2023/12/29

الحرب النفسية الاسرائيلية على لبنان.. كذبة "الإنجازات" الكبرى

يشهد لبنان حرباً نفسية اسرائيلية مستمرة منذ ما قبل أحداث 7 تشرين الأول/ اكتوبر، إذ لطالما هدد الاسرائيلي لبنان بإعادته الى العصر الحجري، ثم بعد حرب غزة، بدأ الاسرائيليون يطلقون التهديدات بتحويل لبنان الى غزة ثانية.

ومع بدء البحث الاسرائيلي عن مرحلة ما بعد الحرب أو ما يطلق عليه اسم "اليوم التالي"، بدأت التصريحات الاسرائيلية تتدرج في الحرب النفسية والدعاية السياسية حيث قال وزير الأمن يوآف غالانت خلال زيارته للحدود مع لبنان، قال أن اسرائيل لن تسمح "بالعودة لوضعية 6 تشرين الاول / اكتوبر على الحدود مع لبنان. وقال ان حزب الله مردوع، وأن الجيش الاسرائيلي استطاع إبعاد حزب الله عن الحدود!. وأكّد غالانت أنهم سيواصلون العمل حتى عودة السكّان على الحدود مع لبنان إلى منازلهم عبر أحد أمرين: أما بالتفاوض واسرائيل معنيّة به، أو عسكريا ًعبر شنّ حرب على لبنان.

وفي تصريح غالانت والمسؤولين الاسرائيليين الآخرين، نشهد تزايد الحرب النفسية على لبنان، والكثير من كذب الدعاية السياسية الاسرائيلية، ونوجزها بما يلي:

1-  الحرب النفسية: الأهداف الاسرائيلية

تعتبر الحرب النفسية من أخطر الحروب؛ وقد اعتبر نابليون بونابرت أن حرب العقول أقوى من حروب الأسلحة، إذ إن "هناك قوتان فقط بالعالم: العقل والسيف؛ وعلى المدى الطويل؛ العقل دائمًا ما ينتصر على السيف".

تفيد الدراسات التاريخية أن الحرب النفسية هي وسيلة قديمة قدم التاريخ، فقد أظهرت الاستكشافات الأثرية في المكسيك؛ صافرة صغيرة الحجم على شكل جمجمة إنسان تقوم بإصدار صوت غريب ومخيف تقشعر له الأبدان؛ صوتٌ تمّ وصفه من الخبراء بأنه يشبه صوت 100 إنسان يصرخ؛ وفسر العلماء أن تلك الصافرة هي واحدة من أهم أدوات الحرب النفسية لدى حضارة الأزتك؛ لأنهم كانوا يقومون بالصفير بها قبل مواجهة أعدائهم؛ لبثِّ الرعب في قلوبهم.

أما في الصين القديمة، فقد اعتمد أحد الملوك (جوجيان) على خطة مخيفة تعتمد على الانتحاريين. تلك الحرب النفسية ينفذها الصف الأول من جنوده أمام جيش العدو في أرض المعركة؛ حيث يقومون بذبح أنفسهم وقطع رقابهم بأيديهم؛ الأمر الذي يسبب الصدمة والرعب في قلب جيش العدو؛ ويهجم جيش الملك جوجيان قبل أن يفهم جيش العدو ما يحدث، وعلى الرغم من بعض الأقاويل التي قيلت عن الصفّ الأول الذي يتم التضحية به في كل حرب؛ وأنه يتكون من المجرمين وقطاع الطرق؛ إلا أنّ الصدمة كانت تتملك من أعدائه في كل مرة؛ ويصبّ هذا لصالحه بالانتصار .

تعرّف الحرب النفسية بأنها ممارسة التأثير النفسي بغرض تقوية الروح المعنوية لشعب الدولة وتدعيمها في مقابل تحطيم الروح المعنوية لشعب العدو بحيث يفقد الثقة، ويتخلى عن الأمل، ويتملك منه الخوف فلا يقاتل ولا يقاوم.

أما أهداف الحرب النفسية التي تشنّها اسرائيل على لبنان فيمكن إيجازها بما يلي:

-      إقناع اللبنانيين بأن لا جدوى من المقاومة التي تجرّ لبنان الى الحرب والدمار.

-       إضعاف الروح المعنوية العالية لدى البيئة المؤيدة للمقاومة في المناطق الجنوبية المحلية ودفعها الى العمل ضد حزب الله أو منعه من المقاومة.

-      رفع المعنويات وسط صفوف الاسرائيليين خاصة في المستوطنات المحاذية للبنان.

-      خلق جوٍّ عام من النزاع الداخلي في لبنان وإحداث فتنة بين الطوائف والمجموعات اللبنانية.

2-  الدعاية السياسية الاسرائيلية: استراتيجية "الكذبة الكبرى"

وتترافق الدعاية السياسية مع الحرب النفسية، حيث تقوم الدول خلالها بإظهار قوتها وتسويق نفسها وأفكارها. وفي مجال الاستراتيجيات الدعائية الحربية يمكن أن نميّز بين نوعين من الاستراتيجيات: الاستراتيجية الموضوعية أو استراتيجية الحقيقة Strategy of Truth  واستراتيجية الكذبة الكبرى Strategy of Big Lie.

ولقد استعمل الإعلام النازي هذه الاستراتيجية الاخيرة بفعالية معتمدًا الفكرة التي عرضها هتلر في كتابه "كفاحي" وهي أن الكذبة  إذا كانت كذبة كبرى وتمّ تردادها بشكل مكثف فسوف تصدقها الجماهير تصديقًا جزئيًا على الأقل، إذ إن أكثر الناس يفتقرون إلى سعة الأفق اللازمة لإدراك أن ترديد تصريحات ما لا يعني صحتها.

ومنذ حرب تموز، والآن خلال حرب غزة، يُلاحظ أن الاسرائيلي يعتمد على الاستراتيجية الثانية بينما يعتمد حزب الله الاستراتيجية الاولى. ففي خلال حرب تموز، كان الاسرائيليون يصدقون الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أكثر من زعمائهم أو المتحدثين الرسميين الإسرائيليين، بحسب دراسة أكاديمية نشرت في جامعة بن غوريون. وفي هذا الاطار، قال المحاضر في علم النفس (اودي ليبل):" لم تكن لدى الإسرائيليين زعامات في تلك الحرب، بينما نصرالله هو الذي كان يتحدث بصدق عما يجري وأين جنود الجيش الإسرائيلي وأين تسقط الصواريخ وإلى أين تتجه العملية الخ.

وفي إطار الفرق بين الاستراتيجيتين، يمكن أن نفهم حديث غالانت الأخير أن اسرائيل استطاعت إبعاد حزب الله عن الحدود، بالرغم من أن الحزب ما زال يطلق النار ويستهدف المواقع الاسرائيلية المنتشرة على الحدود مع لبنان. ويمكن أن ندرك أيضاً من خلال مراقبة كيف تقوم اسرائيل بإخفاء عدد قتلاها وتخفيض أعدادهم بينما يقوم حزب الله بنشر أسماء شهدائه والافتخار بهم معتمداً الاستراتيجية الأولى، بينما تعتمد اسرائيل الاستراتيجية الثانية.

 

2023/12/22

التحالف الدولي ضد اليمن: نكسة أو فرصة لاستراتيجية بايدن العالمية؟

في تراجع لخطط إدارة الرئيس جو بايدن لاحتواء التهديدات الاستراتيجية من روسيا والصين، وتخفيف الانخراط العسكري في الشرق الأوسط لتحويل الجهد الى منطقة المحيط الهادئ، أعلن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن تشكيل تحالف دولي للتصدي لعمليات جماعة "أنصار الله" الحوثية اليمنية في البحر الأحمر.

وكان وزير الدفاع الاميركي قد أعلن من البحرين عن إطلاق عملية عسكرية تحت مسمى "المبادرة الأمنية متعددة الجنسيات" لحماية التجارة في البحر الأحمر، بمشاركة بريطانيا والبحرين وكندا وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشيل وإسبانيا. وقال أوستن إن التحالف الأمني سيعمل "بهدف ضمان حرية الملاحة لكل البلدان، ولتعزيز الأمن والازدهار الإقليميين".

لكن التهديد الأميركي لا يبدو أنه سيؤدي الى إعادة الاستقرار بسرعة في باب المندب ويحقق الاهداف الأميركية منه، لأسباب عدّة أبرزها:

1-  عدم تراجع حركة أنصار الله:

قال محمد البخيتي، عضو المكتب السياسي لحركة أنصار الله "حتى لو نجحت أميركا في تعبئة العالم أجمع، فإن عملياتنا العسكرية لن تتوقف إلا إذا توقفت جرائم الإبادة الجماعية في غزة والسماح بالغذاء والدواء والوقود للدخول إلى أهلنا المحاصرين مهما كلفنا ذلك من تضحيات”.

ويعرف الحوثيون كيف يتعاملون مع التهديدات الدولية، إذ أنهم خبروا كيفية التعامل مع التحالف الدولي الذي تمّ تشكيله ضدهم منذ عام 2015، واستطاعوا بالرغم من حجم وقوة الحرب والحصار ضدهم، إصابة أهداف داخل الممكلة العربية السعودية عام 2019. أضف الى ذلك، قدرتهم اليوم على تعطيل الملاحة البحرية في البحر الأحمر، وتعطيل الملاحة البحرية القادمة الى "اسرائيل" عبر باب المندب، والذي يتمتع بأهمية استراتيجية كبرى، اذ يمر عبره حوالي 10٪ من التجارة العالمية.

وبالرغم من أن الحوثيين أعلنوا أنهم لن يستهدفوا سوى السفن التي تتوجه الى إسرائيل أو تلك المملوكة من اسرائيليين، إلا أن العديد من شركات النقل العالمية أعلنت أنها ستوقف مؤقتًا" جميع عملياتها عبر البحر الأحمر، ما تسبب بتحويل بضائع بقيمة أكثر من 80 مليار دولار بعيدًا عن البحر الأحمر، وانخفضت الأعمال في ميناء إيلات بنسبة 85 بالمئة، منذ بدء التهديد اليمني وحتى اعلان أوستن عن تشكيل التحالف الدولي.

-      عدم قدرة التحالف على فرض الاستقرار التام

لا شكّ أن التحالف البحري الذي تنوي الولايات المتحدة تشكيله، قادر على نشر قوة بحرية كبيرة ومدمرة في البحر الأحمر، لتأمين حماية للسفن ضد التهديدات الجوية والصاروخية، لكن المخاطر ستبقى مرتفعة، بسبب استمرار قدرة اليمنيين على إطلاق المسيّرات، والتي يمكن أن تطلق بشكل كبير ما قد يعني قدرة بعضها أو أحدها على اختراق أنظمة الدفاع.

إن استمرار التهديدات سيبقي مرور السفن التجارية محفوفاً بالمخاطر، ما يعني أن أسعار التأمين ستكون باهظة، وستبقي كلفة النقل مرتفعة  بسبب ارتفاع أسعار النفط، واجبار السفن على تغيير مسارها حول قارة أفريقيا، مما يضيف 14 إلى 15 يومًا في المتوسط للرحلات البحرية.

-      عدم رغبة الخليجيين بفتح حرب جديدة

 بالرغم من رغبة العديد من الدول الغربية بالانضمام إلى التحالف، فإن عدم الرغبة السعودية والإمارتية والمصرية بالانضمام إليه (أقله علناً) سيجعله أضعف من الناحية السياسية.

الأكيد أن عدم انضمام السعودية والإمارات الى التحالف يعود الى أسباب سياسية واقتصادية ومصلحة أمن قومي، إذ أن عودة الحرب الى منطقة الخليج سيؤثر على خطط السعودية والإمارات بالتحوّل الى مراكز استثمارية واعدة جاذبة للشركات العالمية الكبرى، كما يؤكد على عدم رغبتهما في العودة الى عدم الاستقرار الإقليمي الذي سيعيد التوتر مع إيران الى نقطة الصفر، في ظل غضب شعبي عربي لما تقوم به اسرائيل في غزة، بدعم واضح من الولايات المتحدة.

هذا الاحجام الخليجي، سيجعل التحالف الدولي أمام خيارين:

-      أما حصر العمليات العسكرية في نطاق المياه الدولية أي الاكتفاء بالردع وردّ الفعل، وهذا لن يحقق الاستقرار الكافي لعودة الملاحة البحرية في البحر الأحمر الى ما كانت عليه سابقاً.

-      أو التصعيد ضد مواقع إطلاق الصواريخ والطائرات من اليمن، وهذا سيؤدي الى تصاعد الاعمال الحربية وقد يؤدي الى حرب، وهذا ما لا يريده الاميركيون والخليجيون في هذه المرحلة، وسيؤدي عملياً الى تحويل المنطقة الى منطقة نزاع، وبالتالي تحقيق الهدف من عمليات أنصار الله، أي التسبب بعدم استقرار ونزاع عسكري في المياه الدولية وستفضل معظم شركات الشحن تعليق مرورها في منطقة محفوفة بالمخاطر والحروب.

 

بالنتيجة، استطاعت اسرائيل جرّ الادارة الاميركية الى تغيير استراتيجيتها الرامية الى تحويل الجهد العسكري من الشرق الأوسط الى الصين، لتعزيز قوة الحلفاء وردع الصين عن تعزيز نفوذها في منطقة شرق آسيا. وكما يبدو من استطلاعات الرأي ضمن الولايات المتحدة الأميركية أن نتنياهو الغارق في المآزق السياسية والعسكرية سوف يغرق جو بايدن معه ويسقطان سوياً في أي انتخابات قادمة.


