2018/02/19

آخر طبعة | ليلى نقولا - أستاذة في العلاقات الدولية

رقعة الحرب السورية: جيوبوليتيك النفط والمياه

د. ليلى نقولا
يقوم وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بزيارة لتركيا تستمر يومين، في وقت تعاني فيه العلاقات التركية الأميركية توترًا غير مسبوق، وقد لا يكون مبالغًا به، وصف العلاقة التركية الأميركية اليوم بأنها في أسوأ وضع لها منذ عام 1974، أي منذ الأزمة القبرصية، وخاصة أنه لا يبدو أن الأميركيين بصدد التراجع عما يقومون به في سوريا لإحتواء الغضب التركي في ظل تصعيد لفظي أردوغاني يومي، وتهديدات باستهداف القوات الأميركية الداعمة للأكراد في سوريا. 
واللافت أن الولايات المتحدة اليوم وبعدما حاولت إفشال مؤتمر سوتشي حول سوريا بشتى الوسائل، انتقلت الى التصعيد الميداني على الأرض لفرض خطوط حمراء على جميع اللاعبين، في مؤشر واضح الى أن عهد "القيادة من الخلف" التي أعلنتها إدارة أوباما قد انتهت. ففي وقت متسارع وقصير زمنيًا، شنّ التحالف الدولي غارات على قوات حليفة للجيش السوري من العشائر العربية، بعدما اتهمها الأميركيون بمحاولة التقدم الى مناطق تسيطر عليها مجموعات من "قوات سوريا الديمقراطية"، وشنّ الجيش الاسرائيلي ضربات جوية على أهداف في سوريا، قامت بعدها الدفاعات السورية بإسقاط طائرة أف 16، منهية عهد السكوت على العدوان الاسرائيلي المستمر على السيادة السورية.
ولعل السياق الذي تجري فيه العمليات العسكرية الأميركية في سوريا، تشير الى مخاطر كبيرة على وحدة الأراضي السورية في أكثر من بقعة جغرافية وأهمها في الشمال والجنوب، والهدف: النفط والمياه.
في الشمال: تجري محاولة عزل الجغرافيا السورية الواقعة على شمال وشرق نهر الفرات عن باقي الجغرافيا السورية كليًا وتفريغها من المكوّن العربي أو على الأقل عدم السماح للعرب السوريين النازحين بالعودة مما يعطي الأرجحية للمكون الكردي. ولقد كان واضحًا وجود خطة تهجيرية متعمدة تهدف الى تغيير ديمغرافي وإفراغ الأرض من خلال قيام التحالف بتدمير جميع الجسور على نهر الفرات  بحجة قتال داعش، ثم إغراق الجسر العائم الذي أقامه الروس والذي سمح بعودة سريعة للنازحين الى دير الزور وانتقال المساعدات الانسانية عبره. وقد اتهمت وزارة الدفاع الروسية الاميركيين بإغراق الجسر، إذ ارتفعت مياه نهر الفرات بشكل حاد في 6 شباط 2018، على الرغم من عدم وجود أمطار غزيرة في المنطقة، وارتفع منسوب المياه على طول النهر فجأة إلى عدة أمتار، وزادت سرعة جريان مياه النهر بمقدار الضعفين، وفي اليوم التالي انهار الجسر المركب. 
وهذا يخدم بالأساس، خطة السيطرة على حقول النفط الكبرى، فيتم تبادل المنافع بين الكرد والأميركيين؛ اعلان دويلة وحماية عسكرية مقابل سيطرة نفطية وتحكّم بمياه الفرات، وذلك لأن المنطقة تحتوي على أهم مصادر الغاز والنفط السوريين، بالاضافة الى أكبر السدود السورية "سد الطبقة"، والذي يؤمن الطاقة الكهربائية للعديد من المناطق.
وفي الشمال أيضًا، فإن الأراضي التي يسيطر عليها الأتراك وتلك التي يعدون بـ "تحريرها من المجموعات الكردية، لإعادتها الى سكانها الأصليين"، يُخشى أن تتعرض للتتريك، خاصة وأن عبارة "السكان الأصليين" بالنسبة لأردوغان قد لا تعني السوريين بل الأتراك العثمانيين، وذلك انطلاقًا من ايمانه أن كل البلاد العربية وصولاً حتى اليمن وليبيا هي أراضٍ خسرتها تركيا منذ مئة عام فقط. ولعل رفع العلم التركي على المؤسسات الرسمية في تلك المناطق وتعليم اللغة التركية، يؤشر الى نوايا أردوغان الحقيقية في الشمال السوري.
أما في الجنوب، فيكمن الخطر في الطمع الاسرائيلي في حوض اليرموك من ضمن طمعه الدائم بالمياه العذبة، فبعدما تعذّر قضم المناطق اللبنانية حتى الليطاني، تطمح اسرائيل الى استغلال وجود داعش في تلك المنطقة، للسيطرة على الحوض، وذلك من ضمن الخطط الاسرائيلية لتحقيق الأمن المائي والذي يعتبر جزءًأ لا يتجزأ من الأمن القومي الاسرائيلي.
وهكذا، نستنتج أنه بالرغم من التقدم الميداني الواسع الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه، إلا أن ثروات سورية الطبيعية ما زالت تحت خطر المشاريع الدولية للسيطرة والتحكم، باعتبار أن من يتحكم بمصادر الطاقة والمياه، سيمتلك أرجحية تفاوضية في أي مفاوضات حول مستقبل سوريا، وقد تكون الخطة السورية الحالية هي الانتهاء من تهديد العاصمة والمدن الرئيسية وترك تلك المناطق لمرحلة لاحقة وخاصة أن التجارب التاريخية تشير الى عدم تشبث الأميركيين في أي أرض تشهد مقاومة ضد وجودهم.

2018/02/14

ماذا بقي لاسرائيل بعد سقوط الصورة والدور؟


شكّل إسقاط الطائرة الإسرائيلية من طراز F16 من قبل الدفاعات الجوية السورية، تعديلاً جوهريًا على قواعد الاشتباك في الصراع الدائر في سوريا، خاصة بعدما استمرت اسرائيل  بشنّ غارات جوية من وقت لآخر داخل الأراضي السورية، متذرعة بما تقول أنه "مخازن أسلحة لحزب الله" أو "قواعد ايرانية" داخل الأراضي السورية.
وولقد كُتب الكثير عن الموضوع العسكري وأستفاض المحللون العسكريون في توصيف هذا الحدث وأهميته على مستوى الردع بين المحورين المتقاتلين في المنطقة، وأهمية خسارة اسرائيل للتفوق الجوي في صراع مستمر منذ عقود، استطاعت أن تفرض فيه اسرائيل نفسها "كقوة لا تقهر" الى أن حصلت حرب تموز 2006 فسقطت مقولة "النزهة داخل الاراضي اللبنانية" واستمر التفوق الجوّي الى أن قام محور المقاومة باسقاط الطائرة الاسرائيلية الأسبوع الماضي وما تلاه من تصريحات، أشارت الى أن عهد التفوق الجوي سيصبح من الماضي أيضًا.
ولعل الأحداث المستمرة منذ اعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل، وما تلاها من ردود دولية مدينة هذا الاعتراف، ثم الانتفاضة الشعبية الداخلية في فلسطين المحتلة ومشاهد اعتقال الاطفال وتعذيبهم، ثم العدوان الاسرائيلي المستمر على الأراضي السورية، تثير ملاحظات عدّة حول "صورة التفوق النوعي" الاسرائيلي السابقة.
مستمدة من مفاهيم توراتية وتلمودية، عمل الاسرائيليون على تكريس صورة “الشعب المختار" و"المتفوق اخلاقيًا وعسكريًا" وذلك في كتابات المفكرين الصهاينة الاوائل، وبالتحديد، تيودور هرتزل الذي قال في كتابه: “فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود، ومن هناك سوف نشكّل جزءًا من استحكامات اوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية”.
في هذه العبارة، نجد صورة رسمها هرتزل وعملت الصهيونية العالمية على ترسيخها لغاية اليوم، وهي ترتكز على معايير ثلاث:
1-    التركيز على تمجيد الذات ورفع “الأنا” الى مستوى أعلى من البشر الآخرين، وهي صورة تتلاءم مع الصورة التي تقدمها النصوص الدينية اليهودية.
2-   العمل على تشويه صورة الآخر، فالآخر هو “البربري العنيف” مقابل “الحضارة والرقي والتمدن”.
3-   صاغ هرتزل لليهود وللدولة الموعودة، وظيفة ودورًا هامين جدًا تتجلى في حيازة “موقع أمامي متقدم”  للغرب في مواجهة “العدو”، بغض النظر عن الصفات التي يتخذها هذا “العدو” والتي تتبدل بتبدل اللحظة التاريخية، فقد يكون "البربري" في لحظة تاريخية معينة، لينتقل الى "الارهابي"، ثم الى "الايراني" اليوم الذي يهدد العالم وأميركا من خلال سعيه الى امتلاك السلاح النووري" .
فيما بعد أضيفت الى هذه الصورة، صورة اخرى تتلاءم مع مرحلة تاريخية مختلفة أي مرحلة تأسيس الدولة، وهي صورة “الضحية المظلومة” التي تأتي لتبرر للمتفوقين أخلاقيًا وقيميًا (الاسرائيليون) ما يقومون به من مجازر وعدوان وتعديات، وهو ما نجده مستمرًا من خلال بيان البنتاغون والبيت الابيض اللذان عبّرا عن دعمهما لاسرائيل في "حقها في الدفاع عن النفس في سوريا"، بعد إسقاط طائرة أف 16.
وبالرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تقهر، فقد استطاعت اسرائيل ان تجعل العقل الغربي يقبل صورتان متناقضتان بدون تفكير: صورة الضحية المغلوب على أمرها والمهددة في وجودها، وصورة القوة العاتية التي لا تقهر.
وفي كلا الحالتين، لقد ساهم الاعلام الحديث و"السوشيال ميديا"، ومن خلال الصور التي تبث من فلسطين المحتلة، في تحطيم صورة التفوق الاخلاقي و"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، التي عمل عليها الاسرائيليون طويلاً، أما الأحداث العسكرية والميدانية المستمرة منذ حرب تموز 2006 ولغاية اليوم، فقد أثبتت نظرية "عجز القوة" الاسرائيلية، وأعطت ردود الأفعال الاسرائيلية و"ضبط النفس" الذي يمارسونه الدليل القاطع على ان قرار الحرب لم يعد بأيدي الاسرائيليين منفردين، بل صار ملك منظومة توازن عسكري استراتيجي في المنطقة، وهو ما تثبته التهديدات الاسرائيلية المتتالية للبنان وسوريا والتي تبقى في اطار التلويح والتهديد لغاية الآن.
أما الوظيفة والدور التي حددتها اسرائيل لنفسها كموقع متقدم للجبهة الغربية في حربها واستعمارها للمنطقة، فقد أتت التطورات التي حصلت منذ مجيء الاميركيين عسكريًا الى المنطقة واحتلال العراق، وبعدها انخراط الأميركيين العسكري في سوريا، لتكشف ان اسرائيل لم تعد قادرة على الاضطلاع بالوظيفة والدور المنوطان بها وأهمها أن تكون “شرطي المنطقة”، أو "العصا" التي يتم التهديد بها كلما تجرأ أحد على تحدي "قواعد اللعبة الأميركية" في المنطقة.

2018/02/08

الردع النووي لحماية الكونتون الكردي؟

د. ليلى نقولا
تسيطر الولايات المتحدة اليوم على ما يقارب 25 بالمئة من الأراضي السورية، عبر ما يسمى "قوات سورية الديمقراطية"، التي أسّستها ودرّبتها وسهّلت لها السيطرة على كل المساحة الفاصلة بين نهر الفرات جنوباً حتى الحدود التركية شمالاً، ومن منبج السورية غرباً حتى الحدود العراقية السورية شرقاً، وتنتشر في هذه المناطق عشر قواعد عسكرية أميركية مشتركة مع الحلفاء البريطانيين والفرنسيين، لتأمين السيطرة والحماية والإمداد.

وبالرغم من ذلك، واعتبار البعض أن ما تحقق هو دليل واضح على نجاح الاستراتيجية الأميركية في سورية، وأن الأهداف الأميركية قد تحققت بتقسيم سورية عبر اقتطاع مساحة جغرافية كبيرة، تمهيداً لتأسيس كونتون انفصال كردي فيها، فإن السياسات الأميركية المتبعة لا تشي باطمئنان أميركي للنجاح الذي تحقق، بل قد تكون الأثمان المدفوعة كبيرة بالنسبة لانتصار لم يثبّت بعد، ومن المفيد في هذا الإطار، الإضاءة على بعض تلك السياسات، وإبداء بعض الملاحظات حول الانتصار المفترَض، وأهمها:

أولاً: من الأثمان الكبيرة التي دفعها الأميركيون مقابل دعمهم للأكراد، هي خسارة ثقة الحليف التركي الاستراتيجي، ولقد اتهم أردوغان صراحة، الولايات المتحدة بالعمل ضد مصالح تركيا، من خلال دعم "الإرهابيين" (وحدات حماية الشعب الكردية) في سورية، وطالبهم بمغادرة منبج، وهددباستهداف القوات الأميركية إذا شاركت في القتال تحت ستار قوات سورية الديمقراطية.
واحتواءً للتوتر، يعتزم وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، ومستشار الأمن القومي هربرت ماكماستر، زيارة تركيا، تأكيداً على استمرار العلاقات بين البلدين الحليفين.

ثانياً: بالرغم من ادعاء باراك أوباما أن روسيا دولة إقليمية ولا تشكل تهديداً حقيقياً على الصعيد العالمي، ثم وعود دونالد ترامب الانتخابية بالعمل على التفاهم مع روسيا في كل من الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، إلا أن الخسارة التي كبدتها روسيا للاستراتيجة الأميركية في سورية لم تمرّ مرور الكرام.

فقد أعلنت واشنطن مؤخراً استراتيجية نووية جديدة، بعنوان "مراجعة للوضع النووي"، ردًا على تهديدات محتملة من موسكو، وتحديثاً لترسانة نووية يعتبرها الخبراء الأميركيون قاصرة أمام الترسانة الروسية، وعاجزة عن ردع موسكو عن تهديد الحلفاء، ولقد اعتبر واضعو هذه الاستراتيجية أن هدفها استعمال السلاح النووي بقوة تدميرية منخفضة كـ"ملاذ أخير" للدفاع عن النفس وعن الحلفاء ضد تهديد روسي.

ولعل هذه الاستراتيجية النووية الجديدة، والتي تعيد إلى الأذهان سباق التسلح الذي أقلق العالم خلال الحرب الباردة، تؤكد أن الأميركيين لا يتعاملون ببساطة مع الانتصارات الروسية في سورية والتهديدات الروسية في أوكرانيا، علماً أن التحديات التي يواجهها الأميركيون في القرن الحادي والعشرين هي من طبيعة مختلفة عن التحديات التي سادت الحرب الباردة، وقد لا يكون الردع النووي هو الحل لتلك التحديات والتي تتمثل بثلاث:

1-    الإرهاب، وهو يمارس نمطاً غير تقليدي من الحرب، ولا ينفع معه أي ردع نووي أو وسائل قتال تقليدية.

2-    صعود الصين، ومنافستها للولايات المتحدة عالمياً عبر الاقتصاد والتنمية، وتحتاج مواجهته إلى قرار أميركي بالتوسع في خطط التنمية من ضمن استراتيجية التوسع في العالم، وهو ما افتقدته استراتيجية ترامب للأمن القومي التي نشرت في كانون الأول 2017.

3-    النجاح الروسي في روسيا وأوكرانيا، والذي تمّ عبر وسائل حرب تقليدية. وهنا تكمن المشكلة في عدم اعتراف الأميركيين بالمشكلة بحدّ ذاتها، وهي القرار الأميركي بعدم انخراط جنودهم بشكل مباشر في ساحات القتال، وليس النقص في السلاح الاستراتيجي.

المشكلة تكمن في عدم الاعتراف الأميركي بأن فشلهم في سورية يعود بشكل رئيسي لعدم نجاحهم، بالرغم من المحاولات العديدة والأموال الطائلة المرصودة، في تأسيس وتدريب "جيش سوري" يقاتل بالنيابة عنهم في سورية، واضطرارهم للاعتماد على الأكراد، بعد محاولات عديدة فاشلة لتأسيس قوات مقاتلة من غير الأكراد، هو السبب الرئيسي لفشل الاستراتيجيات الأميركية السابقة في سورية، وهو الذي سبب تباعُداً بينهم وبين الحليف التركي، مما اضطره للتمايز عنهم، وإنجاح الاسترايجيات الروسية عبر الانخراط في مسار أستانة.

وهكذا، وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الأميركيين لم يطمئنوا بعد لنجاح استراتيجيتهم في سورية، وهم يدركون تماماً أن تحرير الرقة وباقي المناطق التي يسيطر عليها الكرد سيأتي أوانه، عاجلاً أم آجلاً، بعدما ينتهي الجيش السوري وحلفاؤه من التخلص من "داعش" و"النصرة" وسواها، وهو ما يحفّزهم لدعم المجموعات المسلحة التي تقاتل الجيش السوري، وذلك بهدف تأخير القتال إلى أقصى حد ممكن، فهل سيستخدم الأميركيون الردع النووي لمنع الروس من الانخراط في استراتيجية تحرير مناطق الشمال الشرقي السوري؟

2018/02/02

الاستراتيجية الاميركية: "كماشة" لإحتواء الروس؟


تشي التطورات الحاصلة على صعيد الأزمة السورية خاصة بعد مؤتمر سوتشي، أن الأميركيين يعملون جاهدين على تأخير الحل السوري ومنع الروس من تحقيق أي تقدم إن على صعيد الحل السياسي الذي يحاول الروس تكريسه من خلال نتائج المؤتمر، أو من خلال محاولة اقتطاع جزء من الأرض السورية وتكريس كونتون انفصالي فيها في الشمال الشرقي من سوريا، أو محاولة إعادة عقارب الساعة الى الوراء بدق اسفين في علاقة موسكو بتركيا والاستفادة منها في الميدان السوري.
وبالنظر الى المحاولات الأميركية للتعطيل، نجد أن الأميركيين حاولوا استباق مؤتمر سوتشي وتعطيله بشتى الأدوات ومنها الدعوة الى مؤتمر فيينا قبل أسبوع من مؤتمر سوتشي، إطلاق صواريخ على قاعدة حميميم الروسية عبر طائرات مسيّرة انطلقت من مناطق يسيطر عليها مجموعات مسلحة تابعة للأتراك ليتبين فيما بعد أنها تهدف الى دق اسفين في علاقة موسكو بالاتراك، ثم منع المعارضين الموالين للأميركيين والأكراد من المشاركة في مؤتمر سوتشي للحوار، ولعل الأخطر هي الوثيقة السياسية التي تمّ وضعها من قبل الدول الخمس (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، السعودية، والأردن)، والتي سوّقت افكارًا خطيرة تمس بسيادة سوريا ووحدتها الاقليمية، وتنصّب نفسها بديلاً عن الشعب السوري في تقرير مصيره، وتنسف كل القرارات الدولية حول سوريا وخاصة القرار 2254.
وهكذا يتضح أن الأميركيين لن يقبلوا بحل سوري بسهولة، وسيحاولون منع لروس، أو على الأقل تأخير بسط نفوذهم في سوريا والذي سيكون مقدمة لنفوذ أكبر في الشرق الأوسط، اي أن الأميركيين وبالرغم من اقتناعهم أن الروس باتوا يسيطرون على مفاصل الحل والميدان في سوريا، لكنهم سيحاولون ما استطاعوا منع الروس من تسييل الانتصارات الميدانية في تكريس حلٍ سياسي يفرض وجهة نظرهم في مستقبل سوريا، وسيحاولون الاستمرار بالقتال والتعطيل لمنع الروس من تكريس شراكة في النفوذ الشرق الأوسطي مع الأميركيين.
بمراجعة تاريخية واقعية، نجد أنه ومنذ احتلال العراق عام 2003 سيطرت الولايات المتحدة كدولة كبرى على الشرق الأوسط، وحاولت التحكم بمفاصل السياسة والتفاعلات الاقليمية التي تجري فيها بطريقة انفرادية، إلا أن الواقع على الأرض عاد وفرض على الأميركيين القبول بشراكة ايرانية في التحكم بالعملية السياسية في العراق، ثم القبول بالأمر الواقع وتوسع النفوذ الايراني في المنطقة برمّتها، خاصة بعد فشل العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006، وبعد فشل اسرائيل في اخضاع قطاع غزة، وفشل كل السياسات التي اتبعت عبر الدعم الاعلامي والسياسي وبالواسطة لإخضاع حزب الله وسوريا.
ومع تطور الحرب السورية، بدا أن النفوذ الايراني في ذلك البلد يترسخ من خلال الدعم العسكري والاقتصادي والانخراط في الحرب الى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، ثم دخل الروس على خط الأزمة، وتزايد انخراطهم مع تقدم السنوات، الى أن بات الروس يسيطرون على مسارات الحل السياسي والعسكري، ويتبنون القضية السورية في المحافل الدولية، ويطمحون اليوم من خلال مؤتمر سوتشي الى رسم وتحديد مسار التعديل الدستور والانتقال من الحرب الى السلم، وتوسع نفوذهم الشرق أوسطي.
من خلال ما تقدم، يمكن فهم الاستراتيجية الأميركية الحالية في مواجهة النفوذ الروسي المتعاظم في سوريا، فالأميركيون، كما يبدو، استسلموا للأمر الواقع بأنه لا يمكن القضاء على النفوذ الايراني في العراق ولبنان. ويتضح من خلال مراقبة السياسة الاميركية المتبعة، أن الأميركيين قد يقبلون - على مضض- بشراكة في النفوذ في كلا البلدين مع العمل الحثيث على تقليص مساحة النفوذ الايراني واحتوائه قدر المستطاع وتوسيع مساحة النفوذ الأميركي على حسابه، وذلك بهدف تشكيل "كماشة" التفافية حول سوريا تهدف الى احتواء النفوذ الروسي ومنعه من التمدد من سوريا الى باقي المناطق في الاقليم.
من هنا يكون الاستنتاج العام حول سلوك القوى الدولية في الإطار الاقليمي، أن الأميركيين سيحاولون التفرد بالنفوذ في المناطق الاقليمية حين يستطيعون، ولكن في حال العجز، فإنهم قد يقبلون بشراكات النفوذ مع قوى اقليمية بحكم الأمر الواقع، مع الاستمرار في محاولة منع أي قوة دولية من مشاركتهم النفوذ في المناطق الاقليمية الحيوية في العالم، وهكذا نفهم التركيز على الخطرين الصيني والروسي في استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي أعلنها ترامب. فهل ينجح الأميركيون في استراتيجية تشكيل "كماشة" أميركية ايرانية لإحتواء النفوذ الروسي في سوريا؟ وكيف سيوفقون بين استراتيجية معاداة ايران واحتوائها في المنطقة، وشراكة النفوذ معها لإحتواء النفوذ الروسي في الوقت نفسه؟ وكيف سيتصرف الايرانيون؟.