنوب أفريقيا، اتفاقية "منع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها"، لعام 1948، إطاراً قانونياً للادعاء على "اسرائيل" في محكمة العدل الدولية، على اعتبار أنها و"اسرائيل" عضوتين في تلك الاتفاقية وموقعين عليها.

 وتؤكد المادة الاولى من تلك الاتفاقية أن الإبادة الجماعية هي "جريمة بمقتضى القانون الدولي" تتعهد الأطراف المتعاقدة "بالمعاقبة عليها"، كما تنصّ المادة الرابعة من تلك الاتفاقية على معاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية أو عدة أفعال أخرى ذات صلة "سواء كانوا حكامًا دستوريين أو موظفين عامين أو أفرادًا".

وقد اعتبرت الاتفاقية أن جريمة "إبادة الجنس" هي أخطر وأضخم الجرائم ضد الإنسانية، ووصفتها- على نحو دقيق- بأنها "الجريمة النموذج" ضد الإنسانية، بل و"جريمة الجرائم"، نظرًا للتداعيات الناجمة عنها.

أما الأركان التي يجب توافرها في الجريمة لتصنّف بأنها جريمة "إبادة جماعية" فهي:

1)    الركن المادي ويفترض القيام بأحد الأعمال الإجرامية الواردة حصرًا في التعريف - الوارد في المادة الثانية من الاتفاقية او في المادة السادسة من نظام روما الأساسي-  وذلك بقصد "إهلاك جماعة بشرية معينة". وكان نظام روما الأساسي، في مادته السادسة قد اقتبس النص الحرفي لتعريف جريمة "الإبادة الجماعية"، الوارد في المادة الثانية في اتفاقية "إبادة الجنس"، فعرّفها بأنها جريمة ترتكب "بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، بصفتها هذه، إهلاكا كليًا أو جزئيًا".

وتأتي عبارة "إهلاك" هنا واضحة ومحددة، ما دعا الباحث الشهير في القانون الجنائي الدولي روبرت ميلسون لتصنيف أعمال الإبادة بين إبادة جماعية تامة، وإبادة جزئية. في الإبادة الجماعية ككل هناك محاولة للقضاء على فئة كاملة من الضحايا. في المقابل، هناك إمكانية ليكون هناك قصد إهلاك جزئي، وتدمير وتغيير الهوية للجماعة، أو ارتكاب أحد الافعال المحظورة الواردة في تعداد الجرائم التي تدخل في إطارها. وتبقى هذه بنظر القانون الدولي من أعمال الابادة. وهذا يعني أن ادعاء اسرائيل أنها لا تقصد اهلاك الفلسطينيين بصفتهم الجماعية بالدليل وجود مجموعات منهم تحت نطاق احتلالها للضفة الغربية، لا يمكن الاعتداد به.

2)    الركن المعنوي ويفترض النيّة: يعتبر شرط النية من أهم الشروط التي تميّز جريمة الإبادة الجماعية عن سائر الجرائم الدولية، ويشترط أن يكون لدى الفاعل نية جرمية تتجه إلى تحقيق الإبادة، لأن هذه الجناية عمدية، ويشترط فيها إلى جانب القصد العام وهو القتل المنهجي المتعمد والواسع النطاق، يجب توافر القصد الخاص، وهو تحقيق الإفناء.

أكد هذا الشرط الكثير من أحكام محكمتي رواندا ويوغسلافيا السابقة حيث أكدت كل منهما على أن الأعمال الإجرامية والتي تشكل العامل المادي لجرائم الإبادة لابد أن تحمل معها مشروعاً تدميريًا ونية بإهلاك مجموعة بشرية.

وعلى هذا الأساس، يتضمن طلب جنوب أفريقيا المؤلف من 84 صفحة المقدم إلى محكمة العدل الدولية حوالى عشر صفحات (تبدأ من الصفحة 59) تشتمل على تصريحات مسؤولين مدنيين وعسكريين إسرائيليين توثق "النية" الاسرائيلية بالقيام بالإبادة الجماعية في غزة. وتشمل هذه البيانات تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو، والرئيس هرتسوغ، ووزير الدفاع غالانت، وخمسة وزراء آخرين، وكبار ضباط الجيش، وأعضاء البرلمان. وفي هذه التصريحات إدانة واضحة، وكشف لزيف الادعاء الغربي بأن تصريحات الوزراء المتطرفين واعلانهم عن النية بالقيام بإبادة في غزة، ومنهم بن غفير وسموتريش، لا تعكس حقيقة "نوايا" الحكومة الاسرائيلية.

وبكل الاحوال، مهما يكن من نتيجة هذه المحاكمة، يبقى أن هذا اليوم سيكون علامة فارقة في تاريخ العالم، الذي يشهد نهضة "الجنوب العالمي" في مواجهة القوة الظالمة والبطش والاستعمار المتعدد الوجوه. انها مرحلة مليئة بالتطورات، وسيكون العالم بعدها ليس كما قبلها.

 

2024/01/04

زيارة هوكشتاين: هل هي جزء من المرحلة الثالثة للحرب الاسرائيلية؟

أعلنت هيئة البث الإسرائيلية في 22 كانون الأول/ديسمبر، استعداد "الجيش الاسرائيلي" للانتقال إلى "المرحلة الثالثة" من الحرب على قطاع غزة، والتي "تشمل إنهاء المناورة البرية في القطاع، وتخفيض القوات، وتسريح القوات الاحتياطية، واللجوء إلى الغارات الجوية، وإقامة منطقة عازلة على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة".

ويقول الاسرائيلي أنه يهدف من خلال هذه المرحلة الى إقامة منطقة عازلة على أطراف قطاع غزة، في ظل تراجع الاسرائيلي عن أهدافه السابقة بالقضاء على حركة حماس، واستعادة الرهائن الاسرائيليين بالقوة، واعادة احتلال القطاع.

ولا شكّ أن ما تشهده المنطقة على مختلف الجبهات من غزة الى لبنان الى اليمن والعراق، يأتي تطبيقاً لهذه المرحلة الثالثة، والتي فرضتها ظروف معينة أبرزها:

1-  تخفيف الخسائر التي تتعرض لها اسرائيل ميدانياً في غزة، في ظل عدم قدرتها على تحقيق أي إنجاز عسكري يحسب لها لتستغله في فرض أمر واقع تستفيد منه في تسوية ما بعد الحرب.

ففي الخسائر الميدانية، تشير إحصاءات الجيش الإسرائيلي إلى إصابة ما يقارب 800 ضابطاً وجندياً، منذ بدء التوغل البري بالقطاع في 27 أكتوبر/تشرين الأول، فيما قدرت وسائل إعلام إسرائيلية عدد الجرحى في صفوف الجيش بأكثر من 5 آلاف.

2-  تخفيف خسائر الاقتصاد الإسرائيلي

بعد قرار اسرائيل سحب لواء غولاني من غزة بعد 70 يوماً من القتال تكبد فيها "خسائر كبيرة" بحسب وسائل اعلام اسرائيلية، تم الإعلان عن سحب خمس ألوية أخرى تباينت الصحف الاسرائيلية في تفسيرها.

قالت بعض وسائل الإعلام الاسرائيلية أن سحب الألوية الخمس جاء بهدف انقاذ الاقتصاد الاسرائيلي عبر إعادة جنود الاحتياط الى العمل في ظل خشية اسرائيلية من انهيار الاقتصاد. بينما أشار البعض الآخر الى أن سحب تلك الألوية هدفه التحشيد على الحدود مع لبنان تمهيداً لتوسّع الحرب واجبار حزب الله على الابتعاد عن الحدود، لطمأنة المستوطنين واعادتهم الى مستوطناتهم.

3-  التخفيف من الخسائر الاستراتيجية:

تسعى الولايات المتحدة الأميركية الى تجنيب اسرائيل مزيداً من الخسائر الاستراتيجية – كما وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن- الذي قال أن اسرائيل تخسر استراتيجياً بعد تراجع الدعم الدولي لها بسبب ارتفاع الضحايا المدنيين في غزة بشكل غير مسبوق.

هذا على صعيد قطاع غزة، أما في الاقليم فتتجلى المرحلة الثالثة بتصعيد متدرج في المنطقة، بدأ بتنفيذ اغتيالات متنقلة من غزة الى لبنان الى العراق، بالاضافة الى التصعيد الأميركي ضد أنصار الله في البحر الأحمر.

وفي خضم هذا المشهد المتفجّر تأتي زيارة المبعوث الاميركي الى الشرق الاوسط عاموس هوكشتاين الى المنطقة، لبحث ما قيل أنه "تسوية أميركية" تسعى للتمهيد لمرحلة ما بعد الحرب، وبحث انسحاب اسرائيلي من الأراضي اللبنانية مقابل تطبيق القرار 1701.

كيف يُمكن أن تُفهم هذه الزيارة في بيروت؟

1-  الضمانات الاميركية وانعدام الثقة

بالرغم من نجاح وساطة هوكشتاين السابقة في بيروت وتوقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية، فإن تلك التجربة تشير الى انعدام الثقة  لدى اللبنانيين في الضمانات الدولية لأي اتفاق.

بدأت مهمة هوكشتاين السابقة حيث انتهت مهمة سلفه ديفد شينكر، الذي كان قد ربط حلّ الازمة الاقتصادية في لبنان بموافقة لبنان على "التصور الأميركي للحل" التي- برأيه- ستمكّن اللبنانيين من الاستفادة من الغاز في المتوسط. وكسلفه، نصح هوكشتاين اللبنانيين بأن "يقبلوا بأي شيء، لأنهم لا يملكون شيئاً".

بعدها، دفعت تهديدات المقاومة بقصف منصات الغاز في كاريش الى تواضع المفاوض الاميركي، والقبول بإعطاء لبنان حقل قانا، وضمانات بالسماح بالتنقيب عن الغاز في مياهه. لكن، ما أن بدأت حرب غزة، حتى انسحبت توتال من التنقيب بدون تقرير رسمي حول اسباب الانسحاب أو تبرير لمخالفة شروط العقد مع لبنان، وسقطت الضمانات الدولية السابقة.

التجربة السابقة لا تبدو مشجعة للبنان، لأخذ الضمانات الدولية على محمل الجد خاصة في ما يتعلق باسرائيل. لذا، يجب على المفاوض الأميركي الحديث عن إجراءات ثقة قبل الحديث عن تسوية في ما خص الحدود البرية اللبنانية التي تحتلها إسرائيل.

2-الاميركيون جزء من الحرب

بالرغم من أن الولايات المتحدة تسوّق نفسها بصيغة مفاوض بين لبنان واسرائيل، إلا أن المعروف أن الأميركيين هم جزء من الحرب الاسرائيلية الحالية، عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة.

وهكذا، إن ما يمكن أن يأتي به هوكشتاين من أفكار الى لبنان سوف يًنظر اليها بأنها أما لضبط ردّ حزب الله على اغتيال العاروري في الضاحية الجنوبية، وهو ما لن يقبل به حزب الله، لأنه سيغري اسرائيل بتكرار عدوانها على لبنان، واغتيال قادة من الحزب في عمق بيروت فيما بعد.

أما الأمر الثاني، والذي فاتح به هوكشتاين المسؤولين اللبنانيين في وقت سابق، وهو انسحاب اسرائيل من المناطق المحتلة اللبنانية مقابل تطبيق القرار 1701، وهذا يعني بالمفهوم الأميركي انسحاب حزب الله الى ما بعد شمال الليطاني.

هذه المهمة المكلف بها هوكشتاين في بيروت، تبدو وكأنها تريد أن تعطي اسرائيل في السياسة والمفاوضات ما لم تحصل عليه بالحرب. وعليه، واذا صح ما تمّ تسريبه، فتكون أهداف الزيارة جزءًا من المرحلة الثالثة الاسرائيلية التحضيرية لرسم مرحلة "اليوم التالي" للحرب.