2023/01/30

موقع لبنان في صراع الأمم الكبرى

د. ليلى نقولا

يعاني لبنان، كما العديد من دول العالم الثالث، من تدخلات شتى في شؤونه، ومحاولة بسط النفوذ والسيطرة على قراراته في الشؤون الخارجية وأحياناً كثيرة في شؤونه الداخلية. وبالطبع، إن موقع لبنان الجغرافي في منطقة الشرق الأوسط، وقيام "اسرائيل" بقربه، ساهم في تعريضه الى شتى أنواع التدخلات والحروب والفوضى وغيرها من الازمات التي لا تنتهي.

واليوم، العالم ينتظر حصول تغييرات كبرى في النظام العالمي بعد انتهاء الحرب الأوكرانية وما سيرافقها من تطورات عسكرية واقتصادية وسياسية، أين سيجد لبنان نفسه في ذلك الصراع؟

بداية، من المهم الاشارة الى أن الدول التي تسعى للهيمنة وبسط نفوذها على الاخرين، سواء كانت دولة إقليمية أو عالمية، يجب أن تتمتع بميزتين: القدرة، والإرادة.
بمعنى أن قدرة دولة ما على السيطرة والنفوذ لا يعني بالضرورة أنها راغبة وستندفع الى السيطرة على الآخرين، والعكس صحيح، فإن رغبة دولة بالهيمنة والسيطرة ترتبط بمدى مقدرتها على ذلك. هناك 3 قوى عالمية أساسية تسعى لموطئ قدم ونفوذ في الشرق الأوسط: الصين وروسيا والولايات المتحدة.

1- بالنسبة للصين:

بشكل عام، تتبع الصين استراتيجية "حسابية" في التعامل مع الدول تعتمد على: الجدوى، الاستقرار السياسي، الاستقرار الأمني. وبما أن لبنان لا يتمتع بالاستقرار السياسي، ومسيطر على قراره من قبل الولايات المتحدة الأميركية، سيكون من الصعب على لبنان الموافقة على قيام الصين باستثمارات كبرى، بالرغم من حاجته له. وعليه، قد لا تملك الصين الإرادة ولا القدرة للدخول في صراع مع الولايات المتحدة الأميركية للنفوذ في لبنان، بسبب غياب الجدوى أيضاً.

2- روسيا
بسيطرتها على بعض الموانئ السورية وإنشاء قاعدة حميميم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، تكون روسيا قد حققت أحد أهم أهداف الاستراتيجية الروسية منذ روسيا القيصرية ولغاية اليوم وهو الوصول الى المياه الدافئة. بالنسبة للبنان، حتى لو امتلك الروس الارادة، لا يبدو أنهم يمتلكون القدرة على التأثير على القرارات اللبنانية بدليل انهم تقدموا بعروض هبات متعددة تمّ رفضها من قبل المسؤولين اللبنانيين، أما البيان الذي أصدرته الخارجية اللبنانية الذي أدان التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، فهو دليل إضافي على عدم قدرة الروس على اختراق صناعة القرار اللبناني.

3- الولايات المتحدة الأميركية

لا شكّ أن الولايات المتحدة الأميركية تملك القدرة الكافية على التحكم والنفوذ في لبنان وهذا ما يشير اليه تاريخها في التعامل مع صناعة القرار السياسي والاقتصادي والامني في لبنان. إما بالنسبة للإرادة، فإنه من الواضح أن الأميركيين لن يتخلوا عن لبنان بسهولة، بدليل أن ترامب الذي لطالما أعلن رغبته الانسحاب من الشرق الأوسط، قام بتنفيذ سياسة الضغوط القصوى في لبنان لتقليص مساحة نفوذ حزب الله والايرانيين في لبنان (كما قال)، وتوسيع مساحة النفوذ الأميركي فيه.

بالنتيجة، إن المستقبل القريب والمتوسط يشير الى أن الأميركيين يعتبرون لبنان جزءًا من مساحة نفوذهم في الشرق الأوسط، ومن غير المتوقع أن يتخلوا عن هذا النفوذ لصالح دولة أخرى، بالرغم من أنهم قد يلجؤون الى تسوية تأخذ بعين الاعتبار الواقع الموجود على الأرض فيقبلون بتشارك النفوذ مع دول اقليمية لها نفوذ طبيعي في لبنان.

 

حرق القرآن الكريم: ماذا يقول القانون الدولي؟

ليست المرة الأولى التي يقوم فيها المتطرف السويدي الدنماركي راسموس بالودان بحرق القرآن الكريم في العاصمة السويدية ستوكهولهم، بل قام بذلك أيضاً خلال شهر رمضان المبارك في نيسان/أبريل من عام 2022، ما أثار موجة احتجاجات عارمة في السويد، وأدّى إلى انتشار الفوضى في الشوارع، وحدوث صدامات بين الشرطة والمتظاهرين الغاضبين.

واليوم، وفي معرض الاشتباك اللفظي بين السويد وتركيا، استعاد اليمينيون المتطرفون شعارات الإسلاموفوبيا، ودعوا إلى حرق القرآن كل يوم جمعة، حتى ترضخ تركيا وتوقّع على طلبَي السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف "الناتو".

ويشير عدد من المسؤولين في الغرب إلى أن "حرق المصحف" هو فعل "قانوني" مسموح به بموجب حرية التعبير التي أقرّتها القوانين الأوروبية وكفلها القانون الدولي والمعاهدات الدولية ذات الصلة. لكن، الادعاء بقانونية هذا الفعل يثير إشكالية أساسية جوهرها التمييز بين مفاهيم ثلاثة أساسية تفصل بينها حدود رفيعة جداً هي: حرية التعبير، وخطاب الكراهية، والتحريض على التمييز والعداء والعنف.

1- حرية الرأي والتعبير 

المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، كما دساتير عدد من الدول وقوانينها، تكفل كلها حرية الرأي والتعبير، وتنص: "لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير. يشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء من دون تدخل، والسعي للحصول على المعلومات والأفكار، وتلقيها ونقلها من خلال أي وسائط، وبغض النظر عن الحدود".

وتضع المادة 19 من العهد الدولي فقرة (3) قيوداً على تلك الحرية، فتنص:

 - تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك، يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية:

(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.

(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

2- خطاب الكراهية

عرّفت الأمم المتحدة خطاب الكراهية بأنه "أي نوع من الاتصال في الكلام أو الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة تحقيرية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس مَن هم، وبعبارة أخرى، على أساس دينهم أو عرقهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو لونهم أو نسبهم أو جنسهم أو أي عامل هوية آخر".

وبالرغم من ذلك التعريف الذي أوردته الأمم المتحدة، لم يتم الاتفاق – لغاية الآن - على تعريف عالمي لخطاب الكراهية بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان. وما زالت النقاشات حول هذا التعريف في الإطارين الحقوقي والدستوري مستمرة، خاصة بسبب ارتباط هذا المفهوم بحرية الرأي والتعبير وخشية ناشطي حقوق الإنسان من أن يتحوّل هذا المفهوم إلى وسيلة لقمع حرية الرأي والتعبير المكفولة في إعلانات ومواثيق حقوق الإنسان، وأن تستخدمه الدول لقمع المعارضة والتخلص من المعارضين.

ولأجل ذلك، قامت الأمم المتحدة بمحاولة لوضع سمات معينة يمكن من خلالها التمييز بين حرية الرأي وبين خطاب الكراهية وهي:

1- الكلام الذي يحض على الكراهية هو "تمييزي" (متحيز أو متعصب أو غير متسامح) أو "ازدرائي" (متحيز أو ازدراء أو مهين) لفرد أو مجموعة.

2- خطاب الكراهية هو الكلام الذي يحضّ على كراهية أفراد أو مجموعة بسبب هويتهم، وبما في ذلك: "الدين، والعرق، والجنسية، واللون، والنسب، والجنس"،  وأيضاً خصائص مثل اللغة، والأصل الاقتصادي أو الاجتماعي، والإعاقة، الحالة الصحية، أو التوجه الجنسي، وأمور أخرى كثيرة.

3- يمكن نقل الكلام التحريضي من خلال أي شكل من أشكال التعبير، بما في ذلك الصور والرسوم المتحركة والإيماءات والرموز إلخ...

4- خطاب الكراهية لا يمكن توجيهه إلا إلى الأفراد أو مجموعات الأفراد بصفتهم "الجماعية". ولا يشمل الانتقاد الذي يوجه إلى الدول وسياساتها أو رموزها أو مسؤوليها العامين، ولا حتى الانتقاد الذي يوجّه إلى الزعماء الدينيين أو انتقاد مبادئ العقيدة.

3- خطاب الكراهية الذي يتضمن التحريض على التمييز أو العداء أو العنف

وهو أمر محظور بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان.

 تنص المادة 20 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على ما يلي: "يحظر القانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف".

الفارق الرئيسي والجوهري بين هذا المبدأ المحظور وبين ما سبقه، هو فعل "التحريض". إن مجرد "التعبير" أو "المناصرة" لخطاب موجه ضد مجموعة، لا يتضمن تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف، يدخل في المنطقة الرمادية للقانون الدولي لحقوق الإنسان ومن الصعب تجريمه.

أما حين يتضمن الخطاب تحريضاً واضحاً أو مضمراً (النية الجرمية) أو في حال "تسبب بتأجيج العنف" فإن القانون الدولي يحظّره ويدعو الدول إلى اتخاذ الإجراءات لمنعه، وعادة ما قامت المحاكم بتجريمه (انظر قضية روس ضد كندا، حيث تمّ طرد مدرس بسبب أقواله المعادية للسامية، ورأت المحكمة أن كتاباته ومنشوراته "خلقت بيئة مسمومة"، لذا لا تعدّ من حرية الرأي والتعبير ويعدّ محرضاً على التمييز والعداء).

بالنتيجة، إن حرق القرآن هو عمل يتضمن التحريض على التمييز والعداء والكراهية، وبالطبع العنف بدليل أنه تسبب في مرات عديدة بعنف متبادل وخلق بيئة معادية للمسلمين بصفتهم الجماعية كمسلمين، ويتضمن عنصرية دينية واضحة، وبالتالي هو عمل محظور في القانون الدولي، ولا يمكن الادعاء بحرية الرأي والتعبير لقوننته واعتباره عملاً مشروعاً.

2023/01/23

توتر تركي سويدي: هل من منافذ للحل؟

ترتفع الأصوات اليمينية في السويد مهاجمة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بسبب ما يقولون إنها شروط تعجيزية لمنع السويد وفنلندا من الانضمام إلى حلف الناتو، وكان آخرها زعيم حزب الديمقراطيين السويديين جيمي أكيسون (اليميني المتطرف) الذي وصف الرئيس التركي بأنه "ديكتاتور إسلامي"، معتبراً أن بلاده قدمت الكثير من أجل إرضاء تركيا لتأمين عضويتها في الناتو ولكنْ لهذا حدود "لأننا في النهاية نقدم تنازلات لنظام مناهض للديمقراطية ولديكتاتور مجبرين على التعامل معه".

وتأتي أهمية تصريحات أكيسون، كون حزبه الحزب اليميني الذي تستند إليه الحكومة السويدية الحالية، خاصة أن حزب الديمقراطيين السويديين المناهض للهجرة وللمسلمين استطاع في سنوات قليلة التوصل إلى أن يكون ثاني أكبر حزب في البلاد، بعدما حصل في الانتخابات العامة التي جرت في أيلول/سبتمبر على نسبة 20.54 في المئة من الأصوات

عملياً، تشترط أنقرة على السويد تسليمها ناشطين كرداً من حزب العمال الكردستاني، وهو أمر معقد مرتبط بقدرة السويد على تنفيذ هذا الشرط الذي وافقت عليه رئيسة الوزراء السويدية السابقة (تنتمي إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي خرج من الحكم بعد الانتخابات الأخيرة).

تنقسم طلبات الترحيل التي تطالب بها أنقرة إلى 3 فئات:

-مَن لم يحصلوا على حق اللجوء من المواطنين الأتراك، وهؤلاء يمكن للسويد قانونياً ترحيلهم.

- مَن حصلوا على حق اللجوء السياسي، وهؤلاء من الصعب ترحيلهم لأن الأمر مرتبط باتفاقيات حقوق الإنسان واللجوء التي وقعت عليها السويد، وقدرة اللاجئين على التظلم لدى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في حال قررت السويد ترحيلهم.

-مَن حصلوا على الجنسية السويدية وهؤلاء من المستحيل ترحيلهم، لأنهم يتمتعون بالحقوق والواجبات نفسها كما رئيس الوزراء نفسه.

وكانت الحكومة السويدية قد اعتبرت أن القضاء السويدي له الكلمة الأخيرة في هذه القضايا وأن المحاكم مستقلة، لكن الأتراك ذهبوا بعيداً في هذا الأمر واشترط المتحدث باسم الرئيس التركي إبراهيم كالين، أن يغيّر "النظام القضائي السويدي تعريفه القانوني للإرهاب حتى ترفع تركيا معارضتها لانضمام السويد إلى الناتو".

وهكذا، تواجه الحكومة السويدية إشكاليات عديدة في موضوع انضمامها إلى حلف الناتو، فما يطلبه الأتراك أصعب من قدرة الحكومة على تأمينه، وفي المقابل هناك لوبيات ضاغطة تدفع إلى الدخول في حلف الناتو مهما كان الثمن، تحقيقاً لمكاسب سياسية واقتصادية:

1- من الناحية السياسية

يبدو الدخول في الناتو إنجازاً لليمين السويدي المعروف بانحيازه إلى الأميركيين، علماً أن هناك اتجاهاً سياسياً شاملاً (يمينياً ويسارياً) يؤيد الدخول في الناتو والتخلي عن سياسة الحياد السابقة. وكانت الحملات الانتخابية الماضية قد شهدت وعوداً من قبل اليمين السويدي بتأمين قدرات عسكرية وصناعية دفاعية وطنية أقوى في حال الفوز بالانتخابات.

2- من الناحية الاقتصادية:  

ينشط لوبي سياسي صناعي عسكري في السويد لحثّ السياسيين على تغيير القوانين الداخلية لتتلاءم مع بيئة الاستثمار الجديدة بعد الانضمام إلى الناتو، متطلعين إلى زيادة فرص الاستثمار في القطاعات العسكرية، نظراً للمضاعفة المتوقعة للنفقات الدفاعية من قبل الدول الأوروبية حتى عام 2026. وسيكون الجزء الأكبر من هذا الإنفاق مخصصاً للحصول على قدرات عسكرية جديدة، وهي فرصة تراها السويد سانحة كونها تتمتع بحضور تنافسي في سوق السلاح الأوروبي.

وهكذا، تعلّق الصناعات الدفاعية السويدية آمالاً كبيرة على الدخول في حلف الناتو ما يساعد الشركات المحلية على فتح أسواق جديدة وجني مكاسب كبرى تمنحها لها عضوية الناتو، وتؤهلها للمنافسة والحصول على سوق واعد سواء على الصعيد الأوروبي أو على صعيد دول الناتو الأخرى. وبالفعل، بدأ قطاع الدفاع في السويد في زيادة الطاقة الإنتاجية لتلبية الطلبات المتوقعة لزيادة تدفق الطلبات بمجرد قبول الدولة في الناتو.

وعليه وبعد الشروط التعجيزية التركية، يتطلع السويديون إلى ما يمكن أن يقدمه الأميركيون للأتراك لتخطي العراقيل التي يضعها إردوغان في وجه انضمام السويد إلى الناتو، ويشير بعض الخبراء إلى أن الأميركيين قد يعرضون قيام بايدن بتسهيل صفقة بيع طائرات مقاتلة من طراز F-16 بقيمة 20 مليار دولار إلى تركيا، في ظل اعتراضات من قبل نواب من مجلس الشيوخ وتهديد بمنعها، وذلك بعدما ألغى الكونغرس الأميركي صفقة حصول تركيا على طائرات أف 35، بعد اتفاقها مع الروس على الحصول على منظومة دفاع أس 400.

في النتيجة العملية، وبينما تزداد الدعوات لحض تركيا على الموافقة السريعة على انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، ومنها الدعوات الأخيرة التي أطلقها الأميركيون ومنهم وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن الذي دعا الدول التي لم تصدق بعد على انضمام السويد وفنلندا إلى الإسراع في ذلك (تركيا وهنغاريا)، من غير المتوقع أن يكون لزيارة وزير الخارجية التركي إلى واشنطن ولقائه بنظيره الأميركي هذا الأسبوع أي تأثير على موضوع الطلبات التركية من البلدين لتسهيل انضمامهما إلى الناتو، خاصة وأن إردوغان يستخدم هذه القضايا في حملاته الانتخابية الداخلية.

 

2023/01/15

محدودية الدبلوماسية الدينية: "اتفاقيات أبراهام"

منذ منتصف القرن الماضي وبعده، ومع التطور التقني والتكنولوجي والانفتاح العالمي، بدأت الدبلوماسية تشهد توسعاً في الآفاق والسبل، وتجنح نحو تعددية المسارات، فبات العالم يعرف "الدبلوماسية المتعددة المسارات".

كان الأميركيون السباقون إلى تطوير ما يسمّى الدبلوماسية الموازية أو الدبلوماسية المتعددة المسارات، أي استخدام أدوات اقتصادية أو ثقافية أو رياضية كأدوات دبلوماسية تسمح لهم بتطوير وسائل الإقناع التي يستخدمونها في العلاقات الدولية، ولتحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية. ويمكن تعريف الدبلوماسية المتعددة المسارات أنها اعتماد آليات غير حكومية وغير رسمية تستخدم في العمل الدبلوماسي وتشكّل آليات موازية للدبلوماسية الرسمية.

- الدبلوماسية الدينية:

وبعد دخول الدين إلى قاموس العلاقات الدولية بقوة مباشرة بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر من عام 2001، وباتت المفردات الدينية جزءاً من خطابات الحرب على الإرهاب التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية، تطورت فكرة دولية موازية مفادها كيف يمكن استخدام الدين للسعي نحو السلام العالمي بدلاً من اعتباره محرضاً على العنف والحرب والاقتتال.

وكانت "الدبلوماسية الدينية religious" أو "الدبلوماسية الروحية spiritual " من أبرز الوسائل التي طورها الأميركيون لحلّ النزاعات ذات البعد الديني أو لاستخدام الدين في العمل الدبلوماسي والسياسي الخارجي، وذلك عبر تأسيس "المركز الدولي للدين والدبلوماسية" عام 1999 خلال عهد كلينتون. وتزامناً مع بدء الحرب على الإرهاب، أنشأت إدارة جورج بوش الابن مركز "مبادرات الإيمان والفرص" وألحقته بالوكالة الأميركية للتنمية USAID عام 2002، ثم تطورت تلك الآليات وتوسعت فيما بعد.

- اتفاقيات التطبيع بين العرب و"إسرائيل":

ناقش عدد من المفكرين ومراكز التفكير الأميركية أهمية إشراك المجتمعات والقوى الدينية والروحية في عمليات السلام، أو في تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأميركية في الخارج، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت دعوات لرؤساء الطوائف الروحية الإسلامية والمسيحية إلى مؤتمرات حول التغيير في سوريا (خلال السنوات الأولى للحرب)، ويتم استخدام حقوق الأقليات الإيغور الصينية للتركيز على حقوق الإنسان في الصين وسواها.

ولا تشذّ اتفاقيات التطبيع التي وقعتها "إسرائيل" مع الدول العربية عن هذا الإطار، فسمّيت "اتفاقات أبراهام" وذلك بهدف استخدام الدين في عملية السلام في الشرق الأوسط، وتماشياً مع رؤية إدارة ترامب للقضية الفلسطينية، إذ يتم تحويلها إلى قضية "اقتصادية – دينية" (صفقة القرن- اتفاقيات التطبيع)، وحرفها عن أن تكون قضية احتلال لأرض وتهجير لشعب.

أعتقد الإسرائيليون أن اتفاقيات التطبيع الموقّعة مع بعض الدول العربية سوف تكون مدخلاً لطمس القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية، لكن كشف حساب السنوات التي تلت توقيع تلك الاتفاقيات، يشي بأن الأمر أبعد وأعقد مما كان يعوّل عليه الإسرائيليون والأميركيون، ونورد بعض الأمثلة:

- بحسب وكالة الأسوشيتد برس، فإن أرقام وزارة السياحة الإسرائيلية غير مشجعة، فعلى مدى عامين منذ توقيع الاتفاقيات مع الإمارات والبحرين لم يكن تدفق السياح الخليجيين كما يتمناه الإسرائيليون، وأوردت الوكالة أنه "على الرغم من تدفق أكثر من نصف مليون إسرائيلي إلى أبو ظبي الغنية بالنفط ودبي المرصعة بناطحات السحاب، فقط 1600 مواطن إماراتي زاروا إسرائيل منذ أن رفعت القيود المفروضة على السفر بسبب فيروس كورونا العام الماضي"، بينما لا تعرف الوزارة عدد البحرينيين الذين زاروا "إسرائيل"؛ "الأعداد قليلة للغاية".

- وفقاً لاستطلاع أجراه معهد واشنطن للشرق الأدنى، انخفضت نسبة تأييد "اتفاقيات أبراهام" في الدول العربية: في الإمارات العربية المتحدة، انخفضت نسبة التأييد من 47% إلى 25٪ في العامين الماضيين. وفي البحرين، انخفضت النسبة المؤيدة من 45% إلى 20٪ فقط من السكان.

- عقدت كل من مصر والأردن اتفاقيات سلام مع "إسرائيل" في وقت سابق، وبالرغم من مرور عقود على تلك الاتفاقيات فإن التطبيع الحقيقي بين الشعوب لم يحصل. 

- كان مونديال قطر المكان الأكثر تعبيراً عن حقيقة الشعور العربي تجاه قضية فلسطين، فلقد عبّر العرب بغالبية شعوبهم وانتماءاتهم أمام الهواء مباشرة وعلى مرأى العالم ومسمعه، عن أن قضية فلسطين ما زالت حيّة في وجدانهم وهي جزء من هويتهم القومية والوطنية، وأنه لا يمكن لأي اتفاقيات أن تبدد أو تلغي هذه الهوية.

في النتيجة، لقد استطاعت الدبلوماسية الموازية الأميركية أو ما يسمّى الدبلوماسية الدينية أن تدفع إلى توقيع اتفاقيات التطبيع بين حكومة نتنياهو وعدد من الدول العربية، وهو نجاح مشهود لتلك الدبلوماسية، لكن فعاليتها على الأرض في السنوات المنصرمة لم تأتِ بحسب التوقعات الإسرائيلية والأميركية. واليوم، كيف يمكن "تفعيل" هذه الاتفاقيات و"تطويرها" كما يعد عدد من المسؤولين الإسرائيليين مع وصول حكومة جديدة تعدّ الأكثر قومية والأكثر تطرفاً في تاريخ "إسرائيل"، يهلل المتطرفون فيها باقتحام المسجد الأقصى، وتتعهد بتوسيع المستوطنات وقضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وتستمر باقتلاع الفلسطينيين من القدس؟.

 

2023/01/09

سيناريوهات مسار المصالحة التركية السورية

 رسمت الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى سوريا ولقاؤه بالرئيس السوري بشار الأسد مساراً جديداً متفائلاً لمسار المصالحات التركية السورية، وإمكانية تحقيق تقدم جدّي خاصة بعدما سرت أخبار صحافية عن اتصال قام به الوزير الإماراتي مع نظيره التركي مولود تشاويش أوغلو، قبيل وصوله إلى سوريا.

هي ليست الزيارة الأولى التي يقوم بها الوزير الإماراتي إلى دمشق، بل سبقتها زيارة سابقة في 9 تشرين الثاني/نوفمبر2021، تلتها زيارة للرئيس السوري بشار الأسد إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي ولقاؤه مع الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في 18 آذار/مارس من عام 2022. لكنّ توقيت الزيارة الحالية والذي ترافق مع حديث عن مسار تصالحي تركي سوري هو الذي جعل للزيارة بعداً سياسياً أكثر من الزيارات السابقة، وخاصة مع انتشار أخبار صحافية تشير إلى إمكانية عقد اللقاء التركي السوري المقبل في الإمارات.

تتمحور النقاشات التركية السورية حول سيادة سوريا على أراضيها، ما يعني انسحاباً تركياً من القواعد العسكرية في الشمال السوري، وقيام الفصائل المسلحة المدعومة تركياً بتسليم المناطق التي تسيطر عليها إلى الحكومة السورية. وتقدّر مساحتها بما يقارب 11% من الجغرافيا السورية، إضافةً إلى عودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى ديارهم، والتخلص من الإرهاب والذي يعني بالنسبة للأتراك التخلص من سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" على مناطق الشمال الشرقي السوري والتي تقدر مساحتها بما يقارب 25% من الجغرافيا السورية.

وفي البنود أعلاه، يتباين ترتيب أولويات الحكومة في سوريا عن أولويات الأتراك، فالأولوية في سوريا هي لخروج الجيش التركي من سوريا، والتخلص من المجموعات المسلحة في إدلب وجوارها، ثم إنهاء السيطرة الكردية في الشمال الشرقي (تحرير تلك الأراضي يسهم في تخفيف أزمة الطاقة والغذاء السورية)، وأخيراً حلّ مشكلة اللاجئين (المكلفة مادياً).

بينما يأتي في صدارة الأولويات التركية بند إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم قبل الانتخابات التركية المرتقبة هذا العام، والتخلص من الخطر الكردي المتمثل بحزب العمال الكردستاني في المناطق السورية المجاورة لتركيا، وأخيراً الانسحاب من الأراضي السورية والذي قال أحد المسؤولين الأتراك أنه سيحصل بعد الاستقرار السياسي في سوريا.

وفي ظل تباين الأولويات، يسيطر على المشهد العام الغموض الذي يكتنف الموقف الأميركي، إذ لم تصدر تصريحات صريحة وواضحة تدين التقارب التركي السوري، باستثناء تصريح خجول من الناطق باسم الخارجية الأميركية قال فيه إن "الإدارة الأميركية لا تؤيد قيام الدول بتطوير علاقاتها أو التعبير عن دعمها أو التطبيع" مع الرئيس السوري بشار الأسد.

وعليه، ما السيناريوهات المتصوّرة لمسار المصالحة التركية السورية بناءً على الموقف الأميركي من التطورات؟

السيناريو الأول: ضوء أخضر أميركي غير معلن

انطلاقاً من هذا السيناريو، قد يكون المسار التصالحي التركي الإماراتي مع سوريا منسّقاً مع الأميركيين، وأن يكون الرئيس الأميركي جو بايدن يريد تخفيف وطأة الأزمة في سوريا بإعطاء ضوء أخضر غير معلن لحلفائه بالتواصل مع الرئيس السوري، ولكنه لا يريد أن يشتبك مع الجمهوريين الذين سيتهمونه بالضعف في سوريا. ويعتبر هذا السيناريو متفائلاً جداً.

السيناريو الثاني: رفض أميركي لكن الخيارات محدودة

في هذا السيناريو، تجد إدارة بايدن نفسها في مكان صعب جداً، إذ أنها ترفض التوصل إلى حلّ في سوريا في الوقت الراهن، ولكنها لا تمتلك الكثير من الأوراق التي يمكن اللعب بها، فهي من ناحية تريد احتواء الأزمة السورية وعدم تفاقمها لكنها لا تريد حلاً نهائياً الآن، ولكن من جهة أخرى لا تريد أن تشتبك مع حلفائها بتهديدهم بفرض عقوبات عليهم في حال المصالحة مع النظام السوري.

السيناريو الثالث: رفض أميركي سيؤدي إلى عرقلة المسار

عملياً، ستكون للموقف الأميركي الكلمة الفصل في استمرار مسار المصالحة أو لا، خاصة وأن التخلص من السيطرة الكردية على أجزاء من سوريا سواء عبر تسليم مناطق الكرد الى الحكومة السورية سلمياً أو عبر عملية عسكرية يحتاج إلى موافقة أميركية، وبالأخص لأنه يعني خروج الأميركيين وقوات التحالف الدولي من المناطق التي يسيطر عليها الكرد (جميعها تقريباً).

يجد الانتشار العسكري الأميركي في سوريا تبريراته، بمحاربة "داعش"، والتضييق على النفوذ الإيراني، ولا سيما أنّ القواعد والمواقع العسكرية الأميركية في سوريا ويقدّر عددها بـ 28 موقعاً، توجد قرب المعابر الرئيسية بين العراق وسوريا، وعلى طرق المواصلات الرئيسية بين البلدين، وقرب آبار النفط، ومراكز التكرير، هذا إضافةً إلى قاعدتين في التنف على مثلث الحدود العراقية السورية الأردنية (والتي قال ترامب سابقاً إن الجيش الأميركي سيبقى فيها حتى بعد انسحاب الجيش الأميركي من سوريا).

عملياً، لا يمكن الجزم النهائي بسيناريوهات المصالحة التركية السورية والتي ترتبط بشكل أساسي بالموقف الأميركي وتفكيك القواعد الأميركية في حال تمّ الاتفاق على تسليم مناطق الكرد للدولة السورية. وفي حال رفض الأميركيين الانسحاب من سوريا، تطرأ الأسئلة المشروعة التالية: كيف ستتم المصالحة التركية السورية إذا رفض الأتراك الانسحاب من سوريا من دون تحقيق هدف التخلص من سيطرة "قسد" على الشمال السوري؟ وهل يمكن للسوريين أن يقعوا في فخ تحقيق إعادة اللاجئين الذي تريده تركيا بشدة من دون أخذ مكاسب مقابلة من الأتراك؟.

عن أي سيادة تتكلمون؟


تتراكم الأزمات السياسية أمام اللبنانيين وتستعر معها مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية، فمن الغلاء الفاحش الى ارتفاع أسعار المحروقات ومازوت التدفئة وانقطاع الكهرباء الى اقساط المدارس وكلفة المستشفيات، يجد اللبناني نفسه عاجزاً عن رؤية الضوء في آخر النفق وخاصة أن لا حلول سياسية ولا إقتصادية تلوح في الأفق.
وأمام هذا الواقع، تستمر السلطة السياسية في الاشتباك والتقاعس أمام ملفات كبرى، منها ما يطرح الآن:
1- الكهرباء:
عملياً، بعد وصول البواخر المحملة بالفيول أويل ورسوها في المياه اللبنانية ودفع غرامات هائلة تقدّر بمئات آلاف من الدولارات، ينكشف مدى الاستهتار بحياة المواطن، بالتذرع بالكيدية السياسية التي تمارسها الأطراف السياسية ضد بعضها لغاية الآن (بأفضل الأحوال) أو التذرع بالآليات القانونية والسياسية لإستفادة مافيات الموتورات والمازوت شركاء العديد من الطبقة السياسية، التي أثرت من جيوب اللبنانيين وأغرقتهم بسموم الموتورات وضررها على البيئة وصحة المواطنين.
2- التحقيق القضائي مع رياض سلامة وشركائه

استمرت السلطة السياسية بالامعان بضرب القوانين بعرض الحائط وحماية رياض سلامة وشركائه والبنوك العاملة في لبنان، وتعطيل كل التحقيقات القضائية اللبنانية، حتى وقع لبنان بفخ العجز عن التقدم في أي تحقيق للعدالة وبات مكاناً للإفلات من العقاب، فأتى الاوروبيون ليعطوا اللبنانيين "الأوادم" أملاً بإحقاق العدالة ولو كان مشوباً بفرض بغصة " التدخل الخارجي".
ولكن، بين هذا الصراع القيمي بين السيادة اللبنانية وتحقيق العدالة والانصاف، نجد ما يلي:
1- لم يكن المحققون الأوروبيون ليتعاملوا مع ملفات تبييض أموال واختلاس وإثراء غير مشروع لو كانت قد حصلت في لبنان وحده، بل إن التحقيق الأوروبي يستند الى أن المتهمون قاموا بأعمالهم الخارجة عن القانون في لبنان وفي الدول الاوروبية.
2- لم يكن الخارج ليتدخل لو أن القضاة اللبنانيين قاموا بمسؤولياتهم على أكمل وجه، وحوّلوا المجرمين الى العدالة ولم يتذرعوا تارة بحماية طائفية أو حماية سياسية أو غير ذلك... لكن الذي حصل أن القضاة اللبنانيين أمعنوا في ضرب القانون، وصار "بعضهم" مثار شبهة فساد وإثراء غير مشروع بتغطية وشراكة مع الأشخاص المفترض بهم ان يسوقوهم للعدالة أنفسهم.
3- كيف يمكن لقضاة لبنان أن يتذرعوا بكرامة القضاء اللبناني والسيادة القضائية وهم لم ينصفوا ضحايا المرفأ، ولم ينصفوا المودعين اللبنانيين، ولم يحركوا ساكناً أمام كل هذه الجرائم ولم ينتفضوا إلا حين مسّت رواتبهم، فقاموا بثورة قضائية لتصحيح رواتبهم، ونسوا أنهم مكلفين بحماية اللبنانيين من تغوّل الفاسدين وتدخل السياسيين بالقضاء وتعطيله.
في النتيجة، إن التمسك بالسيادة اللبنانية أمر ممتاز ومطلوب، لكن ماذا ترك السياسيون والقضاة والنواب والوزراء والاعلاميون من تلك السيادة؟. بدءًا من قيام اعلاميين باستصراح مسؤولين غربيين عن رأيهم بتفاصيل الشؤون الداخلية اللبنانية، ومن تسليم السياسيين شؤون لبنان واسم الرئيس وأسماء الوزراء الى الخارج ليقرروا بهم، ومن قيام النواب بعرض مشاريعهم الداخلية أمام مسؤولين خارجيين وكأنهم تلامذة في صف ابتدائي الخ... عن أي سيادة تتكلمون يا سادة؟

 

2023/01/03

ألمانيا: خشية من تحقق "خطة مورغنثاو"

في كتاب شهير للباحث الأميركي من أصل ألماني ووزير الخزانة الأميركية هنري مورغنثاو بعنوان "ألمانيا هي مشكلتنا" (1945)، قدّم مورغنثاو "خطة" للتعامل مع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن ضمن الخطة تجريد ألمانيا ما بعد الحرب من صناعاتها وتحويلها إلى اقتصاد زراعي، معتبراً أن هذا هو الحلّ الأنسب لمنعها من أن تصبح مرة أخرى تهديداً للسلام العالمي والتوسع على حساب جيرانها. 

بعد مرور 7 عقود ونيّف، يخشى العديد من الاقتصاديين في الغرب من أن يشكّل العقد المقبل ما كان يصبو إليه مورغنثاو في خطته، وأن تتجه ألمانيا بفعل الحرب الأوكرانية وبفعل سياسات أولاف شولتس وحكومته إلى عدم التصنيع.

تقاطعت سياسات أولاف شولتس مع السياسات التي انتهجتها أنجيلا ميركل، التي ركّزت على النمو الاقتصادي، وساهمت عبر تعزيز العلاقة مع روسيا (تأمين الغاز بأسعار منخفضة) وفتح باب اللجوء للسوريين (تأمين يد عاملة) في تعزيز الصناعات الألمانية، فأصبحت ألمانيا رابع أكبر اقتصاد في العالم وثالث أكبر مصدر للبضائع.

مباشرة بعد بدء الحرب الأوكرانية، اندفع المستشار الألماني أولاف شولتس في 27 شباط/فبراير 2022 إلى الإعلان عن خطة لتعزيز الجيش الألماني، وتعهّد تقديم 100 مليار يورو (112.7 مليار دولار) من ميزانية 2022 للقوات المسلحة، ووعد بالوصول إلى 2% من إجمالي إنفاق الناتج المحلي على موازنة الدفاع استجابة لمطالب حلف الناتو، وهو ما استمرّت ميركل برفضه، على الرغم من كل التهديدات التي قام بها دونالد ترامب.

اليوم، يتحدث العديد من الاقتصاديين بتشاؤم عن مستقبل التصنيع في الاتحاد الأوروبي ككل، وفي ألمانيا على وجه الخصوص، ويشيرون الى أن مستوى التصنيع سيتراجع حتماً في القارة بسبب التضخم والركود وارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا، ليأتي أخيراً قانون "خفض التضخم الأميركي"، فيشكّل خطراً حقيقياً على أوروبا أكثر مما يشكّله على الصين نفسها.

تشير الإحصاءات الرسمية الألمانية، بحسب إحصاء أجراه اتحاد الصناعات الألمانية (BDI) في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، إلى أن حوالى 20% من الشركات الصناعية الألمانية المتوسطة الحجم (Mittelstand) تفكر حالياً في نقل مواقع إنتاجها إلى دول ثالثة بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والحوافز الضريبية في أماكن أخرى، فيما تفكّر أخرى في الإقفال بسبب الكلفة الباهظة.

أمام هذا الواقع، تنظر كل من فرنسا وألمانيا إلى الحلول لهذه المعضلة بطرق متباينة. يجد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن هناك حاجة لإجراءات أوروبية مماثلة لقانون التضخم الأميركي تسمح بدعم الشركات الأوروبية، وأن يكون لأوروبا "إطار خاص بها" تسمح بموجبه بإعطاء حوافز وإعانات للشركات الخاصة للبقاء في الاتحاد.

في المقابل، تتباين الرؤى في ألمانيا حول الإطار المثالي لمواجهة خطر "عدم التصنيع" وهجرة الصناعات والاستثمارات، ففيما يقول تيار سياسي داخل ألمانيا إن أوروبا بحاجة إلى إطار قانوني جديد يسمح بـ "الإعانات للإنتاج الصناعي" للحفاظ على الصناعات في جو من الحمائية الدولية، يدعو تيار آخر إلى تنظيم المجال الاقتصادي بدل دعمه، ويقول إن المنافسة والسباق العالمي على دعم الصناعات ليسا حلاً، وإن التحدي والمنافسة يجب أن يكونا على "مستوى المنافسة والابتكار"، وليس الدعم الحكومي.

ويتجه العديد من المسؤولين الأوروبيين إلى دعم فكرة إنشاء "صندوق سيادي أوروبي" يقوم بتأمين الأموال اللازمة لحماية المصالح الأوروبية في وجه الحمائية الأميركية والمنافسة الصينية التي تتمتع بتنافسية أفضل بسبب الكلفة الأقل التي تؤمّن هامش ربح أكبر، لكن تبرز التحديات في أوروبا على الشكل التالي:

1- تخشى دول الاتحاد الأوروبي من أن سنّ قانون أوروبي يسمح لكل دولة بأن تقوم بدعم صناعاتها وشركاتها الوطنية قد يؤدي إلى مشاكل كبرى، ويلحق الضرر بالسوق الأوروبية المشتركة، فيكون باستطاعة الدول الأكبر والأكثر اقتداراً تقديم الدعم لشركاتها، فيما تعجز عن ذلك الدول الأفقر، وهذا سيخلق هوّة بين الشركات في الاتحاد الأوروبي نفسه.

2- في المقابل، قد يكون الحل هو ما اقترحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن يقوم الاتحاد الأوروبي بإنشاء آلية لتقديم حوافز وإعانات مالية مشابهة لما يقوم به الأميركيون تحت عنوان "اشترِ أوروبياً". 

لكن تخشى بعض دول الاتحاد أن يكون تأسيس "الصندوق السيادي الأوروبي" المقترح عاملاً مقوّضاً للوحدة الأوروبية، إذ تتم المنافسة والتزاحم داخل الاتحاد الأوروبي للحصول على الإعانات والدعم للشركات الخاصة، وعلى النسب والكوتا التي يمكن لكل دولة الحصول عليها.

ويعتبر العديد من الليبراليين الأوروبيين أن هذا يتعارض مع معايير المنافسة الاقتصادية، ويخلق مخاوف من الحروب التجارية داخل الاتحاد، ويتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية.

في النتيجة، ستواجه ألمانيا، كما الاتحاد الأوروبي، تحديات على صعيد المنافسة في جذب الصناعات والاستثمارات في ظل زيادة الحمائية الأميركية وزيادة أسعار الطاقة، ولكن ما يمكن أن يخلق إرباكاً إضافياً للاقتصاد الألماني، المتضرر الأكبر من قطع العلاقات مع روسيا، هو تلويح المفوضية الأوروبية بتقليل الاعتماد على الصين، علماً أن الأخيرة هي أكبر شريك تجاري لألمانيا (اشترت بقيمة 100 مليار يورو من البضائع الألمانية العام الماضي). حينها، وحفاظاً على الوحدة الغربية، ستسير ألمانيا نحو تطبيق "خطة مورغنثاو" فعلياً بانعدام التصنيع.

 

2023/01/02

2023 ... هل يصلّي اردوغان في الجامع الأموي؟

ليلى نقولا

بعد 11 سنة من الحرب في سوريا والتي شاركت فيها تركيا كما العديد من الدول العربية والأوروبية والأميركيين لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، عقد اجتماع ثلاثي في موسكو بين وزارء دفاع كل من روسيا وتركيا وسوريا، بعد سلسلة اجتماعات تحضيرية تقنية سبقته. ومن المتوقع أن يكون هناك اجتماع لاحق بين وزراء الخارجية للتنسيق على الأمور السياسية، وتتوّج المباحثات ومسار المصالحة بلقاء بين الرئيسين أردوغان وبشار الاسد.

 

وبحسب التقارير الصحفية المعلنة، تباين ما نشرته وسائل الاعلام السورية عما نقلته الوسائل التركية عن اللقاء والاتفاقات التي حصلت فيه، فبينما أفاد الإعلام السوري "أن الاجتماع السوري التركي الروسي في موسكو خلص إلى موافقة أنقرة على الانسحاب الكامل من شمال سوريا"، والاتفاق المشترك على أن "حزب العمال الكردستاني يشكل الخطر الأكبر على سوريا وتركيا"، ركّزت التصريحات التركية على "التأكيد التركي على سيادة سوريا" (بدون تفاصيل أخرى)، وأكدت على ضرورة عودة اللاجئين السوريين الى بلادهم، وعلى ضرورة التخلص من الخطر الأرهابي المتمثل بداعش وحزب العمال الكردستاني".

 

وهكذا، وبما يبدو عليه مسار الأمور والمصلحة المشتركة السورية التركية من هذا التقارب، يمكن القول أن لا شيء يمنع وصول المسار الى خواتيم جيدة، لكن تبقى بعض الأمور التي يجب حلّها كما يلي:

 

أولاً: تباين الأولويات:

لا شكّ أن سيادة سوريا على ارضها وإنسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية، يبدو الأهم بالنسبة للسوريين، بينما يبدو ملف عودة اللاجئين هو الأكثر إلحاحاً بالنسبة لأردوغان لأن ذلك مرتبط بالانتخابات التركية القادمة، ووتخوفه من خسارة الانتخابات بسبب الاستياء الذي يشعر به الأتراك بوجود أكثر من مليوني لاجئ سوري يقاسمونهم الوظائف والبنى التحتية، ويتم تحميلهم مسؤولية التراجع الاقتصادي في الداخل التركي.

 

على هذا الأساس، ليس من المتوقع أن يقوم السوريون بتسهيل موضوع عودة اللاجئين بدون أن يحصلوا على مكاسب فيما خصّ انسحاب الجيش التركي من الأراضي السورية، وإغلاق ملف إدلب ومحيطها التي تأوي الجماعات المسلحة المعارضة.

 

ثانياً: ملف الأكراد وموقف واشنطن:

تتقاطع مصالح كل من دمشق وأنقرة في موضوع التخلص من سيطرة الأكراد على جزء من الجغرافيا السورية، لكن المشكلة تكمن في موافقة الأميركيين على إنهاء سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" على الشمال الشرقي السوري، حيث تعتبر واشنطن أن تحالفها مع "قسد" أساسياً في محاربة الارهاب (داعش). ويبقى الموقف الأميركي حاسماً في هذا الإطار.

 

ثالثاً: المواقف الاقليمية:

كانت إيران أول الداعين الى مصالحة سياسية بين تركيا وسوريا، وقد تكون هذه المباحثات اليوم، نتيجة لمبادرة  أطلقها وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان السنة الماضية، وكانت تهدف الى تجنب النزاع بين البلدين بعد التهديد التركي بعملية عسكرية في الشمال السوري.

أما الموقف الخليجي، فلا يبدو رافضاً – لغاية الآن- لمسار التسويات التي تجريها موسكو بين السوريين والأتراك، فبالأساس خرجت المعارضة التي تدين بالولاء للخليجيين من المعادلات الميدانية في سوريا، وسيرحب العرب بأي حلّ يخفف اعتماد السوريين على إيران.

 

بالنتيجة، قد لا يكون أمراً بعيداً أن يشهد العالم مصافحة تاريخية بين الأسد وأردوغان السنة المقبلة،  ويصلي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجامع الأموي بمعية الرئيس السوري بشار الأسد... وقد يستفيد لبنان من تلك المصالحة التي ستتوّج بعودة اللاجئين السوريين في تركيا الى بلادهم، بأن يسمح له بإعادة اللاجئين السوريين في لبنان الى ديارهم.