2023/12/18

7 أكتوبر: فشل استراتيجية "جدار الحديد" الاسرائيلية


كان زئيف جابوتنسكي أحد منظّري الصهيونية في بداية القرن العشرين، الذي أعلن لاحقاً انشقاقه عن الصهيونية التقليدية، ليؤسس ما عُرف فيما بعد باسم "الصهيونية التصحيحية"، والتي اعتبر فيها أنه يجب تأسيس "اسرائيل" بين "النهرين" وحيث تمتد الى الاردن وسوريا، رافضاً فكرة تقسيم فلسطين بين "دولتين".
ومن أهم أفكار جابوتنكسي، هي فكرة "جدار الحديد" التي تعني أن "اسرائيل" يجب أن تكون محاطة بجدار من الحديد الصلب (بصورة مجازية)، أي أنها يجب أن تتمتع بالقوة العسكرية الفائقة، بحيث أن من يحاول مقاومتها يضرب رأسه بالجدار من الحديد الصلب ويفشل. هذه القوة تسهم في الحرب النفسية والاعلامية، التي تزرع في قلوب العرب والفلسطينيين فكرة أن "اسرائيل لا تقهر"، وبالتالي على كل فلسطيني أن يذعن لما تريده اسرائيل لأنه اضعف وأعجز عن هزيمتها وعن تغيير الواقع.
ولخصت "الصهيونية التصحيحية" مشروعها بشعار بث الخوف واليأس، أي أن يقوم المشروع على زرع اليأس في نفوس الفلسطينيين عبر ترهيبهم وتخويفهم والتعامل معهم "بالسيف" وبالشدة، وتكبيدهم خسائر كبرى وآلام لا تطاق كلما حاولوا اقتحام "جدار الحديد"، حتى يفقدوا كل أمل بإمكانية طرد الإسرائيليين من فلسطين، وبالتالي يختارون سبيل الاستسلام بدل المقاومة، لأنه أقل كلفة. ويعتقد جابوتنسكي أن الفلسطينيين وتحت تأثير اليأس من امكانية تحقيق أي شيء عبر المقاومة، وبسبب الكلفة الباهظة، سيختارون في النهاية قادة "معتدلين" (بالتوصيف الصهيوني).
وفيما بعد، طوّر الاسرائيليون هذه الافكار وأطلق عليها اسم "كي الوعي" الذي يعني عدم اقدام الفلسطينيين والعرب على قتال اسرائيل بسبب الإيمان بالعجز عن ذلك، والخوف والهلع من ردة الفعل الانتقامية التي يمكن أن تقوم بها اسرائيل ضد كل من يفكر في قتالها.
-      تطبيق نظرية "جدار الحديد" في غزة ولبنان
لا شكّ أن أفكار نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، هي نسخة عن أفكار زئيف جابوتنسكي وتطبيقاً لها، بحيث قامت اسرائيل بردة فعل انتقامية غير مسبوقة في غزة، بحيث دمرت ما يقارب 60 بالمئة من العمران في غزة، وقتلت ما يزيد على 15 ألف فلسطيني منذ بدء حربها الانتقامية بعد 7 تشرين الأول/ اكتوبر.
وكانت الصحف الأميركية في بداية الحرب، قد نقلت عن مسؤولين أميركيين زاروا اسرائيل بعد 7 تشرين الأول / اكتوبر أن "الاسرائيليين قد جنّوا" وهي عبارة الهدف منها التغطية على رد الفعل الانتقامي الذي تمارسه اسرائيل في غزة.
إن هذه الحرب التدميرية التي تقوم بها اسرائيل في غزة، عبر قصف جوّي غير مسبوق وإلقاء مئات آلاف الاطنان من القنابل، تشبه الى حد بعيد ما طبقه الاسرائيليون في حرب تموز / يوليو 2006، وما أسموه "عقيدة الضاحية"، فبعدما انتهى "بنك الأهداف" التي كان الاسرائيلي يريد ضربها، بات القصف عشوائياً بقصد التدمير وليس لتحقيق أهداف عسكرية.
لهذه الحروب الانتقامية أهداف أبعد من أن تكون عسكرية محض. هي تهدف لزرع الفرقة والشقاق بين المقاومة وأهل المدن التي يتم قصفها عشوائياً، كما تهدف الى اقناع الفلسطينيين واللبنانيين أن المقاومة مكلفة وغير مجدية، وأن كلفة الاستسلام والاستقرار النسبي الذي كانوا يعيشونه، أفضل من حالتهم الحالية بعدما تسببت أعمال المقاومة بتدمير بيوتهم وقتل أطفالهم.
-      من "جدار الحديد" الى "بيت العنكبوت":
لكن ما لم يحسب الاسرائيلي حسابه، هو أن سياسة "كي الوعي" أو "جدار الحديد" التي طبقها في الحروب العربية الاسرائيلية في القرن العشرين، لم تعد تجدي نفعاً مع فشل الحروب الاسرائيلية وبدء الانتصارات العربية منذ عام 2006، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي قامت برد سياسة "كي الوعي" و "ادعاء الجنون" على أصحابه.
وهكذا، حين أدركت اسرائيل أنها بدأت تخسر حربها النفسية، انقضت على الصحفيين والصحفيات وعلى الأطفال والمدنيين العزّل تغتالهم. وحين لم يعد يستطيع الاسرائيلي ممارسة "كي الوعي" الفلسطيني، ولم يعد يستطيع إقناع الجمهور العربي والفلسطيني خاصة، بأن لا جدوى من المقاومة وان المقاومة مكلفة- انتقل للسير في مسارين: ترهيب الأكاديميين والمفكرين والمؤثرين المعارضين لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي، والتواصل مع مؤثرين لرشوتهم لتسويق الدعاية الإسرائيلية.
هذا في ما خص فكرة "جدار الحديد"، أما الأعمال الانتقامية الشديدة الضراوة فقد انقلبت أيضاَ الى عكس ما يريده الاسرائيلي منها، حيث كانت مشاهد الأطفال والمجازر والقصف التدميري غير المسبوق لغزة، حافزاً لخروج المظاهرات في كافة أنحاء العالم لرفض ما تقوم به اسرائيل، ورفض حجة الدفاع عن النفس التي حاول المسؤولون في الغرب تسويقها.
لقد خرقت حرب غزة، وما رافقها من تفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي الحديث، مبدأ احتكار الإعلام واحتكار السردية الاسرائيلية وسمحت بتسويق سردية فلسطينية موازية، وقوّضت نظرية "جدار الحديد" الاسرائيلي، واظهرت اسرائيل بأنها فعلاً "أوهن من بيت العنكبوت" كما وصفها الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في وقت سابق.
 

2023/12/12

كيف تحوّل "اسرائيل" الحروب الى "فرصة": غزة نموذجاً


كعادتها، خلال أوقات الحرب والعمليات العسكرية تحاول "اسرائيل أن تستفيد لتنفيذ عمليات تهجير قسري للفلسطينيين، وتستغل تشتت انتباه الرأي العام العالمي بسبب الحرب والمجازر، لتوسيع عمليات الاستيطان غير القانونية التي تعتمدها. على سبيل المثال، خلال معركة "سيف القدس" في أيار /مايو من عام 2021، قام مستوطنون بإنشاء موقع "أفياتار" الاستيطاني على أراضٍ فلسطينية، بدون ترخيص "حكومي" وبغض نظر واضح من السلطات الاسرائيلية.

ومؤخراً، أعلنت منظمة "السلام الآن" الاسرائيلية أنه في خضم حرب غزة، وتحت ستار الحرب، وافقت السلطات الاسرائيلية على بناء مستوطنة جديدة في القدس الشرقية، في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر، تضم 1738 وحدة سكنية.

 وبحسب بيان المنظمة، إن هذه المستوطنة المنوي تشييدها، تقطع الممر الأخير المتبقي الذي يربط بين أحياء بيت صفافا والشرفات الفلسطينية وبقية القدس الشرقية"، وتقطع أي امكانية لإنشاء سلسلة حضرية فلسطينية متصلة في القدس الشرقية، وتعوق تقريبًا كل اتصال حضري بين بيت لحم والقدس الشرقية.

 وفي بيان آخر، ذكرت المنظمة، أنه منذ بداية الحرب في غزة، حصلت "طفرة غير مسبوقة في البناء غير القانوني الذي يقوم به المستوطنون في جميع أنحاء الضفة الغربية". وأكد البيان أنه في خلال الأسابيع الستة الاولى من الحرب، تم توثيق إنشاء ما لا يقل عن أربع بؤر استيطانية جديدة وإنشاء ما لا يقل عن تسعة طرق جديدة غير مرخصة، يؤدي العديد منها إلى بؤر استيطانية غير قانونية في الضفة الغربية، وقد تم إنشاء بعض هذه الطرق على أراضي فلسطينية خاصة.

فما هي هذه السياسة الاستيطانية وما أهدافها؟

-       ما هي "الكيبوتس"

المستوطنة أو "كيبوتس" kibbutz باللغة العبرية تعني "التجمع"، وهي مدن صغيرة – عادة ما يتراوح عدد سكانها بين 100 و 1000 نسمة. بعضها عبارة عن مجتمعات شاسعة تؤوي عشرات الآلاف من الأشخاص وتبدو وكأنها مشاريع تطوير في الضواحي، بينما البعض الآخر يشبه العشوائيات. مع العلم أن الغالبية العظمى من تلك المستوطنات تستفيد بشكل كبير من دعم الحكومة الإسرائيلية.

-      المستوطنات الأولى

 تم إنشاء أول مستوطنة اسرائيلية "كيبوتس" مبكراً في العام 1910، لتأمين سكن اليهود الذين جلبتهم الحركة الصهيونية الى فلسطين، ليستوطنوا فيها. وبدأت تتزايد هذه المستوطنات، فتم تأسيس عشرات المستوطنات خلال العقود الاولى من القرن العشرين.

سكان تلك المستوطنات كانوا مجموعات يهودية متدينة قادمة من أوروبا الشرقية ممن يؤمنون بالمهمة الصهيونية المتمثلة في تشكيل وطن لليهود في فلسطين، بينما جاء آخرون هربًا من معاداة السامية والتمييز في أوروبا الغربية، ولاحقًا أتت مجموعات هرباً من المحرقة النازية.

ولم يكن تأسيس المستوطنات عشوائياً، بل كانت تلك الأحياء تؤدي دوراً في المهمة الصهيونية لتأسيس "دولة اليهود في فلسطين"، حيث كان يتم زرع المستوطنات بشكل استراتيجي في المناطق الحدودية (بالقرب من غزة مثلاً) وبأوسع مدى ممكن لتأمين المطالبة بأوسع مساحة ممكنة حين يحين أوان ترسيم حدود "اسرائيل" على ارض فلسطين.

-      سياسة الاستيطان بعد 1967

توسع الاستيطان الاسرائيلي بشكل كبير، بعد حرب عام 1967، حيث امتد الى الضفة الغربية وغزة وسيناء والجولان السوري المحتل. لاحقاً، تم تفكيك المستوطنات التي كانت موجودة في سيناء وقطاع غزة، بعد انسحاب اسرائيل منها وذلك في عام 1982 (سيناء) وعام 2005 (غزة). وبقيت سياسة الاستيطان مستمرة وتتوسع في الضفة الغربية التي يطلق عليها اليهود اسم "يهودا والسامرة".

وينتقل الاسرائيليين حالياً الى المستوطنات لسببين: أما لأسباب دينية، حيث يريد الاسرائيليون المتدينون المطالبة بكل تلك الاراضي كأراضٍ يهودية، أو لأسباب اقتصادية حيث تدعم الحكومة الاسرائيلية تلك المناطق ومَن يسكن فيها، بالاضافة الى أسعار الشقق المتدنية فيها بسبب الدعم الحكومي.

وتمّ تأسيس تلك المستوطنات عبر طريقتين: رسمية، حيث تقوم الحكومة ببناء المستوطنات عبر خطة حكومية، او غير رسمية حيث يأتي بعض اليهود المتدينين المتطرفين فيضعون بيوتاً جاهزة على أراضٍ فلسطينية (بدون ترخيص) فيأتي الجيش الاسرائيلي لحمايتهم، وتتكاثر البيوت، ويتم تأسيس مستوطنة، يتم قوننة وجودها فيما بعد.

الهدف من تلك المستوطنات هو خلق واقع جديد على الأرض، حيث يقوم الاسرائيليون بترسيخ تواجدهم على الاراضي الفلسطينية، وطرد أهل الارض الأصليين، لضم الارض كلياً، ومنع قيام دولة فلسطينية.

-      سياسة حكومة نتنياهو اليمينية

منذ ان تشكّلت حكومة نتنياهو اليمينية والأكثر تطرفاً في تاريخ اسرائيل (كما وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن) في أواخر ديسمبر/كانون الأول 2022،  وحتى حرب غزة، شهدت الأراضي الفلسطينية أكبر توسّع لعمليات الاستيطان منذ عام 1967.

ويتضح من القرارات التي اتخذتها الحكومة أن الاستيطان هو ركيزة أساسية في سياسة الحكومة الحالية، حيث وافقت الحكومة على تشييد عشرات البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس والخليل وغيرها، وأنشأت "إدارة رسمية للمستوطنات" ما يعني فرض السيادة الاسرائيلية على أراضٍ في داخل الضفة الغربية، وألغت "قانون فك الارتباط" لعام 2005، ما يعني السماح بتأسيس بؤر استيطانية جديدة في نفس الأماكن التي تمّ الانسحاب منها سابقاً، ورصدت أكثر من مليار دولار أميركي لتطوير المستوطنات.

-      سياسة الاستيطان في القانون الدولي:

أكد قرار مجلس الامن الدولي لعام 446 في 22 مارس/آذار عام 1979 أن "سياسة وممارسات إسرائيل في إقامة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية والأراضي العربية الأخرى المحتلة منذ عام 1967 ليس لها أي شرعية قانونية وتشكل عائقًا خطيرًا أمام تحقيق سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط ".

ثم عاد مجلس الامن، وأكد في قراره رقم 2334 لعام 2016 على أن النشاط الاستيطاني الإسرائيلي يشكل "انتهاكًا صارخًا" للقانون الدولي وليس له "أي شرعية قانونية". ويطالب إسرائيل بوقف هذا النشاط والوفاء بالتزاماتها كقوة محتلة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة.

أما محكمة العدل الدولية، فأكدت في رأيها الاستشاري الصادر عام 2004، "أن المستوطنات التي تبنيها اسرائيل في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، غير قانونية بموجب القانون الدولي." واستند قرار المحكمة إلى أحكام اتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن التي أدانت إنشاء المستوطنات ومحاولات إسرائيل تغيير التركيبة السكانية للأراضي الخاضعة لسيطرتها.

 

  في النتيجة، يحاول الاسرائيليون اليوم تحويل الحرب في غزة الى "فرصة" لزيادة عملية الاستيطان وقضم الأراضي الفلسطينية، وتهجير سكان غزة والضفة على حد سواء والقيام بـ"نكبة جديدةـ". فهل يستيقظ العالم ويمنع اسرائيل من ارتكاب تلك الجرائم أم يكتفي بالتنديد، ومراقبة تغيير هوية الأرض وهوية ساكنيها في أكبر تحدٍ للقانون الدولي على الاطلاق.

 

2023/12/11

ما بعد حرب غزة: هل تكون روسيا هي الضامن للتسوية؟

ليلى نقولا


في خضم انشغال العالم بصور المجازر في غزة، والتوغل الاسرائيلي في القطاع، كانت حركة لافتة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي زار في يوم واحد كل من الامارات والسعودية، واستقبل الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي في موسكو، وأجرى اتصالاً هاتفياً بنتنياهو دام خمسين دقيقة كما ذكرت وسائل الاعلام.

ولا شكّ، أن محور لقاءات بوتين وحركته ترتبط بالصراع في الشرق الاوسط خاصة حرب غزة، من ضمن عناوين أخرى تهم موسكو. وقد استطاع الروس في الفترة الممتدة منذ السابع من اكتوبر تحقيق العديد من الأهداف، عبر سياسة خارجية مدروسة، ونذكر منها ما يلي:

1- التضامن مع الجنوب العالمي ضد الغرب:

أبرزت روسيا نفسها في هذه الازمة ومن خلال التصويت في مجلس الامن، واقتراح مشاريع قرارات لوقف النار وحماية المدنيين، أنها مناصرة لقضايا العرب خاصة في ظل انقسام العالم بعد حرب غزة، حيث يقف دول الجنوب العالمي بشكل عام والعديد من مناصري السلام في الغرب مع الشعب الفلسطيني ضد الموقف المنحاز للغرب والداعم لاسرائيل بشكل أعمى.

وفي هذا الاطار، كرّس الروس معادلة بدأ تسويقها بعد حرب أوكرانيا: الغرب ضد مصالح الجنوب العالمي، حيث تقف روسيا والصين في جبهة واحدة مع دول الجنوب العالمي، الذين فقدوا الثقة بالغرب (المتهم بازدواجية المعايير) وبمؤسساته الدولية التي أرسيت بعد الحرب العالمية الثانية ( وهذا ما اعترفت به نقاشات وتصريحات القادة الاوروبيين في مؤتمر ميونيخ للأمن).

2- لعب دور عالمي منافس للأميركيين في الشرق الاوسط:

في الوقت الذي تترسخ فيه علاقات موسكو بكل من ايران التي زاد التعاون العسكري والتسليحي معها بعد حرب اوكرانيا، ودول الخليج بعد التعاون في مجالات اقتصادية واستثمارية وطاقوية ووقوفهم في وجه الضغوط الاميركية ورفضهم الالتزام بالعقوبات الغربية على روسيا، تبقي روسيا على علاقاتها الجيدة مع اسرائيل لأسباب سياسية وديمغرافية واستراتيجية.

وبالرغم من الانتقادات التي وجهها بوتين الى اسرائيل وتعاملها مع هجوم حماس، وتحذيره من حصار غزة كما فعل هتلر في حصار لينيغراد، فإن الشراكة الروسية – الاسرائيلية تبقى قائمة لأسباب متعددة.
وعلى الصعيد الاستراتيجي، تبقي اسرائيل على علاقة وثيقة بموسكو، بالرغم من استقبال بوتين لوفد حماس ومواقف موسكو المؤيدة للفلسطينيين في مجلس الامن، وذلك انطلاقاً من حرص الاسرائيليين على إبقاء "حرية تصرفهم في سوريا" قائماً بموافقة روسية.

واذا عطفنا هذا التواصل مع دول الاقليم، على لقاء بوتين بالرئيس الصيني في بكين في خضم حرب غزة، والتطابق في المواقف بين الصينيين والروس في مجلس الامن، يمكن أن نستشف أن الروس يطمحون لترسيخ نفوذ أكبر في الشرق الاوسط من خلال لعب دور في التوصل الى تسوية لما بعد الحرب في غزة.

تتطلع روسيا الى هذا الدور الذي يمكن لها أن تلعبه، في ظل ظهور الغرب كوسيط غير نزيه في تسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وفشل "الرباعية الدولية" على مدى عقود من التوصل الى أي حل للقضية بسبب سيطرة الولايات المتحدة عليها، وانحيازها الاميركيين التام لاسرائيل.

في النتيجة، وبالرغم من ادعاء الغرب أن بوتين بات معزولاً بعد حرب اوكرانيا، فإن مسار الامور في الشرق الاوسط خاصة بعد الحرب في غزة، سيعيد روسيا للعب دور أكبر في المنطقة، عبر قدرتها على اقتراح حلول تسووية يقبل بها الاطراف المعنيون، تشبه الى حد بعيد "الاتفاق الكيميائي السوري" عام 2013، والذي جنّب المنطقة حرباً كارثية بعد اندفاع الاوروبيين للدعوة الى تدخل عسكري لحلف الناتو في سوريا.

2023/12/09

حق "الفيتو" في مجلس الامن: ما له وما عليه

كما كان متوقعاً، استخدمت الولايات المتحدة الأميركية الفيتو ضد مشروع قرار مقدم من الإمارات بوصفها ممثلاً للمجموعة العربية في مجلس الامن لوقف النار في غزة. وقد أيد القرار 13 عضواً- من أعضاء المجلس الخمسة عشر- مع امتناع بريطانيا عن التصويت. ويشكّل هذا القرار المشروع الخامس على التوالي في مجلس الامن، والذي يتعرض لفيتو ويفشل في وقف القتال في غزة.

ولقد دعمت هذا القرار الأخير أكثر من 96 دولة عضواً بالأمم المتحدة. وهو يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، ويكرر مطالبته لجميع الأطراف بأن تمتثل لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني وخاصة فيما يتعلق بحماية المدنيين. ويطالب بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية.

وقد جاء مشروع القرار الإماراتي على أثر تفعيل الأمين العام للأمم المتحدة المادة 99 من صلاحياته، والتي تعتبر أهم مادة في صلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة، التي نادراً ما تُستخدم والتي تنص على أن "للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين".

وهي المرة الأولى التي يستخدم فيها غوتيريش هذه المادة منذ توليه منصبه عام 2017، والتي قال في في خطابه أمام مجلس الأمن ، أنها أتت بناءً على نقاط رئيسية ثلاث، تنطلق من المسؤولية الدولية وهي: عدم وجود حماية فعالة للمدنيين، نفاد الغذاء، انهيار النظام الصحي في غزة. وطالب مجلس الامن بالعمل من أجل "الوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية وحماية المدنيين والتوصيل العاجل للإغاثة المنقذة للحياة".

باستخدامها الفيتو، عطّلت الولايات المتحدة القدرة على إنقاذ أرواح المدنيين في غزة، وأجحفت بحق المدنيين في غزة، لكن، بشكل عام، هل نظام الفيتو هو نظام مجحف واقعياً؟

أولاً - حق "الفيتو" في القانون الدولي

بداية، من المهم القول الى أن ميثاق الأمم المتحدة لا يتضمن أي إشارة للفيتو، بل إن ممارسة الفيتو أتت انطلاقاً من تفسير وتطبيق عملي للمادة 27 (فقرة 3) من ميثاق الأمم المتحدة والتي تشير الى ما يلي "تصدر قرارات مجلس الأمن في المسائل الأخرى كافة بموافقة أصوات تسعة من أعضائه يكون من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة...."

عملياً، لم يكن من الممكن أن تقوم الأمم المتحدة لو لم تحصل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية على "حق الفيتو". وفي المؤتمرات التحضيرية لتأسيس الأمم المتحدة، تم الأخذ بعين الاعتبار أن الدول الكبرى تفضّل أن يكون لها "حق الفيتو"، وذلك لحماية سيادتها، ولئلا يتخذ مجلس الامن قراراً يمس بمصالحها. وشدد الرئيس الأميركي هنري ترومان على أنه "بدون حق الفيتو لم يكن من الممكن أن يقبل مجلس الشيوخ بدخول الولايات المتحدة الى الأمم المتحدة."

وفي عام 1950، وبعد استخدام الاتحاد السوفياتي للفيتو بشكل واسع، اعتمدت الجمعية العامة قراراً بعنوان "الاتحاد من أجل السلام"، الذي دعمته الولايات المتحدة. وينص القرار، على أنه وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، لا يمكن للأعضاء الدائمين، ولا ينبغي لهم، أن يمنعوا الجمعية العامة من اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة السلام والأمن الدوليين في الحالات التي يفشل فيها مجلس الأمن في ممارسة "مسؤوليته الأساسية" في الحفاظ على السلام.

اعتبر العديد من الخبراء القانونيين أن هذا القرار يحدّ من مشكلة استخدام "حق الفيتو"، لكن عملياً، لم تستطع الجمعية العامة أن تحقق الكثير في هذا الاطار، ولم تستطع ممارسة "مسؤولية أولية" في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، باعتبار أن قراراتها – والتي تشكّل مصدراً من مصادر القانون الدولي – لا تتمتع بصفة الإلزام.

ثانياً - تقييم مبدأ "حق الفيتو"

يطالب العديد من الخبراء بتعديل ميثاق الامم المتحدة وإلغاء أو وضع ضوابط لحق استخدام الفيتو، ومنها المطالبات بالحد من استخدامه إلا في القضايا التي تمس قضايا الامن القومي للدولة نفسها، منع استخدامه مطلقاً، أو اشتراط موافقة دول متعددة قبل استخدامه الخ... وهناك الكثير من الانتقادات التي توجّه لهذا المبدأ، نعالجها في ما يلي:

أ‌-     الفيتو غير ديمقراطي

من الأمور التي تُأخذ على حق الفيتو، بأنه غير ديمقراطي، وذلك لأنه مُنح فقط للدول الأعضاء الدائمين الخمسة، ولم يعطَ كحق لجميع الدول في مجلس الامن.

وبالرغم من أن هذا القول صحيح، وأن هذا الاستثناء يخرق ابرز المبادئ التي قام عليها ميثاق الأمم المتحدة، وهي مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء (المادة 2 – فقرة 1). ولكن تجربة عصبة الأمم السابقة، والتي أعطت 15 دولة عضواً في مجلس العصبة حق النقض في المسائل غير الاجرائية، جعلت المجلس معطلاً بسبب صعوبة الإجماع على أي قضية من القضايا.

ب‌-  الفيتو عائق لحماية المدنيين

بشكل عام، وبالرغم من الكثير من الانتقادات "المحقة" التي توجّه الى نظام الفيتو، وأنه في كثير من الاحيان عجز مجلس الامن عن القيام بمهامه في تحقيق الامن ووقف العنف، ولنا في قضية غزة الحالية نموذجاً صارخاً.

 لكن في المقابل، وفي ظل رغبة العديد من الدول الكبرى باستخدام مجلس الامن لتشريع تدخلاتها العسكرية في العالم، فإن ممارسة الفيتو يمكن أن تشكّل أحد الضوابط الرئيسية لتعسف استخدام القوة من قبل الدول الأقوى ضد الدول الأضعف.

وفي هذا الاطار، تؤكد الممارسة العملية في مجلس الامن، أنه عندما تلاقت مصالح الدول الكبرى في العمل ضد دولة ضعيفة، فإنها سمحت بتدخلات دولية عسكرية أو فرض عقوبات اقتصادية أضرّت بشكل عميق بشعب تلك الدولة، كما حصل في العراق في التسعينات (النفط مقابل الغذاء) وفي ليبيا (المسؤولية في حماية المدنيين). وحين تباينت مصالح الدول الكبرى، تمّ منع استخدام القوة العسكرية ضد دولة عضو في الأمم المتحدة، على سبيل المثال القضية السورية.

في النتيجة، يبقى موضوع الفيتو اشكالياً في ممارسة الدول الكبرى، وبالرغم من أن الدول الكبرى تتمتع بهذا الحق، فإنها يجب أن تبقي معايير الإنسانية أكبر وأعمق من القدرة العملية والقانونية في إطار استخدامها للفيتو. لذلك، فإن استخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو في ظل المأساة الانسانية التي تحصل في غزة، والتي أملت على الأمين العام تفعيل المادة 99، والتي استصرخت ضمائر العالم أجمع، ستبقى نقطة سوداء في سجل الولايات المتحدة العالمي على الصعيدين الإنساني والقانوني.

 

2023/12/04

كيف أسقط "الإسرائيليون" اللاءات الأميركية؟

بعد هدنة لأيام، التقط فيها الفلسطينيون بعضاً من انفاسهم، عاودت "اسرائيل" حربها على غزة في جولة ثانية، وذلك بعد الحصول على ضوء أخضر أميركي من وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن، الذي حضر اجتماع مجلس الحرب الوزاري، مانحاً الجيش "الإسرائيلي" الضوء الأخضر لعملية عسكرية، مع تحديد السقف الذي على "إسرائيل" أن تلتزم به، وهو عدم التسبب بمجازر كبرى، والانتهاء من المهمة في غضون أسابيع قليلة بعدما طالب "الإسرائيليون" بأسابيع طويلة، فابلغهم أن الوقت الممنوح "للإسرائيليين" ليس طويلاً (ويقال إنه منحهم 25 يوماً فقط).

وفي عودة للقواعد التي كان الرئيس جو بايدن قد حددها في مقاله في واشنطن بوست حول الحرب في غزة، فأعلن أنه ممنوع التهجير القسري للمدنيين في غزة، وعدم تقليص مساحة القطاع، ولا لحصار طويل الامد، ولا لإعادة احتلال غزة.. هذه السقوف للعملية العسكرية "الإسرائيلية" لتحقيق هدف انهاء سيطرة حماس على القطاع، على أن يسير الاميركيون بحل سياسي يؤدي الى قيام دولة فلسطينية، وتحكم سلطة فلسطينية (متجددة) على كل من الضفة والقطاع.

وإذا اخذنا بعين الاعتبار أن هذه الشروط هي ثوابت أميركية في موضوع حل النزاع، فإن هدف العملية البرية الثانية المعلنة "اسرائيلياً"، وهو إقامة حزام أمني بين غزة والمستوطنات شبيه بالحزام الامني الذي فرضه الاحتلال في جنوب لبنان، يعني أن "إسرائيل" ضربت أحد اللاءات الأميركية، وهي عدم تقليص مساحة القطاع.

هذا بالإضافة الى أن قيام "الاسرائيليين" بمنع أهل غزة من العودة الى منازلهم في الشمال، ونداءات الإخلاء التي أطلقها "الجيش الاسرائيلي" لأهالي غزة في الشمال والجنوب خلال العملية العسكرية الثانية، تشير أيضاً الى ان "إسرائيل" ضربت أحد اللاءات الاميركية، وهي عدم السماح بالتهجير القسري للسكان في غزة.

أما بالنسبة للأهداف الأميركية ولمسار التسوية المفترض بعد الحرب، فإن نتنياهو قام مبكراً برفض أي تسوية سياسية، حيث قال في الأسبوع الماضي إنه الشخص الوحيد القادر على منع تحقيق دولة فلسطينية، وإنه سيمنع حصول ذلك.

علماً أن تخلي حماس عن السلطة في غزة، يفترض أحد أمرين:

- تحقيق اختراق سياسي جدي وحقيقي عبر ضغوط وتمنيات من قبل دول صديقة، لتحقيق مكسب دولة فلسطينية، على اعتبار أنها فرصة قد لا تتكرر.

- أو هزيمة عسكرية لحماس، يتم بعدها فرض الشروط على المهزوم، وقبوله بالتخلي عن السلطة، وهذا الخيار الاخير يبدو غير متاح، في ظل عجز "إسرائيل" عن تحقيق أي انجاز عسكري في حربها التي استمرت ما يقارب الخمسين يوماً، وقامت فيها بقصف هائل وتدمير شامل لقطاع غزة، وفي ظل استمرار أعمال المقاومة لغاية اليوم.

في النتيجة، كل الطروحات التي تطرح اليوم على بساط البحث، والاهداف "الإسرائيلية" (التي تتقلص يوماً بعد يوم) تبقى حبراً على ورق طالما لم تحقق "إسرائيل" أي انتصار عسكري، لفرض شروطها. هذا بالاضافة الى أن أي حزام أمني تريد أن تقيمه "إسرائيل" في غزة سيتحوّل الى شبيه بجنوب لبنان، حيث سيتعرض الجيش "الإسرائيلي" لعمليات مقاومة مستمرة، تدفعه الى الانسحاب لتقليل الخسائر- كما حصل في لبنان عام 2000، وفي غزة سابقاً عام 2005.

 

عودة الحرب: هل فقد الاميركيون التأثير على "اسرائيل"؟

في صباح يوم الجمعة في الأول من كانون الاول/ ديسمبر، أعلنت "اسرائيل" عودة عملياتها العسكرية في قطاع غزة، وقامت الطائرات الاسرائيلية بقصف البيوت المدنية والبنى التحتية في القطاع، وذلك بعد زيارة قام بها وزير الخارجية الاميركي الى "اسرائيل" والتي تحدث فيها عن وجوب تمديد الهدنة الإنسانية لأيام أخرى، يتم فيها تحرير الرهائن وامداد القطاع بالمساعدات الإنسانية.
وكان بلينكن قد شارك في اجتماع مجلس الوزراء الحربي الاسرائيلي، ونقلت وسائل الاعلام عن بلينكن أنه لم يعارض كلياً عودة العمليات العسكرية ضد حماس، بل قال أنها "يجب ألا تتسبب في نزوح جماعي للسكان، وأن اسرائيل لا تملك أشهراً لتحقيق أهداف العملية العسكرية".
هذه التصريحات لبلينكن تتناقض مع  الأهداف المعلنة لمهمته الأساسية التي جاء بها الى المنطقة،  وتشي بأحد أمرين: إما أن الولايات المتحدة لا تملك الأدوات والوسائل الكافية للضغط على اسرائيل لوقف عدوانها، أو أن الموقف الاميركي  الرسمي من التطورات في غزة، لا ينفصل عن الموقف الاسرائيلي وأن الدعوات التي تصدر من هنا وهناك، والتي تدعو الى تجنّب القتل الواسع للضحايا المدنيين، ما هي إلا محاولة "تقليص الانتقادات" العالمية لاسرائيل ولادارة بايدن.
ولمعرفة فعلاً أياً من الأمرين هو الأصدق، من المفيد إعادة التذكير بجوهر وتاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة واسرائيل، وأسباب الدعم الأميركي اللامحدود حتى لأعمال إسرائيل المخالفة للقوانين الدولية.
1-     تاريخ العلاقة الأميركية- الاسرائيلية:
توصف العلاقة بين اسرائيل والولايات المتحدة ب "العلاقة الخاصة" بحسب ما وصفها الرئيس حون كينيدي. وبالرغم من الدعم الأميركي لإنشاء دولة يهودية بعد الحرب العالمية الثانية، لكن العلاقة بين الطرفين لم تتطور إلا بعد حرب عام 1967، حين أظهرت اسرائيل تفوقها العسكري على حليفين للسوفييت (مصر وسوريا).
بانتصارها في تلك الحرب، آمن الأميركيون بأن لاسرائيل قيمة استراتيجية، بحيث يمكن توكيلها ب"دور وظيفي" يتحدد في احتواء الاتحاد السوفييتي في الشرق الاوسط، وردع القوى العربية المناوئة للغرب، وتأمين إمدادات النفط.
وبالرغم من العلاقة الخاصة، لم تبدأ المساعدات العسكرية "المجانية" الواسعة لاسرائيل إلا في عهد الرئيس كلينتون، الذي وقّع في آخر ولايته الثانية، ثلاث مذكرات تتعهد فيها الولايات المتحدة بتقديم المليارات من المساعدات العسكرية سنوياً، ولمدة عشر سنوات.
وتطورت تلك المساعدات تدريجياً، وصار رئيس أميركي يضيف اليها سنوياً، حتى بلغت المساعدة العسكرية الاميركية لاسرائيل قبل حرب غزة بما يقارب 4 مليار دولار سنوياً. وانطلاقاً من الالتزام الأميركي بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في المنطقة، والحفاظ على الردع الذي تتمتع به ضد أعدائها، أصبحت اسرائيل عاشر أكبر مصدر للأسلحة في العالم.
-        هل يمتلك الأميركيون قدرة التأثير على اسرائيل؟
واقعياُ، يرتبط كل عمل سياسي أو نشاط خارجي للدولة، بعاملين: الإرادة والقدرة.
بالنسبة للقدرة، طبعاً يمتلك الاميركيون الكثير من أدوات القوة التي يمكن استخدامها للضغط على اسرائيل لوقف عدوانها على قطاع غزة، أو للذهاب الى تسوية سياسية تؤدي الى استقرار في المنطقة، يريده الأميركيون بشدة من أجل التفرغ لاحتواء الصين.
لكن، وبالرغم من اعتقاد الكثير من الخبراء الأميركيين أن المكاسب التي تجنيها الولايات المتحدة من اسرائيل في المنطقة، لا توازي الثمن الاخلاقي والدولي المدفوع عالمياً، وخاصة الكره الذي تشعر به العديد من شعوب العالم خاصة العربي منها لأميركا، تبقى الفوائد الشخصية، والكلفة العالية لانتقاد اسرائيل في الداخل الاميركي هما العامل الأساسي.
يجني المسؤولون الأميركيون فوائد شخصية من دعم اسرائيل، خاصة في ظل فاعلية اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، والتأييد العارم الذي تتمتع به اسرائيل بين صفوف الكنائس الانجيلية. بالاضافة الى ذلك، لدى اسرائيل من النفوذ والمكانة والقدرات ما يجعل معاداتها أو انتقادها  مكلفاً داخل أميركا، ولنا في ما حصل مع الرئيس الأسبق باراك أوباما بعد انتقاده نتنياهو، مثالاً واضحاً.
وعليه، يبدو أن ما نراه أو ما يحكي عنه من انقسامات داخل الادارة الأميركية، هو نوع من توزيع الأدوار داخل الحزب الديمقراطي الذي يخشى أن يتكرر مع بايدن في انتخابات عام 2024، ما حصل مع هيلاري كلينتون عام 2016، حين امتنع جزء من الديمقراطيين عن التصويت ما سمح بوصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض.
في النتيجة، الأكيد أن هناك قدرة للأميركيين على ممارسة الضغوط على اسرائيل، وهي قدرات ووسائل ضغط سياسية وعسكرية واقتصادية وعقوبات وسواها من الوسائل التي تستخدم في العالم، والتي تمّ يوماً تهديد الحلفاء الأوروبيين بها، لكن الواقع أنه ليس هناك أرادة ورغبة أميركية بهذا الشأن.
 
