2021/04/27

أين عظات الأحد من مواقف الكنيسة التاريخية؟

ليلى نقولا

 

طغت مواقف البطريرك بشارة الراعي والمطران الياس عودة في عظات الأحد على المشهد السياسي والاعلامي، خاصة انتقادهما القاضية غادة عون وما قامت به من مداهمة لمكاتب مكتّف بعدما تمنّع عن تسليم المستندات المطلوبة في قضية تهريب الأموال الى الخارج. علماً أن ردّ القاضية عون لم يتأخر، فأجابت في تغريدة على تويتر بالقول " للتذكير فقط لمن لم يقرأ قانون أصول المحاكمات الجزائية، فإن المادة ٢٤ تعطي الحق للنائب العام في الاستقصاء وجمع الأدلة والتحقيق والمداهمة عند الاقتضاء لضبط الأدلة التي يحاول المشتبه بهم اخفاءها.هذا من صلب مهام النيابة العامة وإلا لا يمكن كشف أي جريمة".

 

وقد تكون هذه المواقف التي أطلقت غير مستغربة بالنظر الى مواقف الطرفين السابقة. لكن، قد يكون من المفيد الإضاءة على بعض المواضيع الاساسية والملحة بالنسبة للمسيحيين، والتي كان من المفترض أن تتطرق لهما عظات الأحد:

 

1- مقاومة حرب تجويع اللبنانيين

 

وهو الأمر الأول والأكثر أهمية وإلحاحاً، حيث كان يفترض بالآباء أن يوجهوا الكنائس والمدارس والمستشفيات التابعة لسلطتهما بمساعدة المواطنين في هذه اللحظات العصيبة التي تشبه الى حد بعيد الأوضاع التي أدّت الى موت ثلث سكان جبل لبنان بالمجاعة خلال الحرب العالمية الأولى.

 

أين موقف مسؤولي الكنائس اليوم من موقف البطريرك حويك، الذي واجه قرار تجويع اللبنانيين من قبل العثمانيين، والذي قاوم بما استطاع من وسائل المخطط العثماني الذي عبّر عنه أنور باشا بقوله “قضينا على الأرمن بالحديد، وسنقضي على اللبنانيين بالمجاعة”؟.

 

ألا يستشعر البطريرك والمطران أن هناك مخططاً واضحاً لتجويع اللبنانيين اليوم، وبالتالي عليهما أن يكونا  على قدر المسؤوليات الملقاة على عاتقهما، فيقوما،على الأقل، بتقليد البطريرك الحويك الذي وضع الامكانات المالية والعقارية للكنيسة في تصرف الفقراء، وحوّل الاكليروس الى "مقاومة" اجتماعية وانسانية مهمتهما مكافحة مخطط التجويع، فتمّ تأمين الأكل والمساعدات لفقراء لبنان من جميع الطوائف بدون استثناء.

 

الأكيد، إذا لم يكن بنيّة هؤلاء مقاومة مخطط التجويع كما فعل البطريرك الحويك والمطران عريضة، فعلى الأقل ينتظر الشعب المسيحي من كنائسه ورعاتها أن يتصرفوا على أساس أنهم مسؤولين عن "جماعة المؤمنين"، لا أن يدافعوا عن الذئاب التي نهشت لحم الرعية.

 

- المقدسات في القدس الشرقية

 

الأمر الثاني والذي لا يقلّ أهمية بالنسبة للمسيحيين، هو وضع القدس الشرقية، حيث تندلع منذ أيام أعمال العنف والاشتباكات اليومية، بعدما تظاهرت مجموعة من اليمين المتشدد الاسرائيلي رافعة شعارات تدعو الى قتل العرب وطردهم من القدس. حتى خارجية الولايات المتحدة (حليفة اسرائيل) أدانت خطاب الكراهية والدعوة الى العنف الذي أطلقه يهود متشدّدون ضد الفلسطينيين.

 

نتكلم عن ضرورة الإشارة الى القدس في عظات الأحد، باعتبارها مكاناً مقدساً للمسيحيين وخسارتها يعني خسارة جوهر الوجود المسيحي في هذا المشرق، ولا يجب أن يمر تهويد القدس، الذي يحاول الاسرائيليون فرضه بالقوة، مرور الكرام في وجدان المسيحيين اللبنانيين ومواقفهم وعظات الكنائس الشرقية، فأي رجاء مسيحي بعودة المسيح مرة ثانية بدون القدس وأهلها ووجود المسيحيين في هذا الشرق؟.

 

المطلوب اليوم من رعاة الكنائس أن يكونوا على قدر التحديات التي يواجهها الشعب اللبناني والمسيحيون في هذا المشرق. المطلوب الوقوف مع الحق ضد الباطل في قضية نهب المال العام ومحاولات إفقار اللبنانيين وتجويعهم. كما المطلوب مواقف حاسمة تحفظ حقوق المسيحيين في القدس، مواقف تشبه ما كتبه المطران جورج خضر في كتابه "القدس" إذ يقول: "لا فاصل واضحاً بين الزمني والروحي عندما تصير المدينة جلجلة".... "صحيح ان فلسطين المدعوة أكبر من الأرض، لأنها حدث روحي كبير، ولكن هذا لا يكفيني، فأنا مع هؤلاء القوم في مظلوميتهم، ومع القدس في نورها".

 

بكل الأحوال، من يستمع الى عظات الأحد، يحضره قول المسيح: مرتا مرتا تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد. 

2021/04/26

النهوض ما بعد اللقاح: هل يغيّر وجه أوروبا؟

 

لا شكّ أن جائحة كورونا فرضت تحديات جمّة على جميع دول العالم، سواء على الصعيد الصحي أو الإقتصادي أو الإجتماعي أو غير ذلك. وقد بدا أن هناك عجزاً في التعاطي مع الجائحة في مختلف دول العالم وخاصة الدول الصناعية الكبرى التي من المفترض أنها اكثر اقتداراً على التعاطي مع هذا النوع من التحديات الذي يفترض جهوزية صحية ومالية وإدارية لا تمتلكها الدول النامية.

 

بعد مرور أكثر من عام على انتشار الجائحة، تشير الاحصاءات الى أن أوروبا عانت من العدد الأكبر من الإصابات عالمياً كما سجّلت أرقاماً من أعلى معدلات الوفيات في العالم. ولقد أظهرت موجات الكورونا الأولى والثانية في الاتحاد الأوروبي عدم قدرة الاتحاد على التعاطي بفعالية في مواجهة جائحة صحية عالمية، بحيث كانت النتائج سيئة إن لناحية السرعة أو لناحية التنظيم أو التعاطي بمسؤولية والخروج من الاعتبارات الوطنية الضيقة. أما الموجة الثالثة والتي ترافقت مع انتشار اللقاح وتوسع حملات التلقيح في العالم، فلقد ظهرت أوروبا متأخرة عن باقي الدول الصناعية الكبرى في شراء اللقاح وتوزيعه ونسبة المواطنين الذين تمّ تلقيحهم.

 

وتتنوع الأسباب التي أدّت الى تلك النتائج، ونشير الى أبرزها بما يلي:

 

- البيروقراطية البطيئة

 

لقد أظهرت جائحة كورونا عجز بيروقراطية بروكسل عن التعامل بفعالية مع التحديات السريعة والمستجدة. وتبين أن آليات تفويض السيادة الى خبراء غير منتخبين في بروكسل يمكن لها أن تسير بفعالية في الأوقات العادية ولكن الماكينة البيروقراطية البطيئة غير قادرة على اتخاذ قرارات بالسرعة اللازمة التي يستوجبها التعامل مع كورونا وسرعة انتشاره.

 

- عجز آليات التكامل الوظيفي

 

دخل الاتحاد الاوروبي في إشكالية هامة هي تضارب المصالح بين الاوروبي والوطني، فأوروبا مندمجة بشكل لا تستطيع معها أن تعالج كل دولة مشاكلها بطريقة مستقلة ومنفردة بشكل تامّ، ولكنها ليست مندمجة الى الحد الذي يجعلها تستطيع أن تتخذ قرارات هرمية بشكل حاسم كما هي حال الدول الفيدرالية كالولايات المتحدة أو روسيا أو غيرها.

 

لم يكن باستطاعة تكنوقراط الاتحاد الاوروبي (غير المنتخبين) من أن يفرضوا قرارات على المواطنين داخل الدول، بل إن هذا الأمر استمر من صلاحية السلطة السياسية داخل كل دولة على حدى، وبالتالي في صراع البقاء والموت الزاحف، كانت السلطات السياسية الوطنية والمحلية تتصرف بحسّ غرائزي وطني طبيعي في تلك الظروف، فتقرر ما يناسب مواطنيها بغض النظر عما يعنيه هذا الى باقي دول الاتحاد أو الى مؤسسات الاتحاد الاوروبي البيروقراطية.

 

حتى في موضوع اللقاحات، لقد عجز الاتحاد الأوروبي عن مواكبة السرعة في تأمين اللقاحات، وتأخر في أخذ القرار بالمساهمة وتمويل مختبرات لصنع لقاحات أوروبية خاصة، وبالرغم من مساهمة الشركات الأوروبية في اللقاحات إلا أن البريطانيين والأميركيين استحوذوا على الحصص الأوفر والأسرع من اللقاحات بسبب الاستثمار المبكر الذي قاموا به في دعم تلك الأبحاث وتمويلها.

 

كل هذه الأمور، ساهمت في تعميق الخلل والهوة بين الدول الاوروبية، فدول أوروبا الشرقية والدول الأفقر تعثرت بينما استطاعت الدول الأغنى في الاتحاد أن تؤمّن لنفسها ولمواطنيها مستوى أفضل من التعامل المؤسساتي والصحي مع الجائحة.

 

وساهم التأخر في توزيع اللقاح داخل الاتحاد الى سعي كل دولة لتأمين لقاحاتها من مصادر مختلفة، ما جعل الدول التي وجدت نفسها على الهامش، بأن تسعى لتأمين اللقاح من روسيا والصين تماماً كما حصل في بداية الجائحة حين وجدت هذه الدول نفسها متروكة من قبل الاتحاد الاوروبي والدول الغنية فيه فلجأت الى الروس والصينيين للمساعدة.

 

الى أين سيؤدي هذا؟

 

إن سوء الإدارة وعدم الفعالية التي تعامل لها الاتحاد الأوروبي مع جائحة كورونا ستكون عاملاً مساهماً في صعود اليمين والمتشائمين من مستقبل الاتحاد والمطالبين بالعودة الى السياسات الوطنية. كما إن التسييس الذي انخرط فيه الأوروبيون في موضوع اللقاحات وتوزيعها، خاصة في معركتهم مع بريطانيا حول بريكست، والتفاوت - الذي سببه الفشل في إدارة الجائحة- بين دول غنية ومقتدرة ودول عاجزة وجدت نفسها على الهامش، سيدفع الى التشكيك بشرعية مؤسسات الاتحاد الاوروبي وفعاليتها من قبل العديد من الاوروبيين، حتى أولئك المؤيدين بقوة للاندماج الأوروبي، وهذا قد يغيّر الكثير من المعادلات الانتخابية وبالتالي السياسات الوطنية داخل الاتحاد.

 

وبما ان العديد من دول الاتحاد ستجري انتخاباتها في العامين القادمين، فإن سرعة النهوض الاقتصادي وسرعة الخروج من الجائحة ستكون عاملاً أساسيًا في التوجهات الانتخابية لعامي 2022 و2023، وبالتالي إن التأخر في فتح الأسواق، وعدم قدرة الاتحاد على الاتفاق على سياسة إنفاق لتحقيق نهوض اقتصادي تنموي لفترة ما بعد الجائحة سيجعل من تلك الانتخابات عاملاً لصعود غير مسبوق لليمين الاوروبي بالرغم من خسارة اليمين (بخسارة ترامب) في الولايات المتحدة الأميركية.

  

2021/04/19

أسئلة "للثورة" لا بد منها...


لا شكّ أن تاريخ 17 تشرين الأول 2019، هو تاريخ مفصلي في حياة اللبنانيين جميعاً، حيث استشعر الجميع بأن "الشعب" قد سئم التصرفات السياسية والمحاصصة وبات يريد وطناً مستقلاً، يحكمه حكم القانون لا حكم التحاصص الطائفي والزبائنية ونهب المال العام.

وبغض النظر عن الشكوك التي تحيط عادة بهذا النوع من الثورات، كان هناك ما يشبه الإجماع بين اللبنانيين، أن غالبية مَن نزلوا في بدايات "الثورة" كانوا مفعمين بالأمل بالتغيير الحقيقي، وكانوا يريدون وطناً لأولادهم لا يشبه الوطن الذين نعيش فيه. وكما في كل الثورات، كانت هناك بعض المجموعات الحزبية التي أرادت أن تمتطي صرخات الناس لتحقق مكاسب سياسية ضد خصومها في الحكم، والبعض الآخر كان مأجوراً ينفذ أجندات خارجية، ولكن بقيت الغالبية الشعبية لا تريد سوى وطناً ومستقبلاً كريماً.

وشيئاً فشيئاً، وكما في كل الثورات أيضاً، بدأت الفئات الأكثر تمويلاً والأكثر تنظيماً، بالسيطرة على مسار الثورة في لبنان وتسويق أجنداتها على حساب الأجندة الوطنية الحقيقية، تماماً كما حصل في ثورة مصر (25 يناير) حين كان تنظيم الأخوان المسلمين الذين التحقوا بالثورة فيما بعد، أكثر تنظيماً وتمويلاً، فاستطاعوا أن يحرفوها عن هدفها الأساسي، ما اضطر الشعب المصري الى ثورة ثانية لتصحيح المسار والتخلص ممن سرق ثورتهم، وهكذا دواليك.

واليوم، وبعد مرور كل هذه الأحداث في لبنان منذ الثورة، وفي خضّم معركة القاضية غادة عون مع الفساد، مروراً بانفجار بيروت وانهيار العملة وسرقة مدخرات الناس في البنوك التي أقفلت من دون سبب ظاهري مشروع خلال أحداث 17 تشرين 2019، وحجبت الأموال عن المودعين في وقت تمّ تهريب ملايين الدولارات الى الخارج من قبل نافذين ومصرفيين، في أكبر خيانة وطنية عرفها لبنان في العصر الحديث...

اليوم، في ظل هذه الأحداث ونتائجها، ومع استمرار البعض بتشنيف آذاننا بمطالعات ثورية مثالية وطنية، حول "كلن يعني كلن" و "التغيير الحقيقي" واستقلالية السلطة القضائية وغيرها، لا بد لنا من أن نطرح على هؤلاء الأسئلة التالية:

- كيف يمكن لثورة أن تدّعي رغبتها في بناء وطن يحكمه القانون، تقوم بالتبرير لرياض سلامة بحقه بأن لا يمثل أمام القضاء اللبناني بالرغم من مثوله أمام القضاء الفرنسي والبريطاني والسويسري؟.

- كيف يمكن لثورة تدّعي أنها مع حقوق المرأة اللبنانية، وتعتبر أن "الثورة أنثى" أن تهتك عرض الامهات وتشتمهن بأكثر أنواع البذاءة اللاأخلاقية، وتعيير قاضية تكافح الفساد بمظهر شعرها وتتهمها بالجنون؟.

- كيف يمكن لثورة أن تدّعي أنها مع شعار "كلن يعني كلن"، أن تقوم بالتعبئة اليوم لإنشاء جبهة (مدعومة من الدول العربية والدولية بحسب تعبيرهم هم) للمطالبة بحكومة انتقالية برئاسة قائد الجيش في حال لم يستطع الحريري تشكيل حكومة!! إذا الحل برأيهم يكون بأن يشكّل الحريري حكومة وإلا فالانقلاب العسكري؟ وعليه، لماذا قامت الثورة بالإطاحة بالحريري أصلاً، وهل الانقلاب العسكري هو التطبيق العملي لحلم "الدولة الديمقراطية والانتخابات الحرّة النزيهة" الموعودة بحال نجاح الثورة كما بشرونا في بداياتها؟.

- كيف يمكن لثورة تدّعي ايمانها بضرورة إقامة "الدولة المدنية"، بتنصيب رجل دين ملهماً ثورياً وناطقاً باسمهم؟.

- كيف يمكن لثورة تريد محاسبة الجميع على نهب المال، أن تقف ضد التدقيق الجنائي وتعتبر "أنه مش وقته هلق" وتشكيل حكومة "كما يريدها الحريري" هو الأهم!.

- كيف يمكن لثورة تعتبر أنه يجب الإطاحة بالسياسيين جميعهم لأنهم فاسدون أثروا على حساب الشعب ومدخراته، بينما نجد العديد ممن يتكلمون باسم الثورة عليهم مئات علامات الاستفهام فيما يتعلق بحساباتهم المالية، ومظاهر الثراء الفاحش التي هبطت عليهم فجأة؟

هي أسئلة كثيرة، لا نجد إجابات عليها سوى التخوين والاتهام بأننا "غنم وعبيد"... ولكن!

يبقى الأمل بالعديد من المجموعات التي نزلت في 17 تشرين أملاً بالتغيير، وبالأغلبية الصامتة التي تتضامن مع نفسها في الأساس، فتتضامن مع كل بارقة أمل بحكم قانون وبمحاسبة حقيقية في لبنان.. الى هؤلاء نقول، سنبقى نقاتل معاً الى أن ينتصر لبنان.

والى مَن يتلقى التمويل لتيئييس اللبنانيين وذلّهم عبر تكريس حكم الزعران (باسم الثورة) المستمر منذ ما بعد الحرب الأهلية، الى هؤلاء نقول: خسئتم أنتم وثورتكم المزعومة، وستنهزمون شرّ هزيمة. 

هل يدفع بايدن روسيا الى الحرب مع أوكرانيا؟


يعيش العالم على وقع قرع طبول الحرب في أوكرانيا، بتدفق الحشود العسكرية الروسية على الحدود معها من جهات عدّة بحراً وبراً، بعد أن تصاعدت حدّة التوترات والإجراءات والإجراءات المضادة بين كل من روسيا من جهة، والأميركيين ودول حلف الناتو من جهة أخرى.

 

منذ مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض، بدأ الحديث عن انطلاق مسار انضمام بعض الدول، ومنها أوكرانيا، إلى حلف الناتو، إضافةً إلى مشاركة الأخيرة في المناورات العسكرية التي شجّعت الرئيس الأوكراني زلنسكي على الهجوم اللفظي على موسكو والتهديد بالحرب لاستعادة الأراضي الأوكرانية.

 

وكاد الموضوع العسكري يأخذ أبعاداً شديدة الخطورة لولا تراجع الأميركيين عن خطوة إرسال سفينتين حربيتين إلى البحر الأسود، وإبلاغ تركيا بعدم مرور السّفن، وذلك بعد الرسالة الروسية التحذيرية، إذ وجّهت روسيا إنذاراً شديد اللهجة إلى الولايات المتحدة بالبقاء بعيداً من شبه جزيرة القرم "من أجل مصلحتها"، معتبرة أن أي انتشار للبحرية الأميركية في البحر الأسود سيعتبر "استفزازياً للغاية"، ووصفت هذا الانتشار بأنه استفزاز يهدف إلى اختبار الأعصاب الروسية.

 

ADVERTISING

 

وفي تحدٍ واضح للروس، أعلنت بريطانيا عن توجّه سفن حربية بريطانية إلى البحر الأسود في شهر أيار/مايو المقبل، وذلك بعدما أعلنت روسيا تقييد ملاحة السفن العسكرية والرسمية الأجنبية في أجزاء من البحر الأسود حتى شهر تشرين الأول/أكتوبر 2021، الأمر الّذي أثار إدانات سريعة من قبل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.

 

هكذا، نجد أنَّ المنطقة تدفع دفعاً نحو التصعيد العسكري، ويجد الروس أنفسهم يسيرون نحو الانخراط في حرب من المرجح أنهم لا يريدونها، فما الأسباب التي تدفع إدارة بايدن إلى هذا التصعيد؟

 

منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، ازدادت العدائية الأميركية تجاه روسيا، وتجلّت بوصف بايدن لبوتين بأنّه "قاتل"، ورفضه العرض الروسي لإجراء مباحثات معه، ثم قبوله بعد فرض عقوبات على الروس. ويبدو أنَّ العدائية تجاه روسيا، والتي تطبع تصرفاته وقراراته، تنطلق من عوامل شخصية وأخرى استراتيجية، نوجزها بما يلي.

 

1- العوامل الشخصية، وتتجلّى في:

 

- تأثر بايدن بحقبة الحرب الباردة التي عاشها كسياسي أميركي.

 

- الحنق الَّذي يشعر به إثر بروز تقارير استخبارية تشير إلى تلاعب روسي بالانتخابات الأميركية (2016 و2020) لمصلحة خصمه دونالد ترامب.

 

- حاجته إلى الظهور بمظهر "القوي والعنيف"، رداً على الحملات الداخلية التي تصفه بالضعف الشديد.

 

2- أما من الناحية الاستراتيجيّة، فيمكن الإشارة إلى أمرين:

 

الأول: إبقاء روسيا تحت ضغط "توسيع حلف الناتو"، إذ يدرك الجميع حساسية موسكو من موضوع توسّع حلف الناتو وانضمام الدول المحيطة بها إليه، لما في ذلك من خطورة استراتيجية على أمنها القومي. وقد اختبر الأوروبيون والأميركيون خطورة استفزاز الروس في هذا الأمر، وذلك منذ الإعلان عن نيّة ضمّ كلّ من أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف في العام 2008، وانجرار جورجيا إلى تحدّي الروس، ما كبّدها تدخلاً عسكرياً روسياً وخسارة إقليمين (أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية).

 

وقد أنعش بايدن الأحلام الأوكرانية بالانضمام إلى الناتو للضغط على موسكو، على الرغم من أنَّ هناك عوائق جوهرية تمنع دخول أوكرانيا إليه، منها عدم السماح للدول التي تشهد نزاعات إقليمية مع جيرانها بالانضمام إليه، وهو ما يشجع الروس على النزاع مع تلك الدول، ما يعطّل قدرتها على الانضمام إلى الحلف.

 

 أضف إلى ذلك أنَّ قبول انضمام دولة إلى الحلف يحتاج إلى اتفاق بالإجماع داخله (المادة 10)، وهو غير متوفر، إذ يتخوّف أعضاء الناتو من أن انضمام أوكرانيا سيحتّم عليهم تطبيق معاهدة الدفاع المشترك (المادة 5)، ما سيجعلهم في مواجهة عسكرية مع موسكو.

 

الثاني والأهم: جرّ ألمانيا إلى إلغاء خطّ أنابيب "نورد ستريم 2"

 

يتعرّض الرئيس الأميركي جو بايدن لضغوط شديدة من قبل الكونغرس الأميركي لفرض عقوبات على خط الأنابيب بين روسيا وألمانيا "نورد ستريم 2" ومنع استكماله، لكنه يتريث في فرض تلك العقوبات، لما قد يكون لها من تأثير سيئ في علاقة الولايات المتحدة بألمانيا، وبالتالي الاتحاد الأوروبي. وقد أوضح الألمان لكلّ من ترامب وبايدن أنَّهم لن يتخلّوا عن المشروع الذي أوشك على الانتهاء، بعد أن استثمروا فيه ما يزيد على 16 مليار يورو.

 

حاول الأميركيون دفع ألمانيا إلى شراء الطاقة من الولايات المتحدة كبديل من الغاز الروسي، ولكن الكلفة كانت أكبر. لذا، يندفعون إلى محاولة عرقلة الأنبوب، لما يحققه من فائدة اقتصادية هائلة للروس، إضافةً إلى المزايا الاستراتيجية باحتكار إمداد الطاقة لأوروبا، وخصوصاً في ظل تحوّل الاتحاد الأوروبي إلى الغاز كلياً بحلول العام 2030 لدواعٍ بيئية.

 

هكذا، يبدو أن ثمة مجموعة عوامل تدفع الرئيس الأميركي إلى استفزاز الروس للخروج عن ضبط النفس والتسبّب بنزاع عسكري محدود مع أوكرانيا (لن ينخرط الناتو في الدفاع عنها في حال اندلاع النزاع). يعتقد البعض في الإدارة الأميركيّة وفي مراكز التفكير الأميركية أنّ أيّ نزاع عسكريّ أو هجوم روسيّ على أوكرانيا، يمكن أن يدفع الألمان إلى حرج شديد يضطرون معه إلى تجميد العمل بأنبوب "نورد ستريم 2".

 

وفي أفضل الأحوال، تأمل إدارة بايدن أن يؤدي التصعيد إلى الضّغط على الروس لتمديد عقود إمداد الطاقة مع أوكرانيا (تنتهي في العام 2024) لمدة 10 سنوات إضافية، بما يتيح لهم الوقت الكافي لتأمين مصادر طاقة بديلة إلى أوروبا خلال هذه الفترة. 

2021/04/14

هل تكون خطة بايدن فرصة أميركا الأخيرة؟

افتتح الرئيس الأميركي جو بايدن معركة داخلية طويلة الأمد، ستأخذ الحيز الأكبر من النقاش الداخلي في الولايات المتحدة الأميركية لأسابيع قادمة، هي معركة إقرار حزمة تمويل تحديث البنى التحتية في الولايات المتحدة.

 

بحسب قوله، لم تقم الولايات المتحدة، ولعقود عدّة، بتحديث جدّي وحقيقي للبنى التحتية. لذا، يطلب بايدن من الكونغرس الأميركي إقرار حزمة تمويل مقدارها 2.25 تريليون دولار أميركي، على أن يتم التمويل عبر زيادة فرض الضرائب على الشركات الكبرى، وهو ما يرفضه الجمهوريون بشدة.

 

يؤكّد البيت الأبيض أنَّ هذه الخطة ستقدم تصوّراً لبناء اقتصاد جديد، وستخلق ملايين الوظائف للأميركيين، وتعيد بناء البنى التحتية، والأهم أنها ستجعل أميركا "في وضع يسمح لها بمنافسة الصين"، كما يذكر موقع البيت الأبيض في شبكة الإنترنت.

 

ADVERTISING

 

بالفعل، إن التقدم الهائل الاقتصادي والاجتماعي والتقني الخارجي والداخلي الذي أحرزته الصين منذ دخولها إلى منظمة التجارة العالمية في العام 2001 ولغاية اليوم، دفع الأميركيين إلى القلق من تنامي الصعود الصيني، فالتقدم الذي حقَّقته الصين على شتى المستويات بات أمراً غير مسبوق، وقد أتى أحياناً على حساب الولايات المتحدة وعمالها واقتصادها الداخلي. وللمقارنة بين سرعة التطور بين البلدين، نذكر بعض المؤشرات على سبيل المثال لا الحصر:

 

 

 

-  البنى التحتية

في تبرير الحاجة الماسّة للحزمة المطروحة، يقول الأميركيون إنَّ الاقتصاد الأميركي البالغ قيمته 20 تريليون دولار يعتمد على شبكة قديمة جداً من البنية التحتية بنيت منذ عقود، من الطرق والجسور، إلى السكك الحديدية للشحن والموانئ، إلى الشبكات الكهربائية وتوفير الإنترنت.

 

ويقول الاقتصاديون الأميركيون إن التأخير وتكاليف الصيانة المتزايدة يعوقان الأداء الاقتصادي. وهناك مخاوف تتعلق بالسلامة أيضاً، إذ إن العديد من الجسور معيب من الناحية الهيكلية، وقساطل مياه الشفة القديمة وأنظمة الصرف الصحي باتت تشكّل مخاطر على الصحة العامة.. ما يجعل الولايات المتحدة متخلفة عن البلدان المتقدمة الأخرى في الإنفاق على البنية التحتية، بحسب التقارير الأميركية.

 

 

 

-  البطالة

خلال العام 2020، وبمعزل عن الأرقام المتغيرة شهرياً بسبب جائحة كورونا التي أدخلت العالم كلّه في ضائقة اقتصادية، وأدخلت الملايين حول العالم في البطالة القسرية بسبب الإقفال العام، كانت نسبة البطالة في الولايات المتحدة 8% تقريباً، في تحسن ملحوظ عن العقد السابق، حين ضربت الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008 الاقتصاد الأميركي، ودفعت كثيرين إلى البطالة والفقر والتشرد.

 

أما في الصين، فقد بلغ متوسط البطالة في عموم البلاد ما يوازي 3.6% في العام 2019. وتختلف نسب البطالة فيها بين المناطق الحضرية والريفية. على سبيل المثال، بلغت البطالة في بكين 1,3% في العام 2019.

 

 

 

- محاربة الفقر

تشير الأرقام الرسمية في الولايات المتحدة (1990-2019) إلى أن معدل الفقر تراجع في الولايات المتحدة، ليرسو على معدل 10.5 (قبل جائحة كورونا). ويختلف معدل الفقر في الولايات المتحدة على نطاق واسع باختلاف المجموعات العرقية.

 

يعد الأميركيون من ذوي البشرة السمراء أكثر المجموعات العرقية التي تعيش تحت خط الفقر. وفي العام 2019، أشارت الإحصائيات الأميركية الرسمية إلى أن حوالى 19% من أصحاب البشرة السمراء كانوا تحت خط الفقر، بينما كان 7.3% من السكان البيض (غير اللاتينيين) يعيشون تحت خط الفقر. كما تتباين هذه الأرقام بين الولايات، ففي ولاية كاليفورنيا كان حوالى 4.66 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر في العام 2018، مقابل 465 ألف شخص في مينيسوتا.

 

أما الصين التي بدأت مسيرة الانفتاح وإصلاح الاقتصاد في العام 1978، فقد استطاعت انتشال أكثر من 800 مليون شخص من الفقر بحلول العام 2020، بحسب تقديرات البنك الدولي. وكان الرئيس الصيني شي جينبيغ قد أعلن في شباط/فبراير الماضي أنَّ الصين حقَّقت "انتصاراً كاملاً" في مجال مكافحة الفقر في المناطق الريفية خلال 8 سنوات فقط من عهده (ما يوازي 100 مليون إنسان)، وأن معدل الفقر في الصين اليوم هو صفر.

 

تثير هذه الإحصائيات والأرقام الصينية الكثير من الانتقادات في الولايات المتحدة، متحدّثة عن أنَّ الصين الآن تعد دولة ذات دخل متوسط عالٍ، وبالتالي إن المقياس أو معدّل الدخل الفردي اليومي الذي يعلن الصينيون فيه الانتصار على الفقر متدنٍ جداً بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني المتسارع، كما يعني أن هناك عدداً كبيراً من المواطنين الصينيين ما يزالون يعتبرون "فقراء" بمعايير البلدان المتوسطة الدخل.

 

 في المحصّلة، وعلى الرغم من أنَّ الاقتصاد الأميركي يعدّ الأقوى والأول عالمياً، فإن التأخر في التحديث ومعالجة الأزمات البنيوية التي يعانيها المجتمع الأميركي، كالفقر والبطالة والفجوة الكبيرة والهائلة بين مستوى معيشة السكان، وتكدس الثروة بيد فئة قليلة جداً، وتقاضي 1% من الأميركيين ما يوازي جميع ما يتقاضاه 90% من باقي السكان... تجعل جميعها ولاية بايدن الحالية الفرصة الأخيرة للأميركيين لمنع الصين من التفوق الاقتصادي على الولايات المتحدة في العقد القادم، فإما أن يقتنصوها فيحدوا من قدرة الصين على الصعود إلى المرتبة الأولى عالمياً، وإما يستمروا بالغرق في الحزبية والانقسام والتعطيل، فتكون فرصة ذهبية للصين للتفوق، ستستغلها حتماً، ولن تنتظر. 

2021/04/12

هجوم "اسرائيلي" على المفاعل النووي .. هل ترد إيران؟



بالرغم من الصمت الرسمي الاسرائيلي، وعدم التأكيد أو النفي، أعلنت العديد من وسائل الإعلام الاسرائيلية عن أن الهجوم الذي استهدف المفاعل الايراني النووي ( نطنز) هو من تدبير الموساد الاسرائيلي وتنفيذه، وتحدثت عن أن الهجوم الاسرائيلي على المنشأة تسبب في انفجار وإنقطاع الكهرباء داخل المنشأة ما سيمنع الإيرانيين من تخصيب اليورانيوم لعدة أشهر.

وأكدت ايران على لسان رئيس وكالة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي أن ما أصاب منشأة نطنز النووية هو "إرهاب نووي"، معتبراً إن هذا الهجوم "ضد مركز التخصيب في ناطنز يظهر فشل معارضي التقدم الصناعي والسياسي في البلاد في منع التطور الكبير للصناعة النووية، ومعارضي نجاح المفاوضات في رفع العقوبات الجائرة"، ولفت إلى أنه «لإحباط أهداف منفذي هذه الحركة الإرهابية، ستواصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية التوسع الجاد في التكنولوجيا النووية من جهة، والعمل على رفع العقوبات الجائرة من جهة أخرى".

واللافت أن الهجوم الاسرائيلي يأتي في وقت يقوم فيه وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بزيارة الى "اسرائيل" تستمر يومين، أكد خلالها الالتزام الأميركي بدعم إسرائيل وتحسين قدراتها، من غير أن يُعرف إن كان الهجوم الاسرائيلي على منشأة ناطنز هو بالتنسيق مع الأميركيين أم لا.

وبكل الأحوال، وبغض النظر عن التنسيق الأميركي مع الاسرائيليين قبل الضربة أو عدمه، إلا أن إدارة بايدن سوف تستفيد من هذا الهجوم على المفاعل النووي الايراني، كما يلي:

- تعاني إدارة بايدن من ضغوط داخلية في الداخل الأميركي من قبل صقور الديمقراطيين ومن الجمهوريين لعدم التسرع في إزالة العقوبات التي فرضها ترامب على إيران، قبل التفاوض على إتفاق جديد تحصل فيه الولايات المتحدة على تنازلات من الايرانيين، بينما تمارس جهات أخرى الضغط على بايدن وإدارته، معتبرين أنه هناك حاجة للإسراع في الجلوس الى الطاولة مع الايرانيين، وذلك بسبب الدخول الصيني على خط التفاوض مع إيران وقيامه بإنقاذ الاقتصاد الايراني عبر الاتفاقية الموقعة بينهما، ما يعطي إيران دفعاً لمزيد من التصلب، بالإضافة الى ضرورة الاسراع في العودة الى الاتفاق النووي لمنع إيران من الاستمرار في زيادة نسب تخصيب اليورانيوم ما يجعلها على شفير امتلاك تقنية تصنيع سلاح نووي خلال مدة زمنية قصيرة.

وأمام هذه الضغوط من الجهتين، ورغبة الإدارة بتأجيل الملفات الخارجية الحساسة، لحاجتها لإلتقاط الأنفاس في الداخل بسبب المشاكل الحزبية وحاجة البلاد الى الخروج من الجائحة وتعويم الاقتصاد، يعطي هذه الهجوم هامشاً للأميركيين للتريث في المفاوضات مع الايرانيين وعدم الاستعجال في رفع العقوبات، خصوصاً بعدما ادعى أحد المسؤولين في الاستخبارات الاسرائيلية (صحيفة نيويورك تايمز) بأن التفجير سيؤخر التخصيب الايراني لمدة تسعة أشهر.

أما بالنسبة للإيرانيين، وبالرغم من أن هناك حاجة ماسّة للرد بعدما قام الاسرائيليون بعدة عمليات عدوانية سابقة على المفاعلات النووية، وقيام الموساد باغتيال العالم النووي الايراني محسن فخري زادة، إلا ان تصريح المسؤول الايراني يعكس حقيقة التوازن الدقيق الذي تجد إيران نفسها ملزمة به، وهو أن تسير بين حدّين ضروريين، قد يفجّر أحدهما الآخر:

ضرورة الردّ على اسرائيل للحفاظ على توازن الردع في المنطقة وللقول أن هذه الاعتداءات لن تمر من دون كلفة، وبين حدّ الرد الانتقامي الذي يمكن أن يسبب تدحرجاً للأمور في المنطقة تتعقّد معها الجهود الدبلوماسية النووية لرفع العقوبات عن إيران والعودة الى الاتفاق النووي لعام 2015...

وبين هذين الحدّين، يُفترض أن يختار الايراني، تأجيل الردّ على اسرائيل، وذلك لأن الانجرار الى الردّ قد يكون أغلى كلفة من عدم الردّ، إذ أنه يحقق الهدف الاسرائيلي بتعطيل العودة الى الاتفاق النووي، وهو ما لا تريده إيران مطلقاً. 

2021/04/09

"عودة أميركا": استراتيجية كبرى تفتقد للحلفاء

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أمام مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/ فبراير الماضي أن "أميركا عادت" ، وكرر العبارة مرات ثلاث، للتأكيد لحلفائه الاوروبيي بأن الولايات المتحدة الأميركية ستعود الى حلفائها، وستعود لقيادة العالم الغربي، تمهيداً لإعادة الهيمنة الأميركية على العالم.

لا شكّ أن بايدن وخلال فترة وجيزة استطاع أن يعيد سياسة الولايات المتحدة الخارجية الى سياقها التقليدي قبل دخول ترامب الى البيت الأبيض، فعاد الى الانضمام الى اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وعطل قرار ترامب لسحب القوات الأميركية من ألمانيا، وقام بتمديد معاهدة ستارت الجديدة للأسلحة النووية مع روسيا، وعاد الى طاولة المفاوضات للعودة الى الاتفاق النووي مع إيران، وأعلن عن نتائج التحقيقات في قضية خاشقجي، وأعلن عزمه إنهاء الانخراط العسكري في اليمن... وكما سابق عهدها أيضاً، عاد بايدن الى سياسة واشنطن التقليدية باتخاذ إعلانات حقوق الإنسان وحماية المعارضين ذريعة لتدخلات في شؤون الدول الأخرى أو لفرض عقوبات على معارضي السياسة الأميركية.

وبالرغم من التصحيحات التي تقوم بها إدارة بايدن لما يسميه الأميركيون "التخريب" الذي قام به ترامب وإدارته في الخارج، إلا أن الأوروبيين يبدون عاجزين عن السير مجدداً بالطاعة وراء الولايات المتحدة الأميركية، التي تبيّن أنها ابتعدت عن النمط المؤسساتي في صناعة السياسة الخارجية، وباتت محكومة بإرادة الرئيس الذي يتغيّر كل أربع سنوات. ويبدو أن القادة الأوروبيين الذين لم يبدوا حماسة لخطاب بايدن خلال مؤتمر ميونيخ، يتناغمون فعلياً مع توجه أوروبي عام، بدأ بالظهور من خلال استطلاعات الرأي، ونعرض أبرزها في ما يلي:

- أميركا محطمة سياسياً، لا يمكن الاعتماد عليها

في استطلاع حديث للرأي أجراه "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، ظهر أن معظم الأوروبيين ينظرون للولايات المتحدة الأميركية على أنها "محطمة سياسيًا" ومن المرجح أن "تتفوق عليها الصين قريبًا كقوة عالمية". كما دعت غالبية المستطلعين الدول الأوروبية الى "مزيد من الاعتماد على الذات". وكانت نسبة 60 بالمئة على الأقل من المشاركين في كل بلد شملهم الاستطلاع - ومتوسط 67 بالمئة في جميع تلك البلدان- أعلنت أن الأوروبيين "لا يستطيعون الاعتماد دائمًا على الولايات المتحدة للدفاع عنهم"، وبالتالي هم "بحاجة إلى الاستثمار في الدفاع الأوروبي". واللافت للنظر أن 74 بالمئة من البريطانيين الذين شملهم الاستطلاع يؤمنون بهذا الرأي وهي أعلى نسبة بين الدول الأوروبية التي تمّ استطلاع آراء مواطنيها.

- الحياد في حرب الولايات المتحدة ضد الصين

ومن ضمن استراتيجية "عودة أميركا"،  دعا بايدن الدول الأوروبية للإنضمام الى الولايات المتحدة لتشكيل جبهة موحدة ضد الصين وبالتالي احتوائها ومنع صعودها العالمي. وبعدما أعلنت المفوضية الأوروبية، في كانون الأول / ديسمبر 2020 أن الاتفاقية الشاملة للاستثمار (وهي صفقة استثمارية مقترحة عام 2013 بين جمهورية الصين الشعبية والاتحاد الأوروبي) تمّ إبرامها من حيث المبدأ من قبل قادة مجلس الاتحاد الأوروبي، وباتت بانتظار تصديق البرلمان الأوروبي، حصلت ضغوط هائلة من قبل الأميركيين على حلفائهم الأوروبيين لعدم إقرار الاتفاقية في البرلمان الأوروبي، وهو ما رضخ له الأوروبيون، متذرعين  بأن هذا التأخير سببه سلوك الصين "غير المقبول" تجاه أعضاء البرلمان واللجنة السياسية والأمنية التابعة للمجلس الأوروبي ومراكز الأبحاث الأوروبية.

ولكن البرلمان الأوروبي لا يعكس فعلياً نظرة المواطنين الأوروبيين وموقفهم من التحالفات الجيوسياسية بين ضفتي الأطلسي، فلقد أظهر الاستطلاع نفسه الذي أجراه "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، أنه، في أوروبا اليوم، "لا يوجد حلم بالعودة إلى عالم ثنائي القطب يواجه فيه الغرب الصين وحلفائها كما فعل في السابق ضد الاتحاد السوفيتي".

وتتقاطع هذه النتائج مع استطلاع أوروبي شامل قام به المركز نفسه في وقت سابق عام 2019، حيث ظهر أن الغالبية العظمى من المشاركين (في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع) يفضلون البقاء على الحياد في أي نزاع قد يحصل بين الولايات المتحدة والصين، أو بين الولايات المتحدة وروسيا. ويسود هذا الاتجاه حتى في الدنمارك وبولندا، الدولتان اللتان لديهما أعلى نسب من الأشخاص الذين يرغبون في الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة - 35 في المائة و 30 في المائة على التوالي.

في الخلاصة، يبدو أن حلم عودة أميركا للهيمنة على العالم الذي وضعه بايدن من ضمن أولوياته، والذي يفترض بالدرجة الأولى، تكريس الزعامة في العالم الغربي، دونه عقبات عدّة، ابرزها استعادة الثقة بين ضفتي الأطلسي بعدما دمرها ترامب بسياساته الوطنية الضيقة، وتصنيفه الاتحاد الاوروبي كخصم. كما تفترض جهد كبير من قبل الاميركيين مع الحلفاء، للتأكيد على استمرارية السياسة الخارجية المتبعة اليوم بعد عام 2024، وهو أمر يبدو مستحيلاً، إذ من الصعب التنبؤ بعدم عودة ترامب أو من يشبهه الى البيت الابيض.