2021/09/27

انتخابات إلمانيا: "دومينو" كورونا من ترامب الى أوروبا؟

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد المآسي التي تسببت بها كل من الفاشية والنازية في تلك الحرب وغرق الاتحاد الاوروبي في أزماته الاقتصادية والاجتماعية، تشتت أحزاب اليمين المتطرف، ولم يعد لها موقع هام في السياسة الاوروبية بشكل عام. ولكن، ولأول مرة منذ ذلك التاريخ، شهدت السنوات المنصرمة ومع صعود نجم ترامب في الولايات المتحدة الأميركية عودة لا بأس بها لليمين، ووصوله الى البرلمانات المحلية الاوروبية مكتسبًا أصواتًا إضافية من خلال تركيزه على فشل السياسات الاشتراكية والليبرالية، ومستغلاً الأزمة الاقتصادية التي تضرب اوروبا، وتفشي البطالة، والتخويف من المهاجرين، والأهم اعتماد ما هو معروف بسياسة التشاؤم من فكرة الاتحاد الاوروبي.

واليوم، يبدو من نتائج الانتخابات الالمانية أن اليمين، أو حزب البديل من أجل إلمانيا، قد خسر بشكل نقاط عدّة، ولكنه ما زال يحافظ على نسبة جيدة من أًصوات الناخبين الإلمان.

وبالرغم من أن تشكيل الحكومة قد يأخذ وقتاً طويلاً في إلمانيا، إذ أن القانون يمنح الحزب الذي فاز بالحصة الأكبر من المقاعد البرلمانية (الديمقراطي الاشتراكي)، فرصة تشكيل الحكومة، فإذا فشل، يمكن للحزب الذي أتى في المرتبة الثانية (الديمقراطي المسيحي)، ان يقوم يتشكيل أئتلاف حكومي.  وهكذا، ستبقى المستشارة أنجيلا ميركل لفترة طويلة كرئيسة للحكومة بالوكالة، وسيكون بإمكانها السيطرة على القرارات الداخلية والخارجية لحين تشكيل الحكومة الجديدة، الأمر الذي قد يستغرق أشهراً للوصول الى أئتلاف حاكم يستطيع أن يحكم ويفرز مستشاراً جديدًا لإلمانيا (في الانتخابات السابقة 2017، استغرق الأمر 171 يومًا - أو ما يقرب من ستة أشهر - لتشكيل حكومة جديدة).

خسارة حزب البديل من أجل إلمانيا، بالاضافة الى تراجع العديد من الأحزاب اليمينية الشعبوية في أوروبا، يشير الى أن جائحة كورونا والتعامل معها لم تسعف اليمين في أوروبا بشكل عام، بعكس موجة الهجرة التي انفجرت منذ سنوات، واستغلها اليمين الأوروبي للتركيز على "الخوف" من فقدان الهوية الأوروبية، واستغلال الضائقة الاقتصادية وتراجع فرص العمل للتصويب على الآتين من خلف البحار لاتهامهم بالتسبب بفقدان الوظائف وتغيير وجه أوروبا.

لم يحسن اليمين الشعبوي في حزب "البديل من أجل ألمانيا" التصرف حيال الجائحة، إذ يظهر من التصويت (والذي يبدو أنه تصويت لاستمرارية نهج ميركل) أن غالبية الألمان راضون عن أداء الحكومة في التعامل مع الجائحة، أما أولئك الذين بدو غير راضين، فتشير استطلاعات الرأي أنهم صوّتوا للحزب الليبرالي الذي قام بانتقاد السياسة الصحية وكيفية التعامل مع الجائحة، دون أن يصل الى مستوى رفض اللقاح، أو تسويق "نظريات المؤامرة".

وهكذا، يبدو ان جائحة كورونا قد تسببت (بشكل من الاشكال) في الاطاحة بترامب في الولايات المتحدة بعدما تمّ اتهامه بأنه لم يدرك كيف يتعامل مع الجائحة، وبعدما ارتفعت أعداد الوفيات والإصابات الى مستوى غير مسبوق في العالم، ولم يعرف حزب "البديل من أجل إلمانيا" كيف يجذب الناخبين حين كان التصويت مرتبطاً بالجائحة، وقد تكرّ السبحة في أنحاء أوروبا، فتكون موجة انتخابات ما بعد الجائحة 2021- 2022 هي الردّ المناسب لليبراليين واليسار على صعود اليمين في العالم في موجة 2016- 2017. 

2021/09/20

هل يتم "تلزيم" ايران بحفظ الاستقرار في الشرق الاوسط؟

د.ليلى نقولا

توترت الأجواء بين كل من فرنسا من جهة والولايات المتحدة الأميركية واستراليا من جهة ثانية، بعدما قام الأميركيون بإغراء الأخيرة لعقد شراكة مثلثة الأضلاع، بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا، ما أدى الى تراجع استراليا عن إتمام صفقة لشراء غواصات فرنسية متفق عليها منذ عام 2016، وإبرام صفقة بديلة مع الولايات المتحدة وبريطانيا.
وقد يكون السياق الذي يسير فيه الأميركيون، يشي بالكثير من التغيرات على الصعيد العالمي، وتراجع عن سياسة استراتيجية معتمدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الأميركيون يهدفون دائمًا إلى المحافظة على حرية وصولهم إلى المناطق الحيوية بلا قيود، وعلى نظام سياسي متوازن يضمن لهم نفوذًا في كل من أوروبا وشرق آسيا والشرق الأوسط (الخليج تحديدًا)، لذا هم لم يترددوا في بذل كل ما يمكن من امكانيات عسكرية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية لحماية هذا الهدف الحيوي والرئيسي بالنسبة لهم.
كان الهدف الرئيسي الدائم للولايات المتحدة، ليس فقط منع الآخرين من الاقتراب أو محاولة مدّ نفوذهم إلى الحيّز الأميركي، بل أيضًا محاولة مدّ نفوذها الى مناطق الآخرين ومنافستهم في حيّزهم الجغرافي لضمان حرية الوصول والحركة في تلك المنطقة الحيوية، ولو كانت بعيدة جغرافيًا عن الولايات المتحدة.
المجالان الأولان (أوروبا وشرق آسيا) يعتبران من المناطق الحيوية بالنسبة للأميركيين بسبب تواجد قوى عظمى أخرى، وبالتالي يهمّ الولايات المتحدة منع أي دول منافسة مؤثرة من السيطرة على تلك المناطق، أو منع الولايات المتحدة من حرية الحركة في تلك المناطق. أما المجال الثالث - الشرق الأوسط - فمهم بسبب وجود النفط، وهو مصدر طبيعي بالغ الأهمية للدول الكبرى في جميع أنحاء العالم.
في مسار التاريخ الأميركي كله، كانت أوروبا أهم هذه المناطق الثلاث. اعتمدت الولايات المتحدة سياسة "أوروبا أولاً" حتى قبل دخولها الحرب العالمية الثانية ؛ فعلى الرغم من أن اليابان، وليس ألمانيا، هي التي هاجمت بيرل هاربور، حافظ الأميركيون على سياسة "أوروبا أولاً" طوال فترة الحرب. وخلال الحرب الباردة، كانت أوروبا ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة أكثر من آسيا، ولهذا السبب كان الأميركيون يحوّلون القوات الأميركية من آسيا إلى أوروبا عندما يزداد التشنج بين القطبين .
واليوم، يبدو مسار الأمور مختلفاً جداً عما كان عليه في السابق، فالانسحاب الفوضوي من أفعانستان وإعادة طالبان الى السلطة بعد 20 عاماً من الحرب الأميركية في ذلك البلد، والاستعداد الاميركي للانسحاب عسكرياً من منطقة الشرق الأوسط، وتراجع التواجد العسكري في السعودية، بالاضافة الى التشنج المستجد مع فرنسا (وهي إحدى أبرز الحلفاء في حلف الناتو وقدمت الكثير من الخدمات للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط)، يشير الى إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية، وتبدل ترتيب تلك المناطق بحيث تصبح: آسيا أولاً، ثم أوروبا، وأخيراً الشرق الأوسط.
وعليه، إن القادم من السنوات، سيشهد تراجعاً ملحوظاً في الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط، وتوكيل جهات إقليمية متعددة بإدارة الصراع وتأمين الاستقرار. لذلك، إن قوى إقليمية متعددة ستسعى لسدّ الفراغ الاستراتيجي، فمن هي الدول المؤهلة لذلك؟ وأين يمكن أن تقف براغماتية الأميركيين وتمسكهم بثوابت السياسة الخارجية التقليدية؟
الجواب البسيط، إن دولاً اقليمية عدّة تستعد لتأمين الاستقرار وسدّ الفراغ الاستراتيجي الذي سيتركه الأميركيون، علماً ان براغماتية الأميركيين لا يحدّها حدود، ومن يعتقدون اليوم أن العداء الذي تكنّه الولايات المتحدة لإيران سيمنعها من عقد صفقة معها يتم بموجبها "تلزيم" الايرانيين بتأمين الاستقرار في بعض الساحات، يمكن أن يكتشف خطأه غدًا. عسى أن يتعظ اللبنانيون ويترفعون عن استخدام بلدهم ساحة لتحصيل الاوراق والمكاسب في هذا الوقت الفاصل.

 

بعد طعنات الحلفاء: هل آن أوان الاستقلال الأوروبي؟

تجد فرنسا نفسها غاضبة بـعد "الطعنة في الظهر" التي تلقتها من قبل حلفائها، بعد الاعلان عن إتفاقية تحالف أمني بين كل من استراليا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، والتي أضاعت على باريس عقدا ًتمّ توقيعه عام 2016، بين كل من استراليا ومجموعة "نافال غروب" المملوكة للدولة الفرنسية لتصنيع  12 غواصة تقليدية تعمل بالديزل والكهرباء تحت اسم "أتاك كلاس"، بقيمة 66 مليار دولار أميركي، وحيث سيحصل الجيش الأسترالي على ثماني غواصات على الأقل تعمل بالطاقة النووية من الولايات المتحدة بدلاَ من الغواصات الفرنسية .

وتأتي هذه الضربة للفرنسيين، على أبواب انتخابات رئاسية داخلية يتوقع الكتير من المراقبين أن يفقد ماكرون القدرة على العودة الى الحكم من جديد، وفي ظل غياب ميركل عن المشهد الإلماني، واحتمالات خسارة حزبها الانتخابات الداخلية المرتقبة في إلمانيا.

منذ مجيء ماكرون الى الحكم، وهو – كالعديد من القادة الفرنسيين قبله- يسعى الى مزيد من الاستقلالية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأميركية، وقد تطورت التصورات الفرنسية، منذ خطاب ماكرون[1] في جامعة السوربون عام 2017  والذي اعتبر فيه أن "الطريقة الوحيدة لضمان المستقبل هي إعادة تأسيس أوروبا ذات سيادة وموحدة وديمقراطية"، ثم دعوته عام 2018 الى "تعميق التضامن في الاتحاد الأوروبي وإنشاء جيش أوروبي"[2]، وصولاً الى دعوته ميركل عام 2020 الى حوار استراتيجي لبحث سياسة مستقبلية للاتحاد، تأخذ بعين الاعتبار المستجدات على الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكن ميركل خذلته معتبرة أنه في حال قررت الولايات المتحدة عدم رغبتها بقيادة العالم، يمكن حينها للاوروبيين بالتفكير ببدائل.

ولم يكتفِ ماكرون بذلك، بل اعتبر في مقابلة مع مجلة The Economist  عام 2019، أن الناتو يعاني من "موت دماغي" ما أثار ردة فعل سريعة من قبل الحلفاء في الناتو والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي انتقدت هذه الأقوال، معتبرة أنه "حتى لو كانت لدينا مشاكل لكننا نحتاج إلى التكاتف". كان ماكرون ينتقد في تلك المقابلة، ما اعتبره غياب التنسيق بين اعضاء الناتو، والشكوك حوال التزام الولايات المتحدة الأميركية بأمن حلفائها وباستمرار الناتو في ظل حكم دونالد ترامب.

واليوم، هل يكون بإمكان الفرنسيين أن يدفعوا الى مزيد من الاستقلال الاوروبي لمواجهة التغيرات العالمية، خاصة بعدما تبين ان الولايات المتحدة الأميركية لم تعد تعطي الأولوية لأوروبا في تقييمها الاستراتيجي، بل إن منطقة شرق آسيا، باتت في المرتبة الأولى في تقييم التهديدات والفرص الاستراتيجية الأميركية؟.

لمواجهة المتغيرات الاستراتيجية العالمية الزاحفة والمتحولة، على الأوروبيين القيام بما يلي:

أولاً- تعزيز الاستقلالية في السياسة الخارجية:

لا شكّ أن الاوروبيين تنفسوا الصعداء بعد مجيء جو بايدن الى الحكم في الولايات المتحدة وإعلانه "عودة أميركا"، خاصة بعد قمة السبع والاتفاق على إطلاق مشروع تنموي موازٍ للمشروع الصيني.

وكان تقسيم بايدن للعالم بين طرفي نقيض" الدول الديمقراطية، والدول غير الديمقراطية، مدغدعاً لعواطف معظم الحكام الأوروبيين، الذين ما زالوا يمنون النفس بنشر القيم الليبرالية في العالم.

لكن الكلام شيء والافعال شيء آخر، وتبدو أولويات الولايات المتحدة بعيدة عن أولويات أوروبا اليوم، حيث يبدو أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية لصراعها الاستراتيجي مع الصين، وإن سياسة "أوروبا أولاً" التي سادت في التقييم الاستراتيجي الأميركي منذ الحرب العالمية الثانية أصبحت من الماضي.

ثانياً- تعزيز القدرات العسكرية الأوروبية:

في هذا الإطار، لطالما اعتبر ماكرون أنه " إذا لم يكن لأوروبا مصداقية عسكرية، في عالم تتصاعد فيه القوى الاستبدادية مرة أخرى، فلن تستطيع أن تجلس على الطاولة".

وبالفعل، إن إلتزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، وانفاقها الدفاعي الهائل على حلف الناتو سيصبح من الماضي، في ظل تشاطر الحزبين في الولايات المتحدة النظرة الى أن الانفاق الدفاعي الاوروبي هو اقل من المطلوب بكثير، وان الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمّل "الركاب بالمجان free riders

ثالثاً- تعزيز القدرات الجيوسياسية الاوروبية:

لا يمكن لأوروبا ان تواجه العقد القادم من القرن الحادي والعشرين، بأدوات تقليدية. إن العالم مقبل على تحديات جمّة، سيستعر فيها التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى عبر حروب هجينة ومركّبة، لذا فإن غياب أوروبا عن الفعالية والنفوذ في قضايا مثل الاقتصاد الرقمي، والتجارة والتنمية والاستثمارات في التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، سيجعلها ساحة تنافس نفوذ بين القوى العظمى بدل أن تكون لاعباً اساسياً على المسرح العالمي.

رابعاً- استقلالية النظرة الى كل من روسيا والصين

لن يستطيع الاوروبيون الاستمرار في السير خلف الولايات المتحدة الأميركية، في ظل تباين مصالح الطرفين وتباين أولوياتهما. إن النظرة  الأوروبية الى روسيا كجار وشريك ومنافس تختلف عن التقييم الأميركي للصراع العالمي مع الروس، وبالتالي ان التجاور الجغرافي مع روسيا يحتّم على الأوروبيين اعتماد مقاربة مختلفة عن المقاربة الأميركية للعلاقة مع الروس.

أما بالنسبة للصين، فتنظر اليها أوروبا باعتبارها "شريكاً ضرورياً وخصماً" في نفس الوقت. وكان ماكرون قد سارع الى التعليق على البيان الختامي لقمة حلف شمال الاطلسي، التي انعقدت في حزيران / يونيو المنصرم، والذي أُدرجت فيه الصين باعتبارها باتت "تشكّل خطراً أمنياً... وتحدّياً للنظام الدولي"، بالقول إنه "ليس للصين علاقة تُذكر بالحلف (الناتو)؛ لذا، من المهمّ ألّا ننحاز في علاقاتنا".

 

بالنتيجة، من غير المتوقع أن يستطيع الأوروبيون السير نحو الاستقلالية عن الولايات المتحدة بهذه السهولة، في ظل غياب الرغبة لدى العديد من القادة الأوروبيين بشكل عام والالمان بشكل خاص، وعدم قدرة فرنسا منفردة على السير بهذه المهمة، بالإضافة الى سيطرة الولايات المتحدة على قرار العديد من الدول الصغرى في الاتحاد.

وعليه، إن مسار التطورات في العالم، تفيد بأنه في عالم متحوّل بسرعة، إن لم تستطع أوروبا التكيّف مع التحديات الاستراتيجية الزاحفة، فستتحول من قطب موازٍ الى ساحة صراع  ومجال للمنافسة بين القوى الكبرى. 

2021/09/13

العلاقات السعودية الاميركية: نحو انعطاف استراتيجي؟

بعد مطالبات حثيثة من أهالي ضحايا 11 أيلول/سبتمبر، وقّع الرئيس الأميركي جو بايدن أمراً تنفيذياً برفع السرية عن وثائق التحقيق التي بقيت سرية لغاية تاريخه، على أن تكشف خلال الأشهر القادمة. وكشفت باكورة الوثائق، التي رفعت عنها السرية، عن تورط أحد موظفي القنصلية السعودية في لوس أنجلس، عمر البيومي - تقول الوثيقة أنه عميل للاستخبارات السعودية- في مساعدة المهاجمين.

وعبّر السعوديون عن استيائهم من قرار الإدارة بكشف الوثائق، واعتبروا أن المذكور في تلك الوثائق غير صحيح، في ظل تشنج واضح في العلاقات بين البلدين، فهل تبدو العلاقات السعودية الأميركية على مفترق طرق؟

الجواب يبدو نعم، بالرغم من تزايد التأكيدات الأميركية على محورية وأهمية الدولة السعودية كشريك وحليف للولايات المتحدة الأميركية، ولكن الحقيقة أن التغيّر في النظرة الى السعودية، داخل الولايات المتحدة الأميركية مستمر منذ هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001، وعبّر عنه بشكل واضح الرئيس الأميركي باراك أوباما.

-      عهد بوش الأبن (2001- 2008):

بالرغم من تورط العديد من المواطنين السعوديين في هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، إلا أن العلاقة بقيت جيدة بين السعودية والإدارة الأميركية، وخاصة وان السعودية ادانت العمل الارهابي، وتعاونت مع الأميركيين، معتبرة أنها نفسها تعرضت لارهاب "القاعدة" من قبل.

ومن ضمن مبادرة الشرق الأوسط الموسع، التي سوّقت لها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، دعا الأميركيون الى تغيير المناهج التربوية السعودية لنبذ التطرف والدعوة الى التسامح الديني، لكن شيئًا لم يحصل. غضّ الأميركيون النظر لحاجتهم الى الدعم الخليجي في حروب العراق وأفغانستان.

-      مرحلة أوباما (2009- 2016)

 توترت العلاقة الأميركية السعودية بشكل كبير خلال عهد أوباما، فقد اتهم السعوديون الادارة الأميركية بدعم التغيير في العالم العربي عبر دعم الثورات العربية التي أطاحت، في السنوات الأولى، أو هددت، حكم حلفاء السعودية في المنطقة.

وفيما بعد، وبعد الكشف عن المحادثات السرية التي كان يعقدها الأميركيون مع الايرانيين، ثم بعد توقيع التفاهم النووي مع إيران عام 2015، تشنجت العلاقات بين الطرفين، وعبّر السعوديون عن استيائهم خلال زيارة أوباما الى السعودية، بالاخلال بالبروتوكول الرسمي، وعبر تصريحات متفرقة تتحدث عن "افتراق" سعودي أميركي.

-      عهد ترامب (2017- 2020)

كانت علاقة ترامب بولي العهد السعودي ممتازة، فقد أنفق السعوديون مئات المليارات من الدولارات على صفقات أسلحة واستثمارات في الداخل الأميركي، وأقيمت حملة علاقات عامة لتسويق الانجازات والانفتاح والتطور الذي تعيشه السعودية في ظل حكم محمد بن سلمان، وبارك ترامب الحصار الذي تمّ فرضه على قطر.

لكن مقتل الخاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا، أحرج ترامب وإدارته، بعدما ساد استياء عارم في الاوساط الاعلامية والأكاديمية والسياسية في الولايات المتحدة وازدادت المطالبات بإنهاء الدعم الأميركي للسعودية، ومحاكمة ولي العهد السعودي.

 

-      إدارة بايدن (2021- )

اليوم، تبدو إدارة بايدن استمراراً لإدارة بايدن في العديد من التصورات الاستراتيجية في العالم، ويمكن أن نفهم رؤية بايدن للعلاقة مع السعودية، إنطلاقاً من "عقيدة أوباما"، التي تمّ شرحها في حديث واسع وشامل مع مجلة "ذي أتلانتك". كان أوباما "غاضباً من العقيدة السياسية الخارجية التي تجبره على معاملة السعودية كحليف". وفي حديث مع رئيس الحكومة الأسترالية مالكولم تيرنبول، وصف أوباما كيف تحوّلت إندونيسيا، تدريجياً، من دولة مسلمة متسامحة إلى دولة أكثر تطرفاً وغير متسامحة. سأله تيرنبول "لماذا يحصل هذا الأمر؟"، أجابه أوباما «لأن السعودية وغيرها من الدول الخليجية ترسل الأموال وعدداً كبيراً من الأئمة والمدرّسين (الإسلاميين) إلى البلد». وأضاف "في عام 1990، موّلت السعودية المدارس الوهابية بشكل كبير، وأقامت دورات لتدريس الرؤية المتطرفة للإسلام، والمفضّلة لدى العائلة المالكة". عندها سأله تيرنبول «أليس السعوديون أصدقاءكم؟"، أجاب أوباما بأن "الأمر معقد".

وهكذا، يبدو أن هناك تراجعاً واضحتً لمستوى العلاقات السعودية الأميركية مع وصول بايدن، ونورد بعض المؤشرات:

- منذ وصوله، كشف بايدن عن الوثائق المتعلقة بمقتل الخاشقجي، والتي أكدت إعتقاد الاستخبارات الأميركية بتورط بن سلمان شخصياً بالأمر.

سحبت الولايات المتحدة، أحدث منظوماتها للدفاع الصاروخي وبطاريات صواريخ باتريوت من السعودية خلال الصيف الحالي، بالرغم من حاجة السعودية لأنظمة دفاع جوّي متطورة في ظل الهجمات التي يشنّها اليمنيون على الأراضي السعودية رداً على الحرب السعودية المستمرة على الأراضي اليمنية.

- توقيع السعودية اتفاقية للتعاون العسكري مع روسيا، خلال زيارة نائب وزير الدفاع السعودي الى موسكو، في نهاية آب/ أغسطس المنصرم. وصدور تحذير أميركي لجميع شركاء وحلفاء الولايات المتحدة على "تجنب المعاملات الجديدة الرئيسية مع قطاع الدفاع الروسي كما هو موضح في القسم 231 من قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات (CAATSA) كاتسا".

- أعلنت وزارة الدفاع الأميركية، عن إرجاء زيارة وزير الدفاع لويد أوستن إلى السعودية، التي كانت مقررة ضمن جولته الخليجية خلال الأسبوع الماضي، بسبب "مسائل تتعلق بالجدول الزمني"، بينما استقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي في قصر نيوم في السعودية – في نفس اليوم- رئيس لجنة الشؤون الدولية بمجلس الدوما الروسي ليونيد سلوتسكي.

في النتيجة، يبدو أن المنطقة قادمة على خلط أوراق عدّة، منها رغبة الأميركيين في توسيع نفوذ بعض الدول الخليجية الأصغر على حساب "الشقيقة الأكبر" – السعودية، فلا يمكن اغفال الدور الذي يعطيه الأميركيون لقطر بعد انسحابهم من أفغانستان، وللامارات العربية المتحدة التي افتتحت موجة التطبيع مع اسرائيل، وقد يكون لمصر الدور الاستراتيجي المستقبلي في المشرق العربي.

 

 

تشكيل الحكومة في لبنان...انقلاب على الانقلاب؟

لاح بعض الأنفراج الداخلي في لبنان بعد تشكيل الحكومة اللبنانية برئاسة نجيب الميقاتي، الذي استطاع أن يحقق ما لم يستطع سعد الحريري ان يحققه خلال شهور من تمسكه بورقة تكليفه رئيساً للحكومة، وبالرغم من كل الدعم الذي ناله من الثنائي الشيعي وخاصة من رئيس مجلس النواب، الرئيس نبيه برّي.

ويبدو من الأجواء التي رافقت تشكيل الحكومة، أن قراراً خارجياً صارماً فرض تشكيل تلك الحكومة، رغماً عن المعرقلين في لبنان، أو الداعين الى إيقاف عجلة البلاد لغاية انتهاء عهد الرئيس عون، بما يوحي أن الحدث اليوم، هو انقلاب على مسار مستمر منذ ما قبل اندلاع الثورة، وبالتحديد منذ نهاية صيف عام 2017، وخاصة بعد معركة انهاء الخطر التكفيري على الحدود مع لبنان، والذي تمّ الردّ عليه بإعلان مصرف لبنان إيقاف القروض الاسكانية وتوالي الأزمات المفتعلة... وحيث بدأت مرحلة "تدفيع لبنان" ثمن تحديه الغطرسة الاسرائيلية والارادة الدولية التي تريد تحويل لبنان ظهيراً للعصابات المسلحة والتكفيريين في سوريا.

وهنا لا بد من الاشارة الى بعض الأجواء الداخلية التي ترافقت مع تشكيل الحكومة اللبنانية:

-      احباط عارم لدى المحسوبين على رئيس تيار المستقبل سعد الحريري،  حيث كان هؤلاء يمنون النفس بعدم قدرة ميقاتي على التشكيل واتهام رئيس الجمهورية وجبران باسيل بتعطيل البلد. وتزامناً مع تشكيل الحكومة، توالت الأزمات المالية على سعد الحريري، وتمّ حجز طائرته الخاصة، وتمّ بيع أملاك سعودي- أوجيه بالمزاد العلني في السعودية، وتمّ توجيه طلب سعودي الى لبنان لحجز أملاكه الخاصة في لبنان. ويأتي هذا الأمر، على أبواب انتخابات نيابية، يحتاج فيها الحريري للكثير من الأموال لتعويض نقص عدم وجوده في السلطة.

-      رسائل وجهتها حركة أمل عبر "استعراض عسكري" في الجنوب، حيث نفّذ مئات العناصر من حركة أمل في منطقة النبطية، بدءاً من ليل الخميس ــــ الجمعة الماضي، مناورة عسكرية تحت عنوان «الرعب الأعظم».

يشبه هذا الاستعراض الى حدٍ بعيد الاستعراض العسكري الذي حصل في أواخر آب عام 2016، وذلك قبيل انتخاب الرئيس ميشال عون من قبل المجلس النيابي، من ضمن تسوية محلية – اقليمية حازت على رضى دولي على ابواب الانتخابات الرئاسية الأميركية.

-      القوات اللبنانية التي يبدو أن رأيها بالحكومة من ضمن خطتها الانتخابية، فقد استمرت في مهاجمة التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية ( يتنافس الطرفان ضمن نفس المساحة الانتخابية)، ولكنها حيّدت  الرئيس ميقاتي، بعدما كان الميقاتي قد موّل مشاريع عدّة لستريدا جعجع.

بكل الأحوال، إن اي تسوية أو انفراج لا يفيد  "القوات اللبنانية" ضمن خطتها الانتخابية التي تقوم على تحريض الرأي العام على التيار الوطني الحر واتهامه بالتسبب بأزمات البنزين والمحروقات والدواء وسواها، التي تبيّن أنها أزمات مفتعلة ومدبرة داخلياً، سواء بالجشع أو بالتواطؤ أو بالتآمر على لبنان.

-      استياء عارم لدى الأسماء المحسوبة على "الثورة"، متهمين الحكومة بأنها حكومة محاصصة من غير الاختصاصيين، وأن لا تغيير في الأفق، وأن محاربة هذه الحكومة يجب أن تكون أولوية الأولويات، ويجب العمل لإسقاط هذه "المنظومة" في الانتخابات النيابية بعدما تبين أنه بدون أغلبية في مجلس النواب، لن يكون هناك أمل بالتغيير.

-      خروج بعض الاصوات المحسوبة على البطريركية المارونية، للتصويب على الحكومة واعتبارها نتيجة "تفاهمات خارجية لمصلحة طهران". وقد يكون البطريرك الراعي من ضمن أحد أبرز الخاسرين بعدما وضع نفسه في خانة العداء مع العديد من القوى السياسية المسيحية والاسلامية، وسار في طروحات لا تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى في لبنان، فوضع نفسه طرفاً سياسياً بدل أن يكون أباً روحياً جامعاً.

 

بكل الأحوال، يبقى أن تشكيل الحكومة اللبنانية ووجودها أفضل من عدمه، بعدما باتت الحاجة ملحة لوقف الانهيار الاقتصادي وفرملة انحدار اللبنانيين نحو المجاعة. وإذا كان الضوء الأخضر الخارجي قد أعطى إمكانية لتلك الحكومة للتشكّل، فإن المقياس اليوم، هو قدرة اللبنانيين على استغلال ذلك الضوء لمصلحة لبنان، وعدم تضييع الفرصة السانحة لإخراج لبنان من مسار الانحدار الاقتصادي، الذي دفع اللبنانيين بمعظمهم الى ما تحت خط الفقر. 

2021/09/07

لبنان: الاميركيون في مرحلة إعادة تموضع أو إعادة انتشار؟

لم يكد السيد حسن نصرالله الاعلان عن انطلاق باخرة نفط من إيران حتى لبنان، حتى سارعت السفيرة الأميركية الى الاتصال برئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، وإبلاغه قرار الادارة الأميركية بمساعدة لبنان لمواجهة الأزمة المستفحلة التي يعيشها، وبالتالي الموافقة على استجرار الطاقة الكهربائية من الأردن وتسهيل استجرار الغاز المصري الى لبنان، وذلك عبر سوريا.

وبالفعل، وبعد الضوء الأخضر الأميركي، انطلق وفد حكومي لبناني الى سوريا للتنسيق في تطبيق هذين الأمرين، وتقرر عقد لقاء عمل لوزراء الطاقة في سوريا ولبنان ومصر والاردن، لبحث آلية التعاون وتطبيق تلك الاتفاقيات التي يعود بعضها الى ما قبل الحرب في سوريا. والمؤسف أن عرضاً أردنياً لتزويد لبنان بالطاقة الكهربائية تمّ الحديث عنه عام 2017، ولكن الكيدية السياسية اللبنانية وعدم رغبة حكومة الحريري بالتعاون مع دمشق عطّلت إمكانية استفادة لبنان من هذا العرض الذي كان سيوفّر الكثير على الخزينة اللبنانية.

وبالتأكيد، إن التطور في هذا الملف، واستثناء الكهرباء والغاز من العقوبات الأميركية على سوريا بموجب قانون قيصر، سيفتح كوّة في جدار الحصار الأميركي على سوريا عبر العقوبات.

هل يعني هذا هزيمة أميركية وانسحاباً من المنطقة أو إعادة تموضع وانتقال الى خطط بديلة بعد فشل في تحقيق الاهداف عبر الوسائل السابقة؟

تقوم المسلمات الأميركية في الاستراتيجية المطبقة في المشرق العربي، على ما يلي:

-      أمن اسرائيل وازدهارها

بداية، لا بد من الاشارة الى أن خط الغاز العربي الذي تريد السفيرة الأميركية إعادة إحيائه  لتأمين الغاز المصري الى لبنان، قد تعرّض للكثير من الهجمات الارهابية، في كل من سوريا ومصر على حد سواء وبالتالي قد يحتاج الى تمويل من البنك الدولي لإعادة ترميمه، وهذا يعني تعاون البنك الدولي مع الحكومة السورية ومدّها بالاموال اللازمة لذلك.

بالأساس، تم إنشاء هذا الخط  من أجل نقل الغاز المصري إلى دول المشرق العربي ومنها إلى أوروبا، ولكن التطورات الميدانية التي حصلت واقتطاع تركيا لجزء من الجغرافيا السورية، يجعل من الصعب اليوم استخدامه لهذه الغاية، وبالتالي من غير الممكن لهذا الخط أن يحقق أية أهداف استراتيجية كبرى إلا بعد التسوية الشاملة في المنطقة.

في مقابل إعادة إحياء خط الغاز العربي، يعمل الأميركيون منذ عام 2019 على تـأسيس خط آخر لتصدير الغاز الى أوروبا، عبر منتدى غاز شرق المتوسط، الذي تعمل على تطوير التعاون في مجال الغاز الطبيعي في شرق المتوسط وتحقق استغلالاً حقيقياً لموارده، وهو يضم اسرائيل من ضمن مجموعة من الدول الأخرى في المنطقة.

إذًا، إن الخط العربي المنوي إحياؤه لا يؤثر فعلياً على اسرائيل وقدرتها على تصدير الغاز في المستقبل الى اوروبا، وبالتالي إن الضوء الأخضر الذي أعطاه الاميركيون لنقل الكهرباء والغاز الى لبنان عبر سوريا، تبدو جزءًا من تخفيف وقع الانهيار وكنتيجة لفشل "خطة بومبيو" في لبنان.

 

-      احتواء النفوذ الروسي في المنطقة

تبدو الخطط الاميركية لرسم خطوط الطاقة في المنطقة، موجهة بالأساس لمنع الروس من الاستمرار في السيطرة على أمدادات الطاقة الى أوروبا، وقد يكون البديل الذي أوجده الروس لخط أنابيب أوكرانيا، إن عبر خطوط السيل الشمالي 1 و2، أو عبر خط السيل التركي، بالاضافة الى عدم قدرة الأميركيين والغرب على تأمين الغاز لخط نابوكو، هو الدافع للتوجه نحو شرق المتوسط لتأمين الغاز الى أوروبا بسعر مقبول، وذلك عبر منتدى غاز شرق المتوسط، والذي لا يمكن أن يستمر ويتطور إلا عبر وجود أميركي في المنطقة، يجعل من الدول المنضوية فيه تحت تأثير النفوذ الأميركي المباشر.

-      احتواء النفوذ الايراني في المنطقة

لا شكّ أن قدوم السفن الايرانية المحملة بالمحروقات الى كل من سوريا ولبنان، ستكون بمثابة تغيير استراتيجي كبير سيؤثر على موازين القوى في الداخل اللبناني.

ان سنوات من الحرب الاعلامية المدفوعة لتحميل حزب الله مسؤولية الانهيار الاقتصادي، خرقها الاعلان عن قدوم البواخر، وانتظار اللبنانيين الفرج القادم عبر الصهاريج من سوريا. وبدا أن غالبية اللبنانيين – بمختلف انتماءاتهم- يرحبون بالفرج القادم عبر البواخر الايرانية، بدليل ان الرئيس المكلف نجيب ميقاتي أعتبر "أن من يعيب علينا قدوم البواخر الايرانية فليقدم لنا شمعة".

 

إذاً، يبدو الحراك الأميركي مستعجلاً لتخفيف وطأة الانهيار اللبناني، بعد أن تبين بالوقائع أن الانهيار الاقتصادي لم يجعل اللبنانيين يتخلون عن سيادتهم في مياههم، وأنهم لن يفرطوا بالثوابت، وأن الجوع لن يجعل اللبناني أقل قوة وبأساً في مواجهة اسرائيل عسكرياً... وبالتالي، إن الرهان على نجاح خطة بومبيو( مواجهة حزب الله أو الجوع)، باء بالفشل، ولا بد من الانتقال الى الخطة ب، وإلا زادت الخسائر وانقلبت موازين القوى في الداخل اللبناني لغير مصلحة الاميركيين وحلفائهم. وعليه، إن الحديث عن خروج أميركي من المنطقة شبيه بخروجهم من أفغانستان ما زال مبكراً، علماً أن الخطة ب، قد لا تؤكد أن الاميركيين لن يتخلوا عن حلفائهم في لبنان في نهاية المطاف.

 

2021/09/06

الوقت ليس في صالح المعرقلين

 

ينتظر اللبنانيون على أحرّ من الجمر وصول المحروقات من إيران ووصول النفط العراقي، وذلك على أمل ان تتحسن التغذية بالطاقة الكهربائية وتتحسن الطوابير على المحطات، وتتحرك عجلة الاقتصاد قليلاً.

 

وإذا كان الوضع المعيشي صعباً، فإنه سيزداد صعوبة على أبواب فتح المدارس، حيث ستلهب الأقساط المدرسية والقرطاسية والنقل اللبنانيين، وستجعل الأزمة التي عاشوها في الربيع والصيف أكثر حدّة في الخريف والشتاء.

 

ومع هذه المؤشرات الاقتصادية المقلقة، لا يبدو أن أفق تشكيل الحكومة قد أطلق خارجياً، في ظل تعنت بعض الفرقاء الاقليميين، الذين ينتظرون تغيّر موازين القوى لحصد المكاسب في لبنان لذا يندفعون الى التعطيل، علماً أن الوقت لا يلعب لصالح هؤلاء الذين يدفعون الأمور دفعاً الى مزيد من التدهور، علّهم يحصلون من اللبنانيين على تنازلات في مجالات استراتيجية عدّة؛ ويمكن أن نشير الى المؤشرات التالية:

 

1-  بدء ردّ الفعل الهجومي

 

منذ ثورة 17 تشرين ولغاية اليوم، تمّ تطبيق العديد من الخطط التي تهدف الى تغيير موازين القوى في لبنان،  وذلك لإحراج حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر، وإخراجهما من معادلة السلطة والحكم في لبنان، وللحصول على تنازلات أخرى متعلقة بملف الحدود البحرية وتوطين اللاجئين وسواها.

 

أما اليوم، وبعد الاعلان عن قدوم البواخر الايرانية الى لبنان، فيمكن القول أن الخيار الهجومي الذي اتخذه حزب الله - بعدما اكتفى على مدى سنتين بامتصاص الفعل بدون أي رد فعل- سيجعل من القدرة على اللعب على عامل الوقت لإخضاع اللبنانيين غير ذي جدوى.

 

2-  خرق جدار الحصار على سوريا

 

من حيث تريد أو لا تريد، أعلنت السفيرة الأميركية في لبنان، فتح كوّة في جدار الحصار المفروض على سوريا بموجب قانون قيصر. وإذا كان الهدف من الضوء الأخضر الذي منحته السفيرة لاستجرار الكهرباء من الاردن، والغاز من مصر الى لبنان، هو إراحة الوضع اللبناني، ومنع حزب الله من كسب التأييد في لبنان بحلّ أزمة المحروقات، لكن التنسيق مع سوريا وإعطاء سوريا حصة من الغاز والكهرباء التي ستمر عبر أراضيها ستؤدي الى تخفيف الضائقة التي يعاني منها المجتمع السوري بفعل الحصار المفروض أميركياً.

 

3-  رفع نفوذ مصر كدولة اقليمية

 

منذ مجيء أوباما الى المنطقة عام 2009، وبدء جولته الاقليمية من القاهرة، بدت مصر مرشحة أميركياً لتزعم دور ريادي عربي في المنطقة.

 

ولكن الربيع العربي لم يجر كما كان مخطط له، فدخلت مصر في ثورة ثانية تصحيحية للثورة الأولى، وضُربت بالارهاب وعدم الاستقرار. وبالرغم من أنه – في وقت لاحق- بدت مصر على أهبة الانخراط بدور أكبر في النزاع السوري، عبر تأسيس "منصة القاهرة" عام 2017، إلا أن التطورات الدولية والميدانية أبعدت الحل السياسي المرتقب وضاع معها  الحديث عن عودة سوريا الى الجامعة العربية.

 

واليوم، يبدو من التشجيع الأميركي للتكامل المصري مع المشرق العربي، وخاصة تفعيل اتفاقية التكامل بين الاردن والعراق ومصر، بالاضافة الى الدعوة الاميركية اليوم لمصر والاردن للعب دور في تخفيف حدّة الازمة اللبنانية، وقبلها الدور المصري في دعم الحريري لرئاسة الحكومة (لم يستطع تخطي الفيتو السعودي عليه) الخ... كلها تشير الى أن مصر قد تكون مرشحة للعب دور موازن عربياً لكل من ايران وتركيا في بلدان المشرق العربي، خاصة بعدما بدت السعودية غير قادرة على لعب دور تسووي في المنطقة لانخراطها في الحروب في تلك الدول حيث كسبت الأعداء، بالإضافة الى سياسة "الحرد" التي تتبعها حالياً في لبنان.

 

  

2021/09/01

لماذا يفشل الأميركيون في السياسة الخارجية؟

 

وقف العالم مذهولاً أمام صور الانسحاب الأميركي من أفغانستان، والتي أعطت انطباعاً بأن هزيمة عسكرية قد حصلت، وأن الجيش الأميركي وأعوانه ينسحبون على وقع ضربات سددتها طالبان للقوات الأميركية، وهو أمر لم يحصل واقعياً، بل إن الانسحاب الأميركي كان محدد في التوقيت والزمان، بفضل سنوات من التفاوض مع طالبان وأشهر من التحضير لإنسحاب حدده بايدن في أواخر آب الجاري.

 

وتشير العديد من المقالات والتحقيقات أن حرب الولايات المتحدة الأميركية الأطول في ذلك البلد، كانت تخدم شركات الأمن الخاصة، وشركات السلاح، والتنقيب عن المعادن، لكن الأمر الأكثر غرابة هو ما تم كشفه من أن عتاداً عسكرياً بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، تمّ تركه في الميدان وحصلت عليه طالبان ما يجعلها تمتلك أسلحة استراتيجية قلّ نظيرها في المنطقة.

 

ولعل الذهول الذي طبع العالم من الصور المذلة للانسحاب الأميركي، مردّه الى أن العديد من المحللين والناس العاديين حول العالم، يعتقدون أن الولايات المتحدة "لا تخطئ ولا تنهزم" وأن كل ما يقوم به الأميركيون حتى الفوضى وصور الهزيمة، "محضّر له بعناية ومدبّر"، وأن الأميركيين "مثاليون" في التنظيم والتخطيط الاستراتيجي والتنفيذ.

 

ولكن الاعتقاد هذا، والذي قد يكون مرده الى دعاية سياسية أميركية، وقوة ناعمة أميركية ناجحة، تدحضه العديد من الوقائع التاريخية ونذكر بعض الأمثلة الحديثة، منها:

 

-      الحرب على العراق 2003 - 2008

 

بعد القضاء على حكم صدام حسين، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش أن العراق سيكون نموذجاً للديمقراطية في المنطقة، وأن  نظرية الدومينو سوف تطبق فتتدحرج جميع الدول المحيطة بالعراق وتنتقل من الحكم الديكتاتوري الى الحكم الديمقراطي.

 

         قام الرئيس الأميركي جورش بوش الأبن بتعيين السفير بول بريمر رئيسًا للإدارة المدنية للإشراف على إعادة إعمار العراق في 6 أيار/ مايو 2003. بعد تعيينه مباشرة، رفع بريمر مذكرةً إلى وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد خلُص فيها مبدئيًا إلى أنه ينبغي حلّ الجيش العراقي وأجهزة الأمن والمخابرات العراقية، فوافق. وأدّى تطبيق هذه السياسة الى اهتزاز الأمن والاستقرار في العراق، وساهم الأميركيون في دعم الحكام الفاسدين ما حوّل العراق الى دولة فاشلة ما زالت تتعثر لغاية اليوم.

 

وتشير شهادات الدبلوماسيين الذين عملوا في العراق في تلك الفترة، أن برامج كل من بريمر التابع لوزارة الخارجية، ورامسفيلد في وزراة الدفاع، تضاربت في العراق وتضاربت معها مصالحهم ومصالح اللوبيات التي يخدمونها، حتى وصل الحال الى ما هو عليه من فوضى جعلت الأميركيين يدفعون تريليونات الدولارات وآلاف القتلى بدون تحقيق الأهداف المرسومة من قبل الإدارة، واتخاذ قرار الانسحاب عام 2008.

 

-      دعم الاخوان في مصر 2011- 2013

 

حصلت ثورة 25 يناير في مصر للاطاحة بحكم حسني مبارك، وبالرغم من أن حركة الاخوان المسلمين المصرية كانت آخر من انضم الى التظاهرات، بيد أنها استطاعت أن تتصدر الحركة الشعبية وتفوز في الانتخابات لأنها كانت الأكثر قوة والأكثر تنظيماً، وبفضل الدعم الأميركي للحركة (خطة هيلاري كلينتون).

 

وبالرغم من أن الشارع المصري عاد بعد سنتين وانتفض على الحكم الاخواني بسبب سلسلة من الاخطاء، وتبدل موازين القوى الداخلية والاقليمية، إلا أن السفيرة الأميركية في القاهرة آن باترسون (لقبها المصريون بالحيزبون وطالبوا برحيلها) استمرت في دعم مرسي حتى اللحظة الأخيرة قبل سقوطه.

 

استمر تعامي الأميركيين عن أخطاء سياساتهم في مصر حتى اللحظة الأخيرة، واستمروا في الدعاية السياسية للإخوان، وذلك عبر العديد من الصحفيين والسياسيين الذين يدورون في فلكهم، وكنوع من التسويق السياسي قام مركز "بيو" للأبحاث، بنشر نتيحة استطلاع  للرأي قام به في مصر في 17 أيار/ مايو 2013 (قبل أسابيع من الثورة المليونية الثانية)، ادعى فيه ان نسبة تأييد مرسي بين المصريين تبلغ 53 %، وأن غالبية 67% من المصريين تؤيد الاخوان!.

 

نورد هذين المثالين، للإشارة الى أن الأميركيين عادة ما يفتقرون الى المعرفة بالظروف الاجتماعية الدقيقة السائدة في بلد معين، فيضعون الخطط بناءً على رأي استشاريين وعملاء من البلد نفسه، الذين عادة ما يقولون ما "يعتقدون أن الأميركي يود سماعه"، ويخلطون بين الدعاية السياسية والحرب النفسية التي يقوم بها الأميركيون، وبين واقع الحال الحقيقي الذي يجب أن يتسم بمنتهى الموضوعية لأنه الأساس لوضع الخطط وصنع السياسات. ففي لبنان على سبيل المثال، تستمر بعض الشخصيات اللبنانية في واشنطن من باحثين واعلاميين، في شهاداتهم في الكونغرس، بترداد لازمة "أن حزب الله بات ضعيفاً وأنه يفقد حاضنته الشعبية" نتيجة الضغوط القصوى التي تمارسها الادارة الأميركية على لبنان، بينما تشير الوقائع على الأرض أن الحزب كان الفئة الأقل تضررًا من تلك الضغوط، لا بل بالعكس هو استفاد من الحرب الاقتصادية والتجويعية  على لبنان بتحويل التهديد الى فرصة وذلك لإقامة نظامه المصرفي الخاص، ودعم مؤسساته الاجتماعية الخاصة، واستيراد البنزين والمازوت من إيران.

 

وعليه، يمكن أن نقول أن صنع السياسات في واشنطن ليس مثالياً دائماً، والتنسيق بين الإدارات والوزارات الأميركية لا يكون متوافراً دوماً، بل يتضارب بتضارب مصالح اللوبيات المختلفة والأجهزة المتعددة، وهو ما يؤدي الى فشل السياسات الخارجية الأميركية في العديد من المناطق، حيث تقوم واشنطن بعدها بترك عملائها لمصيرهم والرحيل، وهو ما حصل في أفغانستان، ومرشح لأن يحصل في بلدان أخرى.