2019/04/24

الاقليات في صراع الاستراتيجيات الكبرى: سريلانكا نموذجًا


أكثر من 800 شخص بين قتيل وجريح، هي حصيلة التفجيرات التي وقعت الأحد في سريلانكا، وكان عدد كبير منهم من المسيحيين الكاثوليك المحتفلين بعيد الفصح، بالاضافة الى مدنيين آخرين قضوا في تفجيرات في فنادق كبرى وأماكن أخرى. وألقت الحكومة السريلانكية باللوم على منظمة إرهابية هي "جماعة التوحيد الوطنية"، على الرغم من أنها لم تعلن مسؤوليتها عن تنفيذ هذه الهجمات، كما لم تتبن أي جهة أخرى المسؤولية عنها.

ويشكل المسيحيون(7,4%) إحدى الأقليات الدينية في سريلانكا التي تدين الغالبية العظمى من سكانها بالبوذية (70%)، وهم أقل عددًا من الأقليات الأخرى فيها كالهندوس (12,6%) والمسلمين(9,7%).

ولقد هزّت التفجيرات الرأي العام المحلي والعالمي، بالرغم من أنها ليست المرة الأولى التي تعاني الاقليات بشكل عام من تمييز وإضطهاد في سريلانكا، فالمسلمون كانوا قد تعرضوا في السابق أيضًا الى اعتداءات واضطهاد وإحراق مساجد من قبل مجموعات عرقية متطرفة.

ويعتبر الشعور بالتهديد الوجودي أهم ما يميز الشعور القومي في سيرلانكا، إذ إن الصراع مع قومية "التاميل" المدعومة من الهند، والتي شكّلت هاجسًا إنفصاليًا دائمًا لسيرلانكا، فرض نفسه على هذه الجزيرة الصغيرة، مما جعلها في حالة تأكيد مستمر على الذات والتوجس من الآخر. وشهدت الفترة الممتدة منذ عام 1983 وحتى 2009، حربًا أهلية سريلانكية دارت أحداثها ما بين حركة “نمور التاميل”، التي تعرف بالحركة السريلانكية الانفصالية الهندوسية، والحكومة “السنهالية”. وطالبت الحركة الانفصالية بدولة تاميلية مستقلة، إلا أنها هُزمت بشكل كامل عام 2009، وانتهى حلمها بالدولة المستقلة.

وبعد هزيمة حلفائها التاميل، إزداد قلق الهند مما يجري في المنطقة مع إعلان الصين "مبادرة الطريق والحزام" التي تعني مزيدًا من التوسع الصيني في المنطقة. ولقد وقّعت سريلانكا اتفاقية مع الصين بقيمة 1,1 بليون دولار تحصل بموجبها الصين على نسبة 70% من أسهم ميناء "هامبانتوتا" في الجنوب، والإشراف على تطويره. وبحسب الاتفاقية، تتولى البحرية السريلانكية مراقبة المياه وعدم السماح لأية بحرية أجنبية بأن تجعل هذا الميناء الذي يقع على طريق الشحن الرئيس بين آسيا وأوروبا، قاعدة لها أو أن تجري فيه أنشطة ذات طابع عسكري. ويضاف الى ذلك، القلق الهندي من تحركات بحرية الصينية ووجود غواصاتها النووية في المياه الاقليمية لسريلانكا ما يشكّل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.

ولا ينفصل الصراع السياسي الداخلي في سريلانكا عن صراع الاستراتيجيات الدولية والتنافس بين الصين والهند في المنطقة والتي يختلف الساسة في سريلانكا حولها، فينقسم السريلانكيون حول الموقف من الإتفاقيات مع الصين التي استغلت عدم قدرة سريلانكا على سداد ديونها لتسيطر على أصولها السيادية.

وكما في معظم دول العالم، تقف الإقليات بشكل تلقائي مع السلطات الحاكمة، كونها تعتبر الضامن لها ولوجودها مقابل حركات إنفصالية أو تغييرية قد تجعل وجودها في مهب الريح، وهكذا دفع كل من المسلمين والمسيحيين ثمنًا باهظًا لوقوفهم الى جانب الحكومة السريلانكية، فعلى سبيل المثال قام التاميل في وقت سابق بطرد المسلمين من مناطق الشمال والشرق، وأخرجوهم قسرًا من قراهم وتمّ تهجيرهم من 130 قرية في الشمال.

في كل الأزمنة، تدفع الأقليات عادةً ثمن الصراع السياسي المحلي أو صراع الاستراتيجيات الدولية والاقليمية في منطقة معينة... وكما في المشرق، حيث دفع مسيحيوه دائمًا ثمن صراع الاستراتيجيات الكبرى في المنطقة، يبدو استهداف المسيحيين في سريلانكا اليوم (بغض النظر عن فاعله) جزءًا من الصراع المحلي الدائر في سريلانكا (المرتبط بالاستراتيجيات الاقليمية)، وذلك باعتبارهم موالين للحكومة، ولأنهم الحلقة الأضعف الذي يمكن معه إيلام الحكومة السريلانكية وزعزعة الاستقرار وضرب الإقتصاد كنوع من الصراع على السلطة...

2019/04/22

العماد عون في مواجهة "الدولة العميقة"


يسود القلق في لبنان مما يعلنه المسؤولون حول تخفيض الرواتب والأجور وإعادة النظر بسلسلة الرتب والرواتب، والإجراءات التقشفية غير الشعبية...وبالرغم من التطمينات، يبقى أن المواطن اللبناني يخشى بشكل كبير مما تحيكه له "الدولة العميقة" في لبنان، والتي لا يتحدث عنها كثيرون وكأنها غير موجودة.

ما هي الدولة العميقة؟ ومن هي مكوناتها اللبنانية؟

        يعود مصطلح "الدولة العميقة" الى كتاب أصدره موظف في الكونغرس الاميركي مايك لوفغرين بعنوان "الدولة العميقة: سقوط الدستور وظهور حكومة الظل"، الصادر عام 2013، وفيه يعتبر أن هناك حكومتان في واشنطن؛ واحدة ظاهرة وأخرى مخفية. ويعرّف هذه الدولة أو حكومة الظل كما يصفها، بأنها "مجموعة مختلطة من عناصر حكومية وجماعات صناعية ومالية قادرة على حكم الولايات المتحدة الأميركية بدون العودة أو الاهتمام بمصالح المحكومين كما هو معبر عنها في العملية السياسية الرسمية"، ويحدد عناصر هذه الدولة الأقوياء، بأنهم" وال ستريت، سيليكون فالي، المجمع الصناعي العسكري، وكالات الأمن القومي".

        وكما في الولايات المتحدة، كذلك في تركيا ومصر، انتشرت مصطلحات "الدولة العميقة" في خضم تطورات سياسية هامة. ففي مصر، انتشر هذا المصطلح للدلالة على القوى التي حكمت مصر لفترة طويلة والتي ساهمت في "الثورة المضادة" التي أطاحت بحكم مرسي. أما في تركيا، فيشير مصطلح الدولة العميقة الى القوى التي ارتبطت تاريخيًا بالحكم العلماني، والتي كانت تحافظ على الحكم السائد وتمنع تغييره بالقوة.

        أما في لبنان، فنجد أن الدولة العميقة، تتكوّن بشكل أساسي من المصارف، بالاضافة الى مجموعة من السياسيين التاريخيين يدعمهم رجال دين، أي مجموعات الاقطاع المالي والسياسي والديني، بالاضافة الى مجموعات متغلغلة في الإدارة والأمن والقضاء والاعلام، تمرر لبعضها البعض التلزيمات والصفقات وتمنع أي تغيير أو تهديد يمسّ بمصالحها، فتحرّض في الاعلام وتهدد بالشارع وزعزعة الاستقرار كلما حاول أحدهك المسّ بمصالحها.

من هنا، فإن الخوف اليوم من هذه "الدولة العميقة" بالذات، فوصول الوطن الى هذا المستوى من الانهيار غير المسبوق يعود الى طمع وجشع وسرقات موصوفة قامت بها هذه الفئات، وتحاول اليوم أن تدخل الى عناوين "مكافحة الفساد" لتفرّغها من مضمونها، وتمنع أي قدرة فعلية لقوى التغيير الجديدة من أن تمسّ بمصالحها أو تكشف فضائحها.

        منذ وصول العماد عون الى سدّة الرئاسة، تتكالب أطراف الدولة العميقة لإفشال العهد وإسقاطه قبل أن يبدأ، فبدأت حملات منهجية سياسية وإعلامية لزرع الياس في نفوس المواطنين من أي أمل بالتغيير او بمكافحة الفساد، وأتت الاجراءات المالية غير المسبوقة لتكبل الاقتصاد اللبناني، بعدما توقفت القروض الاسكانية، وارتفعت معدلات الفائدة فتوقف كل من الاستهلاك والاستثمار معًا.

في المحصلة، قد يكون بعض الاطمئنان دخل الى قلوب اللبنانيين بعد حديث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وطمأنته اللبنانيين أن لا اقتطاع من رواتب الفئات الفقيرة، وإن الضرائب فقط ستطال من يجب أن تطالهم... ولكن هل يستطيع العماد ميشال عون مواجهة الدولة العميقة ومنعها من هدم الهيكل على من فيه؟ أظن أنه حاز دائمًا على ثقة اللبنانيين، ولن يخذلهم هذه المرة.

2019/04/15

السودان: مساحة جديدة للصراع بين تركيا والامارات؟

طرحت الأزمة في السودان والتطورات التي أطاحت بالرئيس السابق عمر البشير، على بساط البحث، قضية القواعد العسكرية التي تنشرها الدول الإقليمية الفاعلة في أفريقيا، والتنافس الاستراتيجي بين كل من تركيا والإمارات في شرقي القارة.
ولعل قضية جزيرة سواكن التي كانت تركيا قد اتفقت مع السودان على استثمارها، وإقامة قاعدة عسكرية فيها، والقلق التركي من أن يؤدي الاطاحة بعمر البشير الى تعديل الاتفاقية أو إلغاءها، هو ما أثار القضية وجعلها تطفو على السطح .
وكانت تركيا قد عملت على تأسيس قواعد عسكرية في كل من الصومال وجزيرة سواكن في السودان، بالاضافة الى قاعدة عسكرية في الخليج (في قطر)، بما يشير إليه بعض الخبراء ب"المثلث" العسكري الذي تستخدمه تركيا لإحتواء النفوذ المتصاعد لدول الخليج العربي، ومنافسة النفوذ السعودي - الاماراتي في المنطقة.
وتتميز جزيرة سواكن بموقعها الاستراتيجي الواقع شمال شرقي السودان، على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وهي منطقة أثرية تاريخية، تبلغ مساحتها عشرين كيلومترًا مربعًأ، وكانت في السابق تعتبر الميناء الرئيسي الذي تعتمد عليه السودان والذي يشكّل حلقة الوصل بين كل من أفريقيا وآسيا.
في المقابل، توزع الامارات قواعدها العسكرية في المنطقة، بشكل طوق عسكري يتخطى حجم ونفوذ البلد الاستراتيجي، ففي اليمن تقوم الإمارات بمدّ نفوذها داخل الجغرافيا اليمنية بالاضافة الى السيطرة على جزيرة سقطرى، حيث تقيم الإمارات قاعدة عسكرية كبرى، ومعها باتت تسيطر استراتيجيًا على الخط البحري الممتد من الهند الى أفريقيا.
وبالرغم من القلق العُماني من التواجد الإماراتي في تلك الجزيرة الاستراتيجية، إلا أن الإمارات لا تبدو مستعدة للتخلي عن منقطة حيوية واستراتيجية بأهمية سقطرى.
يضاف الى سقطرى، القاعدة العسكرية الاماراتية في ميناء المخا، على الساحل الغربي لليمن. كما تتحدث التقارير عن وجود عسكري سعودي - إماراتي في جزيرة ميون قرب مضيق باب المندب ما يعطيها أفضلية عسكرية استراتيجية في المنطقة.
أما في أفريقيا، فتتنافس الامارات مع تركيا على إقامة قواعد عسكرية في الساحل الافريقي، إذ أقامت الإمارات قاعدة عسكرية في "أرض الصومال" التي انفصلت عن الصومال وأعلنت نفسها دولة مستقلة (بدون أن يعترف بها أحد)، وباتت اليوم تتلقى مساعدات ودعم كبيرين من بعض الدول الخليجية مقابل الاستثمارات الاقتصادية والعسكرية فيها. كما تقيم الامارات قاعدة عسكرية في أرتيريا، والتي تُعتبر القاعدة الاساس لإنطلاق الطائرات العسكرية لشنّ الغارات في اليمن ولدعم العمليات العسكرية الجارية هناك ضد الحوثيين.
وهكذا، نجد أن الصراع بين الدول الخليجية وتركيا، يأخذ طابعًا مذهبيًا واستراتيجيًا؛ مذهبيًا حيث يتقاتل الطرفان على تكريس زعامة العالم الاسلامي السنّي، واستراتيجيًا حيث يحاول كل طرف مدّ نفوذه الى الدول الأخرى للسيطرة على أكبر قدر ممكن من الجغرافيا. كما نجد أن الصراع والتنافس الاستراتيجي بات ينتقل من منطقة الى أخرى، فبعد أن تقاتل الطرفان في أنحاء العالم العربي وفي منطقة الشرق الأوسط واستخدم الطرفان الحروب بالوكالة عبر المجموعات المسلحة في سوريا، نجد أن سباق النفوذ انتقل اليوم الى القارة الافريقية.
الإشكالية الكبرى التي يخلقها هذا التنافس بين هذه الدول، أنه قد يعطي هامشًا للإرهابيين، للنفاذ من مناطق التنازع بين استراتيجيات الدول لمكافحة الارهاب، التي تكون بشكل عام منعزلة عن بعضها البعض ومتنافسة الى حدٍ كبير. بالاضافة الى أن الخطورة الأساسية تكمن في إمكانية استخدام هؤلاء الارهابيين من قبل بعض الدول كآداة في السياسة الخارجية لمنع الخصم من الوصول الى أهدافه، أو لضرب الخصم واستنزافه، أو للتأثير على الحكومات الافريقية للتأثير في قراراتها أو لمعاقبتها على تفضيلها التعاون مع دولة واقصاء أخرى.

كيف سيواجه الكونغرس الاميركي عناد أردوغان؟


يبدو التصعيد الكلامي الأميركي ضد تركيا رأس جبل الجليد بالنسبة للعلاقة بين الدولتين، وقد جاءت الخطابات الأميركية تصعيدية ضد تركيا في قمة حلف الناتو في الذكرى السبعين لتأسيسه، حيث هاجم كل من وزير الخارجية الأميركي بومبيو، ونائب الرئيس مايك بنس، تركيا على خلفية صفقة "أس - 400" التي يقول الأتراك أنها "صفقة محسومة"، ما يعني أنها ستبقى سارية بالرغم من التهديدات.

هذا بالاضافة الى التهديد العلني الذي أطلقه مسؤولو لجنتي العلاقات الخارجية والقوات المسلحة، في مقال في صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، حين أكدوا، بأن تركيا هذه السنة سيكون لديها أما الطائرات الاميركية او السلاح الروسي، ولن يكون لها الاثنين معًا. ويتوعدها بأن الأميركيين لن يسكتوا على انحيازها الى الروس خاصة في موضوع شراء منظومة الدفاع الروسية، وهددوا بتجميد صفقة طائرات أف- 35 وحرمان الشركات التركية من الاستمرار مع لوكهيد مارتن في المشروع.

وبعد أن ضربت تركيا عرض الحائط بكل التهديدات الأميركية وسارت في صفقة السلاح الروسي، يبدو أن الأميركيين لن يسكتوا، لذا تمّ تقديم مشروعي قرار ضد تركيا في الكونغرس الأميركي، تبناها الحزبين معًا وهي:

1- مشروع القرار الاول والأهم، عرضه السيناتوران الأمريكيان ماركو روبيو وبوب مينيديز (من الحزبين)، تحت عنوان "مشروع الأمن والشراكة في شرق المتوسط"،  والذي طالب بإلغاء الحظر السابق على بيع السلاح المفروض على قبرص، بل واقتراح أن تقدم الولايات المتحدة تدريبًا عسكريًّا ومساعدات بقيمة 5 ملايين دولار لليونان، ومليوني دولار لقبرص اليونانية.  كما يجيز مشروع القانون لإدارة دونالد ترامب للدخول في اتفاقات التعاون في مجال الطاقة بين قبرص واليونان وإسرائيل.

2- مشروع القرار الثاني، ينص على فرض عقوبات بحق مسؤولين أتراك بسبب مسؤوليتهم عن توقيف أميركيين وأتراك عاملين في البعثات الدبلوماسية الأميركية، وذلك على أثر محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016.

هذا في الضغط المباشر، أما بالنسبة للضغط غير المباشر، فنجد أنه بعد أن أصبحت "ألباما Alabama" الولاية رقم 49 التي تعترف بالإبادة الأرمنية، حثّ نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي (تيد كروز وروبرت مينيندز)، الكونغرس الأميركي على الاعتراف بالإبادة الأرمنية التي حصلت عام 1915.

وهكذا، يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في موقف لا يُحسد عليه، فالوضع الاقتصادي والليرة التركية تسببا بخسارته للانتخابات في كبرى المدن التركية، ويتعرض للضغط من حلفائه، ولكن شخصيته وأسلوبه المتعالي، وطريقته في إدارة المفاوضات مع الخارج الخ.. لا تسمح له بالخضوع للضغوط الاميركية وإيقاف الصفقة الروسية، وخسارة العلاقة المتميزة الحالية مع الروس، والتي حققت له نجاحًا في الجغرافية السورية لم يستطيع تحقيقها بتحالفه مع الاميركيين في السابق.

في المحصلة، لا يبدو أن احتفاء الأتراك بقدوم ترامب الى البيت الأبيض بعد أوباما "المتردد" قد أفاد أردوغان، بالعكس يبدو أن ترامب لا يقبل بحلفاء مع هامش استقلالية بل يريد خضوعًا كليًا من قبل الحلفاء وإلا تعرضوا لعقاب شديد، عبر فرض العقوبات الاقتصادية التي يعتبرها آداة فعالة بيده، لكنها واقعيًا - لغاية اليوم- لم تستطع إخضاع أحد؛ لا حلفاءه ولا أعداء.

2019/04/10

"صفقة القرن": دور المسيحية "المتصهينة"



يومًا بعد يوم، تتكشف بنود من المؤامرة التي يخططها ترامب وإدارته لمستقبل المنطقة وقضية الصراع العربي، أو ما يسمى اصطلاحًا "صفقة القرن".

وبالرغم أن انكشاف بعض بنود تلك الصفقة عبر الاعلام، والتي تحدثت عن تبادل أراضٍ، حيث يكون للفلسطينيين قطاع غزة فقط (مشروع غزة أولاً) مع بعض الأراضي من صحراء سيناء والأردن، على أن تقوم السعودية بتعويض تلك الأراضي للدولتين، بالاضافة الى توطين اللاجئين الفلسطينيين في أماكن وجودهم...

 ولقد كشفت تصريحات نتنياهو الأخيرة قبل الانتخابات الاسرائيلية عن جزء هام من تلك "الصفقة"، والتي اعتبر فيها أنه لن يقبل بتفكيك المستوطنات بل سيزيدها، وأن القدس بأكملها ستكون عاصمة "اسرائيل"، وأنه سيضم الضفة الغربية الى السيادة الاسرائيلية وسيطلب من الرئيس الأميركي ترامب الاعتراف بتلك السيادة.

ومع تجربة نقل السفارة الأميركية الى القدس والاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان السوري المحتل، يمكن التكهن بأن ترامب سيقوم بالاعتراف بضم الضفة الغربية الى "اسرائيل"، طالما قام بما قام به في السابق ولم يحصل أي تصعيد بالمقابل، بل ما زال العرب يهرولون للتطبيع مع اسرائيل ويهرعون لاسترضائه.

لكن، لماذا يقوم ترامب بكل هذه الخدمات لنتنياهو وماذا يريد "التاجر ترامب" بالمقابل؟

فعليًا بدأ ترامب منذ انتهاء انتخابات الكونغرس النصفية، بالتحضير للانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2020، ويحتاج ترامب لإعادة انتخابه الى دعم اللوبي اليهودي في أميركا بالاضافة الى أصوات الكتلة الانجيلية.

بالنسبة للوبي اليهودي، يدرك ترامب حجم التأثير الذي يمتلكه هذا اللوبي على صعيد الجامعات والاعلام والتأثير على الكونغرس، بالاضافة الى مجموعات التفكير المختلفة والتي تستطيع تشكيل رأي عام ضاغط يعاقب من يعادي اسرائيل، و"يعوّم" من يخدمها، ويحفّز الناخبين للتصويت له.

أما بالنسبة لأتباع اليمين الاصولي الانجيلي، فهؤلاء يصوّتون عادة لمرشحي الحزب الجمهوري، اعتقادًا منهم أنهم "أكثر تدينًا"... وبالرغم من الفضائح الأخلاقية التي رافقت مسيرة ترامب السياسية، وابتعاده عن التدين، إلا أن هذه الكتلة أعطته 81% من أصواتها عام 2016. من هنا، كان الضغط الشديد الذي مارسه ترامب على تركيا في قضية القس برونسون والتي كادت تقطع العلاقات الأميركية مع دول حليفة في حلف الناتو.

وتشير التقارير الصحفية، الى أن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لاسرائيل، كان بنتيجة جهود وضغوط من هؤلاء، وأن نتنياهو عقد إجتماعًا مع بعض النافذين في الكنيسة الانجيلية لشكرهم في إقناع ترامب باتخاذ قرار نقل السفارة.

يقرأ "اليمين المسيحي الانجيلي" في نصوص العهد القديم، ويؤمنون بما أتت به، أي بنفس الأفكار التي روّجت لها الصهيونية، أي وجوب قيام دولة اسرائيل أن المسيح سيعود مرة ثانية لمحاربة الشر على الأرض بعدما يحصل إعادة تجميع لليهود في فلسطين، وبناء الهيكل في "اورشليم".

وبعد قيام ترامب بنقل السفارة الى القدس والاعتراف بالجولان، حاول ترامب استخدام تصريحات النائبة المسلمة الهان عمر لاتهامها بمعاداة اسرائيل، ولاستغلال الحركة الحزبية " جيكزودس" التي تشجع على ابتعاد اليهود عن الحزب الديموقراطي والانتقال الى الحزب الجمهوري ودعم الرئيس الاميركي دونالد ترامب في الانتخابات المقبلة.

إذًا، تبدو القاعدة الحزبية التي سيتكل عليها ترامب في انتخاباته المقبلة، هي الحركات المسيحية "المتصهينة"، بالاضافة الى دعم اللوبي اليهودي، وجنرالات البنتاغون الذين أغراهم ترامب بزيادة الموازنة الدفاعية الى أقصى حد... وإذا استمر ترامب في سياساته الجاذبة لليهود واليمين المسيحي الانجيلي، واستمر الحزب الديمقراطي في الغرق في مشاكله وعدم القدرة على إيجاد مرشح لمنافسة ترامب بقوة، يكون على العالم والاميركيين التعايش مع فكرة بقاء ترامب أربع سنوات إضافية أخرى.

2019/04/08

حتى أنت يا بوتين؟


تحتدم المنافسة في "اسرائيل" تمهيدًا للانتخابات التي ستحصل الثلاثاء في التاسع من نيسان الجاري، ولقد أشارت الاستطلاعات في وقت سابق الى تراجع كبير في شعبية نتنياهو خاصة في ظل الاتهامات له بقضايا فساد، وارتفاع أسهم الجنرالات في اسرائيل خاصة بيني غانتس، مرشح حزب أزرق أبيض.
وأمام هذا التراجع في شعبيته، صعّد نتنياهو من إجراءاته العدوانية ضد قطاع غزة، واندفع الى أقصى اليمين مخاطبًا جمهورًا من المتعصبين واليمين الفاشي في اسرائيل، معلنًا صراحةً أن "من يعتقد أنه سيكون هناك دولة فلسطينية تغلّف إسرائيل من الاتّجاهين فإننا نبلغه أنّ هذا الأمر لن يحدث"، وأضاف أن هناك ثلاثة مبادئ (في صفقة القرن التي يتفق مع الاميركيين على تطبيقها)، هي "عدم اقتلاع أيّ مستوطن ولا أيّ مستوطنة، وإبقاء السيطرة في يد الإسرائيليين على كلّ المنطقة غرب الأردن أي أن البقاء هناك دائم، وعدم تقسيم القدس".
وفي مقابلة متلفزة أعلن نتنياهو أنه سيطبّق السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية اذا فاز بولاية جديدة في الانتخابات المبكرة المقرّرة في 9 نيسان/ أبريل الحالي.
بالطبع، يحق لنتنياهو أن يتباهى ويتفاخر بأنه ينوي الاعتداء على الحقوق الفلسطينية المشروعة، فلقد أضيف الى الدعم الداخلي الذي يحظى به من اليمين الاسرائيلي، دعم من نوع آخر: دعم دولي تقاطع فيه دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كان الاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على الجولان، دعمًا واضحًا من الرئيس الأميركي الى نتنياهو، لاعطائه دفعًا جديدًا ليتفوق على خصومه من الجنرالات، خاصة "بيني غانتس".
وبالإضافة الى ترامب، كان واضحًا أن الرئيس بوتين أيضًا يدعم نتنياهو مرشح اليمين ضد اليسار الاسرائيلي وكأنه ضمنًا يمهّد لصفقة القرن، وذلك عبر أمور عدّة أهمها:
- زوال الخط الأحمر الروسي أمام تحليق الطائرات الاسرائيلية في السماء والاعتداء على السيادة السورية، وذلك بالسماح للاسرائيليين بقصف حلب، لما قيل انه استهداف لمقرات إيرانية هناك.
- تقديم بوتين هدية لنتنياهو، وذلك عبر تسليمه رفات الجندي الاسرائيلي الذي قُتل خلال الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982. واللافت كان التكريم الذي أقامه الروس لجثة ذلك الجندي، وتباهي بوتين بأنه يرسله الى اسرائيل ليحصل على "التكريم" الذي يستحقه في بلاده... وهنا يصح التساؤل: أي تكريم يستحق لجندي من الغزاة قُتل خلال العدوان على كرامة وسيادة دول أخرى خارج نطاق القانون الدولي وكل المواثيق والأعراف الدولية؟
- هذا في العلن، أما في السر فلا نعرف إذا كان بوتين قد أوعز للمواطنين اليهود الاسرائيليين من أصول روسية بالتصويت لنتنياهو في الانتخابات المقبلة..
بكل الأحوال، إن التصعيد الكلامي الذي يقوم به نتنياهو والدعم الدولي الذي حظي به قد يعيده الى رئاسة الحكومة في اسرائيل بعد الانتخابات، ولكن ذلك بالتأكيد لن يكون في مصلحة اسرائيل، فكلما ازداد الفجور الاسرائيلي، وكلما ازداد الظلم، كلما وضع أهل المنطقة نصب أعينهم أنه لا مفر أمامهم من المقاومة المسلحة، فأي أمل يُرجي من قانون دولي أو مفاوضات سلمية، طالما تكافئ الدول القاتل وتسحق القتيل.

2019/04/04

انحسار الموجات الشعبوية؟

حدثان يسيطران على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الإجتماعي ولفتا نظر العالم لأهميتيهما:
1- الانتخابات المحلية في تركيا والخسارة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية، أي حزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في المدن الكبرى في الانتخابات المحلية التي أجريت نهاية الأسبوع المنصرم في أقوى ضربة يتعرض لها الحزب على مدار 16 عامًا، أي منذ وصوله الى السلطة في تشرين الثاني من عام 2002 .. وبالرغم من حصول تحالف حزب العدالة والتنمية على ما يزيد عن 51 في المئة من أصوات الناخبين، إلا أن هزيمته في المدن الكبرى لا شكّ أن لها دلالاتها الداخلية التي سيدرسها أردوغان بدقة.
2- الجدل حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والفشل المستمر الذي ما زالت تواجهه خطة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي للانسحاب من الاتحاد.
وتواجه تيريزا ماي خطر حجب الثقة عنها أو دفعها الى الاستقالة بنفسها، وتتحدث التقارير عن خطر استقالة العديد من الوزراء من المؤيدين للاتحاد الأوروبي، إذا اتجهت ماي إلى الخروج من الاتحاد بدون اتفاق، في حين يرجح أن يستقيل الوزراء المؤيدون للخروج إذا دعمت اتحادًا جمركيًا مع الاتحاد الأوروبي أو سعت إلى تأجيل الخروج الى وقت طويل.
ولقد وقّع أكثر من ستة ملايين شخص، على العريضة الإلكترونية التي تطالب بإلغاء "بريكست" وإبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي. وتدعو العريضة إلى إلغاء المادة 50 من معاهدة لشبونة، والتي تنص على آليات الخروج من الاتحاد، ودفع بريطانيا الى البقاء في الاتحاد الأوروبي.
ويبدو من القضيتين المتفاعلتين، أن الخسائر الاقتصادية وانهيار العملات والانكماش والبطالة، قد تكون من العوامل التي تستطيع التخفيف من أثر الخطابات الشعبوية الى حد بعيد، فيطغى الهمّ الاقتصادي على تعاظم الاحساس بالخطر من "الآخر".  
ففي حالة أردوغان، يبدو أن الخطابات الحماسية والتحريضية واستثارة الغرائز الطائفية، وإلقاء اللوم على الولايات المتحدة في الأزمات الاقتصادية لم تعد تجدي نفعًا مع سكان المدن التركية الذين يعانون من الانكماش الاقتصادي وانهيار سعر الليرة التركية.
أما في بريطانيا، فإن الخيارات المتاحة أمام البريطانيين للخروج من الاتحاد الاوروبي بدون أكلاف مالية واقتصادية كبيرة تبدو معدومة، لذا فإن المراقبين يتحدثون اليوم عن أن إعادة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاوروبي قد تحقق مفاجآت، وقد تدفع الشعب الى قلب النتيجة والتصويت لعدم الخروج.
إذًا، يبدو أن استمرار الأزمات الاقتصادية أو الدخول فيها يعمل بطريقة عكسية لما تستطيع أن تفعله حملة انتخابية تعتمد على أمننة القضايا الاجتماعية، واستثارة الغرائز العنصرية ضد "الآخر" والتهويل بخطر وجودي لدفع الناخبين الى تأييد قضية ما أو حزب ما... وسيعمد الناخبون الى التخلي عن مرشحهم أو زعيمهم في حال لم يقدم لهم الخطاب الشعبوي أي تغيير للأفضل في وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي.
وبناءً على هذه النتيجة، يمكن القول أن التأييد الشعبي الذي حققه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2016، قد يحققه في العام 2020، بشرط تحسن الوضع الاقتصادي وانحسار نسب البطالة، وخلق فرص عمل في الداخل الأميركي. أما في حال حصل انكماش اقتصادي وعدم استطاعة ترامب تحقيق الازدهار الاقتصادي الذي كان قد وعد به، فمن المحتمل أن لا تنفع كل الخطابات الغرائزية في عودته الى البيت الابيض.  

