2024/06/22

التهديد الإسرائيلي للبنان وعقيدة "ادّعاء الجنون"

في خضم التهديدات الإسرائيلية المتزايدة للبنان، يخرج محللون وسياسيون يحذّرون من مغبة إثارة "جنون الإسرائيلي"، ويبدي كثيرون قلقهم مما يسمونه عدم قدرة إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على الاستمرار في ضبط "ردة الفعل الإسرائيلية" تجاه الهجمات المتزايدة لحزب الله، وفي ضبط "جنون نتنياهو".

 

وكان عدد من الإعلاميين والسياسيين في الغرب قام، في وقت سابق، بتبرير ردة الفعل الإسرائيلية الانتقامية، والتي وصلت إلى حد ارتكاب الإبادة في غزة، وادّعى هؤلاء أن "الإسرائيليين أُصيبوا بالجنون مما حدث لهم من صدمة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر"، وأن هذا الجنون تجلّى في القصف التدميري غير المسبوق لقطاع غزة وللمدنيين والمستشفيات وسوى ذلك.

 

واقعياً، هذه التبريرات الغربية بشأن الإصابة الإسرائيلية بـ "الجنون" ليست جديدة، وتمّ استخدامها في معظم الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، لأنها في الواقع هي عقيدة إسرائيلية يتم استخدامها إسرائيلياً منذ خمسينيات القرن العشرين، لتبرير الفظائع التي يتم ارتكابها بحق الفلسطينيين والعرب، والتي لا تتسم بالتناسب مع الخطر الفعلي، الذي يشكلّه هؤلاء للأمن الإسرائيلي.

 

عقيدة "ادعاء الجنون"

على مدى عقود، طوّر الإسرائيليون، بصورة كبيرة، ما يسمى عقيدة "ادّعاء الجنون"، وهي سياسة ابتدعها الجنرال الإسرائيلي السابق ووزير الأمن، موشيه ديان، ذات يوم، حين قال إنه "يجب أن يُنظَر إلى "إسرائيل" على أنها كلب مسعور، وأنها خطيرة للغاية، بحيث لا يتجرأ أحد على إزعاجها".

 

وسرعان ما اعتنق الإسرائيليون سياسة الادعاء أو الإصابة بالجنون، بعد أن تبيّن أن التظاهر بـ "عدم العقلانية/ الجنون" يعطي الإسرائيلي فوائد عسكرية ونفسية، بحيث يخلق الرهبة في نفوس الأعداء.

 

ويقول نعوم تشومسكي، في مقال له بشأن هذه العقيدة، إن "هذا التهديد بـ "الجنون" (أو “nishtagea")"، أي قيام الإسرائيليين برد فعلٍ صادم عنيف، هو مبدأ متجذر بعمق في الفكر الصهيوني، ويعود إلى حكومات حزب العمال في الخمسينيات، جنباً إلى جنب مع "عقدة شمشون" ذات الصلة، والتي تفيد: "إذا حاول أحد تجاوزنا فسوف نهدم الهيكل على مَن فيه".

 

ويقول تشومسكي إن عقيدة "الإصابة بالجنون" تهدف فعلياً إلى إنزال أشدّ الألم بالمدنيين، لأنّ الإسرائيليين "يتبنّون ضمناً المنظور التقليدي للذين يحتكرون عملياً وسائل العنف: يمكن لقبضتنا المدرّعة أن تسحق أيّ معارضة، وإذا سقط نتيجة هجومنا المسعور كثير من الضحايا المدنيين فيكون ذلك أفضل، لأنه بذلك يتمّ تلقين من بقي درساً ملائماً".

 

وفي كتاب "غزة في أزمة"، الذي كتبه المفكران اليهوديان المعاديان للصهيونية، نعوم تشومسكي وإيلان بابي، عام 2010، يكتب بابي أن "إلحاق الألم بالمدنيين هو مبدأ سياسي قديم للإرهاب الحكومي الإسرائيلي، بل إنه المبدأ التوجيهي لهذا السلوك".

 

وفي تحليل الحربين الإسرائيليتين على قطاع غزة في عامي 2008 و2009، والقتل والدمار المتعمدَين والمنهجيَّين، واللذين قامت بهما "إسرائيل" خلالهما عبر استهدافها المدنيين عمداً، يقول بابي "لقد عدّت إسرائيل أن من المفيد أن تظهر كأنها "مجنونة"، الأمر الذي يتسبب بإرهاب غير متلائم إلى حد كبير". واستشهد بابي بالمحلل العسكري زئيف شيف، الذي قال "لقد كان الجيش الإسرائيلي يضرب السكان المدنيين دائماً، عمداً وبوعي".

 

حزب الله لا يخشى الجنون

في التطبيق العملي، يمكن النظر إلى الحروب الإسرائيلية مع لبنان وقطاع غزة لنجد أن الإسرائيلي لطالما طبّق تلك السياسة، وحتى قبل ذلك، أي خلال فترة العصابات اليهودية، بحيث استخدم قادة هذه العصابات المجازر والفظائع سياسةً منهجية لترهيب الفلسطينيين في القرى، والذين فرّوا من الجحيم القادم إليهم بعد حدوث فظائع يندى لها الجبين.

 

ويكتب المحلل العسكري الإسرائيلي، يوروم بيري، مشمئزاً من تلك السياسات، قائلاً إن مهمة الجيش الإسرائيلي، على ما يبدو، لم تكن الدفاع عن "إسرائيل"، بل "هدم حقوق الأبرياء لمجرد أنهم عربوشيم (لقب عنصري قاسٍ) يعيشون في الأراضي التي وعدنا الله بها".

