2021/10/28

أردوغان يبتز بوتين.. التصعيد في اوكرانيا والعين على سوريا

 

في تصعيد عسكري غير محسوب النتائج، استخدمت اوكرانيا طائرات تركية بدون طيار لتدمير مدفعية الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد، بحسب ما اعلن الجيش الاوكراني، في حين أعلن مصدر في جمهورية دونيتسك الشعبية الانفصالية التي يسيطر عليها الانفصاليون إن الضربة التي نفذتها الطائرة بدون طيار لم تسفر عن أي خسائر عسكرية أو مدنية. وحذّر الكرملين من إن إمداد تركيا بطائرات بدون طيار لأوكرانيا يهدد بزعزعة استقرار الصراع في شرق أوكرانيا على الرغم من العلاقات "الخاصة" بين موسكو وأنقرة.

 

ولا شكّ أن هذا التصعيد، يضع الموقف التركي على المحك، ففي حين يتعاون الروس والأتراك في قطاع الدفاع بشكل واسع أستفز الحلفاء في حلف الناتو وجعل الأميركيين يعاقبون تركيا ويوقفون صفقة طائرات أف - 35، لا تتوانى تركيا عن مزاحمة موسكو عسكرياً في العديد من البلدان، كليبيا وسوريا وأوكرانيا وغيرها.

 

وكما في المرات السابقة، يقوم أردوغان اليوم بمحاولة ابتزاز بالروس للوصول الى مقايضة يستفيد منها ويوسع نفوذه الاقليمي. لقد نجح أردوغان في جرّ الروس الى لعبة المقايضة تلك، فحين يتنافس الطرفان في ساحة من الساحات ويجد أردوغان نفسه ملزماً بتقديم التنازلات أو مهدد بالخسارة، يقوم بالتصعيد في جبهة أخرى مشتركة، ما يدفع الروس الى الجلوس على الطاولة، والتوصل الى حل هو عبارة عن مقايضة رابحة.

 

عملاً بمبدأ البازار الذي يتقنه التركي جيداً، وفي حمأة التصعيد الروسي وحشد القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا، قام الرئيس التركي بتقديم دعم صريح لكييف (بشكل غير متوقع). في أيار/ مايو المنصرم، استضاف أردوغان نظيره الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، في أنقرة وأكد دعم تركيا لوحدة أراضي أوكرانيا ودعمها عسكرياً، وتأييد أنضمام أوكرانيا الى حلف الناتو.

 

يعرف أردوغان أن كلامه لن يمر مرور الكرام عند بوتين، لكنه يدرك أن العلاقة التي رُسمت بين الطرفين، لم تخرج يوماً عن إطار "التعاون التنافسي"، حيث يقوم اعتماد متبادل بين الطرفين، مع تنافس شرس على إنشاء مناطق نفوذ، يتم تحقيقها عبر حروب بالوكالة بين الرطفين، ودعم الأطراف المتقاتلة في سوريا وليبيا والقوقاز وغيرها.

 

وحدعا أوكرانيا بقيت خارج اللعبة التنافسية الخطرة التي يقوم بها الطرفان، إذ يدرك أرودغان حساسية القضية بالنسبة للروس، واقتصر دعمه لكييف على بعض الخطابات، والابتعاد عن العقوبات المفروضة على روسيا أو تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا في صراعها مع القوات المدعومة من روسيا في دونباس.

 

اليوم، يبدو أردوغان مرغماً على تنفيذ تعهداته في سوريا، وهو يعاني من تراجع شعبيته في الداخل في ظل أزمات حادّة يعاني منها الاقتصاد التركي، وتراجع سجل تركيا في حقوق الإنسان، ما يقلل من إمكانية خلق نظرة إيجابية اقتصادية جيدة وجذب الاستثمارات.

 

تهدف أنقرة من خلال دعم أوكرانيا الى دفع بوتين الى مقايضة ومساومة كما حصل في العديد من المراحل السابقة، حيث تساهل بوتين في طموحات أردوغان الجيوبوليتكية ( في ناغورنو كاراباخ على سبيل المثال) من أجل كسب في ساحات أخرى.

 

وهكذا، في الوقت الذي أعرب فيه أردوغان (خلال زيارته لسوتشي في أواخر أيلول / سبتمبر الحالي) أن "السلام في سوريا مرتبط بالعلاقات بين تركيا وروسيا، والخطوات التي يتخذها البلدان معًا بشأن سوريا لها أهمية كبيرة"، كانت آليات عسكرية تركية محملة بالسلاح الثقيل ودبابات ومدفعية قد دخلت سوريا، بعد حديث عن عملية عسكرية ينوي الجيش السوري القيام بها في إدلب لتحريرها.

 

لذلك، لا يمكن فصل التصعيد الذي يقوم به أردوغان في أوكرانيا، واستفزاز روسيا على حدودها المباشرة، عن التطورات والعملية العسكرية المرتقبة في سوريا، حيث ذكرت مصادر إعلامية عن دخول أرتال عسكرية تركية هذا الاسبوع، وتوجهها نحو النقاط التركية في جبل الزاوية وريف إدلب الغربي.

 

وهكذا، يمكن القول أن ممارسة سياسة الابتزاز التي أتقنها أردوغان ومارسها مع بوتين، قد نجحت الى حدٍ ما في إعطائه الكثير من المكاسب الاستراتيجية، سواء في سوريا أو أرمينيا أو ناغورنو كاراباخ، لكن أوكرانيا تشكّل جزءًا لا يتجزأ من الامن القومي الروسي، ولقد أظهر بوتين استعداداً لحماية هذه المصلحة القومية حتى لو كلفته حرباً مع حلف الناتو. لذا لا نتوقع أن يستمر الدعم التركي العسكري لأوكرانيا أو أن يغامر أردوغان بمحاولة مساعدة أوكرانيا للهجوم على مناطق الشرق الأوكراني لاستعادتها من الانفصاليين. بالنسبة لبوتين: اوكرانيا ليست أرمينيا، ولا سوريا ولا ليبيا، هي جزء من روسيا التاريخية وخسارتها يعني تهديد موسكو، لذا لن يكون لأردوغان ما يريد ولن يحظى الاوكراني بالدعم التركي لمدة طويلة. وتبقى الانظار على سوريا!

 

2021/10/25

الكونغرس وأزمة لبنان .. كيف يتصرف المعنيون؟

أقرّت اللجنة الفرعية للشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي حول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومكافحة الإرهاب العالمي، مشروع قرار حول لبنان وحوّلته الى الكونغرس الأميركي للتصويت عليه.

وهذا القرار الذي تقدم به السيناتور راي لحود في تموز عام 2021، وعنوانه " التضامن المستمر مع الشعب اللبناني بعد التفجيرات المدمرة في مرفأ بيروت في 4 آب 2020، والجهود المستمرة لتشكيل لبنان آمن ومستقل وديمقراطي"، يدعو الإدارة الأميركية الى الاستمرار في دعم الشعب والجيش اللبناني ودعوة الجيش الى القيام بمهماته في تنفيذ القرار 1701 والقرارات الأممية الأخرى والخ.

ولعل اللافت في حيثيات القرار، هي العبارة التي تنص على "أن حكومة الولايات المتحدة لديها مخاوف طويلة الأمد بشأن استخدام ح زب الله لمرفأ بيروت وتأثيره عليه كنقطة عبور وتخزين لمشروعه الإرهابي"، والتي توحي بأن الاميركيين يحاولون ربط "تأثير الحزب" على "المرفأ وتخزين النيترات"، ويدعون الى تحقيق شفاف يشترك فيه محققون دوليون.

وفي خضم الاشتباك على موضوع التحقيق الذي يجريه القاضي البيطار وما أورده السيد ن ص رالله من أن البيطار ضمّ إفادة عماد الكلشي الى الملف، يأتي تحويل هذا القرار الى الكونغرس الأميركي للتصويت عليه، ليصبّ الزيت على النار المشتعلة في لبنان، ويضيف أبعاداً خارجية تشي بأن الموضوع لن يكون خارج الاشتباك الدولي والاقليمي الذي يجري على الأرض اللبنانية، فزرع الشك بقضية المرفأ ودعوة الجيش الى تنفيذ القرارات الدولية، ليست أموراً سهل تحقيقها في لبنان.

وبالرغم من أن قرار الكونغرس غير ملزم للإدارة الأميركية إلا في حال حصوله على غالبية ثلتي أعضاء الكونغرس بمجلسيه، لكن يبدو أن الحزب قرر الرد بحرب نفسية وردعية بدت موجهة للأميركيين والاسرائيليين أكثر مما هي موجهة للداخل اللبناني، وذلك في خطاب السيد ن ص ر الله ما قبل الأخير وحديثه عن عدد 100 ألف مقاتل جاهزين للمعركة، بدون القوات الرديفة، وبدون المقاتلين غير اللبنانيين ...

وبكل الأحوال، الجميع يدرك أن الجيش لا يمكن أن ينخرط في مواجهات داخلية، ويقيننا أن الأميركيين الذين يدربون الجيش ويسلحونه ويدعمونه يدركون أكثر من غيره حاجة الجيش لعدم الانخراط في اي نزاع داخلي وبقائه فوق الانقسامات الحزبية وأنه ضرورة لاستقرار لبنان ومنع الفوضى الشاملة. لذلك فإن تخلي الحزب عن مبدأ السرية والغموض حول عديد قواته وعدد صواريخه وغير ذلك، يشي بأن كشف معلومة بهذا الحجم لها هدف خارجي أكبر من حجم اشتباكات الطيونة وأزقة شوارع بيروت. وإذا عطفنا الرقم على العبارة المستقطعة التي وردت في خطابه حول عدم جاهزية أي طرف خارجي لمساعدة القوات في حال نشبت الحرب، ثم الحديث عن أعداد المقاتلين "غير اللبنانيين"، نجد أن الهدف ليس فقط ردع القوات من أن تكون رأس حربة في مشروع حرب أهلية، كما تحدث السيد ن ص رالله، بل تهديد القوى الخارجية بأن اي اندفاع للحرب أو دفع لبعض الأطراف الداخلية لافتعالها، سوف تؤدي الى نتائج عكسية أي السيطرة على الأرض عبر عديد ضخم حيث اعتبرت صحيفة التايمز البريطانية، أن إذا كان العدد (100،000 مقاتل) دقيقًا ، هذا يعني أن عديد ح زب الله يتفوق على الجيش اللبناني، وحتى على الجيش البريطاني.

وهكذا، وكما يرد في مبادئ العلاقات الدولية، "إن أدرت السلام، استعد للحرب"، يبدو أن محاولة الحزب تحاشي أي مغامرة حرب أهلية داخلية، جعلته يكشف عن عديد قواته المقاتلة، فهو يدرك أن دوائر القرار المعنية بالأمر، ستقوم بقراءة الرقم في شقيه الاقليمي والدولي، ولذلك فإنه من الافضل أن لا تلجأ الى التصعيد الداخلي وإثارة الحرب الداخلية. وبالتالي نجد اليوم أن التركيز الخارجي سيكون على الانتخابات النيابية القادمة لمحاولة تكرار تجربة العراق، تحويل الغالبية النيابية الى قوى 14 آذار والمجتمع المدني، وإضعاف الحزب والتيار الوطني الحر. 

2021/10/22

اشتباك الطيونة وما تلاه.. في ميزان الأرباح والخسائر

زالت أحداث الطيونة تتفاعل داخل الساحة اللبنانية، ويستمر الخارج في تقييم الأحداث الداخلية في لبنان، واستخلاص العبر والنتائج على الصعد كافة. ومباشرة بعد الأحداث الأمنية، وبعد خطاب السيد حسن نصر الله، انقسمت آراء المحللين والناشطين، فمنهم من اعتبر أن الأحداث وخطاب السيد نصر الله كشفا الوجه الحقيقي للقوات اللبنانية، بينما اعتبر آخرون، ومنهم القواتيون، أن السيد نصر الله خدم القوات انتخابياً وشعبياً عبر شدّ العصب المسيحي، وإظهار القوات كأنها "الجهة الوحيدة التي تستطيع الوقوف في وجه حزب الله".

 

وفي تقييم لما حصل خلال الأسبوع المنصرم، يمكن للمراقب إدراج ملاحظات عديدة، ووضعها في ميزان الأرباح والخسائر، أبرزها:

 

أولاً: استفادة محلية ضيّقة مقابل فشل استراتيجي

واقعياً، كان جعجع يحتاج إلى افتعال مشكلة أمنية يظهر فيها قدرته على العمل الأمني في الشارع، بعدما استمرت القوات وعبر العديد من قيادييها وناشطيها في التهديد بقدراتها العسكرية وعرض عديد قواتها (15000 مقاتل) لمهام داخلية "كبرى"، من دون أي عمل عسكري فعلي على الأرض، باستثناء قطع الطرقات الذي واكب تحركات 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 وما تلاها، والاعتداء على بعض الناشطين والحزبيين هنا وهناك.

 

وكان بعض التقارير الصحافية قد أشار، قبل أسبوع من أحداث الطيونة، إلى أن السعودية مستاءة من القوات الذين يتلقّون الأموال الطائلة من دون أن يحققوا أي شيء في المقابل ضد حزب الله، معتبرة أن النتائج التي تحققت لا تساوي الأموال التي صرفتها السعودية كتمويل.

 

لهذا، يمكن القول إن افتعال المشكلة الأمنية الأساسية وقنص المتظاهرين حقّقا لجعجع (في البداية) ما يريده، من إثبات القول بالفعل وما وعد الخارج به، بأنه يستطيع القيام بمشكلة أمنية مع حزب الله، وبالتالي نتوقع أن يستمر التمويل الخارجي للقوات، ويزيد، ربطاً بما حصل في الطيونة.

 

لكن، عدم انجرار الحزب إلى الردّ بالمثل وعدم انخراطه في الاقتتال الشوارعي، فوّتا الفرصة على الهدف الأكبر الذي يريده الخارج، وهو جرّ لبنان إلى حرب داخلية تحرج وتربك المقاومة في لبنان، وتحوّلها إلى ميليشيا أسوةً بالميليشيات الأخرى، وتلهيها عن الصراع الوجودي مع "إسرائيل".

 

وفي هذا الإطار، بدا خطاب السيد نصر الله وقائياً وردعياً؛ فالقوات قد تندفع انطلاقاً من مصالح داخلية ضيقة، لتكون رأس حربة في مشاريع خارجية كبرى، فتتدحرج الأمور إلى حرب أهلية مسيحية إسلامية ــ بعدما فشلت الفتنة السنية الشيعية ــ يريدها الخارج لتحقيق أهداف استراتيجية مرتبطة بالصراع مع "إسرائيل".

 

ثانياً: غموض احترافي ضيّعه حب الظهور

بدا الغموض الذي لفّ الجهة التي أطلقت النار وقنصت المتظاهرين، لافتاً في الساعات الأولى للاشتباك، إلى درجة تجعل المراقب يشكّ في أن استراتيجية التخفّي المتّبعة هي أكثر احترافاً من أداء الميليشيات اللبنانية المعروفة، فلا صورة لأي قناص أو مسلح من الطرف المقابل، ولا وجوه ولا فيديوات إلا من طرف واحد.

 

وما يثير الشكوك، هو أن هذا التخفّي المحترف، عادةً ما تمارسه الدول (لا ميليشيات الشوارع) في حروبها الجديدة، أي في الجيل الخامس من الحروب (الهجينة)، حيث تعتمد أسلوب التخفّي الشديد، والغموض الهائل، وتقوم بأنشطة خفيّة أو قابلة للإنكار، فلا يُعرف تماماً ما حصل، ومن هي الجهة التي قامت بالعمل العسكري أو الاغتيال أو غير ذلك.

 

لكن، مع خروج القوات اللبنانية بأفرادها، وقيادييها ورئيسها، لإعلان النشوة والانتصار، غاب الغموض وطار الاحتراف المفترض، وخرج سمير جعجع ليؤكّد المؤكّد، ويتباهى بـ"ميني 7 أيار" مسيحي، وتخرج الأصوات القواتية وراءه، لادّعاء بطولات "وهمية" ضدّ حزب الله، محيّدين حركة أمل التي اشتبكت معهم، ومصوّرين الأحداث كأنها اجتياح للمناطق المسيحية تمّ صدّه... مع هذه التصريحات، غابت الاحترافية التي سادت الساعات الأولى لقنص المتظاهرين، وأُعيد المشهد إلى زواريب الداخل اللبناني.

 

ثالثاً: في مقولة "شدّ العصب المسيحي"

لعل الخطأ الأكبر الذي وقع فيه بعض المحللين هو الحديث عن شدّ العصب المسيحي. إن هذه العبارة تشي بالكثير من عدم الفهم للشارع المسيحي ووجدانه وانقساماته:

 

من هم أساساً مع القوات، وأصحاب الأفكار التقسيمية والعنصرية من المسيحيين (نحن وهم)، وأصحاب الحنين إلى الحرب الأهلية (موجودون في كل الأحزاب المسيحية وغير المسيحية)، هؤلاء هم مشدودو العصب بنحو دائم، ولا يحتاجون إلى اقتتال شوارع لشدّ عصبهم. ومن الصعب أن تجد مسيحياً منفتحاً على الآخر، وضد الحرب الأهلية في الأساس، ومؤمناً بفكرة الدولة ونهائية الكيان اللبناني بحدوده الحالية، بات مستعداً للتصويت للقوات لأنهم "شدّوا عصبه" باقتتال بعناوين طائفية في الشوارع.

 

استفادت القوات إعلامياً وشدّت عصب قوى 14 آذار وأسهمت في رفع معنوياتها بعد العديد من النكسات التي تعرّضت لها تلك القوى، كما أنعشت أصحاب النزعات المذهبية ومَن يستفيدون من الفتن ويحنّون إلى زمن التشبيح والحرب من مختلف الطوائف اللبنانية.

 

 لكن قد لا يُصرف هذا الأمر انتخابياً، لأن هؤلاء يأكلون من الطبق نفسه. إلا إذا تحالفوا انتخابياً، وحينذاك سيكون ما يحصدونه انتخابياً هو نفسه مع الفتنة أو من دونها.

 

باتت المعضلة الجديدة هي أن ظهور القوات كميليشيا تسعى إلى عودة الحرب الأهلية، سوف يحرج منظمات المجتمع المدني (التي هي من خارج عباءة القوات) الداعية إلى بناء الدولة وإطاحة كل رموز السلطة وشعارات الحرب الطائفية، وهي المدعوّة من قبل الغرب إلى التحالف مع القوات وباقي الأحزاب لتوحيد الجهود والأصوات في الانتخابات لإطاحة السلطة (المقصود بها حزب الله والتيار الوطني الحر). 

2021/10/19

انتخابات لبنان القادمة: دروس من انتخابات العراق

 

دخل العراق أزمة سياسية مفتوحة، بعدما اعلنت المفوضية العامة للانتخابات أن الفرز اليدوي مطابق للفرز الالكتروني، وفي ظل تشكيك ورفض من قبل العديد من القوى السياسية (بشكل أساسي القوى الشيعية الخاسرة) لنتائج الانتخابات وتصاعد الاتهامات بالتزوير، وتشكيك بالنتائج وبأن اصواتاً كثيرة لم يتم فرزها.

وإذا أردنا أن نوجز بعض العبر من نتائج الانتخابات العراقية، يمكن أن نورد:

1-  انتصار الشعبوية:

حققت كتلة مقتدى الصدر نصراً انتخابياً كبيراً، فحصلت على الكتلة الأكبر في البرلمان، بزيادة ما يقارب 19 مقعداً عن انتخابات 2018. ويؤخذ على الصدر عد استقراره على رأي موحد، وتباين أرائه بحسب الظروف، وممارسته "الشعبوية" (خاصة بعد تظاهرات تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2019)، إذ كانت كتلة الصدر مشاركة في البرلمان والحكومة إبان اندلاع المظاهرات إلا أنه دعا أنصاره إلى المشاركة في الحركة الاحتجاجية، ونأى بنفسه عن الطبقة السياسية، متهماً إياها بالفساد وتخريب العراق.

وبالغ الصدر في الشعبوية، لدرجة أنه أعلن أنه قد يقاطع الانتخابات الحالية، رفضاً لتلك الطبقة الحاكمة وتأييداً للغضب الشعبي ضدها، وانسجاماً مع المقاطعة التي أعلنت من قبل العديد من القوى الشبابية والمدنية والليبرالية، التي لعبت دوراً فاعلا في المظاهرات. لكنه، عاد وأعلن عن رغبته بالمشاركة بالانتخابات. ومباشرة، بعد فوز كتلته بالانتخابات، أعلن بأنه "نصر للإصلاح... وضد الفساد والتطبيع". وأكد ضرورة "حصر السلاح بيد الدولة".

2-  خسارة القوى المرتبطة بإيران:

تراجعت حصة القوى المحسوبة على إيران في الانتخابات الحالية، وعمد الاعلام الغربي والخليجي الى الحديث عن ان العراقيين عبروا عن رفضهم لنفوذ "الحشد الشعبي" عبر هذه النتائج، لكن بعض الخبراء السياسيين، يتحدثون عن أن هذه النتائج أتت نتيجة لتغيّر قانون الانتخاب، وذلك لأن "الأصوات التي حصلت عليها الكتل الحالية تبدو عملياً متقاربة مع ما حصلت عليه في الانتخابات السابقة عام 2018، لكن القانون الجديد (الدوائر الصغرى والصوت الواحد) أدّى إلى نتيجة مختلفة".

3-  دخول وجوه جديدة

بالرغم من التوقعات السابقة بفوز كبير للوجوه المدنية المشاركة في التظاهرات، لم تكن أعداد المقاعد التي حصدها هؤلاء كبيرة لأسباب عديدة منها الاستقطاب الطائفي والمقاطعة التي أعلنها العديد من أحزاب الحراك. وبكل الأحوال، فاز المستقلون وأحزب الحراك بعدد لا بأس به من المقاعد في البرلمان الجديد.

 

وهكذا، يبدو أن ما حصل في العراق يمكن أن يؤسس لدى العديد من الدول الغربية والخليجية، نموذجاً لما يمكن أن يحصل في انتخابات لبنان القادمة، ولهذا نجد أن أموالاً طائلة بدأت بالتدفق على القوى السياسية المعارضة للسلطة (يعني بها هؤلاء حزب الله والتيار الوطني الحر حصراً)، ولتدريب قوى المجتمع المدني على خوض الانتخابات.

ولقد تبين من المشهد العراقي، أن تشتت أصوات الكتل المشاركة خاصة أصوات الأحزاب المنضوية في تحالف "الحشد الشعبي" حيث قامت الاحزاب بمنافسة بعضها البعض، مقابل التنظيم ووحدة القيادة لدى "التيار الصدري"، ما أدّيا إلى رفع حصّته من مقاعد البرلمان، وهو درس سيعوّل عليه في الانتخابات اللبنانية القادمة، بحيث تجري الآن محاولات حثيثة لتشكيل تحالف بين المجتمع المدني والاحزاب والقوى السياسية التي أعلنت معارضتها "للسلطة".

وبالنتيجة، يبدو أننا مقبلون على انتخابات هامة ومصيرية في لبنان، فهل تحصل تلك الانتخابات؟ وهل يستطيع الدعم الخارجي والتمويل تأسيس غرفة عمليات واحدة لتجميع القوى المعارضة في إطار واحد لهزيمة "السلطة" كما يعلنون؟ 

2021/10/15

بعد الطيونة: هل يتجه لبنان الى الحرب؟

 

يعيش لبنان على وقع تداعيات المجزرة التي وقعت في الطيونة بعدما قام قناصة منتشرون على سطوح الأبنية بقتل متظاهرين من حركة أمل وحزب الله، كانوا متوجهين لتنفيذ اعتصام ووقفة احتجاجية أمام قصر العدل للاحتجاج على ما يعتبرونه "تسييس التحقيق" الذي يقيمه المحقق العدلي طارق البيطار.

 

وفي النقاش الداخلي حول التحقيق الذي يجريه البيطار، يطرح كل طرف وجهة نظره من القضية ما جعل عمل المحقق العدلي مادة للاستقطاب السياسي بدل أن تكون آداة لإحقاق الحق وإنصاف الضحايا:

 

 من جهة، يدفع كثيرون بأنه لا يجب أن يكون هناك تدخل سياسي في التحقيق وأن القاضي بيطار يجب أن يتمتع بالدعم والتفويض الكاملين للوصول الى الحقيقة، وإن أي تدخل في عمل القضاء من قبل السلطة السياسية يجب أن يكون مرفوضاً وغير قابل للنقاش.

 

أما الطرف الآخر، فيطرح علامات استفهام حول المعايير التي يعتمدها البيطار في استدعاءاته، فلماذا يدّعي على رئيس حكومة حالي بدون رؤساء الحكومات السابقين الذين دخلت النيترات واستقرت في المرفأ في عهودهم، ثم لماذا يدّعي على وزراء (داخلية ومالية وأشغال) سابقين بدون أن يحقق مع الوزراء الحاليين، وهلمّ جراً... فما هي المعايير التي يعتمدها، ولماذا لا يتم استدعاء الجميع واستجوابهم والاستماع الى افاداتهم؟ هذا بالاضافة الى أمر آخر ومهم، يتعلق بالتقرير التقني، فلم يحدد البيطار لغاية اليوم، كيف حصل الانفجار، وهل هو عدوان اسرائيلي أو تفجير داخلي أو حريق مفتعل أو حريق بفعل الاهمال؟ وكيف دخلت النيترات، ومن أدخلها ولصالح من؟

 

الواقع، إن الهواجس لدى الطرفين مشروعة، فمن جهة يعيش اللبنانيون على وقع تسييس دائم للقضايا القانونية، وكم من مرة تدخل سياسي للافراج عن مطلوبين وارهابيين، وكم من عفو صدر عن مجرمين، وكم من قضية تمت لفلفتها وخذل القضاء اللبناني الضحايا؟ ومن جهة المقابلة، هناك تجربة تحقيقات اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التي قامت بالتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري، وما رافقها من فبركة شهود زور، وظلم للضباط الأربعة وسجنهم ظلماً لمدة أربع سنوات. ناهيك عن الفضائح التي رافقت عمل المحقق الالماني ديتليف ميليس، والاستخدام الخارجي للتحقيق لاتهام "النظام السوري" لمدة 4 سنوات، ثم – فجأة وبدون سابق مقدمات- أخرج السوريون كلياً من دائرة الاتهام، وتم اتهام حزب الله، بعدما نشرت دير شبيغل عام 2009، مقالاً تحدثت فيه عن تورط حزب الله في القضية... وبالرغم من قيام السيد نصرالله، بعرض وقائع تشير الى امكانية تورط اسرائيل، ودعوته الى أخذ جميع السيناريوهات بعين الاعتبار وعدم إسقاط أي فرضية، تمّ توجيه التحقيق الى فرضية واحدة هي قيام الحزب باغتيال الحريري، وتوالت الاحداث، حتى صدر القرار الاتهامي الاول يدين افراداً من حزب الله، برأتهم المحكمة بعد سنوات عدّة، وأدانت متهماً واحداً.

 

وبالعودة الى أحداث الطيونة المتعلقة بقضية البيطار، كان يمكن تلافي هذا الاصطدام، وتجنب عودة مشاهد الحرب الأهلية، لو تمّ الأخذ بعين الاعتبار بهواجس الطرفين أعلاه، والوصول الى صيغة قانونية تحفظ التحقيق من التدخلات السياسية، وتؤمّن استقلالية القضاء وسرية التحقيق، وتعطي القاضي الاستقلالية التامة للقيام بتحقيقاته بدون تدخلات، وبالمقابل تعطي الثقة للطرف الآخر بأن التحقيق لن يتم حرفه عن هدفه الاساسي (إحقاق الحق وتحقيق العدالة ومحاسبة المتورطين).

 

هذا في السياسة والقضاء، أما في الموضوع الأمني الداخلي، فيمكن القول أن استسهال أعمال القنص ومحاولة إعادة عقارب الساعة الى الوراء، مرده الى ما يلي:

 

1سقوط هيبة الدولة والقوى الأمنية:

 

 خاصة بعدما استمر التفلت الأمني وحمل السلاح والاقتتال على حدود المناطق المختلطة طائفياً والاستعراضات العسكرية بدون أي معالجة وبدون قيام القوى الأمنية بالضرب بيد من حديد لكل من يخلّ بالسلم الاهلي. زد على ذلك، ما قامت به ثورة 17 تشرين من كسر هيبة القوى الامنيةـ، بعدما قامت مجموعات المتظاهرين بقطع الطرق على المواطنين والتنكيل بحق الناس بالتنقل والذهاب والاياب لتأمين لقمة عيشهم، وذلك برعاية وحماية القوى الأمنية نفسها.

