2023/03/27

احتمالات تفكك "اسرائيل"


تمر "اسرائيل" بفترة حرجة جداً في تاريخها، حيث تستمر الاحتجاجات المستمرة منذ ثلاثة أشهر ضد ما يسمى قانون "إصلاح القضاء" الذي طرحته حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.

وحذّر العديد من أن هذه الاصلاحات سوف تؤدي الى تحوّل "اسرائيل" الى الديكتاتورية، واعتبر رئيس المحكمة العليا السابق القاضي المتقاعد أهارون بارك، أن تقويض المحكمة العليا هو "بداية نهاية الهيكل الثالث"، وهو تعبير توراتي لوصف زوال “اسرائيل”.

خطورة هذه الاصلاحات بالنسبة للاسرائيليين، أنها:

-      ستسمح هذه الاصلاحات في حال إقرارها بفرض يسمى "قانون التغلب" وإلغاء قانون سابق يسمى "امتحان المعقولية"، وهذا القانون الاخير الذي كان يسمح للمحكمة العليا بمراجعة وإلغاء قرارات حكومية وبرلمانية حتى وإن كانت منصوصة ومدعومة بقانون شرعه الكنيست.

-      وسيسمح القانون  بإلغاء قرارات المحكمة من خلال تصويت أغلبية عادية في الكنيست (61 عضواً) على قراراتها.

-      ستؤدي تلك الاصلاحات الى تقويض الجهاز القضائي والمحكمة العليا وتسمح بإلغاء محاكمة أي وزير أو نائب في الكنيست وتعطيه حصانة سياسية خلال فترة توليه منصب سياسي.

-      ستؤدي الى تسييس القضاء عبر تمكين الحكومة والأحزاب السياسية من التحكم في لجنة اختيار القضاة في المحاكم "الإسرائيلية".

-       سيسلب القانون الجديد الأدوات الرقابية التي تتمتع بها المحاكم على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وسينزع الأدوات القانونية التي تمكن القضاة من الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.

-      ستمكّن الاصلاحات الحكومة من تشريع قوانين تتعلق بتوسيع وشرعنة البؤر الاستيطانية وفرض القوانين ""الإسرائيلية في الضفة الغربية، ووضع اليد على مناطق "ج" (أكثر من 60% من أراضي الضفة الغربية).

-      ستعطي صلاحيات واسعة للمحاكم الدينية اليهودية، عبر اعتماد تشريعات تحتكم إلى التوراة في المجالات الحياتية اليومية والحدّ من مظاهر العلمانية.

بالرغم من رفض العديد من القوى السياسية والنقابية والاعلامية والشعبية هذا القرار، لكن العناد السياسي استمر. تشكّل هذه الاصلاحات بالنسبة لنتنياهو مسألة "حياة أو موت" الذي يُحاكم منذ أعوام بتهم "فساد وخيانة الأمانة"، ولزميله في الحكومة وزير الداخلية- رئيس حزب "شاس" اليميني المتطرف – المدان من المحاكم "الاسرائيلية" بملفات فساد ومخالفات ضريبية، لذا هما مستعدان للذهاب بعيداً في الاصرار على تلك الاصلاحات حتى لو أدّت الى حرب أهلية داخل "اسرائيل".

المفترق الأساسي الذي سيؤدي بالأزمة الى تحوّلات هامة ومصيرية هو تمددها الى  داخل الجيش الاسرائيلي الذي بات يعاني من حالة عصيان بعد دخول عناصر الجيش والاحتياط في هذا الصراع، بالاعلان عن رفض الخدمة العسكرية ورفض المشاركة في التدريبات وغير ذلك.

بالنتيجة، في "دولة حربية" قائمة على القوة، يعتبر موقف الجيش الاسرائيلي والمؤسسة الأمنية حاسمين، لذا من المتوقع أن تقف “اسرائيل” منذ الآن فصاعداً، على مفترق طرق هو الأخطر في تاريخها، إذ أن تفكك الجيش يعني حتماً تفكك “اسرائيل” - "الدولة والكيان". 

2023/03/25

خيارات بايدن تجاه إيران

تتّجه منطقة الشرق الأوسط إلى عملية خلط أوراق، وترتيبات متباينة عما عاشته منذ التدخل الأميركي - البريطاني في العراق عام 2003، وما تلاه من تأجيج الصراع السنّي الشيعي، الذي عدّته "إسرائيل" أساسياً في صراعها ضد إيران.

إذا نظرنا إلى التطورات فسنجد أن مسار الأمور لا يسير بحسب الهوى والتوجهات الأميركية، فرفض الإدارة الأميركية لما سمَّته "التطبيع" مع الرئيس السوري بشار الأسد، لم يفرمل اندفاعة الدول العربية وتركيا إلى التقدم في مسار المصالحة مع الحكومة السورية.

أضف إلى ذلك أن التصعيد الأميركي ضد إيران، واتهامها بزعزعة المنطقة، وأنها "تضطهد" مواطنيها (بحسب الإعلام الغربي)، لم يثنِيا حليفتها التاريخية – السعودية – عن إعلان تفاهم سعودي إيراني برعاية صينية. ولعل المقلق بالنسبة إلى الأميركيين هو انخراط الصين في قضايا الشرق الأوسط، وظهورها في مظهر الداعم للسلام، في وقت كان انخراط الأميركيين فيها وسياساتهم دافعاً إلى الفوضى وحروب الكل ضد الكل.

ويبقى الاتفاق النووي الإيراني، والذي أعلن بايدن، خلال حملته الانتخابية، رغبته في العودة إليه، منتقداً خروج ترامب بشكل أحادي منه. لكن الاشتباك مع الجمهوريين في الداخل الأميركي، وضعف الإدارة النسبي أمام الانتقادات الداخلية، والاتهام الأميركي لإيران بالانخراط في الحرب الأوكرانية، عبر بيع المسيّرات الهجومية لروسيا، جعلت الاتفاق بعيداً عن الطاولة في وقت سابق. 

لكن، هل تدفع التطورات الأخيرة في المنطقة بايدن إلى تسهيل العودة إلى الاتفاق، أم أنها أبعدته إلى ما لا نهاية؟

لا شكّ في أن تخلي الإدارة الأميركية نهائياً عن العودة إلى الاتفاق النووي، سوف يؤدي إلى نتائج عكسية:

- بالنسبة إلى المنطقة: هذا الخيار يعني تقويض أي قدرة أميركية على أداء دور في التفاهمات القادمة في المنطقة، بسبب عدم قدرتها على الحوار والتفاهم مع جميع الأطراف، الأمر الذي يعطي الصين ميزة نسبية في أداء أدوار أكبر، على صعيد المنطقة ككل.

- بالنسبة إلى إيران: هذا الخيار سوف يحرّرها من الالتزام بشأن ما كانت وقّعت عليه سابقاً في الاتفاق النووي، عام 2015، لجهة تحديد سقف تخصيب اليورانيوم وغيره، علماً بأن عدداً من التقارير الاستخبارية الغربية قالت إنه بات لدى إيران التقنية اللازمة، علمياً وفنياً، لتصنيع قنبلة نووية خلال أشهر قليلة. وفي هذا الإطار، يكون أمام الولايات المتحدة و"إسرائيل" خيارات محدودة، أبرزها:

أ‌- الإذعان لفكرة إيران نووية، مع ما يترتب على ذلك من خلط أوراق في المنطقة، ورغبة عدد من الدول العربية في الحصول على القنبلة. وهذا أمر من الصعب على الأميركيين قبوله.

ب‌- تزخيم العقوبات والضغوط القصوى بصورة أوسع وأكبر على الايرانيين. لكن مبدأ العقوبات الاقتصادية تمّت تجربته بالفعل، ولم يؤدِّ إلى ثني إيران عن مسارها النووي، وبالتالي، قد لا يؤثر كثيراً في مسار الأمور في المنطقة، ولا في إيران.

ج- رضوخ أميركي لـ"إسرائيل"، وشنّ سلسلة من الغارات على المنشآت النووية. وقد يندفع نتنياهو إلى هذا الأمر لتصدير أزمته وأزمة حكومته إلى الخارج.

لكن هذا الخيار خطير جداً، وقد يدفع المنطقة إلى حروب ومواجهات كبرى لا يُعرَف كيف تنتهي، وسيضع القواعد الأميركية في المنطقة تحت نيران الصواريخ الإيرانية، بالإضافة إلى إمكان أن يقوم حلفاء إيران في المنطقة بالردّ على "إسرائيل" مباشرة، علماً بأن خياراً كهذا بات أصعب من قبلُ، بعد أن قامت إيران بالانفتاح والتفاهم مع جيرانها الخليجيين والعراقيين.

ويمكن فهم صعوبة ذهاب الأميركيين إلى خيار التصعيد الحربي مع إيران، من خلال مسارعة بايدن إلى الإعلان أن "الولايات المتحدة لا تسعى لصراع مع إيران"، وذلك رداً على هجوم المسيّرات الذي استهدف القواعد الأميركية في سوريا، والذي قامت به قوى حليفة لإيران.

إذاً، بحسب الخيارات المتاحة وحسابات الأرباح والتكاليف، قد يكون من الأفضل لإدارة بايدن العودة إلى المفاوضات النووية، تطبيقاً لما جاء في وعوده الانتخابية، وما جاء في استراتيجية الأمن القومي الأميركية، المنشورة في تشرين الأول/أكتوبر 2022، والتي تدعو إلى التخلي عن استراتيجية تغيير الأنظمة في المنطقة ودعم الاستقرار، عبر اعتماد الدبلوماسية وتخفيف التوترات الإقليمية. 

لكن، بما أن الكونغرس الأميركي، بحزبيه، يدين بالولاء لـ"إسرائيل"، يُخشى أن يكون هذا الخيار هو لكسب الوقت فقط، ولإشاعة أجواء من الهدوء، فتذهب الإدارة الأميركية إلى خيار التفاوض، وهي غير راغبة في التقدم فيه أساساً، فتعتمد مبدأ "مفاوضات من أجل المفاوضات"، من أجل تكبيل إيران ومنعها من التقدم نووياً خلال فترة التفاوض، ولتخفيف الضغوط عن "إسرائيل"، التي تعاني أزمة وجودية داخلية غير مسبوقة 

2023/03/20

إيران والسعودية تتفقان: ماذا عن الموقف الأميركي؟


ليلى نقولا

تتسارع التطورات في المنطقة على وقع الاتفاق التاريخي الذي تمّ توقيعه بين كل من إيران والمملكة العربية السعودية في العاصمة الصينية بكين. وإذا كان العديد يتخوفون من التفاؤل محذرين الافراط فيه، بسبب الموقف الأميركي والخوف من أن يكمن الشيطان في التفاصيل، إلا أن عدداً من الملفات باتت تتسارع بشكل دراماتيكي ومنها ما على سبيل المثال لا الحصر:

- دعوة الرئيس الايراني الى السعودية ولقاء مرتقب لوزيري الخارجية السعودي والايراني.

- انفتاح إيراني على دول الخليج ومحاولات تفكيك الألغام وحلّ المسائل العالقة بين سواء على صعيد الحدود (الكويت) أو الموقف السياسي ودعم المعارضة (البحرين) أو غير ذلك.

- اتفاق أمني إيراني عراقي حيث أكد رئيس الوزراء العراقي رفضه لأن تكون الأراضي العراقية منطلقاً للاعتداء على أيّ من دول الجوار"، مشددًا على "رفضه القاطع على أن تكون أرض العراق مسرحاً لتواجد الجماعات المسلحة، أو أن تكون منطلقاً لاستهدافها، أو أي مساس بالسيادة العراقية"، وفي هذا حفظ لأمن إيران حيث كان اقليم كردستان مرتعاً للجماعات التي تستهدف الأمن الإيراني بالمسيّرات.

بكل الاحوال، هذه الملفات المذكورة آنفاً قد تكون رأس جبل الجليد، فالقضايا بين الدولتين والتشابك الاقليمي يمتد الى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط، الى اليمن وباكستان وكل من داخل السعودية وإيران حيث تدعم كل دولة المعارضة المتشكلة للنظام في الدولة الأخرى. ولعل هذا الاتفاق يأتي حاجة لكل من السعودية وإيران، على الشكل التالي:

- السعودية: لولي العهد السعودي تصوّر ورؤية لموقع السعودية الاقليمي والدولي المستقبلي والذي يحتاج الى التخفيف من أحمال السياسات السابقة التي جعلت السعودية تنخرط في حروب بالوكالة لا طائل منها، وحيث تبين أن الدعم الأميركي لم يكن كافياً حين تعرّض الأمن القومي السعودي للخطر، بقصف أرامكو وغير ذلك.

- ايران: تتعرض حكومة رئيسي لضغوط متعددة سواء داخلية (المظاهرات، الانهيار الاقتصادي)، أو خارجية (فشل العودة الى الاتفاق النووي، استمرار العقوبات، المسيّرات التي تضرب العمق الايراني ...)، والتي تحتاج معه الى تسريع وتيرة الاتصالات التي كانت تجري مع السعودية لحفظ أمنها والسير نحو خطط النهوض.

لكن ماذا عن الأميركيين؟

بالمبدأ، كان الرئيس الأميركي جو بايدن قد أعلن في استراتيجية الامن القومي التي أصدرها في تشرين الأول من عام 2022، رؤية إدارته للشرق الاوسط، والتي تتعهّد بتعزيز الشراكات والتحالفات ودعم الدبلوماسية لخفض التصعيد وتهدئة التوترات وتقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة في الشرق الأوسط. لكنها، تتعهّد أيضاً بـ "الوقوف إلى جانب الشعب الإيراني"، الذي "يناضل من أجل الحقوق الأساسية والكرامة، التي حرمها النظام في طهران منذ فترة طويلة"، بحسب نص الوثيقة.
وما تأتي على ذكره الوثيقة، وهو الأهم في مقاربتنا للموقف الأميركي، هو "امتلاك الولايات المتحدة "ميزة نسبية" في بناء الشراكات والائتلافات والتحالفات، من أجل تعزيز الردع وتحقيق الاستقرار الطويل الأمد في المنطقة،" وهنا بيت القصيد. فهل ستعتبر الولايات المتحدة أن الصين باتت تنافسها على تلك الميزة النسبية، أم أنها ستغض النظر عن التقارب السعودي الإيراني باعتبار انه تحقيق لهدف الوثيقة بخفض التصعيد وتخفيف التوترات؟ هذا ما ستكشفه التطورات المقبلة ومواقف الاميركيين منها.

 

2023/03/17

كيف تستوي "إسرائيل" في تقسيم بايدن الأيديولوجي للعالم؟

منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، حاول الرئيس الأميركي جو بايدن إعطاء تفسير للعلاقات الدولية يحمل طابعاً أيديولوجياً، إذ أشار مراراً إلى أنَّ الحالة الحالية للسياسة العالمية هي "نقطة انعطاف"، وأنها "لحظة يحتاج الناس فيها إلى الاختيار بين الأنظمة الديمقراطية للحكم والديكتاتوريات، وإلا سيجدون أن العالم قد تغيَّر إلى الأبد".

يرى بايدن، ومعه الاتحاد الأوروبي ومَن يدورون في فلك الولايات المتحدة الأميركية، أنَّ هذا التقسيم الأيديولوجي صالح لتبرير التحالفات أو الحروب مع الدول في العالم. وكان الرئيس الصيني قد انتقد هذا التصنيف للحرب الدائرة في العالم، بقوله "إن سردية "الديمقراطية في مقابل الاستبداد" ليست السمة المميزة لعالم اليوم، ناهيك بأنها تمثل اتجاه العصر... الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي مسعى مشترك للبشرية. الولايات المتحدة لديها ديمقراطية على النمط الأميركي، الصين لديها ديمقراطية على الطريقة الصينية".

إن تقسيم جو بايدن العالم إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات يجعل من المنطقي التساؤل: هل يستوي هذا التصنيف الأيديولوجي على جميع حلفاء الولايات المتحدة، ومنهم "إسرائيل"؟

عملياً، إن تنميط العالم بتقسيمه إلى ديمقراطيات وديكتاتوريات، كما يفعل جو بايدن، يعني أنَّ الدعم الأميركي لـ"إسرائيل" يجب أن يتوقف، فهي أبعد ما يكون عن الديمقراطية، والسياسة التي تقوم عليها هي سياسة الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وقتل المدنيين، والتمييز بين مواطنين فئة أولى ومواطنين فئات متدنية، حتى بين اليهود أنفسهم، هو أبعد ما يكون عن الديمقراطية.

في الخطاب العام، يقوم التعريف الإسرائيلي للديمقراطية بوصفها حكم الأغلبية "اليهودية" بشكل مطلق غير مقيد. لذا، عمدت السلطات المتعاقبة إلى تفصيل قوانين لضمان سيطرة الأغلبية وهيمنتها على الأقلية، وتقسيم المواطنين بين مواطنين درجة أولى ومواطنين من درجات أخرى، بحسب انتماءاتهم الدينية والعرقية.

في الأساس، في مركّبَي الهُوية التي يحاول الإسرائيليون خلقها، وهما اليهودية والديمقراطية، تكمن الإشكالية الأساسية في السؤال الآتي: "كيف يمكن أن تكون إسرائيل يهودية وديمقراطية في آن واحد؟". إن الدول القائمة على التفوق العرقي هي أبعد ما تكون عن الديمقراطية، فكيف يستوي معيار التفوق العرقي والطائفي مع الديمقراطية التي تؤمن بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات؟

على مدى عقود من الزمن، استهدفت الحكومة الإسرائيلية المجتمع المدني الرافض للاحتلال وقوّضته، وأقرَّت تشريعات للتمييز ضد الفلسطينيين والأقليات، وقامت بتقليص الحريات الإعلامية. واليوم، تقوم بمحاولة التضييق على القضاء. 

 إضافةً إلى ما سبق، لجأت الحكومة اليمينية المتطرفة إلى المسّ بالفصل بين السلطات، وهو أساس من أسس الديمقراطية الحديثة. ما يجري اليوم من محاولة منح السلطة التنفيذية سلطة مطلقة على حساب استقلالية السلطة القضائية والنظام القضائي برمّته وقوتهما هو من أساليب الديكتاتورية.

وبالتالي، إن نجاح حكومة بنيامين نتنياهو في ما ترمي إليه - والذي سيجنب نتنياهو المساءلة أمام القضاء - سيغيّر جوهرياً أسس الديمقراطية التي يتغنى بها الغرب في الادعاء بأنه يدافع عن "إسرائيل المهددة بأمنها، وعن الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".

 في كل الأحوال، وبصرف النظر عن ادعاءات الغرب في أسباب دعمه "إسرائيل" في تسلطها على الفلسطينيين وجيرانهم العرب، فإن مسار الأمور المتدحرجة في "إسرائيل" سيجعل الدعم الغربي غير قادر على إيقاف التطورات السياسية والاجتماعية التي ستؤدي إلى إضعافها من الداخل.

وهنا، نشير إلى ما يلي:

يرى مئير إلران وموران ديتش، وهما باحثان في "معهد دراسات الأمن القومي" التابع لجامعة "تل أبيب"، أن الحصانة أو المناعة القومية لـ"إسرائيل" تستند إلى 3 أساسات مركزية: التضامن الاجتماعي، وثقة الجمهور بمؤسّسات الدولة، والحوكمة الفاعلة. 

ويؤكّد الباحثان في تقرير نشر حديثاً أن هناك تراجعاً مقلقاً جرى خلال الأعوام الأخيرة على المركّبات الثلاثة للحصانة القومية، كما يلي:

- التضامن الاجتماعي: القاسم المشترك الذي يوحّد الفئات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي تقلّص في الأعوام الماضية لمصلحة الفردية والقبلية. وبناء عليه، ازدادت نسبة العداء بين الفئات المختلفة، إضافةً إلى ارتفاع ملحوظ في نسبة العنف في الحيّز العام.

- الثقة بالمؤسسات: يشير التقرير إلى أنَّ ثقة الإسرائيليين بالأحزاب السياسية ومؤسسات الحكم، وحتى الشرطة، في تراجُع. 

- الحوكمة: يتم التعبير عنها من خلال ثقة الإسرائيليين بقدرة النظام على فرض سيطرته في مجالات أساسية للمواطنين. يعتبر الباحثان أنَّ الحوكمة أيضاً في حالة تراجع، على سبيل المثال، يتقلص "الشعور بالأمان الشخصي" لدى فئات واسعة في المجتمع، ويزداد توجيه الانتقادات إلى مؤسسات فرض القانون بسبب عدم قدرتها على أداء دورها بشكل فعّال.

وهكذا، سواء اندلعت الحرب الأهلية في "إسرائيل"، كما يحذّر العديد من القادة الإسرائيليين، أو لم تندلع، فإنَّها تتجه إلى فقدان الصورة الخارجية التي لطالما تمّت صناعتها وترميمها لتلائم تطلعات الرأي العام في الغرب. 

على الرغم مما سبق، لا نتوقع تغييراً في الأداء الأميركي والنظرة تجاه "إسرائيل"، فتعريفات الديمقراطية تتأقلم وتتبدل لدى الغرب بحسب الهدف والسياسة المتبعة، فحين يرتبط الأمر بالحلفاء في المجتمعات التي تفتقر إلى الحريات والحقوق المواطنية، فإن التعريف الغربي للديمقراطية يركّز على الانتخابات وإجرائها كمعيار وحيد للديمقراطية، فيما تتوسع إلى الحريات العامة وتمكين المجتمع المدني وحرية الصحافة والمعارضين وقدرتهم على التغيير حين يرتبط الأمر بأعداء الولايات المتحدة أو خصومها.

 

2023/03/13

المشهد اللبناني بعد مصالحة السعودية- إيران

طغى الاتفاق السعودي الايراني الذي رعته الصين على كل ما عداه في المنطقة، حيث أدخل الصين الى المنطقة من باب الدبلوماسية وحفظ الأمن الواسع، وأظهرها دولة راعية للسلام بعدما اتُهمت الولايات المتحدة الأميركية لفترة طويلة بأنها رعت الحروب الطائفية والانقسامات المذهبية لصالح اسرائيل، ما أدى الى الفوضى التي سمتها كوندوليزا رايس "الفوضى الخلاقة" في محاولة لتبرير فشل سياسات نشر الديمقراطية التي قادتها إدارة الرئيس جورج بوش.

ولا شكّ ان الاتفاق سينعكس إيجاباً على الملفات والساحات ذات النفوذ المشترك بين الدولتين الاقليميتين، فالاقتتال بينهما حوّل بلدان متل اليمن ولبنان وغيرهما الى ساحات اقتتال بالوكالة بين الطرفين، واليوم سيحوّلهما الى مختبر تقاس فيه نتائج التسوية السلمية بين البلدين.

بالنسبة للبنان، وبالرغم من  أن العديد من المحللين حاولوا مبكراً استنباط ما سيكون عليه المشهد الرئاسي والحكومي بعد الاتفاق، فاعتبر بعضهم أن الوزير سليمان فرنجية سيكون الرئيس المقبل حتماً، بينما البعض الأخر اعتبر انه سيكون أول ضحية لهذا الاتفاق.

وفي هذا الإطار، من المفيد أن نعود الى الحراك اللبناني الذي سبق التسوية الاقليمية لنورد أنه بالرغم من أن السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه برّي كانا قد أعلنا سليمان فرنجية مرشحاً للثنائي، لكن كان من الواضح ما يلي:

-       كان واضحاً في خطاب السيد حسن نصرالله أن تسمية فرنجية لم تكن مناسبة لفرضه فرضاً على الأطراف الآخرين وخاصة المسيحيين منهم، بدليل أنه أكد على وجوب "نصاب الثلثين" لانعقاد المجلس النيابي، الذي يعني وجوب مشاركة طيف واسع جداً من القوى السياسية وعدم تخطي الإرادة المسيحية الرافضة لفرنجية كما أعلن سابقاً الوزير السابق علي حسن خليل.

-      كان واضحاً من الخطاب وما تلاه من تصريحات المسؤولين في الحزب أن المعادلة التي أعلنها الحزب هي كالتالي: لقد اعلن الثنائي مرشحه، فلتقوم القوى الأخرى بإعلان مرشحيها وتعالوا لنتحاور. إذاً، هي دعوة للحوار والتفاهم والوصول الى تسوية حول إسم الرئيس وليس كما اعتبرها البعض بأنها دعوة لفرضه بالقوة. علماً أن موازين القوى النيابية لا تسمح بفرضه فرضاً على الأطراف الاخرى.

هذا في سياق الخطابات والتطورات، أما في سياق التحليل، فنجد ما يلي:

-      إن اتفاق السعودية وإيران برعاية صينية لا يعني بأي حال من الأحوال إخراج النفوذ الأميركي من لبنان أو القدرة على إنهائه.

-      إن أي محاولة لإنهاء النفوذ الأميركي في لبنان ستكلّف لبنان الكثير من المصاعب واستمراراً للضغوط القصوى، لذا عملياً يمكن أن تقوم السعودية اليوم بدور الوسيط بين كل من النفوذين الايراني والأميركي ما يعطيها هامشاً لتوسيع نفوذها في لبنان، علماً أنها بالأساس تشكّل الضامن الاقتصادي لأي محاولة انقاذية بعد التسوية، لأنها قادرة على مساعدة البلد اقتصادياً أو خنقه عبر الاعتكاف الذي سيؤدي الى اعتكاف خليجي مماثل.

-      إن انتخاب فرنجية رئيساً يعني انتصار إرادة طرف على الآخرين، ما يعني انتصاراً لمحور على آخر، وهو ما لن يتم السماح به ولو إعلامياً. لذلك إن استعجال ترشيح الثنائي لفرنجية قبل التفاهم الاقليمي بلحظات أضرّ بالرجل بدل أن يساعده.

-      الاتجاه العام أن يكون هناك تسوية لبنانية دقيقة المعادلات، لا تسمح بأن يكون الرئيس المقبل محسوباً على طرف بشكل واضح، وإعادة  تشكيل السلطة من الأشخاص غير المتهمين  بالفساد ومن غير المتورطين مع رياض سلامة ، ومن غير الاستفزازيين... ما يعني أن معظم من يديرون السلطة اليوم، ومعهم نجيب الميقاتي لن يكونوا في المشهد السياسي الحاكم مستقبلاً.   

2023/03/11

انتخاب "شي" رئيساً للمرة الثالثة: ماذا يعني للولايات المتحدة؟

كما كان متوقعاً، تمّ انتخاب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، للمرة الثالثة، لأول مرة منذ التسعينيات من القرن العشرين، وذلك بعد تعديلات دستورية أقرّها البرلمان حصلت في آذار / مارس عام 2018، عمدت إلى إلغاء حصر الرئاسة بفترتين، ما يسمح فعلياً لشي جين بينغ بالبقاء في السلطة مدى الحياة.

وتعامل الإعلام الغربي والأميركي ببرودة مع ذلك الانتخاب الذي كان أقرب إلى التزكية، بسبب عدم ترشح أي منافس له، معدّين التجديد أمراً طبيعياً بعدما قام شي بتعزيز سلطته السياسية وفرض أيديولوجيته السياسية وقبضته على الحزب الشيوعي، ورفع مكانته إلى مستوى مؤسسه، الرئيس ماو تسي تونغ.

لا شكّ في أن الاستقرار السياسي في الصين يدفع إلى زيادة صعوبة قدرة الولايات المتحدة وحلفائها على احتواء الصين، والقدرة على زعزعة استقرارها تمهيداً لتحجميها على المستوى العالمي، فالقلاقل السياسية الداخلية والنزعات الانفصالية والتململ داخل الطبقات السياسية والشعبية وداخل الجيش عادة ما تكون مفاتيح السيطرة على الدول وزعزعتها من الداخل، وأحياناً انهيارها كما حصل مع الاتحاد السوفياتي السابق.

منذ عام 2008، يتم تضخيم الخطر الصيني في الولايات المتحدة الأميركية، ويطالب عدد من محلّلي الدفاع بزيادة القدرات الدفاعية للولايات المتحدة في مواجهة الصين، معتبرين أن القوات المسلحة الصينية كبيرة جداً لأغراض دفاعية بحتة، وإن الصين تتعامل بشكل ممتاز ومدرك "لعلاقة النمو الاقتصادي بالإمكانات العسكرية"، وتعمل على تعزيز النمو الاقتصادي الذي سيستتبعه حتماً التوسع بالنمو العسكري.

ومنذ بدايات الصعود الاقتصادي الصيني الذي بدأ مع دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، ما انفك عدد من المحللين العسكريين الأميركيين يطالبون بزيادة موازنة الدفاع الأميركية، وتوسيع قدرات الجيش الأميركي، مستحضرين دائماً "التهديد الصيني". وفي هذا الإطار، نستذكر ما قاله وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد: "بما أنه لا توجد دولة تهدد الصين، يجب على المرء أن يتساءل: لماذا هذا الاستثمار المتزايد في القدرات العسكرية؟ لماذا مشتريات الأسلحة الكبيرة والمتنامية المستمرة؟ لماذا عمليات الانتشار الكبيرة المستمرة؟".

عملياً، حين أطلقت تلك التصريحات لم يكن للصين أي قاعدة عسكرية خارج البلاد، لكن موازنة الدفاع الصينية كانت قد زادت من 26 مليار دولار عام 2001، إلى نحو 78 مليار دولار عام 2008، وأصبحت اليوم في سنة 2023 تعادل ما قيمته 225 مليار دولار تقريباً.

وعلى الصعيد الاقتصادي، كانت الصين قد بدأت تصعد اقتصادياً متّكلة على يد عاملة متوافرة بأسعار زهيدة، وإعانات وحوافز حكومية لعدد من المعامل والشركات، بالإضافة إلى سياسة حمائية إلخ... ما يجعل المنافسة العالمية لمصلحة الصين حتماً.

كما تحتفظ الصين بفائض تجاري ضخم مع كل الدول تقريباً، وخاصة الولايات المتحدة. في العام 2009، بلغ احتياط الصين الأجنبي 2 تريليون دولار، وتفوّقت على اليابان كأكبر مالك لديون الخزانة الأميركية بقيمة 800 مليار دولار تقريباً. وحالياً، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد اليابان بين حاملي الديون الأميركية الأجنبية بحيازات خزانة بقيمة تناهز 1 تريليون دولار، وفقاً لإحصاءات أيار/ مايو 2022.

واقعياً، هذه التصريحات والتركيز الأميركي على "التهديد الصيني العسكري" منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا يأخذ في الاعتبار أنه بالرغم من أن طبيعة الجغرافيا والقدرات العسكرية الأميركية التي تجعل من الصعب جداً على أي دولة أن تهدد الولايات المتحدة الأميركية، فإن موازنة الدفاع الأميركية تضاعفت من 320 مليار دولار عام 2000، لتصل إلى 858 مليار دولار أميركي تقريباً عام 2023.

ولا شكّ في أن تضخيم الخطر الصيني الذي كان في بدايات صعود الصين عام 2008، ولم يكن مشروع طريق الحرير الجديد قد أعلن بعد، يعود إلى اهتمامات ومصالح مطلقيه أو من يمثلون، إذ تُطلق الكثير من التصريحات الأميركية حول السياسية الخارجية خدمة لمصالح اللوبيات أو الشركات التي تستفيد من تلك التصريحات لحيازة عقود من الحكومة الأميركية. وهذا يعيدنا إلى التباين في صنع السياسة الخارجية بين كل من الولايات المتحدة والصين، إذ تستخدم كل منهما نمطاً مختلفاً، على الشكل الآتي:

– النّمط الأوّل: نموذج "المنارة"

في هذا النمط التقليدي، تكون هناك استراتيجية واضحة محددة متعددة الوجوه والمراحل، مع أهداف طويلة وقصيرة ومتوسطة الأجل، على أن تؤدي الاستراتيجية والخطة المرسومة سلفاً دور "المنارة" التي تقود كلّ العمليات الخارجية في منطقة محددة.

هذا النمط تستخدمه الصّين بشكل أساسيّ، إذ يتمّ اعتماد خطط طويلة المدى وخطط خمسيّة وخطط سنويَّة. وتعمل جميع الأجهزة، العسكرية والدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتنموية، في نسق متكامل لتحقيق الأهداف المرسومة، مسترشدةً بالاستراتيجية التي ترسمها الدولة المركزية، والتي تؤدي دور "المنارة".

– النمط الثاني: نموذج "المرايا"

بموجب هذا النّمط، يقوم صنع استراتيجية السياسة الخارجية بناءً على تعدّد المصالح والمجموعات ومجموعات الضغط والقطاع الخاصّ والمؤسّسات الحكومية، التي يكون لكلِّ واحدة أهدافها ومصالحها، وتتنافس في ما بينها للتأثير في السّياسة الخارجية وقراراتها، وتكون الاستراتيجية الموضوعة انعكاساً ومرآةً لمجموعات متعدّدة من المصالح وتنافسها بين بعضها البعض.

يُعتمد هذا النموذج بشكل أساسيّ في الولايات المتحدة الأميركية، إذ تتنافس اللوبيات ومجموعات المصالح للتأثير في السياسة الخارجية. 

