2012/09/26

أوباما.. ودروس المعركة السورية

لم تكن إشارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في نيويورك إلى أن نظام الأسد "يجب أن ينتهي"، والتأكيد أن على المجتمع الدولي التحرك من أجل الحيلولة من دون أن يتحوّل التمرّد ضد الأسد إلى "دائرة من العنف الطائفي"، خارجةً عن السياق العام للتطورات السورية وانعكاساتها على المنطقة الإقليمية المجاورة، بل على العكس تماماً؛ إن هذا الإعلان بتوقيته ونتائجه يشير إلى عمق الأزمة التي وصلت إليها الأطراف الفاعلة في سورية، ومنها تركيا التي طلبت من قادة "الجيش الحر" مغادرة الأراضي التركية.
وفي تحليل للمعطيات التي تدفع أوباما والإدارة الأميركية إلى مثل هذه المواقف، فتبدو أسبابها كما يلي:
1- الدرس الهام الذي تعلّمه الأميركيون من خلال الاعتداء الذي حصل على سفاراتهم في العالم الإسلامي، خصوصاً في دول "الربيع العربي" الذي هندسه الأميركيون بأنفسهم، وقد فهم الأميركيون أن عقد الصفقات مع من يدّعي أو يرفع شعارات إسلامية ليصل إلى السلطة، لن يمكّنهم من إزالة الكره ونظرة العداء التي سببتها سياساتها المستمرة في دعم "إسرائيل"، وانتهاك حقوق الشعوب منذ تأسيس دولة "إسرائيل" ولغاية اليوم، مروراً باحتلال العراق وما شابه من مفردات عنصرية تحت ستار ما سمي "الحرب على الإرهاب".
إن هذا الدرس الدموي الذي أدى إلى مقتل السفير الأميركي في ليبيا، هو ما جعل وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون تحض العالم على الوقوف في وجه "المتطرفين"، بعدما كانت قد دعمت وموّلت هؤلاء "المتطرفين" للقضاء على معمر القذافي في ليبيا، ولمحاولة إسقاط نظام الأسد في سورية.
ويمكن فهم الإشارات التي أعلنها الاتحاد الأوروبي بالدعوة إلى وقف تسليح أو تشجيع تسليح ما تسمى "معارضة سورية"، أو على الأقل عدم الانخراط في العملية، بأنها جزء من القلق المتنامي لدى هؤلاء من الحركات التكفيرية التي تنتشر في صفوف المعارضة السورية.
2- حاجة غربية وتركية وخليجية لتحفيز المقاتلين في سورية على الاستمرار في القتال، أو على الأقل لإطالة عمر الأزمة إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، وللاستمرار في الضغط من أجل الحصول على مكتسبات سياسية، من خلال العمل الميداني العسكري الذي يغذّونه ويمولونه. وكانت التقارير المتتالية تشير إلى قتال ضارٍ بين المجموعات المسلحة مع بعضها البعض، خصوصاً بين "الجهاديين" والسوريين، خصوصاً بعدما أعلن "الجهاديون" أنهم في مواجهة مع "جيشيْن مرتديْن"، أي الجيش السوري و"الجيش السوري الحر"، وأنهم "عندما ينتهون من أحدهما يبدأون مع الآخر"، كما تشير الوقائع الميدانية إلى انسحاب ومغادرة بعض العناصر "الجهادية"، وأهمها الشيشانية، متذرعين بعدم حمايتهم وتحشيد خطوطهم الخلفية من قبل "الجيش السوري الحر"، ومتهمين المقاتلين السوريين بالتخاذل.

3- اليأس الذي يسود المقاتلين المسلحين في الداخل، خصوصاً بعدما كبّدهم الجيش السوري خسائر كبيرة في الأرواح، وفي ظل انعدام قيادة موحدة لهؤلاء، وفقدان الثقة بين بعضهم البعض، وانتشار التكفيريين بين المجموعات المختلفة، يضاف إليه قلق السوريين المقاتلين من "المجاهدين الأجانب"، الذين لا يعيرون وزناً لأي قيم أخلاقية ولا وطنية سورية، ولا يهمهم نتائج فظاعاتهم على النسيج الاجتماعي السوري.
ولعل التعبير الأصدق عن اليأس المتحكم بهؤلاء، هو ما أعلنه صراحة أحد القادة الميدانيين لـ"المجاهدين"، والذي يعتبر أنه "من الواضح أن الجيش السوري سيربح المعركة، لكننا لا نخبر الثوار بحقيقة الأمر، فلا نريد تدمير معنوياتهم".
4- اقتناع يزداد يوماً بعد يوم لدى الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً، عن استحالة إسقاط الأسد بواسطة خيار التدخل العسكري الخارجي، وفشل الأوهام وقصور الأحلام التي سوّقها أردوغان وبعض قادة المعارضة الخارجية، والتي أثبتت أنها لا تعلم الكثير عن المعطيات الداخلية ونقاط قوة الأسد الداخلية والخارجية، وإلا لما راهنت على إسقاطه بسرعة بواسطة ثورة شعبية من الداخل، وعلى انفراط عقد التحالف الداعم له دولياً وإقليمياً في مرحلة ثانية.
5- خشية أميركية من انعكاسات الأزمة السورية على الحليف التركي؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فقد دفعت تركيا أثماناً باهظة منذ إعلان أردوغان سياسته العدائية تجاه الحكومة السورية، ودعم المنظمات السورية المسلحة، فمن ناحية أولى تراجعت مؤشرات نمو الاقتصاد التركي بشكل متسارع، خصوصاً بعد إغلاق الحدود بين تركيا وسورية، وهبوط الصادرات التركية إلى سورية، ومنها إلى المنطقة، بعدما كانت سورية البوابة التركية على الشرق، وتقلّص الفورة السياحية خلال السنة المنصرمة، واستقبال عدد هائل من اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى الهجمات التي يشنّها حزب العمال الكردستاني، وانعدام الأمن والاستقرار في المناطق الحدودية مع سورية؛ المعروفة بتنوعها الثقافي والديني والعرقي..
في المحصلة، يبدو مسار الأزمة السورية متجهاً ــ ولو بصورة متباطئة لما بعد انتهاء الأميركيين من انتخاباتهم واستقرار الإدارة الجديدة ــ نحو اقتناع القوى الفاعلة بضرورة إيجاد حل سلمي للقضية، وفشل الرهانات على الخيار العسكري، لذا تشهد دمشق يوماً بعد يوم انعقاد مؤتمرات لمعارضة الداخل الرافضة للعسكرة والتدخل الأجنبي، والتي ستكون في وقت لاحق الطرف المقبول للحوار مع السلطة، وهو ما سيجعل كثيراً من المعارضين الذين برزوا في وقت سابق يُحالون إلى التقاعد مبكراً.

2012/09/19

تقييم زيارة البابا: في دور لبنان ومسيحييه

انتهت الزيارة التاريخية لقداسة البابا، منهية هدنة قسرية فُرضت على أطراف النزاع السياسي اللبناني، ومسجّلة حضوراً رسمياً وشعبياً، وصورة زاهية لم يعكرها بالنسبة إلى المواطنين إلا ظهور الدولة اللبنانية واستمرارها بعدم احترام حقوق الإنسان، بعدم إصدار بيانات دورية من قوى الأمن الداخلي بتوقيت قطع الطرقات للأيام الثلاثة المتتالية، واستناد المواطنين إلى بيان وحيد صدر قبل الزيارة، حدد فقط تاريخ قطع الطرقات ليومي الجمعة والسبت قبل الظهر خلال زيارة القصر الجمهوري.

وبعيداً عن معادلة الأمن والحرية وحقوق الإنسان، لا شكّ أن زيارة البابا إلى لبنان، والمواقف التي أطلقها والسينودس الذي وقّعه، سيكون لها تأثير في مسار رسم الأحداث والمواقف السياسية في المنطقة، إن تعامل معها الجمهور المسيحي كما يجب، وإن بنى عليها للمستقبل. ولعل قراءة ما بين سطور البابا تجعلنا ندرج الملاحظات التالية:

أولاً: إقرار من البابا الحالي، كما البابا السابق، بمحورية دور لبنان ومسيحييه في المنطقة، فالإطلالة على الشرق المتفجر من لبنان يعني أن البابا والكنيسة الكاثوليكية تعتبران لبنان المتعدد والمتنوع دينياً وثقافياً حجر زاوية في السياسة الفاتيكانية تجاه الشرق الأوسط، وقضايا العالم العربي، وعلى ما يبدو كان هناك تفويض مباشر من البابا إلى بكركي للقيام بهذه المهمة، ما يعني أن البابا قد فوّت على المصطادين بالماء العكر بينه وبين بكركي فرصة هامة، وأبلغ إلى مَن يهمه الأمر أن ما يقوم به الراعي وما يقوله هو سياسة فاتيكانية، وإن السير بخيار معاداته يعني معاداة الحبر الأعظم.

ثانياً: إشارات واضحة من البابا بأنه يمكن للعالم العربي - الذي يشهد تحولات دراماتيكية وصعود قوى التطرف والأصولية، التي ترفض الآخر وتنكر وجوده - أن يعتمد النموذج اللبناني في الحكم، وإن الصيغة التعددية اللبنانية للحكم يمكن لها أن تكون مثالاً يحتذى، مع مراعاة الخصوصية العددية والثقافية والديموغرافية لكل بلد من البلدان.

ثالثاً: كان التحذير الذي أطلقه البابا، والدعوة إلى عدم توريد السلاح إلى سورية، إشارة واضحة وجدية بأنه يعتبر أن التصرف الذي يقوم به الغرب وبعض العرب والأتراك بتوريد السلاح والإرهاب إلى سورية هو أمر مرفوض، وأن الديمقراطية التي تؤمن بالتعددية وخيار السلام وبناء سورية الجديدة لا يمكن أن يقوم في ظل انتشار السلاح وتقويض الاستقرار وتهديد المواطنين الآمنين، وانتشار البؤر الإرهابية الممولة من الخارج.

رابعاً: دعوة البابا إلى المسيحيين المشرقيين بعدم الخوف والتجذر بأرضهم، وعدم الهجرة والسعي للمحافظة على قيم العيش المشترك، والانفتاح مع إخوانهم ومواطنيهم المسلمين، وفي هذه الدعوة نجد مستويات عدة:

أ- الإقرار بأن الغرب وسياساته الشرق الأوسطية يسعون لتهجير المسيحيين من المشرق، وعليه فإن البابا يدعو المسيحيين إلى عدم السير بخيارات تؤدي إلى تهجيرهم وعدم السماح للخطط الغربية بالنجاح.

ب- يؤكد البابا في هذه السياسة وهذه الدعوة ما كان قد قاله العماد عون ودعا المسيحيين إليه، خصوصاً خلال زيارته إلى سورية والصلاة على ضريح مار مارون، كما يؤكد صوابية الخيار الذي اختاره التيار الوطني الحر بالانفتاح على الشرق، والتأكيد على مخاطر السياسة التي ينتهجها الغرب والحروب التي تغذيها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وها قد بدأت نتائجها السيئة تطالهم، كما حصل مؤخراً في دول "الربيع العربي".

ج- دعوة الكنائس المشرقية إلى الالتفات إلى أوضاع رعاياها، وعدم الاكتفاء بالوعظات والكلام، وما يوحي بأنه عيش في أبراج عاجية، بينما الرعية تئن من القلق والجوع والفقر والعوز، وفي هذا المجال إن تثبيت المسيحيين في الشرق يتطلب من الكنائس إعادة النظر في سياساتها الاجتماعية، خصوصاً فيما يختص بالنطاق التعليمي والاستشفائي والتي تسيطر الكنائس والرهبانيات على جزء كبير منه في لبنان والمشرق.

لذا، على المؤسسات الكنسية تقديم التسهيلات اللازمة التي تسمح للمواطن المسيحي أن يعلّم أبناءه في المدارس والجامعات، وأن يحصل على الطبابة والاستشفاء بأسعار ممكنة، كما القيام بالمشاريع التي تسمح للشباب بالحصول على مسكن لائق للعيش وعدم الهجرة إلى الخارج.

د- تحميل المسؤولية للمجتمع المدني ومنظماته للسعي إلى إنشاء منظمات غير حكومية، تؤمّن نوعاً من المساندة والتضاعد بين المسيحيين وبينهم وبين المسلمين، لتثبيت المسيحيين في أرضهم، والسعي إلى إعطائهم دوراً فاعلاً في مجتمعاتهم، وإبعادهم عن الإقصاء والتهميش.

ه- حثّ الدولة اللبنانية إلى اعتماد خيارات تسهم في إبقاء لبنان مصدراً للتنوع ومنارة للتعددية في الشرق، وذلك من خلال الحفاظ على التوازن في النظام اللبناني، وقد يكون من خلال إقامة عقد اجتماعي جديد كان البطريرك الراعي قد دعا إليه خلال زيارته إلى الشوف.

ز- الطلب من المسلمين الحفاظ على التنوع وعلى هذه الثروة الحقيقية بالتعايش والانفتاح والحفاظ على الأخوة مع المسيحيين، ونبذ التطرف والأصولية والتكفير، فهذه الحركات لن تؤدي فقط إلى تهجير المسيحيين، بل إلى إيذاء المسلمين العقلاء على حد سواء.

في المحصلة، كانت لزيارة البابا أهداف ومضامين ورسائل متعددة، يؤمل أن يتم البناء عليها والسير بها من قبل الفرقاء المعنيين بها أولاً، وهم المسيحيون بفرعيهم الكنسي والعلماني، وهي فرصة تاريخية لمقاومة ما يُحضّر للمنطقة من مخططات تقسيمية وتهجير قسري للمسيحيين، إن عرف المسيحيون استغلالها كان لهم الخلاص، وإن لم يعرفوا فسيكون أمامهم الكثير من الدماء والدموع، وقد يقدمون ذبائح على مذبح المصالح الغربية.

2012/09/13

حوار مع ليلى نقولا الرحباني على صوت روسيا

حول زيارة البابا الى لبنان ومستقبل مسيحي المشرق

http://arabic.ruvr.ru/2012_09_13/88124634/

البابا في لبنان.. رسالة للمسيحيين والمسلمين


في خضم الاستعداد لزيارة البابا للبنان، ومع هدوء الجبهات الداخلية بانتظار تمرير هذا الاستحقاق الرعوي ذي الطابع السياسي الهام، تبرز إلى الواجهة قضية محورية قد لا تكون معلنة في زيارة البابا، لكنها بالتأكيد من صميم أهداف الزيارة، وتتجلى في قضية وجود المسيحيين المشرقيين، وتهجيرهم من الشرق.

وفي دراسة تاريخية للحراك المسيحي الغربي في المشرق، نجد أنه مع بدايات القرن التاسع عشر، ومع ضعف السلطنة العثمانية، وبدء حملات نابليون، أعطى الأوروبيون المسيحيين المشرقيين دوراً في حماية المصالح الغربية في المنطقة، مقابل تأمين الحماية لهم، خصوصاً في ظل نظام ملل يحرمهم أبسط الحقوق الأساسية، ويميّز بينهم وبين المسلمين.

ونتيجة هذه المقايضة، توجّه جزء من المسيحيين المشرقيين نحو الغرب، باعتباره الضامن لوجودهم، لاسيما مع احتدام الصراع حول السلطة في الداخل، والذي أخذ في كثير من الأحيان طابعاً دينياً، فكان احتكاك ونزاعات بينهم وبين الطوائف الأخرى، امتدت منذ عام 1840 حتى الحرب الأهلية، التي انتهت بتراجع مسيحي كبير في الدور والسلطة والحكم، انعكست نتائجه في اتفاق الطائف عام  1989، وأدّى الى تهميش مسيحي كامل في السلطة والإدارات العامة، أضيفت إليها محاولة احتواء ممثليهم في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

وفي خضم كل هذا التراجع، وفي ظل ما استجد بعد "الثورات العربية"، يجد المسيحيون أنفسهم اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما:

الأول: الاستمرار في التطلع نحو الغرب الطامح إلى تهجيرهم من المشرق، والذي يعدّ الخطط لإقامة "شرق أوسط جديد"، بتقسيمات جديدة تشبه إلى حد كبير ما حصل إبان بدايات القرن العشرين وسقوط الإمبراطورية العثمانية، حين تقاسم الأوروبيون تركة "الرجل المريض".

قد يكون المشهد في المنطقة اليوم، مشابهاً لما حصل في تلك الفترة التاريخية، إذ يتهافت الغرب على تقاسم تركة الديكتاتوريات المنهارة، ليجدد أحلامه القديمة بتقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية متناحرة، ويطمح إلى تهجير كامل للمسيحيين من المنطقة، والدليل ما أعدّته الدول الأوروبية - خصوصاً الاسكندنافية منها - من مخيمات لجوء للمسيحيين، لاسيما مع بدء الحراك في سورية.

المطلع على التقارير الغربية يعلم أن الحديث يجري عن تقسيم كامل للمنطقة، وقد يكون أهمها - بالنسبة إلى المسيحيين - الحديث عن تقسيم سورية، حيث تُقسم سورية إلى أربع دويلات: دويلة علوية على امتداد الشاطئ السوري، ودويلة سنية في حلب، ودويلة سنية أخرى حول دمشق، ودويلة الدروز في الجولان ولبنان.

أما مصير مسيحيي سورية، ومعهم مسيحيي المشرق بشكل عام، فهو الهجرة الدائمة إلى أوروبا وكندا، كما حصل مع المسيحيين العراقيين في ظل "الديمقراطية الأميركية"، ومن بقي منهم يختار العيش في ظل نظام "أهل ذمة" جديد، يتطلب حماية من السلطة الحاكمة، باعتبارهم "جالية مسيحية" في إحدى الدويلات المذكورة أعلاه.

الثاني: مقاومة ما يخطط للمنطقة، ورفض التقوقع والانعزال، وعدم السير في تلك المشاريع المشبوهة، والعمل على إقرار مبدأ المواطنية في دول تحتضنهم مع إخوانهم المسلمين، ويعيشون فيها بمساواة تامة في الحقوق والواجبات، حيث لا يكون لأحد تفضيل على أحد إلا بمقدار مؤهلاته الذاتية، وقدرته على العطاء للجماعة، مع رفض التهميش والإلغاء لأحد، أو الاستعانة بالخارج لفرض موازين قوى جديدة تسلّط فئة على أخرى.

إن دعاة السير في هذا الخيار من المسيحيين ينطلقون من حقيقة واقعية مفادها أن مصير ووجود المسيحيين يحكمه انتماؤهم للشرق، وهم أهل هذا الشرق وليسوا ضيوفاً أو بقايا جالية صليبية فيه. كما يدرك هؤلاء أن الغرب، والأميركيين خصوصاً، لن يتخلوا عن أمن "إسرائيل"، ولا عن تفضيلهم لمصالحها، لذا قام الأميركيون بسحب "الوكالة بحماية المصالح" من المسيحيين، والتي كان الأوروبيون قد منحوها لهم في القرن التاسع عشر، ولعل الطبيعي والمنطقي أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية؛ الساعية دوماً وأبداً نحو مصالحها، بالتحالف مع الحركات الإسلامية المتطرفة، كالسلفيين في الخليج، و"الإسلاميين الجدد" في مصر، باعتبار أن هذا التحالف هو الأقدر على تحقيق مصالحها وحماية نفوذها من التحالف مع فئات من الطوائف باتت تصنَّف في خانة الأقليات.

انطلاقاً من كل هذه المعطيات، نجد أن زيارة البابا لا يمكن إلا أن تكون لإعطاء دفع للمسيحيين للسير في الخيار الثاني، وهو التشبث بأرضهم وهويتهم، والانفتاح على محيطهم العربي، ورفض التقوقع والانعزال اللذين يريد البعض أن يدفعهم إليهما، ويؤكد هذا الاعتقاد السياسة التي انتهجتها بكركي مع وصول البطريرك الراعي بعنوان شراكة ومحبة، والتي كانت بتوجيه مباشر من الفاتيكان، وبمباركة منه.

إذاً، رسالة الحبر الأعظم من لبنان ليست للمسيحيين المشرقيين فقط، بل لمسلميه أيضاً، لمنع تهجير المسيحيين من المشرق، فالقوى الكبرى لن تدع المسلمين يحكمون أنفسهم بعد اجتثاث المسيحيين، بل سيتم استكمال المخطط بتقسيم المنطقة وفرزها على أساس مذهبي، وبإذكاء نار الفتنة بين المسلمين أنفسهم، وعندها لات ساعة مندم، فقد "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"


2012/09/12

باسم "الخوف من الفتنة".... يُستباح لبنان

نشر في الثبات بتاريخ 6 أيلول 2012
يعيش اللبنانيون على وقع وعود حكومية بتحسن في معالجة للملفات الداخلية الكبرى؛ المالية والانتخابية، بالتوازي مع انكشاف أقنعة المسؤولين الرسميين، وظهور نفاق "النأي بالنفس الحكومي" تجاه سورية، وظهوره على حقيقته بالهروب من مواجهة الملفات المصيرية، بدفن الرؤوس في الرمال.
وإن كان كل هذا الاهتراء السياسي قد ظهر وبات يدق جرس الإنذار على أبواب الخريف القادم إلى اللبنانين، ومؤذناً ببدء العام الدراسي، الذي يحمل معه هموم الأقساط والاضرابات والاعتصامات، بالإضافة إلى أنه كلما انفرج اللبنانيون بانحسار موجات الحر في ظل انقطاع الكهرباء، حتى دبّ القلق في نفوسهم خشية من شتاء قارس لا يملكون ثمن محروقاته، في ظل هذا الارتفاع الهائل لأسعارها.
في خضم كل ذلك، تقوم قوى 14 شباط بتصعيد متدرّج، ظاهره ضد النظام السوري، وحقيقته ضد المقاومة في لبنان، والتي يبدو أبرزها العريضة التي قدمها فؤاد السنيورة إلى رئيس الجمهورية، موقَّعة من نواب المعارضة، تطالب بقطع العلاقات الدبلوماسية بين لبنان وسورية، وإلغاء الاتفاقيات الأمنية بينهما، وتطالب بنشر اليونيفيل على الحدود مع سورية.
لكن ليست مستغرَبة مطالبات قوى 14 شباط بقوات دولية على الحدود بين لبنان وسورية، بل إن هذه المطالبات تمّت في السابق إثر انتهاء حرب تموز 2006 وصدور القرار 1701، ومنها إدراج مهمات اليونيفيل تحت الفصل السابع، وتعديل قواعد الاشتباك وتوسع رقعة انتشارها إلى الحدود الشمالية مع سورية، لمراقبتها ومنع تهريب السلاح إلى حزب الله في لبنان، وهذا يعني المطالبة بمنع دخول السلاح من سورية إلى لبنان، وبقائه مفتوحاً بالاتجاه الآخر.
وبالرغم من أن العريضة لا قيمة قانونية لها، ولا يمكن استعمالها دولياً، كما استُعملت العرائض في السابق لتمرير المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، لكن لا تُلام قوى 14 شباط على التصعيد الدائم الذي تقوم به، فالسياسة ليست جمعيات خيرية، ويمكن للخصم أن يستعمل كل ما لديه من وسائل لكسب معركة ضد خصومه أو أعدائه.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، تعتمد قوى 14 شباط مع حزب الله فزّاعة الفتنة السُّنية - الشيعية منذ اغتيال رفيق الحريري ولغاية الآن، حيث يطل سيف التخويف من الفتنة كلما تحركت مكونات الحكومة لدفع عجلة السير بالبلاد.
الخوف من الفتنة الدائم جعل المقاومة تقوم بتسليم السلطة إلى تلك القوى عام 2005، وهو الخوف نفسه الذي جعل الانتصار الميداني في حرب تموز عام 2006 يتحول إلى شبه هزيمة سياسية بصدور القرار 1701، وهو الذي سمح بعدم مساءلة ومحاسبة مَن تعامل وخطط وحرّض وساهم بالعدوان "الإسرائيلي" على لبنان، وهو ذلك الخوف نفسه الذي أزال مفاعيل السيطرة الميدانية التي حققتها المقاومة في معرض دفاعها عن نفسها، والذي قامت به بعد تصعيد 5 أيار 2008 الشهير، وما قام به وليد جنبلاط وحكومة السنيورة، والقرارات التي اتخذتها حول شبكة اتصالات المقاومة، وكانت نتيجة الانتصار الميداني أن تخسر المقاومة بالسياسة ما ربحته في الميدان، فقامت بتسليم السلطة التنفيذية والتشريعية إلى خصومها، فكان اتفاق الدوحة وإعادة سعد الحريري إلى رأس السلطة التنفيذية في لبنان، وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، على الرغم من كل علاقاته المعروفة بالأطراف الدولية والإقليمية والمحلية، والتي بمعظمها معادية للمقاومة، وقانون انتخابي أجريت على أساسه انتخابات عام 2009، والتي شهدت أكبر عملية تزويرية في تاريخ لبنان، وتدخلات خارجية بالمال والإعلام، ومجيء نائب الرئيس الأميركي بايدن شخصياً لدعم قوى 14 شباط، ودعوتها للانتصار واستلام السلطة.
هي الفزّاعة نفسها التي كبّلت يد الأطراف اللبنانية التي أطاحت بالحريري في بداية الثورات العربية، حيث كان باستطاعة المقاومة وحلفائها تشكيل الحكومة اللبنانية، في ظل انشغال العالم بثورة مصر وسقوط مبارك، إلا أن السياسة تدخلت وأضاعت فرصة ذهبية كان بالإمكان التقاطها وتشكيل حكومة متجانسة تحكم بموجب برنامج عمل واضح، وتسهم في إنهاض البلد من كل الفساد والزبائنية والاهتراء الذي أوقعته فيه الحكومات المتعاقبة، وهكذا تأخّر التشكيل إلى ما بعد التقاط الأميركيين والعالم أنفاسه، ودخول سورية على خط الزلازل الإقليمي، ما أدّى إلى تشكيل حكومة واجِهَتها الحلف المقاوم، بينما واقعها الفعلي ونفوذها لقوى 14 شباط، التي أبقت نفوذها وسيطرتها في كل المرافق الأساسية، كالقضاء والأمن والهاتف، ورئاسة مجلس الوزراء وغيرها، وما كان خافياً سابقاً بات حقيقة اليوم، فها هو جنبلاط عاد إلى قواعده الطبيعية سالماً، ورئيس الحكومة أعلن موت "الوسطية" ودفن "النأي بالنفس"، ورئيس الجمهورية بات يتبنى معظم خطابات 14 شباط؛ مباشرة أو مواربة، والفتنة التي يخاف منها حزب الله ويقدم التنازلات باسمها تطل برأسها كل يوم، فتسحب من الأكثرية كل ما يمكن أن تحققه على أبواب عام انتخابي قادم.
باسم "الخوف من الفتنة" يمر كل التآمر على لبنان، وكل التعامل مع العدو، وجرّه للعدوان على لبنان.
باسم الخوف من الفتنة "يكزدر" الأسير ومسلحو الجيش السوري الحر، ويستبيحون شاشاتنا وساحاتنا وأمننا، ويتنطح فتفت والمرعبي والضاهر ويحاضرون بـ"العفة"، وتعشعش الحركات الإرهابية في أزقتنا.
باسم الخوف من الفتنة، تستولي أوجيرو على أموالنا، ويصبح الإرهابي بطلاً قومياً، وتستبيح القوى الأمنية حرياتنا وخصوصياتنا وتدخل إلى غرف نومنا لتستبيح أعراضنا.
باسم الخوف من الفتنة، تهجَّر عائلات من طرابلس وعكار، ويتحمل المواطنون تبعات رصاص الابتهاج ومدفعية الأسى، و"فشات خلق الشباب".
باسم الخوف من الفتنة تُعطّل القوانين، وتتوقف المشاريع، وتنهار الدولة والمؤسسات.
مع الأسف، إن فائض القوة الذي حصلت عليه المقاومة تمّ تعطيله بفزاعة أو براجح.. وهكذا دخلت المقاومة داخلياً ــ كما أميركا و"إسرائيل" ــ في عجز القوة وضعفها.
ويبقى السؤال: ماذا لو أتى راجح؟ هل الكلفة أكثر مما ندفعه الآن؟ وهل هناك راجح فعلاً؟

2012/09/03

مناقشة كتاب "الثوارت العربية بين المطامح والمطامع"


مناقشة كتاب "الثوارت العربية بين المطامح والمطامع" للدكتور نديم المنصوري
ليلى نقولا الرحباني
مركز دلتا- 3 أيلول 2012
        بداية، أوجّه شكري للدكتور نديم منصوري ومركز دلتا لدعوتي لنقاش هذا الكتاب الشيّق، وهو كتاب حديث يعالج مسألة راهنة جدًا لم تنتهِ فصولها بعد، وهذا أمر يُظهر شجاعة واضحة، فقلما نجد باحثًا يصدر كتابًا حول قضية متفاعلة لم تظهر تباشير نهاياتها بعد. وهو، في هذا الاطار، أجاد شرح الآليات المستخدمة في الثورات العربية، وتفاصيل يومياتها وخفاياها التي قد تكون خافية على المتابع العادي، ومنها توثيق الخرائط المعدّة لتقسيم المنطقة، والتي ما انفكّ الحديث عنها يطفو على السطح بين فترة واخرى، وإن كان تغييبها يبدو مقصودًا للتعمية عن مخططات شبيهة بمخططات سايكس بيكو الشهيرة.
        إذًا، يتصف الباحث بالشجاعة، وهو أمر نشهد له به، ومن الواضح أنه يتسم بالشفافية والوضوح المترافقة مع الشجاعة والمندرجة ضمن إطارها. فنلاحظ أن الباحث اعتمد شفافية، قلّ أن استعملها الباحثون بشكل عام، فمنذ السطور الاولى لمدخل الكتاب يُدخلنا الكاتب الى عمق أفكاره، وينبئنا بما يجب ان نتوقعه من الكتاب، ومن مسيرة القراءة فيه، فيتهم الولايات المتحدة بمحاولة السيطرة على أسواق جديدة، وتدمير البنى الاقتصادية فيها لتحويلها مجرد أسواق تستورد منتجاتها وعاجزة عن تصنيع احتياجاتها. ويشير الى ان الاحتلال والحرب والثورات مؤخرًا كانت ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على المواد الأولية المتوافرة في بلدان الشرق الاوسط، وخصوصًا النفط والغاز والمياه، وهي ضرورة اقتصادية تؤمّن لها فرصة تجاوز أزمة الانكماش الاقتصادي.
        وهنا يتدرج الباحث ليصل الى اتهام أخطر، فهو يتهم الولايات المتحدة الأميركية مباشرة وبدون تلميح او مواربة بتدمير البنى الاقتصادية والثروة البشرية من علماء ومفكرين، وبتصعيد الصراعات الطائفية والدينية والعرقية، وبتغيير أنظمة ودعم الاصوليات لجعل المجتمعات العربية، مجتمعات بدائية ومفككة ومنقسمة طائفيًا ليسهل السيطرة عليها، والأهم هو يؤكد ان الولايات المتحدة هي وراء كل ما يحصل في المنطقة العربية، من ثورات وتبدلات تخدم المصالح الأميركية.
        إذًا، شجاعة الباحث تجلت في كونه لم يتأثر بكل هذا الترهيب الفكري الممارس في بلداننا العربية، والذي يندرج ضمن إطار التشهير بتبني "نظرية المؤامرة"، وهو شبيه بالترهيب الفكري الذي مارسته الصهيونية العالمية على الاوروبيين بشكل خاص والغربيين بشكل عام، حيث كان كل من يكشف أو يتحدث عن المخططات الصهيونية يتهم بمعاداة السامية.
        أما الملاحظة الثانية، فتختص بالفتنة السنّية الشيعية، حيث كان من الطبيعي ان يشير الباحث الى موضوع اثارة الفتنة السنية الشيعية، ونحن نعيش في خضمها، ولم تعد مجرد مخططات او "فزاعة" يتم التخويف منها أو بها.
        ولكن، لفتني أن الباحث اختصر هذا الموضوع الأساسي والمهم جدًا، ولم يعطه حقه من الشرح بالرغم من أنه قد يكون الأهم في أساليب الصراع اليوم، واستغرب كيف لم يفرد له المساحة الكافية التي تضيء على جوانبه كافة، وكيفية استخدامه وحتى لم يشر الى دور اسرائيل فيه.
        وهنا، ألفت نظره الى الوثائق الخاصة بمؤتمر هرتسيليا التاسع 2009، على سبيل المثال لا الحصر، وحيث قارب الاسرائيليون في ذلك المؤتمر بشكل واسع موضوع الصراع السنّي الشيعي. فتحدثت أحد الاوراق الرئيسية عن "تصدير الثورة الايرانية وتوظيف المنظمات الوكيلة"، وبث الاسرائيليون سمومهم العنصرية لاقلاق السنّة من الشيعة بابراز أن ايران تحاول التغلغل في البلدان السنيّة،  وأنها تحرص على تسويق مفاهيمهما الشيعية وسط الحركات السنية من خلال تقديم رؤى أممية شاملة، وتأكيدها دعم الشعوب المستضعفة، لتحويل الثورة الخمينية الى نموذج أكثر جاذبية.[1]
        وفي محاولة لتضخيم الخطر الشيعي، يتحدث الباحث الاسرائيلي عما أسماه "التشيع الناعم" مشيرًا الى تبشير جذاب ولاعنيف بالعقيدة الشيعية وسط العالم السنّي، من خلال الابواب الخلفية والمقاربات غير المباشرة. أما استعمال هذه الاساليب الناعمة فهي شبيهة بالحرب الناعمة الاميركية، التي أشار اليها الدكتور منصوري في كتابه من ضمن الاستعمار الالكتروني، بالرغم من أني شخصيًا اعتقد ان الحرب الناعمة هي أكثر من استخدام الكتروني بل هي كل ما يمكن أن يفعله الاميركيون لاكتساب العقول والقلوب.
وهذا التشيع الناعم تدفع اليه - بحسب الكاتب الاسرائيلي-  الحاجة الى التغلب على حالات الغضب والنفور التي تتولد نتيجة لمحاولة فرض التشيّع من جهة، ولما ينظر اليه انه سياسة تدميرية تمارسها ايران. وهو يحدث عن طريق التسلل الى مجتمع ما من خلال وسائل الاعلام والمنظمات الأهلية، كذلك عن طريق توجيه صنّاع القرار وقادة الرأي العام نحو الفكرة الشيعية.
        وكان لافتًا السؤال الذي طرحه الباحث الاسرائيلي ضمن بحثه حول السيناريوهات المستقبلية، وفيه:
هل يمكن القول ان حركة حماس اختارت او ستختار التخلي عن محور "السعودية - مصر الاردن" لصالح محور "ايران - سوريا- حزب الله" على نحوٍ واضح وحاسم؟
        وأجاب ردًا على هذا التساؤل:
"من غير المنطقي ان تعمد حماس - عاجلاً أو آجلاً- الى قطع علاقاتها مع محور الدول العربية الأكثر اعتدالاً. ويصف الباحث سياسات حماس بانها انتهازية، وتهدف الى إقامة العلاقات الجيدة مع أية جهة يمكن أن تساعدها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. وهكذا إن الأيدي التي تقدم المال تروم الى السيطرة على سياسات الذين يأخذونه وهذا يزيد في وضوح أسباب المنافسة بين ايران والمملكة العربية السعودية ضمن هذه القرينة، حيث يعتبر كل من هذين البلدين ممولاً رئيسيًا لحماس". - انتهى الاقتباس.
        وهنا، نسجل للباحث الاسرائيلي، صحة توقعاته المستقبلية، فقد أظهرت الثورات العربية، ان حماس ابتعدت عن المحور الثاني لصالح المحور الأول، فغادرت مكاتبها دمشق التي حضنتها لفترة طويلة من الزمن، وانتقلت الى الدوحة، وأعلنت حماس على لسان أكثر من قيادي فيها، تراجع علاقتها مع إيران بسبب ما يحصل في سوريا، مشددين على انحياز حماس للشعب السوري ضد نظامه الديكتاتوري[2]. بالاضافة الى غياب قيادة حماس السياسية في قطاع غزة عن احتفالات يوم القدس العالمي الذي يقام سنويًا في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، فيما حرصت على الحضور والمشاركة فيه بكثافة طوال السنوات الماضية.
        أما الموضوع الأخير، الذي أود لفت النظر اليه وهو موضوع الشرق الأوسط الجديد الذي أستفاض الكتاب بشرحه، وشرح مبادئه وتطور المصطلح في جزء هام ووافي من الكتاب، ( من ص 42- 64).
إن الحديث عن شرق أوسط جديد كما تريده السياسة الأميركية في المنطقة، وكما شرحه الدكتور منصوري في الكتاب، أي شرق أوسط مقسم الى دويلات طائفية متناحرة تنعم فيه اسرائيل بتفوق اقتصادي وتكنولوجي وعسكري، يبدو من المبكر التأكيد بأنه بات حقيقة وواقعًا، أو أنه سقط بلا رجعة، طالما لم تُحسم المعركة العالمية الدائرة في سوريا اليوم.
        في الواقع، كل ما حولنا والتطورات تنبئ أن شكل الحروب قد تغير ونحن نقف اليوم أمام شرق أوسط مختلف يعيش فترة من عدم اليقين، وتغييرات وظروف لم يشهدها العالم العربي من قبل. لا شك، أن مَن يحسم المعركة في سوريا لصالحه اليوم يقرر مستقبل المنطقة بشكل عام لعقود قادمة، ونورد في هذا المجال سيناريوهات ثلاث:
        السيناريو الاول- نجاح المحور الغربي بالقيادة الأميركية في إسقاط سوريا، سوف يدفع الى تغيير وجه المنطقة بشكل أساسي وجوهري، وقد يؤدي الى تقسيمها وتطبيق حلم الشرق الأوسط الجديد أو الأوسع، بتشكّل البرزخ الاستراتجي الممتد من تركيا إلى شمال إفريقيا عبر شبه الجزيرة العربية و"إسرائيل"، الأمر الذي سيعوّض كلياً على أميركا خسارتها حروبها، ويثبّت يدها على الطاقة والممرات المائية.
هذا السيناريو قد يؤدي الى استعادة الولايات المتحدة الأميركية لنفوذها وسيطرتها على العالم، بعد أن تكون قد لقّنت كل معارض لسياساتها درسًا لن ينساه، ومنهم روسيا التي قد تشهد انفجارًا في جمهوريات الجنوب في القوقاز، وتعزيز الاصولية الاسلامية فيها. أما الصين، فستكون أمام استراتيجيات حرب مستقبلية شبيهة باستراتيجيات الحرب الباردة، حيث تقوم الولايات المتحدة الأميركية بمحاولة احتوائها عالميًا، وفي داخل اقليمها، بالاضافة الى سباق تسلح حقيقي وجدّي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
ولكننا نتصور أن هذا السيناريو بات صعب التحقق، وهو سيناريو غير واقعي.
        السيناريو الثاني- هزيمة المحور الغربي في سوريا، ما يؤدي إلى إقامة منطقة مشرقية متجانسة متكاملة في خياراتها الاستراتيجية، تمتد من إيران إلى لبنان، عبر سوريا والعراق، قادرة على الاستفادة من تحالفات استراتيجية وتفاهمات أساسية مع كل من الصين وروسيا والهند، بما يؤدي إلى القضاء على النفوذ الغربي في المنطقة.
إن هذا السيناريو سيقضي كليًا على أحلام الشرق الأوسط الجديد، وعلى مخططات تقسيم المنطقة وتكون فيه اسرائيل دولة ضعيفة غير آمنة، تعيش قلقًا وجوديًا يمهّد لزوالها، وبالتالي إقامة شرق أوسط لإهله، يحكمه أهله بأنفسهم، ويتحكمون في ثرواته ونفطه ويقيمون الحكم المنبثق من الإرادات الشعبية الحقيقية.
وكما السيناريو الأول، نجد أن هذا السيناريو صعب التحقق، أقلّه في المدى المنظور، إذ أن الولايات المتحدة ما زالت تملك الكثير من أوراق القوة الاقليمية والدولية والتحالفات الجديدة التي  صاغتها في المنطقة بعد الثورات العربية، ما يجعل هذا السيناريو بعيد الاحتمال.
        السيناريو الثالث وهو الأقرب الى التحقق: ستاتيكو في سوريا واستمرار العمليات الارهابية، وصعوبة الحسم العسكري النظامي، يمتد الى ما بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، واستقرار الرئيس الجديد. يحكم هذا الستاتيكو عدم قدرة الغرب على التدخل العسكري في سوريا، إذ يعاني حلف الناتو من عجز هائل في موازنته في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعيشها أميركا واوروبا تكاد تفجّر الاتحاد الاوروبي من الداخل، بينما تعيش أميركا وهنًا نسبيًا على الصعيد العالمي، مقابل صعود قوى دولية واقليمية أخرى تحاول ان تسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه تراجع نفوذ القوى الكبرى في المنطقة، بعد الانسحاب الأميركي من العراق وتوجّه الناتو للانسحاب من افغانستان.
في ظل هذا الستاتيكو، يبقى الشرق الأوسط رهينة سباق النفوذ العالمي، وسباق الاجندات العالمية التي يحاول كل طرف أن ينفّذها بما كل ما يملك من وسائل وأدوات سياسية واقتصادية وعسكرية واعلامية وغيرها. وبلا شك، يستمر ارتفاع أسهم الاصوليات الدينية من كل الاتجاهات، فالتطرف سيجرّ تطرفًا مقابلاً، ما قد يهدد وجود الأقليات في الشرق، وبالتالي يبقى سيف تقسيم المنطقة مسلطًا الى أن يتم الحسم في سوريا.
        في النهاية، لا بد لي من أن أنوّه بسلاسة اسلوب الدكتور منصوري، وسهولة لغته البحثية ما يجعل كتابه بمتناول جميع القرّاء من المتخصصين وغير المتخصصين، وهذا ما يسهّل نشر المعرفة والوعي في مجتمعاتنا. كما انوّه باعتماده على كمّ كبير من المراجع وإنه أحسن الانتقاء ولكنه كان اعطى للكتاب وزنًا وقيمة مضافة لو اعتمد اسلوب التحليل والاستناج الى جانب ما اعتمده من تجميع وتصنيف وتبويب، إذ يسجل الكتاب نقصًا في التحليل وطغيان تجميع المراجع والمصادر على ما عداه.





[1] انظر وثائق مؤتمر هرتسيليا التاسع:
شموئيل بار، العلاقات بين الراعي الايراني والمنظمات السنية: حمس والجهاد نموذجًا،مركز باحث للدراسات، بيروت، 2009، ص 41- 130.
[2]  كان آخرها تصريح موسى ابو مرزوق لموقع "الوطن العربي، بتاريخ في 30 آب 2012.