 

2سقوط توازن الردع الداخلي:

 

منذ عام 2008، تمّ تكريس خط أحمر (غير معلن) يمنع الاقتتال الداخلي، وباتت الأطراف السياسية الداخلية تتحاشى الاحتكام الى الشارع ذلك لغياب التوازن وعدم التقارب في موازين القوى الداخلية. ولقد حاولت بعض الأطراف الاقليمية الدفع الى اقتتال أهلي لبناني، عبر محاولة تصدير الاقتتال السوري الى الداخل اللبناني، لكن غياب التوازن ظل المانع الاساسي لجرّ اللبنانيين الى الحرب مجدداً.

 

لكن ما حصل خلال السنوات الماضية، أن الطرف الأقوى عسكرياً، وعبر اطلاق سلسلة من المواقف والخطابات، أشارت الى ما يشبه "فوبيا" لدى حزب الله من الحرب الأهلية الداخلية؛ فالاعتداءات وقتل المناصرين في الداخل قوبلت دوماً بالدعوة الى ضبط النفس وعدم الانجرار الى الفتنة، حتى مكافحة الفساد التي تم الوعد بها خلال الحملة الانتخابية تمّ التراجع عنها وتوكيل أمرها للقضاء اللبناني "لأنها قد تؤدي الى حرب أهلية"، ثم كل محاولات الاستفزازات وقطع طريق الجنوب بعد 17 تشرين الاول 2019، وأحداث خلدة وما قبلها، قوبلت بالدعوة الى "كتم الغضب وضبط النفس".

 

بالنتيجة، من أهم قواعد العلم العسكري والاستراتيجي، أن لا تترك للعدو القدرة لأن يعرف ثلاث: نقاط قوتك، نقاط ضعفك، وما ستكون عليه ردة فعلك... بهذا المعنى، تقوم الدول أو الاطراف، باعتماد سياسة الغموض، فلا تترك لأعدائها القدرة على التنبؤ مسبقاً بردات فعلها، ولا تسمح بكشف نقاط القوة والضعف لديها، وإلا خسرت معاركها.

 

إذًأ، بعد دراسة "السلوك الداخلي" للحزب بدقة على مدى سنوات، بات خصوم حزب الله يستطيعون توقع ردات فعله المفترضة، لذا فهم يعرفون أن اي اعتداء يقومون به سيقابل بـ "ضبط النفس"، وبالتالي يمكن لهم أن يحققوا مكاسب سياسية وانتخابية ومادية عبر افتعال "توتر أمني محدود"، يضعف هيبة حزب الله في الداخل ويخسره تفوق الردع

 

واليوم، بعد حادثة الطيونة يمكن أن نتوقع أن الحرب الاهلية لن تعود في لبنان لعدم قدرة الاطراف الداخلية عليها وعدم رغبة الخارج بها، ولكن نتوقع تغيراً في ردات فعل الاطراف الداخلية، سواء عبر محاولة افتعال التوترات الامنية أو الردّ عليها. 

2021/10/14

الأميركي يوزّع الأدوار (3): قطر لأفغانستان ومصر والأردن للإطار المشرقي

 

تقوم الاستراتيجية الأميركية الحالية على اعتماد مبدأ "المُوازن الخارجي" offshore balancing، بحيث تقوم قوة عظمى باستخدام قوى إقليمية حليفة (مفضَّلة لديها) من أجل كبح صعود قوى معادية محتملة. وهكذا، يجب على الدولة العظمى، التي تسعى لتحقيق التوازن من الخارج، أن تسعى أولاً لنقل المسؤولية إلى القوى الإقليمية، والتدخُّل فقط إذا كان التهديد أكبر من قدرة القوى الحليفة في المنطقة على التعامل معه.

 

بعد فشل إدارة أوباما في أن توَكِلَ إلى طرف واحد ورئيسي منطقةً متشعبة ومتشابكة، كالشرق الأوسط الكبير (في الخريطة الاميركية)، تتَّجه إدارة بايدن إلى تحقيق الهدف نفسه، لكن عبر توزيع للأدوار، والاعتماد على حلفاء متعدِّدين للقيام بتلك المهمة. وكنا، في مقالين سابقين، تحدَّثنا عن الدورين التركي والإماراتي، وتراجع الدور السعودي. وسنتحدّث، في هذا المقال، عن دور كل من قطر في أفغانستان، ومصر والأردن في الجغرافيا المشرقية.

 

قطر تحتكر الدور في أفغانستان

لا شكّ في أن قطر دفعت كثيراً من الأثمان نتيجة فشل مشروع التغيير في العالم العربي، والخلافات الخليجية الخليجية، والرؤية الأميركية المتباينة تجاه الحلفاء الخليجيين، بين الإدارتين الديمقراطية والجمهورية، في الولايات المتحدة الأميركية.

 

عرف النفوذ القطري في المنطقة توسُّعاً مفرطاً أكبر من حجم الدولة الخليجية الصغيرة، مع بداية الربيع العربي. وانخرطت قطر في محاولات إطاحة الحكّام في تونس ومصر واليمن وسوريا وغيرها، وأسّست تحالفاً وثيقاً مع تركيا برعاية أميركية (إدارة أوباما) يهدف إلى الاستفادة من "الربيع العربي" من أجل فرض تغيير شامل في المنطقة.

 

لكنّ السفن لم تَجرِ كما يشتهي الأتراك والقطريون، ودخلت الدول الخليجية، متأثّرةً بصراع الإسلام السياسي على تزعّم المنطقة، في حرب كبرى ضدّ بعضها البعض، وصلت إلى حدّ فرض حصار خليجي شامل على قطر في حزيران/يونيو 2017، مدعوم من الرئيس الأميركي دونالد ترامب (لمّح إلى مسؤولية قطرية عن رعاية الإرهاب).

 

كان التهديد الخليجي بتدخُّل عسكري خليجي لـ"تأديب" قطر، محفّزاً على تدخل كل من تركيا وإيران في القضية. التطورات تلك أدّت إلى تعزيز العلاقات التركية - القطرية على المستوى العسكري، إذ دخلت اتفاقية التعاون العسكري، الموقَّعة عام 2014، حيّزَ التنفيذ، بعد تصديق البرلمان التركي عليها.

 

دفعت حاجة الأميركيين إلى الرحيل عن أفغانستان، إلى الاستعانة بقطر من أجل رعاية حوار أميركي – أفغاني في العاصمة القطرية الدوحة، أطلقه الرئيس دونالد ترامب. وقبل رحيل ترامب عن البيت الأبيض، أُعيدت المياه إلى العلاقات الخليجية، وحصلت المصالحة، ورُفع الحصار عن قطر.

 

اليوم، بعد الخروج الأميركي الفوضوي من أفغانستان، تحتكر قطر (تقريباً) الوكالة الأميركية للنفوذ في هذا البلد. وعلى الرغم من أن تلك الدولة الصغيرة تحاول أن تعطي نفسها أدواراً أخرى عبر أداء دور الراعي في عدد من الدول، كالصومال ولبنان وغيرهما، فإن الظاهر، من الحركة السياسية الأميركية، أن الدور الأساسي لقطر، والمطلوب أميركياً، هو أفغانستان.

 

- مصر والأردن لدور مشرقي

بعد وصول الكاظمي إلى رئاسة الوزراء في العراق، وبعد زيارة قام بها لواشنطن عام 2020، تحرّكت عجلة الشراكة التكاملية بين العراق ومصر والأردن، تحت عنوان "مشروع الشام الجديد"، والذي يساهم في إعادة إعمار العراق، عبر الشركات الأردنية والمصرية (منافسةً الشركات الإيرانية)، وتوقيع اتفاقيات شراكة اقتصادية ونفطية، تؤدي إلى تصدير الغاز إلى أوروبا عبر مصر.

 

اليوم، بعد قيام السفيرة الأميركية في لبنان بإعطاء الضوء الأخضر لمدّ لبنان بالغاز المصري والكهرباء من الأردن عبر سوريا (لمنافسة العروض الإيرانية)، بدا أن "مشروع الشام الجديد" بدأ يتوسّع ليشمل، بالإضافة إلى الدول المؤسِّسة، كلاً من لبنان وسوريا، ويعطي القدرة لدول عربية مشرقية على منافسة النفوذ الإيراني، عبر إعادة الروح إلى خط الغاز العربي، وتخفيف حزمة العقوبات المفروضة أميركياً على سوريا.

 

لماذا اختيار مصر والأردن؟

أولاً - إن التقارب الجغرافي، والعلاقات والروابط التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين دول المشرق العربي، تجعل تلك الدول قادرةً على أن تتعامل بفعّالية وواقعية مع شبكة التعقيدات في كل من لبنان وسوريا والعراق، أكثر من الدول الأوروبية والخليجية.

 

ثانياً - فشلُ السياسة السعودية في المنطقة، وخصوصاً الأدوار التي مارستها في كل من سوريا والعراق، بالإضافة إلى سياسة "الحرد" التي تمارسها السعودية في لبنان، والغضب الذي لا ينطفئ لدى وليّ العهد السعودي تجاه - ما يسميه - "خذلان اللبنانيين للمملكة"، تجعل من الصعب على دول الخليج الانخراط، بصورة واسعة، في ممارسة نفوذ في تلك الدول، سياسياً واقتصادياً، مع العلم بأن لا أحدَ يتوقّع رفضاً من الدول الخليجية الأخرى، في حال اتخذ الأميركيون قراراً بتمويل بعض مشاريع البنى التحتية في لبنان، من أجل منع الإيرانيين من التغلغل أكثر في الساحة اللبنانية.

 

ثالثاً- يمكن لمصر والأردن، على نحو عام، الانفتاح على كل من العراق وسوريا ولبنان، بسبب عدم انخراط البلدين، بصورة مباشِرة وفجّة، في تشكيل رأس حربة من أجل إسقاط النظام في سوريا، ودعم الإرهاب وتمويله في الدول الثلاث.

 

بالطبع، ستستفيد سوريا من العودة الخليجية ومشاركة الخليجيين في إعادة إعمارها بمباركة روسية، بعد أن يُعطى الضوء الأخضر الأميركي لذلك. لكنّ حساسية وجود النفوذ الإيراني المتجذّر (كفضاء طبيعي)، في كل من لبنان والعراق، تجعل من الأفضل للأميركيين الاتكال على دول مشرقية لتحفظ لها مصالحها في مساحة الجغرافيا المشرقية، على أن يتمّ دعمها مادياً عبر البنك وصندوق النقد الدوليَّين ودول الخليج الميسورة. 

الأميركي يوزّع الأدوار(2): السّعودية تتراجع والإمارات عرّابة " التطبيع"


 

تقوم الاستراتيجيّة الأميركيّة الحالية على اعتماد مبدأ "الموازن الخارجي" (offshore balancing)، إذ تقوم قوة عظمى باستخدام قوى إقليميّة حليفة (مفضّلة لديها) لكبح صعود قوى معادية محتملة.

 

وبعد فشل إدارة أوباما في توكيل طرف واحد ورئيسي في منطقة متشعّبة ومتشابكة كالشرق الأوسط الكبير (بالخريطة الأميركية)، تتجه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تحقيق الهدف نفسه، ولكن عبر توزيع الأدوار، والاعتماد على حلفاء عدّة للقيام بتلك المهمة. وكنا في مقال سابق تحدثنا عن الدور التركي، وسيخصص هذا المقال للدور الإماراتي وتراجع الدور السعودي.

 

- تراجع الدور السعودي

كان "الربيع العربي" نقطة التحوّل الأساسية في النظرة الأميركية إلى الدور السعودي في المنطقة، فقد أتت التحولات التي دعمها باراك أوباما بخسائر فادحة لحلفاء السعودية بعدما حاولت واشنطن تعويم الفرع "الإخواني" من الإسلام السياسي الذي قادته تركيا وموّلته قطر، لكن التحولات التي حصلت في العام 2013، وانخراط السعودية والإمارات في "الثورة المضادة"، إضافة إلى التعقيدات المختلفة والمتشابكة التي رافقت مسيرة "الربيع العربي"، وفشل الإخوان في السيطرة على تلك التحولات وتحويلها لمصلحتهم، دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة إعطاء القيادة للسعودية لتشكيل المشهد، إلا أنها فشلت.

 

ودخلت المنطقة بسرعة في مشهد جديد انتشر فيه الإرهاب وغزا "داعش" مناطق واسعة، الأمر الذي أعاد الأميركيين إلى المنطقة على رأس تحالف دولي ضد الإرهاب (2014)، بعدما كانوا قد أعلنوا الانسحاب من العراق في العام 2011.

 

وبعد وصول ولي العهد السعودي الجديد محمد بن سلمان إلى الحكم، والتغييرات التي قام بها، والصراع الداخلي على السلطة، وبدء حرب اليمن التي لم تنجح فيها السعودية في إخضاع حفاة اليمن، إضافةً إلى مقتل خاشقجي، والتصريحات العلنية الغاضبة والمنتقدة للأميركيين التي أطلقها السعوديون نتيجة انكشاف المحادثات الإيرانية الأميركية والتوصّل إلى اتفاق نووي بين إيران والدول 5+1 في العام 2015، تبدَّلت نظرة الأميركيين إلى السعودية.

 

كانت علاقة السعوديين بترامب هي المرحلة الذهبية التي يعيشها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والتي كلَّفته الطائل من الأموال، ولكن وصول بايدن إلى الحكم أعاد الأمور إلى الوراء، وبدأت مرحلة انعطاف استراتيجي في العلاقة بين البلدين (انظر مقالنا حول العلاقات السعودية الأميركية).

 

وهكذا، يبدو أنَّ السعودية ابتعدت عن السياسة البراغماتية التي كانت تطبع حكامها السابقين، بدليل سياسة "الحرد" المستمرة التي يمارسها ابن سلمان في لبنان (مركز نفوذ تاريخي للسعودية)، إضافة إلى ظهور قوى إقليمية خليجية أخرى تؤمّن للأميركيين مصالحهم بطريقة أفضل وببراغماتية وأقل حساسية للجمهور الأميركي من السعودية (بسبب مقتل خاشقجي، وسجل حقوق الإنسان، والتورط المزعوم في أحداث 11 أيلول/ سبتمبر).

 

وهكذا، يحاول بايدن الاتجاه إلى توكيل قوى أخرى للاضطلاع بدور الموازن في المنطقة، في المناطق التي كانت تقوم بها السعودية سابقاً، ومن هؤلاء الإمارات وقطر ومصر والأردن.

 

الإمارات تقود مسيرة دمج "إسرائيل" في المنطقة

بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، استعانت الإمارات بجماعات ضغط داخل واشنطن، وضخَّت ملايين الدولارات للدفع بالسياسات الخارجية الأميركية لدعمها، سواء إعلامياً أو سياسياً، وللتأثير في الانتخابات الأميركية في العام 2016.

 

وكان مركز السياسة الدولية قد أصدر دراسة بعنوان "اللوبي الإماراتي: كيف تفوز الإمارات في واشنطن؟" تناولت نفوذ أبو ظبي في الولايات المتحدة. وتعتبر الإمارات من أهم المستثمرين في الاقتصاد الأميركي، وثالث أكبر زبون للأسلحة الأميركية.

 

منذ "الربيع العربي"، بدا الانخراط الإماراتي واضحاً على مساحة الجغرافيا الممتدة على خريطة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا. ولعلّ الانخراط الأكبر كان في اليمن، إذ استطاعت الإمارات أن تسيطر على مراكز استراتيجية مهمة، منها جزيرة سقطرى، ودعمت الانفصالي الجنوبي، ما أثار استياء السعودية وحلفائها في اليمن.

 

ولم يخفِ الإماراتيون طموحهم بالتحول إلى دولة إقليمية فاعلة، ففي أحد المؤتمرات في لندن (26 تموز/يوليو 2018)، كان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية صريحاً بإعلانه "أن بلاده مستعدة لتحمّل المزيد من العبء الأمني في الشرق الأوسط، لأنها لا تستطيع الاعتماد بعد الآن على العمليات العسكرية لحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا".

 

ساهمت المشاركة الإماراتية في الحرب الأميركية على الإرهاب، ونجاحها في تحقيق نفوذ استراتيجي في العديد من الدول (أحياناً على حساب السعودية نفسها)، في أن تحجز الإمارات لنفسها موقعاً مهماً في المنطقة وفي الاستراتيجية الأميركية، ولكنَّها - كما يبدو - تسعى إلى المزيد من النفوذ والدور.

 

لذا، تقوم بسياسة براغماتية تدفعها إلى محاولة تصفير المشكلات مع الدول الأخرى، منها سوريا وإيران وتركيا، إذ التقى مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في أنقرة مؤخراً.

 

يبقى الأهم على الإطلاق بالنسبة إلى الأميركيين، قيادة الإمارات لملفّ التطبيع مع "إسرائيل"، ما يجعل منها شريكاً مهماً للولايات المتحدة، ويعطيها دوراً ومكانةً أساسية في الاستراتيجية الأميركية الجديدة.

 

إذاً، تضطلع الإمارات بدور أساسيّ في المنطقة بتوكيل أميركي، ومهمّتها حيوية، لكونها الدولة التي يمكن الاستفادة منها في تقديم المساعدات الإنمائية، إذ يحتاج الأميركيون إلى صرفها لتأمين بعض عوامل الاستقرار في بعض الدول المعرّضة للفوضى، والأهم قيادة مسيرة إدماج "إسرائيل" في المنطقة، انطلاقاً من توقيع اتفاقيات التطبيع، واستعمال الاقتصاد والاستثمارات لتنمية المجتمع الإسرائيلي واستقراره، وصولاً إلى توقيع اتفاقيات تكاملية بين دول التطبيع و"إسرائيل"، والهدف جعل الأخيرة كياناً مقبولاً وغير منبوذ في المنطقة.