 

2023/11/27

كيف أدخلت اسرائيل نفسها في مآزق عدّة؟


كشفت الهدنة المؤقتة في غزة، حجم الدمار الهائل الذي تسبب به القصف الاسرائيلي على غزة، وبات يتكشف يوماً بعد يوم، حجم الكارثة الانسانية التي تسبب بها الانتقام الاسرائيلي غير المسبوق عبر قتل المدنيين والاطفال وتدمير المستشفيات والبنى التحتية، علماً أن هذه الاهداف لا تضيف أي قيمة عسكرية لأي جيش في العالم، بل إنها مجرد انتقام قامت به اسرائيل في ظل عجز عسكري وسياسي عن تحقيق الردع المطلوب تجاه المقاومة الفلسطينية.

وبالاضافة الى الدمار، كشفت هذه الحرب منذ 7 اكتوبر ولغاية تحقيق الهدنة، أن "اسرائيل" تعيش مأزقاً كبيراً، يتمثل في عدم قدرتها على الاستمرار في الحرب وعدم التراجع عنها في آن، بالاضافة الى العديد من المآزق التي يمكن تفصيلها في ما يأتي:

-        المأزق العسكري – السياسي:

بعد تدمير واسع وقصف متواصل غير مسبوق في تاريخ الحروب، بدأت اسرائيل حربها البرية على قطاع غزة بعد مرور 3 أسابيع على عملية 7 اكتوبر، وبعد ما يقارب الشهر من الأعمال القتالية ظهرت حماس في مدينة غزة بكامل عتادها العسكري وقامت بتسليم الدفعة الاخيرة من الرهائن في شارع فلسطين، وفي منطقة ادّعت القوات الاسرائيلية أنها سيطرت عليها.

وبالاضافة الى ظهور زيف الادعاءات الاسرائيلية بسيطرتهم على شمال غزة، وتهجير سكانه والقضاء على قدرات حماس فيه، فإن ما كشفته الصحف الإسرائيلية عن انشقاقات وإقالات في صفوف الجيش الاسرائيلي وهروب من الخدمة، واخفاقات كبرى في المعركة، تشير بما لا يقبل الشك أن هناك إخفاقات عسكرية كبرى سوف تكشف بشكل أكبر بعد هدوء المعارك وبدء التحقيقات الاسرائيلية.

واليوم، يجد المستوى السياسي الاسرائيلي نفسه محرجاً فهو وضع أهدافاً عالية جداً لهذه الحرب، ولم يستطع تحقيقها بعد ما يقارب خمسين يوماً من القتال، ولا يبدو أن الامكانيات مناسبة لتحقيق هذه الأهداف، وخاصة أن لا قدرة ل"الجيش الاسرائيلي" على تحقيق انتصارات عسكرية تسمح بتحقيق تلك الأهداف.

لذا فإن المأزق الاسرائيلي يتجلى في تناسب القدرات مع الأهداف الموضوعة مع القدرات والإمكانات المتوافرة. وبات على اسرائيل لتجنّب المأزق أما أن تزيد قدراتها وهذا صعب جداً (بعد أن استخدمت كل ما تستطيع من قدرات) أو أن تخفض سقف أهدافها وهذه خسارة محققة.

-        مأزق "الثقة" المجتمعية:

عاش المجتمع الاسرائيلي منذ بداية تأسيس الكيان على الثقة بالجيش – الدرع الحامي، والذي كان المؤسسة الوحيدة التي كانت ما زالت تتمتع بثقة الاسرائيليين في الاستطلاعات التي سبقت الحرب. 

ففي استطلاعات الرأي التي أقيمت في اسرائيل قبل الحرب وخلال فترة الصيف الماضي، بينت النتائج أن ثقة الجمهور بالكنيست كانت متدنية جداً، وكذلك الثقة بالحكومة الإسرائيلية التي قال 70 % من مجمل المشاركين إن ثقتهم بالحكومة معدومة تماماً أو قليلة جداً. وبقي "الجيش" المؤسسة الوحيدة الاسرائيلية التي كانت تتمتع بثقة الجمهور الاسرائيلي، وبنسبة كبيرة.

لكن ما حصل في 7 أكتوبر وما بعده من اخفاقات حربية كما تشير الصحف الاسرائيلية، وكما ظهر من تبادل الاتهامات بالاخفاق بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية، إن هذه الثقة تراجعت الى حد كبير خاصة في ما يتعلق بقدرة "الجيش" على حماية "الدولة" والمواطنين.

-        مأزق "قيمة الانسان- الفرد"

منذ زمن بعيد، عاش الاسرائيلي على ثقة بأنه "مواطن ذو قيمة"، فهو ناخب يقرر شكل المؤسسات في انتخابات حرّة، وصوته مسموع، وحتى حياته لها قيمة كبرى لدى دولته، بدليل القيام بمقايضة الآلاف من الأسرى الفلسطينيين مقابل جندي (شاليط نموذجاً)، أو حتى بذل كل ما يمكن من أجل معرفة مكانه، أو إعادة رفاته في حال قتل في المعارك (رون أراد مثالاً).

لكن خلال هذه الحرب، أعلن نتنياهو وأركان الحرب والكثير من المسؤولين الاسرائيليين أن "هدف القضاء على حماس أهم من استعادة الاسرى" وأن "هدف استعادة الرهائن ليس أولوية"،  بالاضافة الى تصريحات تصب في نفس السياق تقول أنه يجب شنّ حرب حتى لو مات جميع الرهائن.

هذه القناعات لدى المسؤولين الاسرائيليين، هي التي أدّت الى تأخير المفاوضات حول تبادل الرهائن، وهي التي ضربت بعرض الحائط حياة الرهائن الاسرائيليين، وهي التي صمت آذان المسؤولين الاسرائيليين عن صرخات الاهالي المطالبين تحرير أبناءهم وبناتهم، وخاصة بعدما أدى القصف الاسرائيلي على القطاع الى موت بعضهم.

هذه التجربة ونسبة تبادل الرهائن مع الاسرى الفلسطينيين بعد 7 اكتوبر، تشير الى تبدّل في الفكر الصهيوني – الاسرائيلي بحيث باتت "الدولة وأمنها" أهم من حياة الفرد في اسرائيل، وهذا سيؤدي الى تعميق الهوّة بين الدولة والفرد، وبين الفرد ومؤسساته، تضاف الى أزمة الثقة في الدرع الحامي – وهو الجيش.

في النتيجة، لا شكّ أن السابع من اكتوبر وما بعده، سيكون نقطة تاريخية مفصلية في حياة الاسرائيليين، فالأمن والبحبوحة التي لطالما أغرتهم للقدوم من أقاصي الأرض للاستيطان في اسرائيل، سيكونان من الماضي فلا ثقة بأي أمن بعد مشهد المقاومين يقتحمون الاسوار التكنولوجية، ولن تغري البحبوحة أناساً معرضين بأمنهم وأمن أولادهم، والحرب التي قال لهم نتنياهو أنها ستعيد الامن وهيبة الردع لا يبدو أنها ستحقق شيئاً.

وأمام هذا المشهد من المآزق السياسية والعسكرية والاجتماعية، ستكون الحكومة اليمينية في اسرائيل أمام مأزق جديد، فإما أن تقدم اسرائيل تنازلات للفلسطينيين ولتحقيق بعض الامن عبر سلام "عادل"، وإلا تسريع الخراب.