بالنتيجة، نجد أنه من النادر أن يطلق المسؤولون الصينيون تصريحات لا تتناسب مع توجهات السياسة الخارجية للبلاد، بينما يندفع عدد من المسؤولين الأميركيين سواء الحاليين أو السابقين إلى تصريحات وحملات علاقات عامة تسعى للتأثير في قرارات الإدارة الخارجية، ولعلَّ تضارب مصالحها هو الذي يولّد-غالباً – انطباعاً لدى العامة بعدم تناسق الاستراتيجيات الأميركية، وهو أمر غير صحيح.

ولا شكّ في أنَّ هناك مبادئ وثوابت في الاستراتيجيات الأميركية في صنع السياسات الخارجية، مع الاحتفاظ بهامش كبير لأصحاب المصالح، للتأثير وفرض وجهة نظرهم في الوسائل والسبل الأمثل لتحقيق تلك الأهداف، وأهمها حالياً: احتواء الصين وإضعافها، بعد إغراق روسيا في حرب عسكرية طويلة الأمد في أوكرانيا.

 

2023/03/06

هل تأتي التسوية برئيس بخلفية اقتصادية؟

عكس الاشتباك السياسي بين القوى السياسية درجة الأزمة التي تعيشها هذه القوى، وخاصة في ظل تواطؤ واضح مع المصارف التي تتشاطر مع معظم الطبقة السياسية نفس الأهداف وأهمها إلغاء التدقيق الجنائي وعدم كشف مصير الأموال المهرّبة بعد 17 تشرين وعدم كشف السرية المصرفية، وتأمين غطاء لرياض سلامة كاتم أسرارها ومغطي جرائمها المالية.

وهكذا، إضافة الى ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية الى سقف غير مسبوق وبسرعة قياسية، أمران طبعا الحياة السياسية اللبنانية الأسبوع المنصرم:

الأول: الهجمة السياسية المرتدّة  التي قادها الرئيس نجيب الميقاتي المدعومة من المصارف ضد القضاء اللبناني، بعدما قامت القاضية غادة عون بالادعاء على مجالس إدارات المصارف والمدراء الذين لم يتلزموا بكشف حساباتهم التزاماً بقانون رفع السرية المصرفية. 

أما الأمر الثاني فهو تصريحات الرئيس نبيه بري الاسبوع الماضي حول الرئاسة اللبنانية وجلسات انتخاب الرئيس، والتي أدّت الى اشتباك كلامي طائفي تحريضي، وبيانات وبيانات مضادة، انتهت بعدها القضية إعلامياً وخفتت أصوات الجيوش الالكترونية، ليبقى من التصريح والردود الملاحظات التالية:

-        من الواضح أن العلاقة التي تربط القوات اللبنانية بالرئيس بري هي علاقة متينة وعميقة، بدليل أن النائب ريشار قيومجيان أجبر بسرعة على إصدار بيان اعتذار بعدما تسرع في إصدار ردّ احتوى كلاماً طائفياً استفزت ردوداً عليه من نفس العيار.

-        يبدو من التطورات والتصريحات والردود، أن كلاً من المرشحين المتنافسين (ولو بدون إعلان ترشيحهما لغاية الآن) وهما قائد الجيش جوزاف عون والنائب السابق سليمان فرنجية قد تراجعت حظوظهما – أقلّه مرحلياً-بعدما قطع الرئيس برّي أي إمكانية لتكرار تجربة ميشال سليمان التي سمحت تسوية الدوحة – بحسب الرئيس برّي- بانتخابه بدون القيام بتعديل دستوري حينها. وأكد الرئيس برّي أن تعديل الدستور لإنتخاب عون يحتاج الى ثلثي مجلس النواب، وهو ما لا يمكن لقائد الجيش أن يحصل عليه، بعدما رفضت العديد من الكتل التصويت له. بينما تبيّن أن هناك فيتو خارجي على وصول فرنجية، عكسته المواقف السعودية في الاجتماع الخماسي الذي حصل في باريس.

-        وهكذا، بالرغم من التباين المستمر بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، يبدو ان النائب جبران باسيل يتقاطع مع الرئيس بري في رفض وصول قائد الجيش، ويتقاطع مع السعوديين في رفض وصول سليمان فرنجية.

في النتيجة، إذا استمرت الفيتوهات المتبادلة، فبقي الفيتو المرفوع في وجه فرنجية محلياً (مسيحياً) وخليجياً، واذا استمر الفيتو المحلي على إجراء التعديل الدستوري لانتخاب العماد جوزاف عون، ولم يحصل اي تنازل من قبل أي طرف لصالح الآخر مقابل مكاسب... فهذا يعني أن التسوية ستأتي برئيس للجمهورية غير متداول اسمه لغاية الآن. من الأفضل حينها للبنان أن يطرح اسم جديد لرئاسة الجمهورية بخلفية اقتصادية مالية، يستطيع قيادة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والاصرار على السير بالخطط الاصلاحية تمهيداً لوضع لبنان على سكة التعافي. 

2023/03/04

التنافس على دول الجنوب: هل يدفعها إلى الفوضى؟

كان لافتاً هذا العام إعطاء مؤتمر ميونيخ السنوي حول الأمن أهمية كبرى لدول الجنوب العالمي، معتبراً أنَّها ساحة صراع عالمي بين الدول الكبرى. وقد أفرد لها حيّزاً موازياً لكلٍّ من حرب أوكرانيا وضرورة مواجهة الصين وروسيا.

كعادته، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأكثر صراحة، لكنه كان الأكثر تشاؤماً أيضاً، حين قال إن "الغرب خسر ثقة الجنوب العالمي، ولم يفعل ما يكفي للرد على تهمة المعايير المزدوجة، وخصوصاً خلال فترة انتشار وباء كورونا، إذ لم يفعل الغرب الكثير لمساعدة تلك الدول ومدّها باللقاحات".

وذكر التّقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ أنّ "العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فقد الثقة بشرعية وعدالة النظام الدولي الذي لم يمنحها صوتاً مناسباً في الشؤون العالمية، ولم يعالج مخاوفها الأساسية بشكل كافٍ"، وأضاف: "تعتبر دول الجنوب أن النظام الذي يقوده الغرب يتسم بالهيمنة بعد الاستعمار وازدواجية المعايير وإهمال مخاوف الدول النامية".

وبناءً عليه، وبالاستناد إلى ما كشفه مؤتمر ميونيخ والتطورات التي حصلت منذ الحرب الأوكرانية ولغاية اليوم، نجد ما يلي:

-  الغرب يقاتل لاستدامة "نظام هيمنة" يخدمه

لطالما ردَّد العديد من قادة الدول الغربية أنَّ الهدف من عقوباتهم على روسيا هو وجوب امتثالها للنظام الدولي "القائم على القواعد".

وفي هذا الإطار، كان لافتاً أنّ 50% أو أكثر من المستجيبين في جميع البلدان التي شملها استطلاع مؤشر ميونخ للأمن 2023 يرون أن ثمة حاجة إلى قواعد دولية تنطبق على جميع دول العالم على قدم المساواة. 

وقد كانت هذه النظرة أقوى بين المستجيبين من عدد من دول الجنوب العالمي، مثل الصين (63%)، والهند (61%)، وجنوب أفريقيا (61%)، والبرازيل (57%)، ما يعني أنَّ المطالبة الدائمة للغرب بالمحافظة على "النظام القائم على القواعد" هي مجرد وصفة لاستدامة نظام الهيمنة الليبرالي الذي لم يعد يرضي العديد من دول العالم وشعوبها، وبات بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة للقواعد التي لا تأتي إلا لمصلحة الغرب وشعوبه.

- الغرب يهدف إلى إدامة استغلاله دول الجنوب

اشتكى الكثير من المتحدّثين الغربيين، وكذلك التقرير النهائي لمؤتمر ميونيخ، أن "الدول المؤثرة، مثل الهند أو تركيا أو المملكة العربية السعودية، باتت تسترشد بمنطق أكثر براغماتية، سواء في ردودها على الحرب في أوكرانيا أو في مواقفها من المنافسة الدولية الواسعة حول النظام الدولي". 

ودعا التقرير "الولايات المتحدة وأوروبا إلى إعادة التفكير في مقاربتهما للتعاون الإنمائي مع دول جنوب الكرة الأرضية، عبر تقديم نماذج تنموية أكثر جاذبية للمنافسة مع الصين التي تقدم نموذجاً بديلاً يعتمد على التضامن والمنفعة المتبادلة".

عملياً وواقعياً، لا يمكن أن يتنكّر الغرب لفكرة أن سياساته، سواء الاستعمارية أو ما بعدها، كانت السبب في غرق دول الجنوب في التخلف وعدم تحقيق التنمية. لقد جعل هيكل النظام العالمي السائد وقواعده التنمية غير ممكنة في ظل تقسيم يجعل الدول الغنية تحتكر لنفسها الصناعات المتقدمة ولا تسمح بوجودها خارج دائرة نفوذها.

وكان المفكّر بول باران قد اعتبر أنه بعكس الادعاءات الغربية التي تعيد التخلف في دول الجنوب إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، فإن هذا التخلف المزمن الذي تعيشه تلك الدول هو نتيجة الرأسمالية نفسها، إضافةً إلى أنّ الاستعمار خلق مجموعة من الخصائص المشتركة في البلدان المتخلفة، وأن العلاقة البنيوية بين هذه الخصائص أدت إلى إعاقة التطور الرأسمالي والتنمية. 

وفي رأيه، من أهمّ هذه الخصائص:

1- وجود قطاع زراعي كبير وشديد التخلّف يهيمن عليه الإنتاج الفلاحي الصغير وتعيش على أساسه طبقة من ملّاك الأراضي.

2- وجود قطاع صناعي صغير ومتقدّم نسبياً ينتج لسوق محلي محدود وعدد من المشروعات المنتجة للتصدير تكون عادة مملوكة لرأس المال الأجنبي.

3- وجود قطاع تجاري واسع تتحكّم من خلاله الرأسمالية التجارية في التجارة الخارجية، ويرتبط عضوياً برأس المال الأجنبي.

وهكذا، نجد أنَّ الغرب يتجه إلى فتح سباق جديد عنوانه "التنمية لكسب النفوذ"، وذلك في ساحات جديدة للتنافس مع الصين وروسيا، مسرحها هذه المرة دول الجنوب العالمي. هذا السباق يعني أن التدخلات والتدخلات المضادة ستزداد في دول الجنوب، ويُخشى معها أن تكون مسرحاً لانقلابات أو ثورات شعبية تحاول إطاحة الحكام الحاليين، لكون هذه الطريقة الأسهل والأكثر فعالية لقلب موازين القوى لمصلحة طرف ما.

لكن ماذا لو أدّت التدخلات والتدخلات المضادة إلى فوضى عارمة في دول الجنوب التي تعاني أزمات معيشية واقتصادية سابقة، أضيفت إليها التحديات الاقتصادية التي فرضتها الحرب الأوكرانية؟

حينها، سيكون العالم أمام موجات بؤس وتخلف وجوع جديدة، وسيكون النظام الدولي الجديد قد قام على أرواح الفقراء في دول الجنوب العالمي.