2019/04/01

احتمالات الحرب في المنطقة


سرت شائعات عدّة غذتها تصريحات سياسية وإعلامية متعددة، من أن هناك أمورًا وتعقيدات ستشهدها الأشهر المقبلة وستدفع المنطقة الى تصعيد كبير، قد لا يسلم لبنان من تداعياته.. فما هي هذه التعقيدات والتحديات، وما هي إحتمالات التصعيد؟
أولاً: الانتخابات الاسرائيلية المحددة في التاسع من شهر نيسان المقبل، والتي يتوهم البعض من ان الاسرائيليين سيتذرعون بالأنفاق التي تمّ اكتشافها على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، للذهاب الى مغامرة عسكرية في الجنوب اللبناني عشية الانتخابات.
 في هذا الإطار ، يمكن أن نلفت أن أي هجوم اسرائيلي على لبنان، سيلقى ردًا مزلزلاً ولن يسمح اللبنانيون لنتنياهو بالتصعيد بدون ردٍ مقابل، لذا لن يجرؤ على التصعيد على الجبهة اللبنانية لا قبل الانتخابات الاسرائيلية ولا بعدها... بعد حرب 2006، أتخذ الاسرائيليون قرارًا حاسمًا بأنهم لن يذهبوا الى حرب ما لم يكونوا متيقنين من انتصارهم فيهم مئة بالمئة، وأي حرب مع لبنان في ظل توازن القوى الحالي لن يحقق لهم ما يريدون وقد يعود بنتيجة عكسية، لذا من الصعب جدًا أن يذهبوا الى تصعيد يدحرج الأمور الى ما لا يريدون.
من ناحية أخرى، وفي ظل حاجة نتنياهو الى انتصارات يوظفها في انتخاباته في الداخل، نجد أن التصعيد مع غزة، وقراري ترامب (الاعتراف بالقدس عاصمة اسرائيل، والسيادة الاسرائيلية على الجولان السوري المحتل)، بالاضافة الى غياب الخط الأحمر الذي كان قد وضعه الروس على القصف الاسرائيلي في سوريا.. كلها عوامل تحقق لنتنياهو ما يريد، ولا تعوزه الى تصعيد غير محسوب النتائج مع لبنان.  
ثانيًا: دخول العقوبات الأميركية على إيران مرحلة جديدة في الثالث من ايار، بحيث يريد ترامب أن تصل الصادرات الايرانية من النفط الى صفر، ستدفع الايرانيين الى المبادرة بالتصعيد والذهاب الى حرب في المنطقة... وستجرّ الجميع معها الى التصعيد، ومنهم حزب الله.
 في هذا المجال، وبالرغم من دخول العقوبات الأميركية فصلاً جديدًا أقسى من ذي قبل ، إلا أن الايرانيين يملكون الكثير من أدوات القوة التي تمكّنهم من التفلت من تلك العقوبات بدون الحاجة للجوء الى تصعيد وحرب شاملة في المنطقة.
بشكل عام، إن الدول المستوردة للنفط الايراني ما زالت مستعدة لتحدي الولايات المتحدة أو الضغط لتمديد فترة السماح، بالاضافة الى أن شعور الاوروبيين بأن المنطقة قد تصل الى تصعيد خطير سيدفعهم الى تفعيل آلية التجارة مع إيران، ناهيك عن الآلية التي كان قد أعلن عنها في وقت سابق، أي شراء الروس الغاز الايراني وإعادة بيعه في الأسواق...
إن التصعيد الميداني في المنطقة ليس في صالح أحد، ولا في صالح الايرانيين أنفسهم، فقضم النفوذ الذي يقوم به الايرانيون عبر سياسة النفس الطويل، تدر لهم أرباحًا على المستوى الاستراتيجي أكثر من تصعيد وحرب سيندفع للانخراط فيها كل من الاميركيين ودول الخليج واسرائيل، وستضرّ بالجميع.. وقد تقلص النفوذ الايراني في المنطقة بدل أن تزيده.
والأهم، إن السلوك الايراني الخارجي لم يُعرف عنه استخدام سياسة التهور وهدم الهيكل على من فيه، بل إن مراقبة السلوك الايراني الخارجي على مستوى المنقطة في عهود المحافظين والاصلاحيين والمعتدلين، يشي بأن العقلانية والبراغماتية، والعمل على سياسة النفس الطويل، والتضحية في بعض الأحيان بمكاسب آنية لتحقيق أهداف استراتيجة طويلة الأمد، هي سمة السياسة الايرانية لمدّ النفوذ، ولن يتخلوا عنها اليوم في ظل المتغيرات الهامة التي تجري على صعيد منطقة الشرق الأوسط برمتها.