 

وبقيامه بالتصعيد المتدرج في جبهة لبنان الجنوبية، واستمراره في إطلاق الصواريخ والمسيّرات على الرغم من كل التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، يرسل حزب الله رسالة إلى الإسرائيليين، مفادها أن الصراخ والتهديدات لا تخيف اللبنانيين، ولا يتعاملون معها بخوف، وإن حدث وأُصيب الإسرائيليون بالجنون أو ادّعوا بذلك، فإن لبنان مستعد لحفلة الجنون الإسرائيلية، وأعدّ العدّة الملائمة لمواجهة هذا الجنون، وإن "الكلب المسعور"، الذي يستخدمه الإسرائيلي للتخويف، لم يعد يُخيف أحداً. 

2024/06/18

ما هي العروبة – أفكار للنقاش

  



1-  تحديد المفهوم

لا يمكن الحديث عن العروبة بدون أن نحدد هذا المصطلح الذي حُمّل من المعاني والايديولوجيات ما يفوق طاقته بكثير.

بادئ ذي بدئ، من الجوهري القول أنه في حال كان المقصود بـ "العروبة"، الحالة الإنسانية التي تتمظهر في كل خصائص الإنسان الذي يعيش في مجال جغرافي معيّن، فلا مشكلة مع العروبة تلك. لكن من الطبيعي أنه عندما تدخل الأيديولوجيا في العروبة، ستكون المسألة موضوع النقاش هي الأيديولوجيا التي تحملها هذه العروبة لتقدمها إلى الواقع العربي من دون أن يكون لها ارتباط عضوي بها.

"أدلج" القوميون العرب مفهوم العروبة حتى بات كل من يقول انه عربي يوصف بأنه "قومي"، وقد وصل الحال بأن كل منتمٍ أو مقتنع بفكر سياسي "غير قومي"، عليه أن يتنكر للعروبة، كدليل على عدم انتمائه لتلك الايديولوجيا. وقد تفاقم الحال بعدما تحولت تلك الايديولوجيا الى مقولات تبريرية لأنظمة ديكتاتورية، لا يهمها من "شعار العروبة والوحدة" الا بقائها في السلطة.

تاريخيًا، بدأت المشكلة مع العروبة عندما حملت الكلمة الكثير من المفردات وترادفت مع الكثير من المفاهيم، ففي اربعينيات القرن الماضي حمل أصحاب الطروحات العروبية شيئًا من العنصرية في خطابهم، فقد كان هناك من يقول "العرب فوق الجميع".

وفي فترات أخرى، صارت العروبة مرادفًا لمشاريع الوحدة "القهرية" التي لم تنبثق من الشعوب والتي أتت لتحاول إلغاء الدول التي نشأت، فتحت ستار "الوحدة العرببة" انبثقت مشاريع هيمنة وابيحت تدخلات في شؤون الدول العربية الأضعف.

ثم حملت العروبة طابعًا اسلاميًا وارتبطت الى حد بعيد العروبة بالاسلام وصارا مصطلحًا واحدًا لاغيًا لكل ما سبقه، ولاغيًا لكل التنوع الموجود في هذه العروبة، بالرغم من أن العروبة انطلقت ليكون خيارها الأساسي العلمانية، باعتبار أنها فصلت الدين عن الدولة، وأنه لا علاقة بين الدين والدولة.

برأينا، إن اضافة شيء اخر أو أي مصطلح آخر يتم لصقه بالعروبة يفقدها معناها كحالة إنسانية. فالعروبة هي الإطار، والمسيحية والإسلام وكل التنوع الحضاري الموجود في هذا المشرق هو الصورة داخل هذا الإطار. وكما ان الإطار والصورة لا يمكن أن يتنكرا بعضهما لبعض، لا يمكن للعروبة أن تختصر بمكون واحد من مكوناتها والغاء العناصر الاخرى، لانها حينئذ تفقد جوهر وجودها وقيمتها. لكن يكون من واجب هذا الإطار "العروبة" أن لا يحصر الصورة في داخله، بل يسمح لها بأن تتآخى مع أطر أخرى قد لا تحمل خصوصية العروبة.

العروبة بهذا المعنى تمثل حركة حضارية، إنسانية، منفتحة على الثقافات والحضارات، بل هي النافذة التي يطل من خلالها الانسان العربي على العالم الأشمل وعلى الخصوصيات والمكونات الحضارية غير العربية المتجاورة معه في الحيز الجغرافي نفسه. وهكذا لا تقوم العروبة بحبس الإنسان العربي داخلها، بل تنفتح على الإنسانية كلها، لتقول للإنسان الموجود على هذه الارض إنها المنطلق الذي يفتح له الأفق لكل المواقع الأخرى.

إذًا، العروبة بهذا المفهوم هي العروبة الحضارية المنفتحة، انها انتماء حضاري ثقافي تاريخي وليست انتماء عرقيًا صرفًا على الاطلاق بالرغم من أهمية القومية المرتكزة في الاصل على رابطة الدم، والمؤكدة بتاريخ وجغرافيا واحدة.

 

2-  عناصرها

وهكذا، وبعد أن قمنا بتحديد العروبة التي نؤمن بها بأنها "العروبة الحضارية المنفتحة على الثقافات كافة"، نأتي لنحدد مقومات هذه العروبة وشروطها. فالعروبة التي نراها تجسدنا، يجب أن تؤمّن وأن تحافظ على ما يلي:

أولا وهو الاهم: الحرية

لا يمكن للعروبة أن تستمر وأن تبقى على قيد الحياة الا اذا ارتبطت اتباطًا عضويًا بالحرية واحترام حقوق الانسان الاساسية، وأهمها الحق في الحياة وحق الاختلاف، بالاضافة الى حرية الصحافة، حرية التعبير، حرية المعتقد الديني... بدون هذه الحريات والحقوق الاساسية لا يمكن لأي عروبة أو أي إطار آخر أن يستمر، فعندما تصبح العروبة هي الغطاء للديكتاتورية والتخلف وقمع الحريات والتخاذل فانها تغدو سجنًا كبيرًا يهرب منه ابناؤه، ويبحثون عن اي إطار آخر قد يكون أوسع أو أضيق من إطار العروبة، كالاطر الاثنية او الدينية أو القبلية أو الجغرافية...المهم إطار يحفظ لهم الحد الادنى من الكرامة الانسانية ومعايير الانتماء والحماية.

ثانيًا: التنوع الديني

عظمة العروبة هي في كونها ملتقى ومزيج من الحضارات وتفاعلها في بقعة جغرافية صغيرة نسبيًا، وانها تنوجد في حيز جغرافي تفاعل فيه كل من المسيحية والاسلام منذ مئات السنين.

 ان التفاعل الحضاري والتجاور الثقافي خلق دينامية ثقافية جديدة لا تشبه غيرها ولا يمكن فكاكها ، لذا على، العروبة أن تحافظ على خاصيّتها، بحفظ التنوع ضمن الوحدة، إذ عندما تنفسخ المسيحية عن الإسلام في العالم العربي، تزول القيمة الحضارية الاسمى وينتفي معنى العروبة.

ثالثًا: التعددية الحضارية والاثنية واللغوية

بالإضافة إلى التراث الحضاري الديني المتراكم، العروبة تحمل تحت مظلتها وضمن اطارها الجغرافي المشترك مزيج حضاري رائع، وفسيفساء من التنوع الاثني واللغوي.

تتنوع الشعوب التي تنتمي إلى حيز العروبة الخاص دينيًا ولغويًا وثقافة وقومية، ولكنها- بشكل عام- تشعر بوحدة المصير وتتعرض لتحديات ومخاطر واحدة، لذا إن مصلحتها المشتركة تفرض عليها التوحد في العمل العام المشترك دون أن يؤدي ذلك الى سيطرة أو إلغاء أو تهميش الفئات غير العربية أو غلبة الجزء على الاجزاء الاخرى على اساس ديني أو تاريخي أو كمّي او جغرافي. هذا يفرض على العروبة الاعتراف بالخصوصيات الثقافية في حال توافرها، وتأمين المساواة بين عربي القومية وغير العربي، وحفظ حقه في الاختلاف وفي الوجود وفي الابداع والتطور.

ليس على العروبة المحافظة على هذا التنوع فحسب، بل جعله مصدر غنى واستفادة لا طمسه تحت ستار "الوحدة العربية"، ومن واجبها تشكيل "نافذة رحبة" لكل مكون حضاري أو اثني للاطلالة على العالم.

 

رابعًا: رفض الاستتباع

بالرغم من كل ما شهده العرب خلال تاريخهم، وبالرغم من النهضة الثقافية والفكرية التي عاشوها عندما كانت اوروبا تغرق في عصور الظلام، إلا إن العرب في ايامنا الراهنة تحولوا الى مستهلكين للثقافات الغربية، يتناولون قشورها ويغرقون في التخلف والامية.

على العروبة الحضارية المنفتحة أن تتحول حافزًا لشعوبها الى الابداع الفكري والثقافي، والى رفض كل أشكال الاستتباع السياسي والاقتصادي والثقافي واللغوي الخ.

 

3-  دور لبنان فيها

بالنسبة للبنان، نؤمن بأن للبنان دورًا رائدًا وأساسيًا في تكريس هذه العروبة الحضارية المنفتحة وفي تطورها وقيامها. أما ما الذي يجعل لبنان الاكثر أهلية لهذا الدور، فيعود الى ان لبنان يتمتع بانتماء عربي خصوصي حضاري، ولقد تميزت العروبة اللبنانية بالانفتاح على معظم الحضارات الشرقية والغربية ذات العقائد الدينية والتقاليد المتنوعة، فتفاعلت معها تفاعلاً إنسانيًا ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا واسعًا.

لقد تمسّك لبنان تمسكاً رسوليًا عميقًا بلسانه العربي، ودافع دفاع المؤمن الواثق عن اللغة العربية والتراث العربي، ولا حاجة في هذا المجال الى إبراز إنجازاته الظاهرة أو تقويم رسالته القائمة، التي قهرت أساليب التتريك والسلجقة والمملوكية أكثر من سبعة قرون، وهي لا تزال الى اليوم تواجه أي افتراء يأتي من الشرق او من الغرب لتقويض معالم هذه اللغة وهذا التراث.

يضاف الى ذلك أن لبنان كان أول بلد في آسيا وأفريقيا حقق الاندماج المثالي بين مبدأ الشورى العربي الذي أوصى به الإسلام، والمبادئ الديمقراطية الإغريقية الجذور التي انتصرت في العالم المسيحي حتى في صلب الأنظمة الملكية، فكان صاحب نظام شوري وديموقراطي منذ عهد الإمارة المعنية والشهابية، ونظام برلماني لا يجاريه، بالرغم من علله وشوائبه العديدة، أي نظام سياسي آخر في المنطقة.

وفي إطار هذه الرسالة الوساطية الناجحة، كان لبنان في الاربعينيات من القرن الماضي، داعية فاعلاً وعضوًا رئيسيًا مؤسسًا لجامعة الدول العربية وصانعًا لميثاقها، وما زال يعمل بكل نشاط وقوّة لإنشاء البرلمان العربي المشترك، وتوحيد المؤسّسات الثقافية العربية والمصطلحات اللغوية العربية المشتركة، وإرساء التعاون العربي في مختلف المجالات والميادين.

وانطلاقاً من هذا الواقع الذي تدعمه الحقائق التاريخية، على لبنان تقوم مهمة الاضطلاع بدور تاريخي رائد في الاسهام بتحقيق وتفعيل هذه العروبة الحضارية المنفتحة، فهو الأقدر على ذلك نظرًا لاحتوائه شروطها الاساسية، واثبات قدرته على امتلاك مقومات القوة بالرغم من صغره وضعف امكانياته نسبة الى الدول العربية الأخرى.

2024/06/15

التحقيق الأممي بشأن الاغتصاب يبرئ حماس ويدين "إسرائيل"

قالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية و"إسرائيل"، في تقرير، إن السلطات الإسرائيلية مسؤولة عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت خلال العمليات العسكرية والهجمات في غزة منذ 7 أكتوبر 2023.

 

وفي تحقيق موثّق حول الجرائم الجنسية المرتكبة في الصراع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو أول تحقيق معمق للأمم المتحدة في الأحداث التي وقعت في 7 أكتوبر 2023 وما بعده، كشفت اللجنة الأممية زيف السردية الإسرائيلية حول قيام الفلسطينيين بعمليات "الاغتصاب الجماعي" التي ساهم في تسويقها الكثير من وسائل الإعلام الغربية، إضافةً إلى ممثلة الأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي براميلا باتن، التي كان لتقريرها أثر في تشويه صورة الفلسطينيين. وقد كان مستنداً "غير حاسم" استخدمه كثيرون في الغرب لتبرير الأعمال الوحشية التي تقوم بها "إسرائيل" ضد الفلسطينيين.

 

تكذيب مزاعم قيام حماس بـ"الاغتصاب الممنهج"

تقرير اللجنة الجديد الذي صدر في 12 حزيران/يونيو عام 2024 يكذّب المزاعم التي استند إليها الإعلام الإسرائيلي والغربي بناءً على التقرير الذي أعدته الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في حالات الصراع براميلا باتن، والتي أصدرت تقريراً يستند إلى زيارة أجرتها من 29 يناير/كانون الثاني إلى 14 فبراير/شباط إلى "إسرائيل" والضفة الغربية المحتلة "لجمع وتحليل مزاعم العنف الجنسي المرتبط بالصراع والتحقق منها"، وقالت فيه إنها تعتقد أن حماس ارتكبت عنفاً جنسياً ممنهجاً في السابع من أكتوبر، بالرغم من أنها عادت واعترفت بأن الأمر يحتاج إلى تحقيق معمّق لم تستطع القيام به بنفسها.

 

خلص التحقيق الحالي الموسّع والمعمّق والمستند إلى دلائل وإفادات الشهود إلى أنه على الرغم من حصول عنف ضد النساء في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا يوجد دليل على أي اغتصاب، ونفت مزاعم "الاغتصاب الجماعي" أو أن الأمر "تمّ بأمر من حماس"، كما ادّعى الإسرائيليون أو كما نقلت بعض الصحف الأجنبية عن براميلا باتن.

 

وقال التقرير في الفقرة 26: "وجدت اللجنة أن بعض الادعاءات المحددة (السابقة من الصحافيين والإسرائيليين حول قيام حماس بالاغتصاب) كانت كاذبة أو غير دقيقة أو متناقضة مع أدلة أو بيانات أخرى".

 

وفي القراءة المعمقة للتقرير، نجد أنه لا يوجد ذكر لـ"الاغتصاب" إلا مرة واحدة، إذ أكد التقرير أنه لا يوجد دليل على ذلك الادعاء بحق حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى. أما بالنسبة إلى "التعذيب الجنسي"، فقد نفى التقرير الادعاءات التي قالت إن الفصائل الفلسطينية قامت به، ولا يوجد أي ذكر في التقرير لأي من الأكاذيب الإسرائيلية الأخرى التي تحدثت عن "السكاكين/المسامير" التي زُعم أنها استخدمت في اعتداءات جنسية قام بها الفلسطينيون.

 

سياسة إسرائيلية ممنهجة بالاغتصاب والتعذيب الجنسي

في المقابل، وفي الفقرات (65- 66-67)، يتحدث التقرير عن أن اللجنة "وثّقت" استهدافات قامت بها "إسرائيل"، وأنها تتضمن "التعذيب الجنسي" و"العنف الجنسي للإناث والذكور" و"الإذلال والتحرش والتعري"... وقد "نُفذت الأفعال الجنسية بالقوة، بما في ذلك تحت التهديد والترهيب وأشكال أخرى من الإكراه، في ظروف قسرية بطبيعتها بسبب النزاع المسلح ووجود جنود إسرائيليين مسلحين".

 

وخلصت اللجنة، استناداً إلى الظروف والسياق الذي أحاط بهذه الأفعال، إلى أن العنف القائم على النوع الاجتماعي الموجه ضد النساء الفلسطينيات كان يهدف إلى إذلال الشعب الفلسطيني ككل.

 

وخلص التحقيق إلى أن النظام الإسرائيلي ينخرط بالفعل في حملة منهجية من العنف الجنسي والجنساني ضد الأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين، وأنها حملة متجذرة وجزء من إجراءات الجيش الإسرائيلي العملياتية المعتمدة (فقرة 103).

 

وفي الفقرة 104، يذهب التقرير أبعد من ذلك، إذ يعتبر أنه لا يمكن التخلص من العنف الإسرائيلي الجنسي الناتج من الاحتلال إلا بتفكيك الاحتلال نفسه.

 

ويقول النص: "يشكل العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي عنصراً رئيسياً في سوء معاملة الفلسطينيين بهدف إذلال المجتمع بأسره. ويرتبط هذا العنف ارتباطاً جوهرياً بالسياق الأوسع المتمثل في عدم المساواة والاحتلال المطول، والذي وفر الظروف والأساس المنطقي للجرائم القائمة على النوع الاجتماعي من أجل زيادة تفاقم تبعية الشعب المحتل". وتشير اللجنة إلى أنه "يجب معالجة هذه الجرائم من خلال معالجة السبب الجذري لها، من خلال تفكيك الهياكل القمعية التاريخية والنظام المؤسسي للتمييز ضد الفلسطينيين، والتي تشكل جوهر الاحتلال".

 

في المحصلة، وبالرغم من عدم وجود آليات محاسبة تنفيذية تضطلع بها الأمم المتحدة، فإنَّ هذا التقرير والتقارير السابقة التي دفعت الأمم المتحدة إلى وضع "إسرائيل" على اللائحة السوداء بصفتها دولة "تقتل الأطفال"، وكذلك التقارير التي وثّقت قيامها باستهداف متعمد لعمال الإغاثة الدوليين ومقار الأونروا عمداً.. كل هذه التقارير ستقوم برفد المحاكم الدولية التي تنظر في ارتكاب "إسرائيل" إبادة في غزة، وكذلك تجعل الدول أكثر جرأة في إدانتها ومنع تصدير السلاح إليها، وستزيد عزلتها الدولية. 

2024/06/10

انتخابات البرلمان الأوروبي: هل يؤثر فوز اليمين في حرب أوكرانيا؟

تشكّل انتخابات البرلمان الأوروبي هاجساً كبيراً لبيروقراطيي الاتحاد الأوروبي في بروكسل بسبب تصاعد اليمين في القارة وبين الناخبين الذين يقدّرون بـ350 مليون شخص في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، والذين يصوتون لممثليهم المباشرين في البرلمان الأوروبي، وحيث تطغى الهجرة والسياسات الخضراء والاقتصاد وحرب أوكرانيا على خطابات الكتل المختلفة.

 

نجح اليمين في أوروبا في "أمننة" القضايا المختلفة، وخصوصاً الهجرة والسياسات البيئية، إذ يتفق أحزاب اليمين الأوروبي على هذه القضايا، فيما يتباينون بشأن الموقف من الحرب في أوكرانيا، وخصوصاً الموقف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والعلاقة بين ضفتي الأطلسي ومع حلف الناتو.

 

ماذا تعني الأمننة؟

"الأمننة" كمصطلح متداول في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، يعني قيام فاعلين سياسيين في الدولة (سواء في السلطة أو خارجها) بتحويل مواضيع اجتماعية أو اقتصادية غير أمنية إلى مسائل أمنية. بمعنى آخر، هي كناية عن عملية تسييس القضايا وتضخيم خطرها وتصويرها كتهديد للأمن القومي.

 

هذه القضايا قد لا تمثّل بالضرورة  قضايا أساسية  لبقاء الدولة، بل ربما تمثّل قضايا متعلقة بمشكلة  تمسّ الأفراد أو قد تتطور لتتضمن قضايا تشكّل قلقًا للجماعات، كتضخيم خطر الهجرة على الهوية الاجتماعية أو الخصوصية الثقافية في أوروبا، أو ما يقول عنه الجمهور من أن الهجرة هدفها تغيير وجه أوروبا الحضاري خلال جيل أو جيلين من الآن، وذلك عبر فرض تغييرات ديموغرافية.

 

ولكي تكون "الأمننة"  أكثر نجاحًا، يجب أن تجد قبولاً بين الجماهير، وذلك من خلال استخدام تعابير وخطب شعبوية تخاطب الغرائز وتحوّل القضية إلى شعور بالتهديد الوجودي، بغض النظر إذا كان لبّ المشكلة يشكّل تهديدًا حقيقيًا.

 

اليمين وأمننة قضايا الهجرة والبيئة

باتت قضية اللجوء في أوروبا، والتي تمّ تحويلها إلى قضية أمنية، تهدد المجتمعات الأوروبية وتتسبب بارتفاع أسهم اليمين المتطرف بشدّة، وخصوصاً بعد ارتباط العامل الديني والثقافي بالمهاجرين، وتصوير هؤلاء اللاجئين بأنهم باتوا يشكّلون تهديدًا أمنيًا وجوديًا للمجتمعات الأوروبية.

 

أما بالنسبة إلى السياسات البيئية، فقد استطاع اليمين أن يحوّلها أيضاً إلى قضية تمسّ أمن المواطن الأوروبي وأمنه الغذائي. وتستفيد الأحزاب اليمينية من قلق المواطنين من تكلفة الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر وتوجسهم من السياسات المطبقة ضمن رؤية الاتحاد الأوروبي لخفض الانبعاثات بنسبة 90% بحلول 2040، إضافة إلى احتجاجات المزارعين الذين أغلقوا الطرقات بجراراتهم متهمين قوانين الاتحاد الأوروبي والبيروقراطية "غير المنتخبة والمنفصلة عن الواقع"  في الاتحاد بالتسبب بخسارة أعمالهم وتضررها.

 

اليمين والتباين حول أوكرانيا

بشكل عام، ينظر اليمين إلى الإنفاق الدفاعي الكبير باعتباره خسارة للاقتصاد، وأن من الأفضل الاهتمام بتعزيز الاقتصاد والرفاهية بدلاً من دفع مبالغ طائلة للإنفاق على تعزيز قدرات حلف الناتو، لكن حرب أوكرانيا أدخلت اليمين الأوروبي في انقسامات تجعله غير قادر على إدارة حركة موحدة، حتى لو كسب مقاعد إضافية في البرلمان الأوروبي، الأمر الذي سيمنحهم صوتاً أكبر في ذلك البرلمان، وفي الاجتماعات الرئيسية لوزراء الاتحاد الأوروبي، وفي قمم زعماء الاتحاد الأوروبي.

 

على سبيل المثال لا الحصر، تختلف مواقف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عن مواقف رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، وهي من أنصار العلاقات بين دول الأطلسي وتقوية حلف الناتو. وقد تعهدت بتقديم مساعدات عسكرية واقتصادية مستمرة لأوكرانيا، ومثلها الحزب اليميني السويدي الحاكم، فيما يرفض أوربان استمرار الدعم لأوكرانيا ويطالب بتسوية مع الروس، ومثله حزب التجمع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

 

في المحصلة، من الخطأ الاعتقاد أنّ اليمين الأوروبي هو كتلة واحدة متراصة، وأنه سيتخذ موقفاً موحداً من القضايا المطروحة أوروبياً، ولكن نجاحه وصعوده يؤشر إلى أن ناخبي الاتحاد الأوروبي لا يؤيدون سياسات حكوماتهم، وخصوصاً في فرنسا وألمانيا، حيث يعاني الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتس من تراجع شعبيتهما.

 

ويكمن التعقيد في سياسات اليمين في الاتحاد الأوروبي في لجوء أحزاب اليمين الوسط وأحزاب السلطة إلى تقليد خطابات اليمين المتطرف في ما خص الهجرة واللجوء، وذلك للحفاظ على ناخبيهم الذين باتوا ينحازون إلى خطابات التطرف والخوف وأمننة قضايا الهجرة واللجوء باعتبارها قضايا أمن قومي سوف تؤدي إلى تغيير هوية الاتحاد الأوروبي وأمنه المستقبلي. وبناء عليه، سيكون اليمين موحداً وفاعلاً في هذه القضايا، ولكنه سينقسم في التعامل مع قضايا الأمن الحقيقية كالإنفاق الدفاعي وحلف الناتو والموقف من الحرب الأوكرانية. 

2024/06/03

"إسرائيل": ماذا تبقى من "عقائد" الحروب مع لبنان؟

أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن عن "مقترح إسرائيلي" من 3 مراحل يشكل خارطة طريق لإنهاء الحرب في غزة وإطلاق سراح الرهائن. تتضمن المرحلة الأولى المقترحة هدنة لمدة 6 أسابيع وانسحاب "إسرائيل" من غزة والإفراج عن الرهائن وجثامين المتوفين منه، وتشهد المرحلة الثانية إطلاق سراح بقية الرهائن، بما في ذلك الجنود، ووقفاً دائماً لإطلاق النار، فيما تتعلق المرحلة الثالثة بما بعد الحرب وإعادة الإعمار.

 

وأكد بايدن أيضاً أنَّ الولايات المتحدة ستساعد في صياغة حل على الحدود اللبنانية يسمح بعودة سكان المناطق المهددة شمال "إسرائيل" إلى بيوتهم.

 

وفي المجال الأخير، أي الملف اللبناني الذي لم يتحدث عنه بايدن بالتفصيل في خطابه، كان مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط آموس هوكستين قد كشف في لقاء مع مركز كارنيغي في وقت سابق عن التصور الأميركي للحل في لبنان ولمرحلة ما بعد حرب غزة، وذلك على الشكل التالي:

 

"البداية ستكون بالسماح لسكان المجتمعات الشمالية في إسرائيل بالعودة إلى منازلهم، ولسكان المجتمعات الجنوبية في لبنان بالعودة إلى منازلهم"، وذلك يتطلب -بحسب هوكستين- "تعزيز القوات المسلحة اللبنانية، بما في ذلك التجنيد وتدريب القوات وتجهيزها". أما المرحلة الثانية، فستشمل حزمة اقتصادية للبنان. وقد وعد هوكستين بحلّ أزمة الكهرباء، على أن يكون اتفاق الحدود بين لبنان وإسرائيل في المرحلة الأخيرة".

 

ويلاحظ في الاقتراحات التي قدمها كل من بايدن ومستشاره هوكستين أن الأهداف الإسرائيلية المعلنة حول القضاء حماس، وعلى إبعاد حزب الله عن الحدود لعدة كيلومترات لإقامة منطقة عازلة داخل الحدود اللبنانية، سواء عبر اجتياح عسكري أو تفاهم دبلوماسي، كما توعد العديد من القادة الإسرائيليين، وحتى المبادرة الفرنسية التي تريد أن تعطي اليونيفيل القدرة على الدهم والتفتيش ونزع السلاح... كل هذه الأفكار والمبادرات والتهديدات الإسرائيلية باتت جزءاً من  الماضي، ولا يبدو أن المقترح الأميركي -بالتنسيق مع "إسرائيل"- يحمل في طياته أياً من تلك الأهداف.

 

وهكذا، وفي حال نجح المفاوضون في التوصل إلى اتفاق هدنة في غزة، وهدأت معها الحرب على الحدود الجنوبية اللبنانية، تكون أولى خسائر إسرائيل في حربها مع لبنان سقوط العديد من المفاهيم والعقائد الحربية التي استمر الإسرائيليون في مراكمتها منذ حرب تموز 2006، وهي على الشكل التالي:

 

فشل الاستعدادت الإسرائيلية للحرب

انطلاقاً من مبدأ شهير أطلقه كلاوسفيتز، وهو "على الجيش أن يكون دائماً في أحد وضعين: إما في حالة حرب وإما في حالة الاستعداد لها"، قام الإسرائيليون منذ ما بعد حرب تموز/يوليو 2006 بتحضير أنفسهم وجيشهم للمعركة القادمة.

 

وعلى هذا الأساس، عمل "الجيش" الإسرائيلي على استخلاص العِبر وترميم الفجوات العسكرية والسياسية التي أوصت بها لجنة فينوغراد لاستعادة ثقة الجمهور بالجيش وقدراته وتطوير القدرات لمواجهة متوقعة مع حزب الله.

 

 وإضافة إلى المناورات العسكرية السنوية التي استعدوا لها بعنوان "الغولاني مقابل الرضوان"، كان الإسرائيليون يراهنون على التفوق التكنولوجي وسلاح المسيرات المتطورة. وبالرغم من كل الاستعدادات، كشفت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله أن الأخير استعد بشكل جيد أيضاً لهذه المعركة، وراكم الخبرات والتقنيات التكنولوجية، فقام بتعطيل الرادارات وتعطيل فعالية القبة الحديدية، وأسقط الطائرات المسيّرة الاستعدادات، وضرب أهدافاً عسكرية في العمق وعلى الحدود مع لبنان.

 

عقيدة "المعركة بين الحروب"

منذ عام 2013، بدأ الإسرائيليون يقصفون أهدافاً لحزب الله وإيران في سوريا، معلنين أنهم يطبقون مبدأ "المعركة ما بين الحروب" لتحقيق أهداف ثلاثة هي: منع تعاظم قدرات العدو، والتشويش على أنشطة العدو بما يعطّل قدراته وخططه لشن عمليات ضد "إسرائيل"، والردع بحيث يستوعب الأعداء مقدار الأخطار في حال فكروا في شنّ هجوم على إسرائيل.

 

وكان تطبيق هذه الاستراتيجية يتراوح بين حدّين: الحد الأول هو تقويض قدرات العدو وضربه، والحدّ الثاني هو عدم تفجير الأوضاع بشكل يؤدي إلى حرب مفتوحة، ولا الوصول إلى مواجهة عسكرية مباشرة.

 

وفي هذا السياق، يقول غادي أيزنكوت وغابي سيبوني (جنرالان سابقان في الجيش الإسرائيلي) في مقال لهما نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عام 2019، أن أحد أهداف "الحملة بين الحروب" هو "تأمين الظروف المثلى لـ"الجيش الإسرائيلي" إذا نشبت الحرب في النهاية"، وزعما في المقال أن هذه العقيدة نجحت في تكريس "تفوّق إسرائيل العسكري في الشرق الأوسط، وعززت بشكل كبير قوة الردع الإسرائيلية ضد أعداء البلاد في المنطقة، وقللت من التهديدات المحدقة بالدولة ومواطنيها، وحسّنت قدرات "الجيش الإسرائيلي".

 

عملياً، يشير سير المعارك التي حصلت على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى أن الادعاءات الإسرائيلية بالتفوق وتأمين الظروف الأمثل للانتصار كانت "تقديراً خاطئاً"، وأن الردع الإسرائيلي لم يتحقق، بدليل أن حزب الله، وفي كثير من الأحيان، لم يكتفِ بالرد الدفاعي، بل قام بالهجوم على المواقع الإسرائيلية، وسُجّل لأول مرة على الحدود اللبنانية أنَّ طائرات هجومية أغارت على مواقع إسرائيلية داخل فلسطين المحتلة، في تطور لافت سوف يدرس الإسرائيليون تداعياته ورسائله لفترة طويلة قادمة بعد انتهاء هذه الحرب.

  

2024/05/28

القرار الملتبس لمحكمة العدل الدولية و"محرقة الخِيام" في رفح

قُتل وأُصيب عشرات الفلسطينيين في قصف إسرائيلي لخيام النازحين قرب مقر الاونروا في رفح، جنوبي قطاع غزة، في منطقة كانت "إسرائيل" أعلنت أنها منطقة آمنة، بينما ادعى "الجيش" الإسرائيلي، في بيان، "أنه تم تنفيذ الضربة ضد أهداف مشروعة بموجب القانون الدولي، من خلال استخدام ذخائر محددة، وعلى أساس معلومات استخبارية دقيقة، تشير إلى استخدام حماس للمنطقة".

 

وتتزامن تلك المجزرة المروّعة لخيم النازحين مع إعلان محكمة العدل الدولية قرارها، ومفاده أنه يتعين على "إسرائيل" أن توقف "على الفور" هجومها العسكري أو أي أعمال أخرى في رفح، مشيرة إلى "الخطر المباشر" على الشعب الفلسطيني.

 

كما أمرت المحكمة "إسرائيل" بفتح معبر رفح لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع، إلى جانب ضمان وصول أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية، على أن تقدّم "إسرائيل" إلى المحكمة، خلال شهر، تقريراً عن الخطوات التي ستتخذها.

 

وعلى الرغم من أن القرار، في الإجمال، يُعَدّ انتصاراً للقانون الدولي وآلياته القضائية، فإن الاطلاع على نص القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية، يشير الى التباس، يبدو مقصوداً، في النص، شبيه بالالتباس الذي ورد في نص القرار 242، وهو التباس كان مقصوداً حينها، بحيث اتفق عليه المندوبان البريطاني والأميركي في الأمم المتحدة، عندما صدر القرار بلغة ملتبسة استغلتها "إسرائيل" لتبرير عدم انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في حزيران/يونيو 1967، بحيث أُشير في الصيغة الإنكليزية إلى "انسحاب إسرائيل من أراضٍ"، بينما تضمّن النص الفرنسي عبارة "انسحاب إسرائيل من الأراضي".

 

وفي السياق نفسه، تضمّن قرار محكمة العدل الدولية الأخير نصاً ملتبساً، استغلته "إسرائيل" وداعموها ليدّعوا أن النص لا يمنعها من استمرار عملياتها في رفح، وذلك على الشكل التالي:

 

في الفقرة الـ 50 من نص القرار، تقول المحكمة حرفياً: "ترى المحكمة أنه، وفقاً لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، يجب على إسرائيل أن توقف فوراً هجومها العسكري، وأي عمل آخر في محافظة رفح، قد يفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً".

 

1- التفسير القانوني الداعم لـ"إسرائيل"

بحسب تفسير القانونيين الداعمين لـ"إسرائيل"، فإن النص لم يطلب إلى "إسرائيل" وقف جميع العمليات العسكرية في رفح، بل طلب فقط وقف العمليات العسكرية التي تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي يمكن أن تتسبب بظروف يمكن أن تؤدي الى تدمير "الجماعة الفلسطينية"، كلياً أو جزئياً.

 

ويتذرع هؤلاء بمقارنة هذا النص بالنص الذي صدر عن المحكمة نفسها في قضية "أوكرانيا ضد روسيا"، بحيث صدر ذلك النص أكثر وضوحاً وشمولاً، عبر قوله: "يجب على الاتحاد الروسي أن يعلق فوراً العمليات العسكرية، التي بدأها في 24 فبراير 2022 في أراضي أوكرانيا".

 

وفي تعليقهم على القرار، أيد بعض القضاة في المحكمة هذا التفسير، مؤكدين أن القرار يطلب إلى "إسرائيل" وقف العمليات التي تؤدي إلى إهلاك "الجماعة الفلسطينية"، كلياً أو جزئياً، وليس كل العمليات. وقال هؤلاء، في تعقيبهم على القرار، إن العبارة "قد يفرض على المجموعة الفلسطينية في غزة ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كلياً أو جزئياً"، هي عبارة تفسيرية للجزء الاول والجزء الثاني من النص، وليست مرتبطة حصراً بالجزء الثاني (أي عمل).

 

2- التفسير القانوني المضاد

هو التفسير الذي يفصل الفقرتين، إحداهما عن الأخرى، ويرى أن المحكمة أمرت "إسرائيل" بـ"وقف هجومها العسكري"، بالإضافة إلى "الامتناع عن أي عمل في رفح قد يؤدي الى إهلاك الجماعة الفلسطينية، كلياً أو جزئياً"، بمعنى أن المحكمة أرادت توسيع نطاق "أي عمل" (بحيث إنها لم تقم بتعريفه أو تحديده). ولعله يمكن أن يكون عملاً عسكرياً، أو الحصار، أو منع وصول المساعدات، أو التسبب بظروف إنسانية قد تؤدي إلى إهلاك الفلسطينيين... إلخ.

 

ويشير بعض القضاة الآخرين، في تفسيرهم للقرار، إلى أن المحكمة أمرت "إسرائيل" بـ"وقف عملياتها الهجومية في رفح"، وأن الإشارة إلى كلمة "الهجومية" هو لـ"إعطاء حق لإسرائيل في الدفاع" في حال تعرضت لهجوم، وذلك ضمن مبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعدها، واحترام الالتزامات المفروضة على الدول بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

 

3- مواقف الدول والاستغلال الإسرائيلي

يبدو، من مراجعة مواقف الدول، أن الأغلبية العظمى من الدول اعتمدت التفسير الثاني ورحّبت به. في المقابل، قامت "إسرائيل" باستخدام نص القرار الملتبس، واستعلت التفسيرين المرتبطين به، لتبرير العدوان وإبادة الفلسطينيين في غزة.

 

في بياناتهم الرسمية، استند الإسرائيليون إلى ما يعطيهم إياه التفسير الثاني للادعاء أنهم يقومون بـ"عملية دفاعية عادلة"، وأنهم سيواصلون السماح بدخول المساعدات لقطاع غزة "على نحو يتفق مع القانون".

 

لكنهم، في المقابل، استخدموا التفسير الأول لتبرير مواصلة هجومهم العسكري على رفح، مؤكدين أن الحملة العسكرية الإسرائيلية في مدينة رفح لم ولن "تؤدي إلى هلاك السكان المدنيين الفلسطينيين". وفي بيان آخر، تمّ الادعاء أن "إسرائيل لا تعتزم ولن تنفذ عمليات عسكرية في منطقة رفح تؤدي إلى ظروف معيشية يمكن أن تتسبب بتدمير السكان المدنيين الفلسطينيين، سواء في شكل كامل او جزئي".