2011/11/30

هموم المواطن بحاجة إلى حلول "سحرية".. كتمويل المحكمة الدولية


بعد الحل الذي تمّ ابتداعه "على الطريقة اللبنانية" لقضية تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ظهر أن الاطراف كافة مجمعة على ضرورة عدم تفجير الوضع اللبناني، في ظل وضع إقليمي ضاغط عشية انسحاب أميركي من العراق، وتبلوُر مفاعيل الضغط الدولي والعربي على سوريا.
لعل هذا الحل الذي يقال إن رئيس مجلس النواب نبيه بري قد اجترحه، أنقذ الرئيس الميقاتي من مفاعيل "مناورة" لم تكن مدروسة بشكل كاف، فهو في كل الأحوال، وبالرغم من تهديده بالاستقالة في حال لم يقرّ مجلس الوزراء تمويل المحكمة، لم يكن يبدو أنه سيستقيل فعلاً، وذلك بعدما عمد خلال الشهرين الماضيين إلى نفي التسريبات التي تحدثت عن احتمال استقالته في حال عدم التجاوب مع طلبه تمويل المحكمة، وأعلن أمام زواره في الآونة الأخيرة أن الاستقالة غير واردة، وأنه لو كان في نيته الاستقالة لما تسلّم هذا المنصب، بالإضافة إلى ما نُقل عنه من تأكيد خلال زيارته لبريطانيا مؤخراً، أن الحكومة باقية، ولا نية لديه للاستقالة، رابطاً وجودها بحماية الاستقرار في لبنان. لذا، وبعد كل هذه التأكيدات، عاد ليهدد إعلامياً، في إجراء ينسف كل صدقية للرجل، ويجعل مستقبله السياسي في مهب الريح، إلا إذا اعتقد أن السياسة الجنبلاطية بتغيير المواقف وتبديلها هي سياسة قابلة للتقليد!
إذاً، يبدو من المناورة التي قام بها الرئيس ميقاتي، والتي أدت إلى هذا الحل "العجيب" لتمويل المحكمة الدولية، أن الدول الكبرى التي ضغطت عليه، استغلت الوضع الإقليمي الحرج الذي تمر به المنطقة، كما استثمرت وضعاً غير مؤاتٍ دولياً تعيشه القيادة السورية ومحور المقاومة، فأحرجته وراهنت على موقف حزب الله المتمسك بالحكومة في ظل هذه الظروف، الأمر الذي جعل الرئيس ميقاتي يبالغ في "الدلع"، لدرجة حشر الجميع في الزاوية، ومحاولة وضعهم أمام الأمر الواقع بالقبول بتمويل محكمة دولية هدفها التآمر على لبنان، مهدداً بهدم هيكل الحكومة على مَن فيه، في وقت حرج للغاية، وفي ظل أوضاع إقليمية متأزمة.
ولعل "دلع" ميقاتي زاد عن حده، بعدما قدّم له حزب الله كل شيء، وراعاه في كل القضايا، حتى تلك التي أظهر فيها ميقاتي وسليمان كيدية سياسية واضحة ضد وزراء تكتل التغيير والإصلاح، لذا اعتقد رئيس الحكومة أن سياسة المهادنة التي اتبعها معه حزب الله، يمكن لها أن تستمر، ويمكن استثمارها.
لكن ما لم يحسبه الرئيس ميقاتي والأطراف الآخرون، هو نفاد صبر حلفائه في الحكومة، ومنهم العماد عون وتكتل التغيير والإصلاح، بعدما ظهر جلياً من خلال الممارسة الحكومية أن أداء الحكومة لم يكن على مستوى الوعود التي قُدمت للناس، فمشاريع الإصلاح التي رفعها تكتل التغيير والإصلاح لم تكن "بالونات" شعبية، بل هي جزء أساسي من خطته المعدّة للحكم، لذا لا يمكن للتكتل الاستمرار في تغطية التسويف الحاصل في إقرار المشاريع الحياتية، أو استئصال الفساد، وهو قد بنى سياسته على الأمرين معاً، ووعد الجمهور اللبناني بسياسة جديدة تخرجه إلى "الدولة"، وتحقق أمنه الاجتماعي والاقتصادي.
وقد يكون الأمر الأكثر إيلاماً هو تعامل الرئيس ميقاتي مع المخلفات الحريرية بأسلوب الحماية، ومهادنة الحريريين، وغض النظر عن الموظفين الفاسدين، وأصحاب الممارسات الميليشوية، الذين عاثوا فساداً وحوّلوا الدولة إلى "مشيخة حريرية" طيلة فترة الحكم السابق، في موقف استفزازي لمشاعر اللبنانيين ولوزراء التكتل، الذين عانوا من عدم قدرتهم على ضبط إدارتهم، بسبب الاستغلال السياسي والمذهبي الداعم للموظفين الفاسدين.
في كل الأحوال، وبغض النظر عن ماهية التسوية التي تمّ التوصل إليها، فإن ما حصل يجب ألا يجعل الطبقة السياسية اللبنانية، ومعها الحكومة العتيدة ورئيسها، تراهن على صبر المواطنين اللبنانيين طويلاً، فالحكومة لغاية الآن لم تحقق شيئاً يمكن أن يقال عنه إنه "فارق نوعي" في التعامل مع حاجات المواطنين الملحة، وعلى الرئيس ميقاتي ومجترحي الحلول الإنقاذية لمناوراته أن يدركوا أن السياسة التي تستخدمها الحكومة في تأجيل البت بهموم الناس، وتأجيل طرح المشاريع التي تهمّ المواطنين، لم يعد من الممكن التغاضي عنها، وإلا أدّت إلى ثورة شعبية، وبالتالي لا يمكن للحكومة اللبنانية أن تستمر في التسويف في قضايا الناس ومصيرهم، مقابل اهتمامها بتأمين ما تطلبه الدول الغربية، فالمحكمة ليست أكثر أهمية من الكهرباء، ولا من أزمة السير المستفحلة، ولا من الضمان الصحي، في وقت يحصد الموت آلاف اللبنانيين غير القادرين على دفع تكاليف الاستشفتاء الباهظة.
لذلك، ومن هذا الباب، وبما أن الحلول يمكن أن تُجترح بين ليلة وضحاها، وبسحر ساحر، يمكن للطبقة السياسية اللبنانية أن تجترح حلولاً مماثلة لمشاكل المواطنين المستفحلة، كالكهرباء والمياه، ومشاكل الدواء والغلاء وتصحيح الأجور، وغيرها من المواضيع التي تبدو ذات أهمية كبرى للشعب اللبناني أكثر من تمويل محكمة دولية هدفها القضاء على المقاومة، وتقويض الاستقرار في لبنان.
ليلى نقولا الرحباني
استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

2011/11/28

شهادة الحسين ... بعيون مسيحية

كتبت في آذار 2008 ولم تنشر سابقًا
زارتني في المنام، لم أرها شخصيًا ولكني رأيت نفسي اصلي في مقام كبير وواسع، توقعت بدون أن أسأل .. إنه مقام السيدة زينب.
لم أكن من الذين يعرفون عنها، ولم أكن قد قرأت سيرتها بعد، بل أنني أكاد أجزم أنني سمعت باسمها لمامًا.. فلماذا ارى نفسي أصلي هناك لو لم تكن دعوة لي للزيارة؟
إذاً انها دعوة للزيارة قررت أن البيها... فكان القرار، وكانت الزيارة التي تأخر حصولها اسبوعين بسبب مرض ألمّ بصديقتي خلال الاسبوع الاول، وثلج غطى منطقة ضهر البيدر في الاسبوع الثاني.. لكن الاصرار جعل حصولها ممكن في الاسبوع الثالث.
من مقام ودير القديس بولس الى مقام السيدة زينب انطلقت بنا السيارة...انها المرة الاولى التي أزور بها مقام السيدة. كنت اتشوق للزيارة، وأسئلة تضج في رأسي: كيف سيكون؟ هل هو مقام صغير؟ هل يسمحون لنا بالدخول؟
توقف سائق التاكسي أمام المقام، وقال : هذا هو مقام السيدة زينب.... مقام شاسع مهيب، مأذنة مطعّمة بالفسيفساء، وقبة مذهبة ، انه مقام السيدة زينب في أحد الاحياء الفقيرة في ضواحي دمشق.
 ترجلنا من السيارة وتوجهنا الى الباب الرئيسي نحاول الدخول ولكن... سيدتان مكشوفتي الرأس لا يمكن لهما ان يدخلا بدون وضع "الخمار" على الرأس!! ولما لا!! بدون تردد لبسنا العباءة السوداء ودخلنا.
خطوات قليلة وأصبحنا في الداخل، تجد رجالاً ونساءً يصلون، يلطمون ويبكون... بدون تفكير أو مشاورات جانبية، انطلقنا مدفوعتين بقوة الايمان، ورهبة المكان وسحر الصلاة، ننضم الى المصلين ونقوم بنفس الحركات التي يقومون بها..نصلي، ثم ندير وجوهنا الى القبلة لنصلي قليلاً ثم نعود لنستدير.. كانت لحظات رائعة، تفيض ايماناً وتقوى وخشوع بالرغم من أننا لم نكن نفهم شيئاً مما كانوا يقولونه.. لقد كانوا مجموعة من الايرانيين والايرانيات يصلون  باللغة "الفارسية".
انتفت الحواجز الدينية ومعها سقطت الحواجز اللغوية، كان الجو مفعم بالايمان والتقوى والخشوع، شعرت بقوة وجود الله في أرجاء المكان، رحت أتمتم بدون أن أعي: "ابانا الذي في السموات ليتقدس اسمك...." هكذا تعلمت منذ الصغر أن أصلي لله، وها أنا في حضرته بحاحة الى أن أصلي .
... لم يعد للتعابير أي فرق، لم تعد اللغة حاجزاً، فالصلاة لله اذا نبعت من القلب قادرة ان تخترق اللغات والحواجز والطقوس.
انها مسألة انسانية الابعاد، وجدانية الروح، مليئة بالمؤثرات. انها تمنح الفكر حرارته وحيويته، وتخرجه من حالة فكرية صرف ليدخل حالة ايمانية غير مفهومة ولا مدركة، حالة قريبة من الشعور اللاادراكي، منفتحة على الوجدان، عصية على الاختراق..
صورة المسيح المصلوب، وصورة الحسين الشهيد... ارتسمتا أمامي. ومع البكاء والنحيب في السيدة زينب، تذكرت ترتيلة مسيحية تتردد في يوم الجمعة العظيمة، ذكرى صلب السيد المسيح على ايدي اليهود، ترنيمة تقال عن السيدة العذراء مريم التي تبكي وتنوح على ابنها المصلوب: "انا الام الحزينة وما من يعزيها..."
في هذه الذكرى، رأيت الانبياء يعيدون التاريخ ، انها الالام نفسها، انها الجرأة نفسها. لقد واجه الانبياء الضلال والطغيان بكل قوة، واجهوا الالام بكل فرح روحي، لقد  قال السيد المسيح وهو يتوجه الى الصلب : "فلتكن مشيئتك يا رب"، وقال الحسين، "هون على ما نزل بنا انه بعين الله"
هي الأجواء الايمانية نفسها ولكن في أوقات مختلفة وثقافات متعددة، يمارسها المؤمنون بالله الواحد ولكن كل على طريقته.
وقفت أتأمل في قضية المسيح والحسين بعيداً عن أجواء الحزن والبكاء والنوح التي تحولت الى تقاليد متنوعة الاشكال، وقفت أستعيد ما سمعته من آيات وأقوال عن قضية استشهاد الحسين من بعض الاصدقاء فتذكرت الشعار الحسيني:
"اني ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي.... لا والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل، ولا أقر لكم اقرار العبيد"
 وقارنتها بدخول المسيح الى الهيكل لطرد اللصوص وتجار الهيكل وقوله: "بيت الله بيت صلاة وانتم جعلتموه مغارة لصوص".... فوجدت التقارب في المفهوم والصيغة والدعوة الى الاصلاح والى اتباع تعاليم الله.
خاطب الحسين المؤمنين قائلاً:"من قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق"، كأن الحسين يريد أن يقول للناس- كما فسر سماحة السيد محمد حسين فضل الله-، فكروا في كلماتي وفي مواقفي وطروحاتي، ولا تستغرقوا في ذاتي، ولكن استغرقوا في الخط الذي اطرحه عليكم، ومن رد علي ولم يقبلني فانما يكون رافضاً للحق الذي جئت به. وهذا تفسير ما يقوله السيد المسيح: "انا هو الطريق والحق والحياة..  لا أحد يأتي الى الله الا بي".
لقد أتى الانبياء لنصرة المظلومين، لدعوة الناس الى الحق والخير ورفض الذل والهوان. ثار الانبياء ضد الفساد، ضد الظلم، ضد التعسف...
أتى الانبياء واستشهدوا من أجل الحفاظ على عنفوان الرسالة التي حملوها وعلى عزة الرساليين... وعلى رفض اعطاء شرعية للحاكم الظالم عندما يريد أن يفرض نفسه على المؤمنين، ثاروا على كل ما كان من تقاليد ومعاصٍ باطلة ارتكبت باسم الله واتخذت من سيف المحبة الالهية سيفًا يقطع رقاب الناس ويدمي افئدتهم ويحني رقابهم ذلاً وخضوعًا. 
ثار المسيح، وثار الحسين.. انها ثورة على الباطل، ثورة على الظلم، ثورة على كل من يحاول استعباد الناس وسلبهم حرية ضميرهم وايمانهم بالحق والخير.
في ذكرى أربعين الحسين، وفي زمن الصوم المسيحي المبارك ، فلتكن الثورة على الذل والفساد والهوان طريقنا، نحن المؤمنون من كافة الطوائف في لبنان. انها الطريق الى الله.. انها الطريق الى الحق والحياة.

2011/11/24

التهويل بالحرب الأهلية.. هل ينجح في سورية؟

تصاعدت التصريحات المختلفة التي تتنبأ باحتمال نشوب حرب أهلية في سورية، وكان الأميركيون قد دعوا المعارضة السورية إلى عدم التخلي عن السلاح استجابة للدعوة التي وجهها لهم النظام السوري للحصول على العفو.
وتُظهر هذه التصريحات أن محور الغرب - تركيا - عرب "الغرب"، قد انتقل إلى الخطة "ب" في التعامل مع سورية، وذلك بعدما أيقن بالدليل القاطع أن إسقاط النظام السوري سواء من الداخل بعملية انقلابية أم ثورة شعبية، أم من الخارج بتدخل عسكري شبيه بالحالة العراقية أم الليبية هو أمر صعب ومكلف للغاية وغير قابل للتحقيق، فتحولوا إلى الخطة البديلة، وهي إشعال فتنة مذهبية وحرب داخلية في سورية. فما هي احتمالات نجاح تلك الخطة البديلة في إسقاط سورية وتحقيق أهداف المشروع الأميركي في المنطقة؟
إن الحرب الأهلية الذي يريد الغرب وبعض العرب والأتراك إشعالها في سورية، لن تكون مهمة سهلة وقد تستعصي على المخطِّط، كما استعصت سابقاً عليه خطط إسقاط نظام الأسد بالقوة أو بالشارع، وذلك لأسباب عدة داخلية وخارجية أهمها:
أولاً: على الصعيد الداخلي، إن الحرب الأهلية تحتاج إلى مقومات قوة لاشتعالها، ونفندها بما يلي:
1-    المعارضون للنظام: وهؤلاء يُعتبرون العصب الأساسي لإشعال الفتنة المرجوة، لكن حجم هؤلاء يبين أنهم نسبة ضئيلة من الشعب السوري، كما يظهر من مقارنة المظاهرات التي خرجت معارضة ومؤيدة للنظام، وحتى ضمن هذه النسبة الضئيلة هناك أقلية قليلة جداً من المعارضين التي تقبل بأن تمتشق السلاح لإثارة الفتن المذهبية وتدمير الدولة وتحقيق الحلم الإسرائيلي بتفتيت سورية إلى أربع دويلات طائفية متناحرة.
2-   الجماعات الإرهابية في سورية، والتي يعتمد عليها لتكون الذراع الأساسي لزرع الفتنة الطائفية من خلال تفجير المراكز الدينية وقتل الأبرياء والتنكيل بهم مما يثير الغرائز الطائفية والنعرات المذهبية، قد تقلصت قوتها وباتت محصورة يضيق عليها الخناق في منطقة محددة في وسط سورية.
3-   الجيش السوري، وقد أعلنت كلينتون أن العمل المسلح والحرب الداخلية سيقوم بها المنشقون عن الجيش، لكن الأميركيين أنفسهم وعلى لسان سفيرهم في دمشق وخلال جلسة استماع أمام الكونغرس اعترفوا بتماسك الجيش السوري وانضباطه والتزامه بأوامر السلطة السياسية بقيادة الأسد.
4-   السلطة السياسية ومؤسساتها، وتبدو مستقرة ومتماسكة بشكل كبير، ولا يمكن لأحد أن يصدق أن الدبلوماسيين والسياسيين وأعضاء مجلس الشعب السوري ووزراءه لم يتعرضوا - لغاية الآن- لشتى أنواع الترهيب والترغيب للانشقاق عن السلطة كما حصل في ليبيا، وبالتالي فهم صمدوا وأبقوا على تماسك النظام والدولة.
وهكذا إذاً نجد أن المقومات الداخلية للحرب الأهلية غير متوافرة العناصر بشكل تام، ويبقى أن بإمكان المتمردين والإرهابيين أن يخلقوا نوعاً من عدم الاستقرار الأمني، ولكن لن يصل إلى مرحلة الحرب الأهلية التامة.
ثانياً: على الصعيد الإقليمي، مما لا شك فيه  أن الحرب الأهلية "الموعودة" في سورية، ستكون بالضرورة حرباً طائفية ومذهبية، وقد يكون ذلك من خلال توظيف بعض المجموعات الأصولية لشن عمليات إرهابية وضرب مراكز دينية في سورية، تؤدي إلى حراك طائفي يعقد الأمور، ويدفع سورية إلى حرب الكل ضد الكل شبيهة بالحرب اللبنانية، ومن هنا يمكن فهم الرسالة التي وجهها حزب العمال الكردستاني إلى أكراد سورية بالتسلح والبقاء على الحياد في الوقت الراهن، ونفهمها في وجهين: أما الحفاظ على الذات في ظل حرب طائفية قد تعمد خلالها تركيا إلى تحفيز مجموعاتها ووكلائها إلى التنكيل بالأكراد السوريين، أو التحسب لحماية النفس في ظل ما يُحكى عن احتمالات تدخل عسكري تركي بقرار من مجلس الأمن بذريعة حماية المدنيين السوريين.
وهكذا، يبدو أيضاً خيار الحرب الأهلية في سورية وانفلات الوضع إلى الفوضى الأمنية الشاملة وانفلات الحدود، مكلفاً وكارثياً على المنطقة، ولن تكون بمنأى عنه الدول المجاورة ومنطقة الشرق الأوسط ككل، وخصوصاً إسرائيل، وقد تكون تبعاته أخطر بكثير من تداعيات خيار التدخل العسكري المباشر الذي يتردد الغرب وتركيا في اعتماده لغاية الآن لتكاليفه الباهظة.
ثالثاً: إن الحديث عن حرب أهلية في الداخل السوري، يعكس اليأس الذي أصاب الهادفين إلى "تدخل عسكري إنساني" في سورية لإسقاط الأسد، فمن المعلوم من خلال دراسة تجارب مجلس الأمن التدخلية "الإنسانية" خلال التسعينات، أنه في حال كان هناك توافق بين جميع الأعضاء على مبدأ التدخل بشكل عام، فإن تشريع التدخل لكي يحصل يجب أن يكون هناك اتفاق بين أعضاء مجلس الأمن على القصة السببية للنزاع، وأن يكون هناك ضحايا محددون، وواضح من هي الجهة التي تقوم بانتهاكات حقوق الإنسان وأعمال الجرائم، (راجع في هذا الشأن كتابنا "التدخل الدولي") ففي الحرب الأهلية يشترك الجميع في أنواع القتل والخطف، ولا يعود شعار "حماية المدنيين" من بطش نظام قاتل مناسباً للادعاء به، مما يعقد آليات تفويض التدخل العسكري في مجلس الأمن، بالإضافة إلى مواقف مجموعة "البريكس" التي باتت معروفة.
إذاً، بعدما بات التدخل العسكري الخارجي خياراً بعيداً، لجأ مخططو مشروع إسقاط النظام في سورية إلى تغيير الخطة ومحاولة اللجوء إلى  خيار الحرب الأهلية، علّهم يحققون ما عجزوا عن تحقيقه لغاية الآن. ويبقى الأمل بأن تحصل "تسوية تاريخية" في سورية تحقن دماء السوريين وتحافظ على دولتهم، فسورية الآن في عين النار الدولية، يتجاذبها الصراع بين محورين على أبواب انسحاب أميركي من العراق وتغيير في موازين القوى الإقليمية لصالح الحلف المواجه لأميركا ولن يخلصها إلا تنازل للوطن تقوم به جميع الأطراف السورية المخلصة وغير المرتهنة للخارج.
ليلى نقولا الرحباني
استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية



2011/11/16

خديعة النسبية في قانون الانتخاب

لا ديمقراطية بدون انتخابات حرة وشفافة ونزيهة تعبّر تعبيراً صحيحاً عن تطلعات الشعب وتوجهاته السياسية، ومن مهمة قانون الانتخاب، وهو حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي، أن يؤمن قدرة للمواطن على المساءلة والمحاسبة، ولا يسمح للنائب باعتباره زبوناً في سوق سياسي مباح فيه كل شيء - بما فيه الضمير - للبيع والشراء.
وتطرح على بساط البحث اليوم مشروع قانون الانتخاب اللبناني، تمهيداً للانتخابات النيابية التي ستجري عام 2013، وتحاول الأحزاب والكتل طرح مشروع قانون الانتخاب مبكراً من أجل التخلص من "عرف" لبناني قديم، يقوم على إقرار قانون الانتخاب عشية الانتخابات مباشرة، و"استثنائيا ولمرة واحدة فقط".
وقد طرحت بعض الأحزاب اعتماد مبدأ التمثيل النسبي، كنظام يؤمن صحة التمثيل وعدالته ويمنع تهميش الفئات اللبنانية المختلفة، وبالرغم، من اعتقادي الشخصي أن النظام النسبي هو الأمثل للبنان لأسباب عديدة لا مجال لذكرها الآن، إلا أن الشك يساورنا في إمكانية تحقيق هذه الأهداف المرجوة من أي قانون انتخابي، سواء كان أكثرياً أم نسبياً، خصوصاً بعدما وصلت الأحزاب والطبقة السياسية اللبنانية بمجملها إلى "أزمة مصداقية" هائلة تحتاج إلى عقود وأجيال عديدة قادمة للتخلص منها، فهم يقولون ما لا يضمرون، ويفعلون بعكس ما يقولون.
وإذا درسنا طبيعة وبنية الأحزاب اللبنانية، نجد أن الأحزاب العلمانية لا تختلف عن الطائفية بشيء، والأحزاب المطالبة بالنظام النسبي لا تختلف عن تلك المطالبة بالأكثري، والأحزاب المنخرطة في محور المقاومة لا تختلف في بنيتها وثقافتها السياسية وتصرفاتها عن تلك المنخرطة في المشروع المقابل.
صفات مشتركة، وثقافة سياسية واحدة تتعدد شعاراتها وألوانها والجوهر واحد:
أولاً: إذا أردنا أن نقيّم الخطاب الذي يدعو إلى نظام انتخابي نسبي بذريعة أنه الأكثر عدالة وصحة للتمثيل، فإن الأحزاب المطالبة به بغالبيتها العظمى تعتمد نظاماً انتخابياً داخلياً أكثرياً، ما يعني أن هناك ازدواجية واضحة في نظرة الأحزاب إلى النظام الانتخابي الأمثل، وكيف توفق تلك الأحزاب بين اعتمادها النظام الأكثري داخلياً، ومطالبتها بالنظام النسبي على صعيد الوطن؟
ثانياً: سيادة الفكر الإلغائي: لا شك أن الأحزاب اللبنانية هي مرآة للمجتمع اللبناني بشكل خاص والعربي بشكل عام، الذي يسوده الفكر الإلغائي، فالأحزاب اللبنانية ما انفكت تقوم بالممارسات الإلغائية، مع "الآخر" في الوطن وفي الداخل الحزبي.
لطالما حاولت الأحزاب اللبنانية "إلغاء" مناوئيها السياسيين وخصومها من الأحزاب الأخرى، وليس أدل على ذلك إلا أن تلك الأحزاب بمعظمها مارست الاغتيالات السياسية في وقت من الأوقات وافتخرت بقيامها بذلك، كما مارست الاقتتال والاحتراب الداخلي، الذي شهد حرب الكل ضد الكل.
وتؤكد الممارسة السياسية التي شهدناها خلال فترة ما بعد الحرب، وخصوصاً بعد خروج السوريين من لبنان، أن الفكر الإلغائي والإقصائي لم يزل من فكر الأحزاب وقادتها، بدليل أن معظمها حاول الاستعانة بالخارج لسحق خصومه الداخليين، أو من أجل "إلغاء" الآخر في الوطن واجتثاثه.
أما داخلياً بين المحازبين، فحدث ولا حرج، فسطوة الفكر الإلغائي تنتشر كالأخطبوط داخل الأحزاب، عمودياً وأفقياً، على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن كل محازب يرتقي بسلم المسؤولية ليصل إلى موقع قيادي، يعتمد مبدأ الإلغاء المزدوج فيقوم بمحاربة وتشويه سمعة من سبقه في المركز، ومحاولة إقصاء كل من تسوّل له نفسه "الطموح" للترقي والوصول إلى مركز قيادي في الحزب وأحياناً حتى لو يكن ينافسه على منصبه نفسه، وتصبح محاولة القضاء على ذلك "العدو" الداخلي أهم بكثير وأكثر إلحاحاً من "الخصم" الخارجي من الأحزاب الأخرى.
ثالثاً: التهميش الشامل: يطالب ممثلو الأحزاب والكتل النيابية بنظام انتخابي نسبي، من أجل ما يقولون إنه إزالة التهميش الذي تعانيه فئات من اللبنانيين، ونحن هنا سنشير إلى فئتين تعانيان من تهميش أكيد داخل الأحزاب السياسية اللبنانية وهما المرأة والشباب، هذا ناهيك عن فئات عديدة أخرى تتعرض للتهميش، بحيث نرى أن هناك فئة أقلوية تسيطر على مقدرات الحزب وقراراته وتلغي صوت الأكثرية.
بالنسبة للمرأة والتي تمثّل ما يربو على خمسين في المئة من المجتمع اللبناني، يعيش معظم الأحزاب السياسية اليوم تكاذباً حقيقياً بين ما يعلنونه وما يؤمنون به، أو ما يطبقونه، فلا نجد أن الأحزاب السياسية وحتى تلك التي تطالب بعدالة التمثيل من خلال النظام النسبي، على سبيل المثال لا الحصر، أن في هيكلياتها القيادية نساء، وإن وجدن فبطريقة شكلية كديكور لتجميل صورة أحزابهن، لا بل إن الأبسط من ذلك لا يتحقق، فلا نجد على سبيل المثال أن رؤساء الأحزاب أو الكتل ينتدبون امرأة لتمثيلهم في المناسبات الاجتماعية أو السياسية.
وكما النساء يتم استخدام الشباب اللبناني المنخرط في الأحزاب، أدوات للتجييش والمظاهرات، أو في تأمين الحشد الكمي لخطاب الزعيم أو مهرجان سياسي يعقده الحزب، أما الأدوار القيادية، فتحفظ للشيب والكهول الذين قدموا وأعطوا أفضل ما عندهم لنصل إلى الحال الذي وصل إليه الوطن اليوم.
رابعاً: يتحدث الأحزاب عن تداول للسلطة يريدون من النظام الانتخابي أن يحققه، ولكن الأحزاب اللبنانية لا تشهد تداولاً داخلياً حقيقياً للسلطة داخلها، وحتى الأحزاب التي تدّعي عدم الوراثة السياسية، تحولت إلى أحزاب داخل الأحزاب، وتعرضت لانشقاقات كثيرة بسبب فقدان الحس الديمقراطي لدى محازبيها وقيادييها، ما يجعل تداول السلطة أمراً يبدو وكأنه خسارة شخصية للشخص القابض على ناصية القرار الحزبي منذ عقود، فيعرقله أو ينشق عن الحزب ويؤسس حزباً جديداً.
في النهاية، نحن نؤمن أن المدخل الصحيح لبناء مجتمع قادر على تطوير نفسه وتحقيق مواطنيته التامة، هو نظام انتخابي عادل، يجعل الإنسان مواطناً، له قيمة في ميزان السياسة بغض النظر عن دينه أو طائفته ومذهبه، ونظام التمثيل النسبي قد يكون الأمثل والأصلح لهذا الأمر، ولكن أي أمل يُرجى بديمقراطية ننشدها من أحزاب غير ديمقراطية بجوهرها ومضمونها وأفعالها، وأي عدالة ترتجى من أحزاب فقدت كل معايير العدالة والإنصاف. باختصار: "فاقد الشيء لا يعطيه"، وأي نظام انتخابي ينبثق من هذه الطبقة السياسية الحالية، مهما كان نوعه، لا يعوّل عليه للتغيير والسير بلبنان إلى دولة عادلة قوية عصرية.
ليلى نقولا الرحباني

2011/11/13

لماذا نريد نظام انتخابي نسبي

عقدت "الحملة الوطنية من أجل النسبية"  في الاونيسكو في 13 تشرين الثاني 2011 ، مؤتمرًا بعنوان "المؤتمر الوطني من أجل النسبية" وكان من المفترض أن القي هذه الكلمة ولكن استعضت عنها بما يلي: 
"لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم"
انتم تطالبون بعدالة التمثيل وصحته
أين العدالة التي تطلبون بها ولم نجد امراة ولا شاب بين المتكلمين؟
انتم لن تصلوا الى اي مكان لانكم لا تختلفون عن النظام القديم بشيء
لا تستطيعون أن تنادوا بشيء لا تملكونه
انا غير مؤمنة بأنكم جادين في عملكم لذا كل ما تقولونه كلام هدفه تجميل انفسكم
ولن تصلوا الى شيء ولن تقدموا للمجتمع اللبناني ما يرجوه من تغيير وتقدم


وفيما يلي النص الاصلي المكتوب الذي لم اجد أنه ملاءم :
يحزننا ونحن نجتمع لنتكلم اليوم هنا، وبعد أن قطعنا العقد الاول من القرن العشرين، أننا نجتمع لنتباحث بالاسس الاساسية لاقامة دولة في لبنان.
هل نتكلم اليوم عن نظام انتخابي يؤدي الى ديمقراطية في لبنان، ونحن قد اشبعنا ما أسميناه "ديمقراطيتنا" كلامًا من كثرة ما تبارزنا إما في التغني بها وتمجيدها كصيغة فذة لا مثيل لها، أو في هجائها وتحميلها جميع مشاكلنا وأخطائنا وآفاتنا وأحقادنا الطائفية والسياسية.
هل نتتكلم عن دفن رؤوسنا في الرمال، ونحن نتغنى بدمقراطية عظيمة يتيمة في الشرق، و نخبر  عن"مرقد العنزة"، و "ها الكم أرزة اللي عاجقين الكون"...
هل نتكلم عن الغرور الذي ضربنا ونحن نتصور أننا  قادرين أن نتحكم بسياسة دولية، وباستراتيجيات اقليمية، وقرارات أممية ونحن أعجز من أن نوصل ممثلين حقيقيين وفعليين الى مجلس النواب.
بلا شك، لا ديمقراطية بدون انتخابات حرة وشفافة ونزيهة تعبّر تعبيرًا صحيحًا عن تطلعات الشعب وتوجهاته السياسية. ولكننا في لبنان، نحتاج الى أبعد من ديمقراطية وانتخابات وحرية تعبير.. نحتاج الى " هوية مواطنية".
لقد قيل لنا، أننا مجموعات بشرية جمعتها الصدفة أو الاضطهاد التاريخي فتساكنت في هذه الارض، وكان عليها إما أن تتعلم العيش مع بعضها البعض بارادة حرة مشتركة قوامها المواطنية الصحيحة، أو أن تتقن كل مجموعة قراءة المعطيات فتقتنص اللحظة التاريخية الدولية المناسبة للانقضاض على الآخرين فتلغيهم وتبسط سيطرتها الآحادية كما فعل الاوروبيون بالهنود الحمر في أميركا.. لكننا أثبتنا أننا رسبنا في الامرين.
فلا استطعنا أن نكرّس العيش معًا كهدف وتوجه نبني على أساسه الوطن وننهض به، ولا استطاع - ولن يستطيع- أحد منا القضاء على الآخرين والاستئثار بحكم لبنان.

اعترافنا بهذا الرسوب، يجعلنا امام مسؤولية تاريخية للاصلاح من أجلنا ومن أجل أولادنا والاجيال المقبلة بعدهم. مسؤوليتنا بناء الانسان – المواطن القادر على ايصال من يمثّله الى البرلمان، لتأسيس السلطة المنبثقة من حقه في تقرير مصيره بحرية. مسؤوليتنا بناء نظام سياسي يجعل المواطن قادرًا على المساءلة والمحاسبة، ولا يسمح للنائب باعتباره زبونًا في سوق سياسي مباح فيه كل شيء - بما فيه الضمير - للبيع والشراء.
ان المدخل الصحيح لبناء مجتمع قادر على تطوير نفسه وتحقيق مواطنيته التامة، هو نظام انتخابي عادل، يجعل الانسان مواطنًا، له قيمة في ميزان السياسة بغض النظر عن دينه أو طائفته ومذهبه.
من هنا، فان الاحزاب السياسية والكتل النيابية جميعها، مدعوة الى العمل الجاد والأكيد لبناء انسان لبناني، مواطن حر، والعمل  على تحقيق المواطنية التامة من خلال التوجه الى اعتماد مبدأ التمثيل النسبي في الانتخابات كخطوة اساسية وصحيحة ومنطقية لتحقيق غايات وطنية كبرى أهمها:
أولاً: عودة السلطة للشعب، واعادة الاعتبار لمفهوم "الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة. ففي الواقع العملي، كان رؤساء المحادل المالية والطائفية هم مصدر السلطات، ولم يكن الشعب اللبناني يومًا صاحب السيادة فيما يقرره على ارضه.
ثانيًا: خلق أحزاب فاعلة فالتداول الحقيقي للسلطة لا يمكن أن يتحقق في حال غياب الأحزاب السياسية الوطنية الفاعلة، التي تتنافس في ما بينها على تحقيق مصلحة الوطن والمواطن، وهذه الأحزاب لن تقوم لها قائمة في ظل نظام انتخابي غير سليم.
ثالثًا: التخفيف من العصبيات المذهبية والطائفية، فالنظام النسبي وفي ظل التنوع الديمغرافي الذي تحتويه معظم المناطق اللبنانية يحد من قدرة المرشح على استغلال الخطاب المذهبي لاثارة العصبيات الطائفية ويجعل اللجوء اليها كوسيلة أمرًا مكلفًا للغاية.
رابعًا: الغاء نظام التهميش الذي يؤدي الى الكفر بالوطن ويجعل من الجيل الشاب جيلاً محبطًا، يقف على ابواب السفارات طلبًا لفرصة للخروج الى رحاب الانسانية التي تعترف بقيمته كفرد. والتهميش في لبنان لا يعني الافراد فحسب، بل المجموعات ايضًا، فلطالما عانى اللبنانيون من انعدام التمثيل العادل في الانتخابات من خلال العمل بأنظمة انتخابية نتج عنها إضعاف القوة الاقتراعية لبعض المجموعات السياسية وحرمانها من المشاركة السياسية بشكل متساوٍ مع الآخرين.
خامسًا: التخفيف من غلواء الثقافة العنفية اللبنانية، ففي ظل انعدام الافق السياسي واغلاق فرص التغيير بالوسائل الديمقراطية، قد تلجأ المجموعات الاقلوية السياسية الى ممارسات غير ديمقراطية يسودها فكر تسلطي انغلاقي تأزيمي احتجاجي.

في النهاية لا يسعني الا أن اقتبس من ارسطو قوله: "رئاسة الاحرار اشرف من رئاسة العبيد، ومن يختار  رئاسة العبيد على رئاسة الاحرار كمن يختار رأي البهائم على رأي الناس"..
ونحن نرفض أن نكون عبيدًا .. لم نكن يومًا كذلك، ولن نقبل بأن نكون.. لذا نطالب بحقنا في اختيار ممثلينا بحرية وعدالة وانصاف فيما بيننا، وذلك من خلال نظام انتخابي نسبي لا يسمح بتهميش أحد، ولا يجعل من الصعب على أحد منا أن يقاوم اكثريات من لون واحد، تدهسنا خلال عبورها الى مراكز الاقتراع.

 

2011/11/02

نداء للاصلاح... أو السلام على لبنان

يعيش لبنان منذ تأسيسه مخاطر جمّة، منها ما يتعلق بوجوده في منطقة زلازل سياسية ومشاكل إقليمية دائمة منذ تأسيس دولة إسرائيل، ومنها ما هو بنيوي يرتبط بهيكلية الفساد المعشش في البنى السياسية والاجتماعية والإدارية منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير، بالإضافة إلى استفادة هذا الفساد من البنى الطائفية ونظام المحاصصة الطائفي المستمد من نظام الملل العثماني الذي أنشأ ما يشبه فيدرالية الطوائف المتناحرة على الوطن.
واليوم، وبعد وصول الوطن إلى مستويات منحدرة من الانهيار الاقتصادي الاجتماعي الذي ضرب الفئات الشعبية كافة، باتت الحاجة ملحة جداً للسير بمسيرة إصلاحية لبناء الدولة، يتحمل مسؤوليتها جميع شرائح الطبقات السياسية والاجتماعية على حد سواء. أما القوى المدعوة إلى أن تضافر جهودها، فهي بالأساس الفئات السياسة التي لم تشارك في الفساد المتعاقب منذ عقود، بالإضافة إلى شرائح المجتمع اللبناني المتضرر من هذا الفساد المستشري الذي يؤدي إلى استئثار قلة فاسدة منتفعة بمقدرات بلد بكامله.
وتنقسم الفئات المخاطبة بهذا النداء للإصلاح إلى فئات ثلاث على الشكل التالي:
أولاً: الفئات التي لم تشارك بالحكم في العقود الماضية، والتي كانت خارجه تماماً، وهي منقسمة اليوم بين معارضة وموالاة.
بالنسبة للفئات المعارضة اليوم، والتي لم تكن جزءاً من تركيبة السلطة السياسية قبل عام 2005، فهي مدعوة كما الموالاة، وإن بمسؤولية أقل، للمساهمة في مسيرة إصلاح الدولة وتطهيرها من الفساد، فالخروج من الحكم لا يعني بأي حال من الأحوال الخروج من الوطن أو الدولة. وإن كان البعض يتهم هذه الفئات بأنها ساهمت في الفساد الذي مورس بعد عام 2005 فهي مدعوة أيضاً إلى إسقاط هذه التهمة عن نفسها، وذلك من خلال عدم تغطية الفاسدين والدفاع عنهم بحجة احترام التحالفات أو الكيدية السياسية أو غيرها.
أما المسؤولية الأكبر في مكافحة الفساد واستئصاله،  فيتحملها متولو السلطة السياسية، أي الحكومة اللبنانية، التي تمتلك سلطة المعالجة وسلطة المكافحة وسلطة الرّدع، ولا ينفع ادعاء بعض الفئات السياسية المكوّنة للحكومة بضغوط خارجية أو داخلية أو طائفية للتهرب من مسؤولية مكافحة الفساد، وإقامة حكم العدل وإحقاق الحق بين المواطنين.
من هنا، انطلاقاً من مبدأ ثابت يفيد أن "الساكت عن الشر شيطان أخرس"، فإن القوى السياسية والاجتماعية كافة، وخصوصاً القوى المشاركة في الحكومة، مدعوة لمكافحة الفساد والسير في مسيرة بناء الدولة، لا بل إن ادعاء هذه القوى عدم شراكتها بالفساد السابق، لا يعفيها من تحمل مسؤولية المشاركة فيه، أما من خلال تلكئها عن مكافحته أو عبر صمتها عنه وتغطيته الذي يجعلها حامية ومشرعنة له حتى لو لم تكن شريكة فيه.
ثانياً: المقاومة، وهي مدعوة للمشاركة بفاعلية وقوة في مسيرة الإصلاح والقضاء في الفساد، إذ لا يمكن لأي شعب أن يدّعي الحافظ على سيادته واستقلاله من خلال امتلاك القوة العسكرية فقط، ويتغاضى عن حالة الاهتراء الداخلي التي تعيشها دولته ومن النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكي تتحقق الدولة القوية القادرة التي تحافظ على المقاومة ومكتسباتها وما حققته لغاية الآن من تحرير للأرض وحفظ للإنسان فيه، بات على المقاومة أيضاً أن تسهم في محاربة الفساد الذي يكاد يقضي على الدولة والوطن، ويمنع المواطنين من التمتع بأبسط معايير العدالة الإنسانية، ويمنع عنهم مواصفات المواطنية الصحيحة. لم يعد مقنعاً التقاعس عن محاربة الفساد أو غض النظر عن إصلاح الدولة وبنائها على أسس العدالة والشفافية والحكم الصالح بذريعة حماية المقاومة وسلاحها. فالفساد في لبنان أصبح  بنيوياً في هيكل الدولة والمجتمع، حتى يكاد يقضي على الهيكل بمن فيه.
ثالثًا: المجتمع اللبناني: لا يمكن بأي حال من الأحوال، إعفاء المجتمع اللبناني من مسؤولية انتشار الفساد وتطوره، فقد انتشرت في الثقافة اللبنانية مفاهيم قيميّة ومثل شعبية تدعو إلى السكوت عن الفساد وتشجيعه، من خلال الدعوة إلى الحياد من منطلق "شو وقفت عليي؟" أو "حايدي عن ضهري".. أو على الأقل التخلي عن محاربته بذريعة تسهيل سبل العيش وتيسير الأمور الإدارية البيروقراطية، فبات الفساد وسيلة فعالة لتسهيل للمعاملات، أو مختصر للوقت أو غيرها.
من هنا، تغدو مسؤولية محاربة الفساد واستئصاله، مسؤولية عامة يتحملها الجميع، وخصوصاً المؤسسات المجتمعية كالعائلة والمدرسة والجامعة وغيرها باعتبارها مسؤولة عن تغيير ذهنية اجتماعية، تكاد تقضي على الوطن وتستبيحه أمام الرياح التي تعصف به من كل حدب وصوب.
لطالما كان الوطن اللبناني بحاجة إلى مقاومة شعبية وسياسية دائمة منذ تأسيسه، فالأخطار التي تتهدده، لم تكن يوماً خارجية فقط، بل هي داخلية أيضاً قد تؤدي في بعض الأحيان إلى كوارث توازي احتلال الأرض، إذ قد تؤدي هذه الآفات الاجتماعية التي تحولت إلى سرطان مستفحل ينخر جسد الوطن، مما قد يؤدي إلى انهيار الدولة والمجتمع.
إن القول بحماية الوطن عسكرياً وحمايته من الأخطار والاعتداءات الإسرائيلية وحدها لا تكفي للحفاظ على سيادته، بل باتت المعالجة الداخلية واستئصال الفساد وبناء الدولة على أسس الشفافية والعدالة والحكم الصالح بنفس أهمية الحماية من التهديدات الخارجية، لأن انهيار الوطن اقتصادياً واجتماعياً، يستبيحه ويقض سيادته الاقتصادية ومنعته الاجتماعية بشكل لا يقل خطورة وأهمية عن بسط النفوذ العسكري عليه، لا يمكن لدولة منخورة بالفساد وعدم العدالة أن تقاوم عدواً شرساً يربض على حدودها، فمقومات المناعة الاجتماعية والمقاومة الفاعلة لم تكن يوماً عسكرية فقط، ولنا في حالة انهيار الاتحاد السوفياتي الذي انهار من الداخل عبرة مفيدة، هل استطاعت الترسانة العسكرية الهائلة التي امتلكها الاتحاد أن تمنع انفجاره من الداخل؟
ليلى نقولا الرحباني
أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية