شكّل إسقاط الطائرة الإسرائيلية من طراز F16 من قبل الدفاعات الجوية السورية، تعديلاً جوهريًا على قواعد الاشتباك في الصراع الدائر في سوريا، خاصة بعدما استمرت اسرائيل بشنّ غارات جوية من وقت لآخر داخل الأراضي السورية، متذرعة بما تقول أنه "مخازن أسلحة لحزب الله" أو "قواعد ايرانية" داخل الأراضي السورية.
وولقد كُتب الكثير عن الموضوع العسكري وأستفاض المحللون العسكريون في توصيف هذا الحدث وأهميته على مستوى الردع بين المحورين المتقاتلين في المنطقة، وأهمية خسارة اسرائيل للتفوق الجوي في صراع مستمر منذ عقود، استطاعت أن تفرض فيه اسرائيل نفسها "كقوة لا تقهر" الى أن حصلت حرب تموز 2006 فسقطت مقولة "النزهة داخل الاراضي اللبنانية" واستمر التفوق الجوّي الى أن قام محور المقاومة باسقاط الطائرة الاسرائيلية الأسبوع الماضي وما تلاه من تصريحات، أشارت الى أن عهد التفوق الجوي سيصبح من الماضي أيضًا.
ولعل الأحداث المستمرة منذ اعلان ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لاسرائيل، وما تلاها من ردود دولية مدينة هذا الاعتراف، ثم الانتفاضة الشعبية الداخلية في فلسطين المحتلة ومشاهد اعتقال الاطفال وتعذيبهم، ثم العدوان الاسرائيلي المستمر على الأراضي السورية، تثير ملاحظات عدّة حول "صورة التفوق النوعي" الاسرائيلي السابقة.
مستمدة من مفاهيم توراتية وتلمودية، عمل الاسرائيليون على تكريس صورة “الشعب المختار" و"المتفوق اخلاقيًا وعسكريًا" وذلك في كتابات المفكرين الصهاينة الاوائل، وبالتحديد، تيودور هرتزل الذي قال في كتابه: “فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود، ومن هناك سوف نشكّل جزءًا من استحكامات اوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية”.
في هذه العبارة، نجد صورة رسمها هرتزل وعملت الصهيونية العالمية على ترسيخها لغاية اليوم، وهي ترتكز على معايير ثلاث:
1- التركيز على تمجيد الذات ورفع “الأنا” الى مستوى أعلى من البشر الآخرين، وهي صورة تتلاءم مع الصورة التي تقدمها النصوص الدينية اليهودية.
2- العمل على تشويه صورة الآخر، فالآخر هو “البربري العنيف” مقابل “الحضارة والرقي والتمدن”.
3- صاغ هرتزل لليهود وللدولة الموعودة، وظيفة ودورًا هامين جدًا تتجلى في حيازة “موقع أمامي متقدم” للغرب في مواجهة “العدو”، بغض النظر عن الصفات التي يتخذها هذا “العدو” والتي تتبدل بتبدل اللحظة التاريخية، فقد يكون "البربري" في لحظة تاريخية معينة، لينتقل الى "الارهابي"، ثم الى "الايراني" اليوم الذي يهدد العالم وأميركا من خلال سعيه الى امتلاك السلاح النووري" .
فيما بعد أضيفت الى هذه الصورة، صورة اخرى تتلاءم مع مرحلة تاريخية مختلفة أي مرحلة تأسيس الدولة، وهي صورة “الضحية المظلومة” التي تأتي لتبرر للمتفوقين أخلاقيًا وقيميًا (الاسرائيليون) ما يقومون به من مجازر وعدوان وتعديات، وهو ما نجده مستمرًا من خلال بيان البنتاغون والبيت الابيض اللذان عبّرا عن دعمهما لاسرائيل في "حقها في الدفاع عن النفس في سوريا"، بعد إسقاط طائرة أف 16.
وبالرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تقهر، فقد استطاعت اسرائيل ان تجعل العقل الغربي يقبل صورتان متناقضتان بدون تفكير: صورة الضحية المغلوب على أمرها والمهددة في وجودها، وصورة القوة العاتية التي لا تقهر.
وفي كلا الحالتين، لقد ساهم الاعلام الحديث و"السوشيال ميديا"، ومن خلال الصور التي تبث من فلسطين المحتلة، في تحطيم صورة التفوق الاخلاقي و"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، التي عمل عليها الاسرائيليون طويلاً، أما الأحداث العسكرية والميدانية المستمرة منذ حرب تموز 2006 ولغاية اليوم، فقد أثبتت نظرية "عجز القوة" الاسرائيلية، وأعطت ردود الأفعال الاسرائيلية و"ضبط النفس" الذي يمارسونه الدليل القاطع على ان قرار الحرب لم يعد بأيدي الاسرائيليين منفردين، بل صار ملك منظومة توازن عسكري استراتيجي في المنطقة، وهو ما تثبته التهديدات الاسرائيلية المتتالية للبنان وسوريا والتي تبقى في اطار التلويح والتهديد لغاية الآن.
أما الوظيفة والدور التي حددتها اسرائيل لنفسها كموقع متقدم للجبهة الغربية في حربها واستعمارها للمنطقة، فقد أتت التطورات التي حصلت منذ مجيء الاميركيين عسكريًا الى المنطقة واحتلال العراق، وبعدها انخراط الأميركيين العسكري في سوريا، لتكشف ان اسرائيل لم تعد قادرة على الاضطلاع بالوظيفة والدور المنوطان بها وأهمها أن تكون “شرطي المنطقة”، أو "العصا" التي يتم التهديد بها كلما تجرأ أحد على تحدي "قواعد اللعبة الأميركية" في المنطقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق