2012/03/28

مستقبل المحكمة الدولية في ظل المشهد العربي

انطلاقاً من الحقيقة القائلة بأن مصير المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومستقبلها يرتبطان كما ارتبط إنشاؤها بالنظام العالمي المرافق، والظروف السياسية التي تواكبها على الصعيد العالمي، وإن مصير لبنان وسورية مترابطان بشكل وثيق، فإن مصير الحرب الكونية الدائرة في سورية ستؤدي إلى تبدّل مصير المحكمة، وذلك ضمن السيناريوهات الآتية:
1- السيناريو الأول: قدرة الغرب على استعادة زمام المبادرة بإسقاط سورية، وهو خيار بات أقرب إلى المستحيل. 
ففيما لو قدر للغرب النجاح في خطته في سورية، كانت النتيجة الأولية لهذا النجاح توجيه ضربة بالغة الشدة إلى منظومة المقاومة، التي يعتقد الغرب بأن مجرد السيطرة على سورية، سيجعلها تتفكك، ويتحول من تبقى منها جزراً غير متصلة، يسهل خنق الواحدة منها تلو الأخرى، ما يمكّن أميركا من ربط المنطقة التابعة لها ببعضها البعض، فيتشكل البرزخ الاستراتجي الممتد من تركيا إلى شمال إفريقيا عبر شبه الجزيرة العربية و"إسرائيل"، الأمر الذي سيعوّض كلياً على أميركا خسارتها حروبها، ويثبّت يدها على الطاقة والممرات المائية، ويجهض أي خطر على الغرب قد يشكّله الطموح المتصاعد لكل من الصين وروسيا .
وفيما لو قُيّض لهذا السيناريو الغربي أن يتحقق، فإن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أو "محكمة المنتصرين" كما سيكون توصيفها، كانت ستحظى بأهمية كبرى في المستقبل المقبل، وكانت ستستخدم لتصفية الحساب مع المقاومة، ومع النظام السوري برموزه كافة، وكانت ستتحول، كما المحاكم الدولية الأخرى، إلى أداة لتصفية الخصوم السياسيين، وللضغط السياسي والاقتصادي على الحكومة اللبنانية، لتسليم كل من تتهمه المحكمة من قادة المقاومة أو سواهم، وهو ما حصل في يوغسلافيا، حيث استعمل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية المحكمة الدولية لفرض شبه وصاية على دول يوغسلافيا السابقة، وتحويل كثير من "الأبطال القوميين" في بلادهم إلى متهمين لدى المحكمة، ومطلوبين إلى العدالة بتهم جرائم الحرب والتطهير العرقي.
لكن ما ظهر لغاية الآن من تطورات في الحرب الدائرة في سورية، يثبت بما يقرب إلى اليقين فشل التصورات الغربية السابقة، فبامتلاك سورية مقومات القوة المتعددة، استطاعت إفشال الخطط الغربية تلك، لذا من المؤكد أن هذا السيناريو لن يتحقق، وأن المحكمة الخاصة بلبنان لن تحظى بهذا الدور المستقبلي المحوري.
2- السيناريو الثاني: خسارة الغرب خسارة دراماتيكية في المنطقة، وهو سيناريو غير واقعي أيضاً. 
إن نجاح سورية والمعسكر الذي يحتضنها في توجيه ضربة قاصمة للغرب، سيؤدي إلى إقامة منطقة مشرقية متجانسة متكاملة في خياراتها الاستراتيجية، تمتد من إيران إلى لبنان، عبر سورية والعراق، قادرة على الاستفادة من تحالفات استراتيجية وتفاهمات أساسية مع كل من الصين وروسيا والهند، بما يؤدي إلى القضاء على النفوذ الغربي في المنطقة.
إن تحقّق هذا السيناريو، فسيؤدي إلى خسارة المحكمة وظيفتها الدولية، فيتم إقفال ملف المحكمة بشكل نهائي، إما بالامتناع عن التمديد لها في المستقبل، أو يُطلب منها من قبل مجلس الأمن إنهاء ملفاتها، وتحويل الباقي إلى القضاء المحلي، كما حصل في يوغسلافيا التي تحولت إلى عبء مالي مكلف استنفد جميع الأرباح الممكن تحقيقها منه، فقام مجلس الأمن بالطلب منها إنهاء الملفات التي بين يديها، وإرسال الباقي إلى القضاء المحلي الذي أنشئت فيه غرف استثنائية لهذا الغرض. وبحسب هذا السيناريو، ينسى اللبنانيون والعالم المحكمة الخاصة بلبنان، وتتحول أداة من التاريخ.
لكن هذا السيناريو، وكما السيناريو الأول، يبدو غير واقعي وغير ممكن، فللولايات المتحدة الكثير من الأوراق الاستراتيجية الهامة، والحلفاء التقليديين والجدد، ومصادر القوة المتعددة التي تجعل من المستحيل الوصول إلى سيناريو طردها من الشرق الأوسط أو القضاء على نفوذها فيه.
انطلاقاً من هنا، فإن معركة النفوذ في الشرق الأوسط هي معركة وجودية حقيقية للولايات المتحدة، ولا إمكانية للخسارة في ظل موازين القوى الحالية، ما يعني بقاء المحكمة في المدى المنظور والمتوسط على الاقل.
3- السيناريو الثالث: عالم متعدد تحكمه تحالفات كتل استراتيجية وهو الأكثر واقعية.
برأيي، لن تهزم أميركا هزيمة نكراء تؤدي إلى طردها من الشرق الأوسط، لكن في المقابل لن تستطيع أميركا أن تعيد الزمن إلى الوراء، وإعادة الإمبراطورية إلى سابق عهدها، والفشل يظهر من البوابة السورية بالتحديد.
إننا نرى أن النظام العالمي يتجه إلى مزيد من تعددية مراكز النفوذ، سيؤدي إلى نشوء قوى استراتيجية منفصلة تلتقي وتختلف أهدافها بحسب مصالحها، فلا أحلاف دائمة ولا عداوات دائمة، بل يكون التفاهم والاختلاف بدراسة المصلحة في كل قضية على حدة.
في هذا السيناريو الواقعي، سيتم الإبقاء على المحكمة، والحفاظ عليها كأداة من أدوات القوة التي سيستخدمها المعسكر الغربي في حربه مع المعكسر الشرقي، فتبقى كما هي الآن، أداة في الصراع القائم، وسيفاً مسلطاً على رقاب المقاومين، فترتفع أسهمها عند كل استحقاق يحتاج فيه الطرف الغربي إلى حشر الطرف الآخر وتهديده، ويخف وهجها عند فترات الستاتيكو المتقطعة.
لكن، ومن باب الواقعية أيضاً، ومن دراستنا لتاريخ المحاكم الدولية منذ نورمبرغ لغاية الآن، من المفيد التذكير بأن المحاكم التي أقيمت كات جميعها محاكم المنتصر، لم تؤدِّ أي محكمة الدور المنوط بها، إلا باقترانها بأدوات ضغط سياسية استخدمها المنتصرون لسحق خصومهم المهزومين، وبما أن هزيمة المعسكر المقاوم لم تتم سابقاً، ولم يقدر الغرب تحقيقها في سورية أيضاً، فإن مصير المحكمة الخاصة بلبنان سيبقى مجرد أداة سياسية بغطاء قضائي، ولن تتحول إلى العمل القضائي الفعلي الذي يحقق مآرب سياسية.
استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2012/03/22

فصول اجرامية للحركات التكفيرية

تزامنت التفجيرات الإرهابية في دمشق وحلب، مع بروز ملامح اقتناع غربي بفشل الرهانات على التدخل العسكري في سورية، أو إسقاط النظام بالقوة، وبدء مسيرة - ولو أنها تبدو طويلة - لملامح حل سياسي يلوح في الأفق البعيد مع دعم مجلس الأمن لخطة كوفي أنان في سورية.
والحقيقة أن ما تمّ نفيه سابقاً حول وجود القاعدة في سورية، تم تأكيده على لسان أكثر من مسؤول غربي وأميركي، بالإضافة إلى حديث عراقي عن هجرة واسعة يشهدها التنظيم من العراق باتجاه سورية، بعد أن أوعز أيمن الظواهري لأنصاره بنصرة إخوانهم في سورية.
إذاً بتأكيد الجميع، دخلت القاعدة على خط الصراع ضد نظام الأسد في سورية، والحقيقة أن ما يتمّ التستر عنه ومحاولة إخفائه عند البعض، خصوصاً في لبنان من حلفاء تيار المستقبل المسيحيين، هو أن القاعدة أو سواها من التيارات التكفيرية التي تنتشر بسرعة وقوة غير مسبوقتين، ما هي إلا غطاء للفكر الوهابي السعودي الذي يعيش "عصره الذهبي" في المنطقة في الوقت الراهن.
وفي الحقيقة، تشهد سورية في المرحلة الراهنة تقاطع مصالح بين تيار "الاخوان" والتيار الوهابي، في الرغبة في التخلص من النظام السوري كمرحلة أولى لفرض سيطرة على المنطقة، التي قد تشهد - في ما لو تحققت وتمّ التخلص من الأقليات ومن كل فكر مناوئ - معارك إلغائية بين الاثنين، لن تبقي للمنطقة أي إمكانية للخروج من الجهل والتعصب والتكفير، وهو ما تدفع إليه أميركا وتطمح له "إسرائيل" بالطبع.
وبالرغم من تقاطع مصالح "الاخوان" مع الوهابيين في المرحلة القصيرة، نجد تبايناً بينهما يصل إلى حد العداء، واختلافاً في السياسات والمنطلقات والدعم الذي يتلقيانه، وذلك كما يلي:
- "التيار الوهابي" بالقيادة السعودية وخطورته تكمن في نزعته الإلغائية التكفيرية التي لا تقبل شريكاً، وهو يحاول السيطرة التدريجية على مصر، التي تتجه بشكل سريع إلى تقليد النموذج السعودي، وما يحصل في مجلس الشعب المصري من حركات عنصرية يزيد الحقد الطائفي والكره بين أبناء الوطن، وتماشياً مع فكر هذا التيار المناقض لقيم الإسلام الحقيقي، يكثر الحديث عن محاولات حرق كنائس وتدميرها، بعد الفتوى التي أصدرها شيخ سعودي بضرورة تحقيق الوعد القائل بأن الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية يجب ألا يوجد فيهما أي كنيسة.
اليوم، تبدو محاولة السيطرة على الساحة السورية أساسية لهذا التيار، لذا جاهرت السعودية برغبتها تسليح المعارضة السورية، وذلك لأن قيام حكمي وهابي تابع لها في سورية، يمكّنها من العودة إلى لبنان والسيطرة عليه بقوة إلغائية أيضاً، كما يساعدها في زيادة نفوذها في العراق، وتهديد السلطة الحاكمة، وذلك بعدما استطاع وكلاؤها - وبدعم وغطاء أميركييْن - ترويع المسيحيين في العراق وتهجيرهم منه.
- أما تيار "الاخوان"، والذي تتزعمه تركيا، وتحاول أن تصورّه بأنه "إسلام مودرن أو معصرن"، فيشهد تراجعاً في سياساته الهجومية في سورية، بسبب الخسائر الميدانية التي مُني بها، وبسبب التقهقر الذي شهدته الدبلوماسية التركية بعدما بالغ أردوغان في استعراض القوة، والقيام بتهديد الرئيس الأسد منذ بداية الأحداث في سورية، ورفع سقف التوقعات التي سرعان ما تكسرت على صخرة قوة النظام السوري الداخلية، وثبات تحالفاته الأقليمية، وحجم وأهمية الأوارق التي يحملها، والتي مكّنته من فرض سياسة ردع مقابلة، وتهديد تركيا والغرب في المنطقة برمتها.
ويختلف التيار الأخير عن التيار الأول بأمور عديدة لعل أبرزها:
1- البراغماتية لدى "الأخوان" مقابل الدوغما التكفيرية للتيار السابق، فهو يركب "الحافلة الديمقراطية" فقط للوصول إلى السلطة، ولا يتوانى عن استخدام "وجهين ولسانين" لحشد التأييد الغربي له، وهو ما فعله في مصر وتونس على سبيل المثال، وذلك تمهيداً لتثبيت نفسه في السلطة، على أن يقوم بالقضاء على كل المناوئين له فيما بعد، ومنهم التيار الوهابي، بالرغم مما يبدو من عدم قدرته على التخلص كلياً من الموجات التكفيرية التي تحاول اختراقه من الداخل بدعم من التيار الوهابي.
2- يمتلك تيار "الاخوان" قاعدة شعبية في سورية، يستمدها من التعاطف الشعبي القديم بعد ما حصل في الثمانينات، بينما نرى أن التيار الوهابي يستند إلى قاعدته اللبنانية للتغلغل في سورية، والمرور عبرها لتقويض الاستقرار فيها، بسبب فقدانه قاعدة شعبية سورية يستند إليها في قتاله ضد النظام، وهذا المعيار يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف الاستراتيجيات، فالتيار الوهابي غير معني بأي حل سياسي، لا الآن ولا في المستقبل، وسيبقى يقاتل ويدعم موجات القتل عبر الفتاوى والمال والسلاح، ويستمر في تقويض الاستقرار الأمني في سورية، إلى أن تُصاب خلاياه بهزيمة عسكرية قاصمة، لا يجد من بعدها من يحمل بندقية أو مستعد للتفجير من أجله، وهو ما يجعلنا نفهم التصريحات السعودية الهجومية، وإعلانها تسليح المعارضة السورية، في ظل الحديث الدولي عن ضرورة التوجه إلى الحل السياسي.
في المقابل، وبعد اقتناع تيار الاخوان "البراغماتي" أنه لن يستطيع تسلُّم السلطة وإزالة نظام الأسد، مهما تعددت مصادر الدعم الإقليمي والدولي له، فهو أقرب - فكرياً على الأقل - بقبول فكرة الحل السياسي، إذا أُمّن له موقع جيد في السلطة، والذي يمكن أن "يقنعه" بها أو يفرضها عليه رعاته الدوليون والإقليميون، لكن المشكلة تكمن في أن ما كان يمكن أن يقبله الرئيس الأسد من قبل - خلال بعض فترات الضعف التي شهدها نظامه في مراحل "الثورة" الأولى - لن يقبله الآن؛ بعدما حقق كل هذه الانتصارات، وبعدما استطاع بصموده إفشال جميع المؤامرات ضده.
في المحصلة، يخوض الشعب السوري اليوم معركة وجودية دفاعية، ليس عن نفسه فحسب، بل بالنيابة عن شعوب المنطقة، وطوائفها المتعددة، فالتيارات التكفيرية التي لا ترضى شريكاً، لن تتوقف عند محاولة إلغاء الأقليات المختلفة دينياً أو مذهبياً عنها، لكنها سترتد إلى ساحتها المذهبية الخاصة، لتلغي كل فكر منفتح بداية، بعدها تنصرف لتطهير ساحتها، فتأكل أبناءها وأدواتها، وأول من ستطاله هو تيار المستقبل بالتحديد.


2012/03/14

الأمن في لبنان: ناموا.. وعيونكم مفتوحة

كما في كل الأزمنة، يعتمد السياسيون اللبنانيون سياسة تقطيع الوقت بانتظار نتائج الحرب الإقليمية - الدولية الدائرة رحاها على الأراضي السورية، بينما يعيش المواطن اللبناني مأساة يومية على الطرقات، وفي المدارس والجامعات والمستشفيات، وقلقاً وشكوكاً حول غذائه وسقفه وبيته وأمنه الشامل..
مع الأسف، إن التغني اللبناني بالشطارة السابقة لم يعد ينفع، فبعد الادعاء بأننا البلد "الأكثر أمناً" منذ أيام "ناموا وشبابيكم مفتوحة"، مروراً ببطولات "جيمس بوند اللبناني" الوزير الياس المر، إلى وزير الداخلية الحالي، لا يشعر المواطن اللبناني بأنه يتمتع بأي قدر من معايير الأمن الفردي ولا الغذائي أو الاقتصادي، ولا حتى الاجتماعي.. فها هي الأبنية تسقط على رؤوس أصحابها، ولا نجد أن ما حصل دفع بالمعنيين إلى اعتماد سياسة وقائية تحدّ من الانفلات الخطير في معايير السلامة العامة وسلامة المباني، ولا يبدو أن هناك سياسة اقتصادية واضحة تهدف إلى تشجيع الصناعة والإنتاج، وتحفظ حقوق المواطن بضمان حد أدنى من فرص العمل، ولا حتى سياسة تربوية رشيدة تعمل على تحديد حاجات السوق من الاختصاصات لتوجيه الطلاب، ولا رقابة على المدارس التي تزيد الأقساط عشوائياً من دون حسيب ولا رقيب، في ظل ضعف المدرسة الرسمية، وعدم قدرتها على المنافسة.
أما الأمن الغذائي فحدّث ولا حرج، إذ تضج وسائل الإعلام منذ مدة ليست بقصيرة، بأخبار عن مخالفات جسيمة في المطاعم والسوبرماركت التي لا تحترم أدنى معايير سلامة الغذاء والصحة العامة.. لم تحرّك الدولة فيها ساكناً إلى أن تكشّفت فضائح اللحوم والأجبان الفاسدة في الآونة الأخيرة.
أما الأمن بمعناه التقليدي، فمن نافل القول إنه في ظل التحديات المستجدة على الساحة الدولية، لم يعد الأمن أمناً قومياً ينحصر داخل حدود الدولة فحسب، بل بات يتعداه إلى الأمن الإقليمي، الذي يعني أن التحديات الأمنية باتت تتجاوز حدود الدولة، وأنه ليس بإمكان أي دولة أن تقفل حدودها أو تقوم بضبطها بشكل كامل، ما يفرض عليها التنسيق والتعاون لمواجهة التحديات الأمنية المستجدة.
وفي هذا الإطار، نشير إلى الاستخفاف الذي تعاملت به الدولة اللبنانية مع موضوع القاعدة في لبنان، والهجوم الذي شنه المستقبل وحلفاؤه على وزير الدفاع عند تحذيره من دخول عناصر من تنظيم "قاعدة الجهاد" إلى لبنان، وتسللهم عبره إلى سورية للقيام بأعمال إرهابية، ثم التبرير الذي أطلقه وزير الداخلية في هذا الشأن بأن لبنان يشكّل "ممراً للقاعدة وليس مقراً"، حينها هاجم الحريريون الجيش اللبناني؛ في موقف استباقي لمنعه من ضبط الأمن بشكل كامل، وبهدف أن تغض الدولة اللبنانية النظر عن انتهاك سيادتها، وعن تحوّل لبنان إلى رئة يتنفس منها الإرهابيون في سورية، وإلى خزان يمدّ القاعدة في بلاد الشام بالمال والسلاح والرجال، خصوصاً في الجزء الشمالي الشرقي من الحدود مع سورية.
وها هي الأحداث الأخيرة تكشف أن القاعدة تسرّبت بالفعل إلى الجيش اللبناني، تريد تخريبه من الداخل، وتتهمه بالكفر؛ تماماً كما فعل بعض الشيوخ السلفيين علناً، وعلى وسائل الإعلام، من دون خوف أو وجل، ولعل تخاذل السياسيين اللبنانيين عن الدفاع عن الجيش اللبناني، واعتمادهم سياسة النأي بالنفس في موضوع أمني خطير كهذا، وتغليبهم المصالح الفئوية والمذهبية الضيقة على حساب أمن الوطن والمواطنين، قد هيأوا البيئة المؤاتية لعناصر القاعدة للتحرك بحُرية في الداخل، وزعزعة الاستقرار اللبناني قبل "المرور" لزعزعة الاستقرار السوري.
كما قد يكون التساهل مع عناصر فتح الإسلام سابقاً، سواء في المحاكمات أو في ما يتسرب من معلومات عن "وضع مميز أشبه بفندق خمس نجوم" يعيشونه داخل سجن رومية، أو في مجاهرة بعض السياسيين بالدفاع عنهم وتقديم الحماية السياسية لهم، قد أوجد مناخاً سياسياً عاماً تتلطى خلفه هذه الخلايا التكفيرية للعمل في بيئة مذهبية إلغائية لا تلائم تركيبة لبنان التعددية، ولا جوهر كيانه.
بلا شك، تلك الصورة الأمنية القاتمة التي تؤرق المواطن اللبناني، وتجعله قلقاً على أمنه ومستقبله ومستقبل أولاده، تترافق مع صورة سياسية أكثر قتامة، تقوم على الخلافات والانقسامات، في ظل محاولة تيار المستقبل وحلفائه التنصل من مسؤولية هدر 11 ملياراً من أموال المكلفين اللبنانيين، بالإضافة إلى محاولة جعل لبنان رأس حربة في مشروع غربي وهّابي يريد أن يقوّض الاستقرار في المنطقة، من خلال جعله "ممراً" أو "مقراً" للخلايا الإرهابية، لكن ألا يدرك هؤلاء - ومعهم الحكومة اللبنانية - أن لبنان ليس جزيرة معزولة، وأن التخريب وعدم الاستقرار في سورية سيرتدان على الداخل اللبناني؟ وهل من يثق بأن استخدام ورقة القاعدة في مؤامراته هو مضمون النتائج، وأنه لن يضربه في عقر داره؟ ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية - وباعتراف هيلاري كلينتون نفسها - هي التي أنشأت القاعدة، وحرّضت على استقبال الجهاديين من أجل محاربة الشيوعية في أفغانستان، ثم ارتدّت عليها لتضربها في عقر دارها؟ الأجوبة معروفة، لا يعبأ السياسيون بمصير وأمن المواطنين، لأن الشعب لا يحاسب في الانتخابات ولا يثور، وقد نخرته سوسة الطائفية إلى أعمق الأعماق.
في الواقع، يحترف بعض السياسيين اللبنانيين المقامرة بمصير الوطن والشعب، لسبب جوهري بسيط يتمثل في مثل شعبي قاتل عنوانه "عفا الله عما مضى"، ومن اليوم فصاعداً، يجب أن يكون هناك تحوّل في الأمثال الشعبية لتتلائم مع تطلعات مسؤولي الأمة، فعبارة "ناموا وجيوبكم مفتوحة" تتلائم أكثر مع محاولات تمرير سرقة 11 مليار من جيوبنا، و"ناموا وعيونكم مفتوحة" قد تتلاءم أكثر مع القلق الدائم الذي يعيشه هذا المواطن التعيس.

- استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2012/03/07

هل تتحول المقاومة إلى "مجموعة أشرار".. بختم دولي؟

كما كان متوقعاً، تتوجه المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إلى توسيع الاتهامات بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإضافة اتهام جديد وهو "تكوين جماعة إجرامية"، كما طلب الادعاء في طلبه تعديل القرار الاتهامي.
وبالطبع، نحن نقول متوقعاً لأننا كنا قد أشرنا إلى هذا الأمر سابقاً، عندما لفتنا النظر ونبهنا إلى خطورة ما قد تتجه إليه المحكمة في اتهامها لعناصر من حزب الله، وذلك باستنادها إلى مبدأ جديد للمسؤولية الجنائية في القانون الدولي استحدثته محكمة يوغسلافيا واعتمدته المحاكم الجنائية الدولية الأخرى فيما بعد، بعنوان "المشروع الجنائي المشترك"، والذي يحاكم المتهمين لمجرد انتمائهم إلى مجموعة لديها "هدف مشترك"، (انظر مقالنا: محكمة لبنان: أداة عقاب جماعي، الثبات 30 حزيران2011).
تاريخياً، لم يكن القضاء الجنائي الدولي ينحو لمحاكمة المتهمين بموجب هذا النوع من المسؤولية "الجماعية"، بل اعتمد مبدأ "المسؤولية الجنائية الفردية" بشكل واضح منذ محاكمات نورمبرغ، باعتبار أن الجرائم ترتكب من قبل "أشخاص طبيعيين، وليس من قبل كيانات مجردة"، وقد كانت محاكمة تاديتش في 15 تموز 1999، أمام المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، السابقة الأولى التي فتحت المجال أمام تطبيق هذا المبدأ فيما بعد، بالرغم من أنه لا يوجد أي نصّ واضح في مواد نظام محكمة يوغسلافيا، يشير إلى إمكانية معاقبة الأشخاص المتورطين بموجب هذا النوع من المسؤولية، بينما يلحظ النظام الأساسي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان هذه المسؤولية بشكل واضح وذلك في المادة (المادة الثالثة - البند الأول) والتي تتضمن عبارة صريحة حول "المجموعة ذات الهدف المشترك".
ونعيد التأكيد على خطورة هذا المبدأ، الذي اشتهر تطبيقه في محاكم يوغسلافيا ورواندا والمحاكم التي تلتها كسيراليون وكمبوديا وغيرها، خصوصاً بعدما وجد المدّعون العامون أنهم بسهولة يستطيعون اتهام "أي كان" وبدون دليل على المشاركة المباشرة في الجريمة، ونشير إلى أن النوع الموسّع منه وهو الأخطر على الاطلاق، هو نوع استنتاجي ويعني أن يقدم شخص للمحاكمة لمجرد انتمائه لمجموعة، فيحاكم عن جرائم غير مقصودة ولكنها متوقعة، كنتيجة "طبيعية ومنطقية" للهدف المشترك للمجموعة، حتى لو لم يكن الهدف جرمياً في الأساس، وهكذا، يتحمل الفرد مسؤولية جنائية إذا اتضح من ظروف القضية، أنه كان "طبيعياً" أن يحدث العمل الجرمي من قبل شخص أو أشخاص من المجموعة، وأن يكون المتهم قد قَبِل بإرادته أخذ هذه المخاطرة، ولم ينسحب من المجموعة.
من هنا نجد أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومن خلال إدراج هذه التهمة الجديدة، ومحاولة تعريفها، ستتجه إلى توسيع مروحة الاتهامات إلى أن يصبح بإمكانها اتهام جميع من ينتمي إلى حزب الله، أو يدعمه أو يسانده بأي شكل من الأشكال، وتحميله مسؤولية جنائية بموجب مبدأ "الهدف المشترك"، ويكفي الاطلاع على السوابق التي خلقتها المحاكم الدولية الأخرى، لنعرف حجم التعسف الذي يمكن أن تمارسه المحكمة الخاصة بلبنان في هذا المجال، فعلى سبيل المثال، قام الادعاء في المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا في قضية كريستش Krstić، بتحميله مسؤولية جنائية بعدما وجد الدليل أن المتهم قد تشارك مع مرتكب الجريمة، في "الحالة الذهنية المطلوبة لهذه الجريمة"، وهو أمر غريب ولم يشهده سابقاً أي قضاء محلي أو دولي، أن اتُهم شخص لمجرد وجود "حالة ذهنية إجرامية" لديه.
وهكذا، وبتوسيع إطار الاتهام، نعتقد أن المحكمة الدولية الخاصة تهدف إلى الوصول إلى أبعد من السيد نصرالله وقادة حزب الله الآخرين، فلو أرادت اتهام هؤلاء فقط، لما كانت تحتاج لهذا التوسيع ولطلب التعريف، وإضافة اتهام "تكوين مجموعة إجرامية" إلى القرار الاتهامي، لأنها ببساطة تستطيع أن تحاكمهم بواسطة مبدأ "مسؤولية الرئيس عن مرؤوسيه"، والتي تتضمن مسؤولية الرئيس الجنائية - حتى لو لم يثبت إصداره الأوامر لارتكاب الجريمة - وذلك في حالات عدة أهمها:
- إن كان الرئيس يمارس سيطرة فعلية على واحد أو أكثر من الجناة.
- أن يكون الرئيس على علم بالجريمة بأن مرؤوسيه سيقومون / أو على وشك القيام بالجريمة.
- أن يكون لديه كل الظروف والأسباب ليعلم أنهم سيقومون بالجريمة.
- فشل الرئيس في منع مرؤوسيه من القيام بالجريمة.
علماً أن المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة قد وسعت هذه المسؤولية أيضاً، وذلك في قضية اوريتش، حيث اعتبرت أن الرئيس يمكن أن يكون مسؤولاً عن الجرائم التي يرتكبها أشخاص مجهولون، فأقرّت مسؤوليته مسؤولية جنائية بسبب فشل مرؤوسيه بمنع القتل والمعاملة القاسية التي ارتكبت من قبل "الزوار" الذين اقتحموا معسكرات الاعتقال.
إذاً، نستنتج من المسار الذي يعتمده الادعاء في المحكمة الخاصة بلبنان، أنها تحتاج إلى أبعد من اتهام جنائي بكثير؛ وأنها لا تريد أن توّسع المسؤولية إلى قادة حزب الله ومنهم السيد نصرالله فحسب، بل هي تريد أن تصل إلى توصيف المقاومة في لبنان بأنها "مجموعة أشرار"، فتحوّل كل من ينتمي لها، أو يدعمها مادياً أو معنوياً، أو حتى يتشارك معها في نفس "الحالة الذهنية"، أو يصوّت لها في الانتخابات.. إلى متهم بالانتماء إلى مجموعة شريرة عليه أن يخشى تعرضه لإمكانية مساءلة عن أي عمل يقوم به فرد من أفرادها، وبعد صدور وثيقة دولية بهذا الشأن، يمكن الطلب من جميع دول العالم أن تدرج هذه "المجموعة من الأشرار" على لائحة الإرهاب، ويحظّر سفر أو التعامل مع كل منتمٍ لها - بحسب المفهوم الأوسع للمنتمي - ويكون لـ"إسرائيل" شرعية في حربها وسعيها للقضاء على هذه المجموعة الشريرة وكل من ينتمي إليها، بموجب القانون الدولي.
ليلى نقولا الرحباني

استاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية