رحب
العديد من الأميركييين والأوروبيين ودعاة السلام في أميركا والعالم بإعلان الاتحاد
الأوروبي عن اجتماعات في فيينا الأسبوع المقبل، بين جميع الأطراف الموقعة على الاتفاق
النووي بما فيها الولايات المتحدة للتباحث في كيفية العودة للإتفاق، لكن طهران كررت
موقفها برفض التفاوض المباشر مع واشنطن.
وبالإعلان
الأميركي عن المشاركة في تلك الاجتماعات، تكون الإدارة الأميركية قد تجاوزت استراتيجية
"التأرجح" التي طبعت مواقفها حيال العودة الى الاتفاق النووي التي وقعته
إدارة الرئيس باراك أوباما، وخرج منه دونالد ترامب بشكل آحادي، معيداً فرض العقوبات
على طهران ومتسبباً بكارثة اقتصادية وإنسانية للشعب الايراني.
ويعكس
التخبط والتأرجح الذي شهدته مسألة العودة الى الاتفاق النووي، الوضع العام الحرج الذي
تعيشه إدارة بايدن في الداخل، والذي ينعكس على مجمل الملفات الداخلية والخارجية ومنها
الملف الايراني، وتبدو أبرز ملامح هذا الحرج، كما يلي:
1- رئيس تقليدي بأجندة تقدمية
لا
شكّ أن الحزب الديمقراطي قد تعلم درساً قاسياً لا يُنسى عام 2016، حين أصرّت مؤسسات
الحزب على ترشيح هيلاري كلينتون والإطاحة بالمرشح اليساري بيرني ساندرز، ما جعل ترامب
يكتسح الانتخابات. وفي العام 2020، أدرك الديمقراطيون أن ليس بإمكانهم الفوز بدون الرافعة
"التقدمية" في الحزب والتي تشكّل عصب الحركات الشعبية والسود والفقراء والمهمشين،
ما جعل الطبقة السياسية التقليدية التي يمثلها بايدن، تقيم تحالفاً انتخابياً مع السيناتور بيرني ساندرز، عبر "أجندة"
للحكم، وخطة عمل تعهد بايدن بتطبيقها في حال الوصول الى الرئاسة. وتتضمن تلك الاجندة
الكثير مما يعد التقدميون جمهورهم به، كحماية البيئة ورفع الحد الأدنى للأجور والتعليم
والصحة للجميع وسواها.
2- إدارة متباينة إيديولوجياً
بعد
فوز بايدن، وفي خضّم تشكيل فريق الإدارة الجديد، حصلت معارك سياسية هائلة بين الجناح
التقدمي والطبقة التقليدية للحزب الديمقراطي لفرض مرشحيهم لملء المراكز في الإدارة
الجديدة. وخاض التقدميون معارك طاحنة على المناصب، انطلاقاً من شعار السناتور إليزابيث
وارن بأن "الموظفين هم السياسة" معتبرة أنه يجب على التقدميين فرض الموظفين
المناسبين في السلطة التنفيذية لأنهم يمتلكون سلطة خفض أسعار الأدوية، وتعديل قروض
الطلاب أو إلغائها، وتحويل مليارات الدولارات إلى الطاقة الخضراء البديلة وغيرها.
حاول
بايدن إرضاء الجميع، فتمّ تشكيل إدارته من تقدميين معتدلين، ووسطيين، وجماعات باراك
اوباما، ومرشحي المؤسسة الديمقراطية التقليدية الأثرياء، وجماعات اللوبيات من الحزب
الديمقراطي. لكن الليبراليين التقدميين ينتقدون توظيفات بايدن باعتبارها آمنة للغاية،
ومعتدلة للغاية، ومؤسساتية للغاية، وأعمارها كبيرة جدًا.
لا
شكّ أن الإدارة الأميركية اليوم تتميّز بالتنوع الشامل، ولكن هذا التنوع يشكّل سيفًا
ذو حدّين، فمن جهة هي تعكس التنوع في المجتمع الأميركي، ولكنها من جهة أخرى تتسم بالتناقض
الايديولوجي لأعضائها. وهو ما ينعكس على العديد من الملفات الهامّة، مثلاً معركة رفع
الحدّ الأدنى للأجور الذي رفض بايدن إدراجه من ضمن حزمة المساعدات الشاملة، كما كان
يطالب التقدميون، ما جعله يسقط بالتصويت المنفرد عليه كقانون.
3- سياسة خارجية: خطوة للأمام خطوة للوراء
لا
شكّ أن بايدن أرضى الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي من خلال سلسلة من الخطوات التي
قام بها خارجيًا، كالعودة الى اتفاقية باريس للمناخ، الموقف من الحرب في اليمن، العودة
الى منظمة الصحة العالمية، رفع العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية الخ.
وبعد
أن أظهرت استطلاعات الرأي أن بايدن يحظى بنسبة تأييد عالية جداً في حزبه، وحيث ظهر
أن 86% من الديمقراطيين راضون عن آدائه في الأشهر الأولى، يحاول بايدن المحافظة على
هذه النسب، فيحاول إرضاء الجميع. مثلاً، في السياسة الخارجية، وبسبب القلق من التعرض
للهجوم من قبل الصقور ومن المحافظين في الحزب الديمقراطي، بشأن عدم الحزم الكافي بشأن
الصين أو روسيا أو إيران، يقوم بالشيء ونقيضه في العديد من القضايا الخارجية، فهو يريد
العودة للاتفاقيات النووية مع روسيا ومستعد للتعاون معها ولكنه يصف بوتين بالقاتل،
ويريد العودة للإتفاق النووي مع إيران ولكنه يشترط أن يتنازل الايرانيون في البداية.
دعا
الكثير من الصقور في الحزب الديمقراطي ومن مؤيدي اسرائيل في الإدارة، إدارة بايدن الى
حرب باردة مع إيران وممارسة سياسة احتواء تسقط النظام الايراني، تماماً كما حصل مع
الاتحاد السوفياتي خلال الثمانينات، لكن الجناح الأكثر اعتدالاً أعرب عن خشيته من أن
يقوّض هذا الموقف الأميركي القاعدة المعتدلة والاصلاحيين داخل إيران وبالتالي تندفع
إيران الى سياسات أكثر تشدداً ستضر بالولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
وفي
ظل التردد الأميركي وحاجة بايدن للإنكفاء الى الداخل لمعالجة القضايا الملحة، ومنها
الخروج من جائحة كورونا، والعنصرية المتجذرة والتي تنذر بقلق أمني واجتماعي، وضرورة
تحديث البنية التحتية الأميركية التي تحتاجها البلاد في حال أرادت النهوض بالاقتصاد
وإعادة التصنيع الى الولايات المتحدة... استغلت الصين هذا الانكفاء المرحلي، لتقوم
بسياسة هجومية دبلوماسياً واستثمارياً في المناطق الحيوية في العالم، وتوّقع اتفاقاً
تاريخياً مع إيران.
وفي
خضم هذا الهجوم الصيني للاستثمار في الشرق الأوسط، وعدم التراجع الايراني، وبعد التأكد
من أن سياسة "الضغوط القصوى" التي مارسها ترامب في الشرق الأوسط قد أتت بنتائج
عكسية وكانت مضرّة للنفوذ الأميركي ولأمن الجنود الأميركيين في المنطقة، ليس أمام بايدن
وإدارته سوى القيام بعملية احتساب المخاطر والأرباح من ضمن المعادلة التالية:
أيهما أفضل لأولوياتنا (التعافي الداخلي): بعض التوتر السياسي الداخلي جرّاء العودة الى الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران، أو خطر الانجراف الى صراع في المنطقة، قد تستغله الصين وروسيا لتوسيع دائرة نفوذهما في الشرق الأوسط؟... بكل الأحوال، إن تخفيف التوتر العالمي الذي يسمح بالتفرغ للداخل، ولجم الصين عالمياً يبدو دائماً الأهم والأكثر ربحاً للأميركيين اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق