2021/10/06

الأميركي يوزّع الأدوار (1): الدور التركي من الشَّرق الأوسط إلى آسيا

ليلى نقولا

تقوم الاستراتيجية الأميركية الحالية على اعتماد مبدأ "الموازن الخارجي" (offshore balancing)، وهو مفهوم استراتيجي تستخدمه المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. هذا المبدأ يصف الاستراتيجية التي تقوم فيها قوة عظمى باستخدام قوى إقليمية حليفة (مفضَّلة لديها) لكبح صعود قوى معادية محتملة. وهكذا، على الدولة العظمى التي تسعى لتحقيق التوازن من الخارج أن تسعى أولاً لنقل المسؤولية إلى القوى الإقليمية، والتدخّل فقط في حال كان التهديد أكبر من قدرة القوى الحليفة في المنطقة على التعامل معه.
في ظلِّ التركيز الأساسي للولايات المتحدة الأميركية على احتواء الصين، تحتاج إدارة بايدن إلى تخفيف الانخراط المباشر في الشرق الأوسط، وهو استكمال لاستراتيجية أوباما "التوجّه نحو آسيا"، والتي فشلت في تخفيف ذلك الانخراط عبر توكيل "الإسلام المودرن والمعتدل" بنسخته التركية - تركيا عضو في حلف الناتو وتقيم علاقات جيدة مع "إسرائيل"- للقيام بمهمة حفظ المصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
وهكذا، وبعد فشل إدارة أوباما في توكيل طرف واحد ورئيسي في منطقة متشعّبة ومتشابكة، كالشرق الأوسط الكبير (بالخريطة الأميركية)، تتّجه إدارة بايدن إلى تحقيق الهدف نفسه، ولكن عبر توزيع الأدوار والاعتماد على عدد من الحلفاء للقيام بهذه المهمة.
وتطبيقاً لاستراتيجية "الموازن الخارجي"، تحاول الولايات المتحدة أن تحافظ على التوازن في آسيا، عبر استخدام قوى إقليمية حليفة لكبح تنامي النفوذين الصيني والروسي في المنطقة. وبالنظر إلى حركة الدبلوماسية التركية، وتنامي النفوذ التركي في آسيا، والمصالحات التي تقوم بها تركيا مع دول مثل مصر، إضافةً إلى إغلاق العديد من مكاتب والمحطات الإعلامية الإخوانية في تركيا، يبدو أنَّ الأميركيين يعوّلون على دور تركي للتوازن في آسيا، على أن يحتفظ الأتراك بما استطاعوا تحصيله من نفوذ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ونجد أنَّ الأتراك يطمحون إلى زيادة نفوذهم في آسيا عبر ما يلي:
- مبادرة "آسيا من جديد" (Asia anew)
في 5 آب/أغسطس 2019، أعلن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مبادرة "آسيا من جديد"، مؤكداً أنَّ نهج التوجه نحو آسيا من جديد لا يشكّل تحولاً محورياً في السياسة الخارجية التركية.
وتتمثَّل الأهداف المعلنة للمبادرة بإعطاء أهمية أكبر للتعاون مع الدول الآسيوية، انطلاقاً من 4 ركائز رئيسية:
1) تحسين العلاقات مع الدول الآسيوية.
2) توسيع القدرة التجارية للقطاع الخاص التركي مع تلك الدول.
3) تعزيز التعاون الأكاديمي.
4) تطوير التفاعل بين المجتمع التركي والمجتمعات المحلية في تلك الدول.
ولا شكّ في أنّ التوسّع التركي نحو آسيا ليس جديداً، بل إنّه مستمر منذ ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وقد توسع في العام 2010، إذ افتتحت تركيا سفارات جديدة في ميانمار وسريلانكا وبروناي وكمبوديا ولاوس. وفي العام 2013، أصبحت تركيا شريكًا حوارياً لمنظمة شنغهاي للتعاون. وفي العام نفسه، دخلت في شراكة مع كوريا الجنوبية وإندونيسيا وأستراليا والمكسيك، ثم أصبحت شريكاً في الحوار القطاعي لرابطة أمم جنوب شرق آسيا.
- مبادرة "الممر الأوسط" (middle corridor)
في محاولة منها لتصبح شريكاً أساسياً في طريق الحرير الجديد، طرحت تركيا مبادرة عرفت اصطلاحاً باسم "الممر الأوسط". إن طريق النقل الدولي عبر قزوين (TITR)، المعروف باسم "الممر الأوسط"، هو تطوير لشبكة متعددة الأطراف لنقل البضائع بين الصين والاتحاد الأوروبي، من خلال المرور بآسيا الوسطى، القوقاز وتركيا، ثم إلى أوروبا الشرقية، كما تربط تلك المناطق الجغرافية من خلال وسائط نقل متعددة عبر بحر قزوين والبحر الأسود.
تسوّق تركيا لنسختها الخاصة من مبادرة طريق الحرير الجديد عبر التخطيط لإنشاء شبكة سكك حديدية على مستوى المنطقة، تنطلق من الأراضي التركية إلى آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان وغيرهما)، وتمر عبر القوقاز (جورجيا وأذربيجان).
تتمثّل أهداف تركيا الرئيسية في إطلاق هذه المبادرة بجعل الجغرافيا التركية نقطة اتصال أساسية لربط أوروبا بآسيا، ولا سيَّما القوقاز وآسيا الوسطى وشرق آسيا وجنوب آسيا، وبأن تصبح تركيا مركز تقاطع بين ممر "شرق – غرب" وممر "شمال - جنوب"، ومركز جذب للتعاون الإقليمي في أوراسيا.
- تعزيز الروابط المتعددة الأبعاد
تحاول تركيا تعميق علاقاتها السياسية والاقتصادية والتجارية مع دول آسيا، مستفيدة من فضاء طبيعي في تلك المناطق، بسبب وجود غالبية ساحقة من السكان الناطقين باللغة التركية في المنطقة، وبفضل الروابط التاريخية التي تعود إلى العصر العثماني.
من الناحية الثقافية والاجتماعية، انتشر العديد من المؤسسات التركية التي ترعاها الدولة التركية في جميع أنحاء المنطقة، وأصبحت المؤسسات التركية العامة والخاصة والشركات ومنظمات المساعدة الإنسانية أيضاً أكثر وضوحاً في جنوب شرق آسيا.
حافظت تركيا على علاقات قوية مع الدول ذات الأغلبية المسلمة في جنوب شرق آسيا - إندونيسيا وماليزيا وبروناي - من خلال عضويتها وأنشطتها التي تتمّ تحت رعاية منظمة التعاون الإسلامي، كما وسعت روابطها في الدول العشر الأعضاء في الآسيان.
إذاً، يدرك الأميركيون أن التعامل مع الصين يجب أن يكون مزيجاً من التعاون والتشارك والتنافس والاحتواء، وأن أي طرح يركّز على الحروب والتنافس الاستراتيجي الشبيه بالحرب الباردة لن يكون مقبولاً من الحلفاء والشركاء. وهكذا، إنّ قدرة الولايات المتحدة الأميركية على استخدام استراتيجية "الموازن من الخارج" ترتكز على الاستفادة من الطموح الاستراتيجي التركي للهيمنة ومدّ النفوذ في مناطق آسيا.
وهكذا، يؤدي الدور التركي (كنفوذ إقليمي) دور الموازن للنفوذين الروسي والصيني، عبر استخدام الفضاء الطبيعي الذي تمتلكه تركيا في آسيا الوسطى والقوقاز وجنوب شرق آسيا، على أن تتدخَّل الولايات المتحدة حين يعجز الأتراك عن أداء هذا الدور وتتّجه المنطقة إلى عدم استقرار مفيد للصين أو روسيا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق