2011/08/25

مسيحيو المشرق: مسؤولية تاريخية لافشال خطط الاقتلاع

في ظل الثورات والانتفاضات الحاصلة في انحاء العالم العربي اليوم، وفي خضم حديث عن تحولات كبرى تعيشها المنطقة ستؤدي الى تغيير وجهها لمئة سنة قادمة، يعيش المسيحيون اللبنانيون ومعهم مسيحيي المشرق ككل، هاجس وجودهم ودورهم ومستقبل ابنائهم أكثر من أي وقت مضى.

ولعل استشعار الخطر الذي بدا واضحًا خلال السنوات الماضية خاصة بعد تهجير مسيحيي العراق، ازداد حدة في ظل التطورات المتسارعة والازمات التي تعصف بالمنطقة، وبعد بروز شعارات طائفية في سوريا تهدد بترحيل المسيحيين الى بيروت مما جعل المسيحيين السوريين ومعهم اللبنانيين يعيشون هاجسًا يوميًا بخطر "الاقتلاع" كما حصل مع مسيحيي القدس الذين لم يتبقَ منهم الا الفًا او الفين كحد اقصى.

واللافت ان الحملة لتهجير المسيحيين من المشرق والتي تبدو منهجية ومنظمة، تترافق مع سياسيات صهيونية وغربية مواكبة، نوجزها بما يلي:
-          حديث اوروبي عن الاقليات المسيحية في الشرق، وضرورة منحهم اللجوء السياسي وتسهيل هجرتهم الى الغرب، بذريعة حمايتهم وحماية حقوق الانسان. ويبرز في هذا المجال، الاعلانات الرسمية التي اعلنتها الدول الاسكندنافية عن تساهل كبير في منح الاقليات المشرقية ومنها الاقليات في ايران، حق اللجوء السياسي وان اعداده هؤلاء اللاجئين في تزايد مستمر.
-          مقالات صدرت في صحف اسرائيلية ونشرتها الكثير من المواقع الصهيونية تحرّض على مسيحيي المشرق وتتهمهم بمعاداة السامية، وتعتبر ان العيش بين اليهود وهؤلاء صعب حتى في ظل سلام في المنطقة.

ولعل الاسباب التي تدفع الى معاداة المسيحيين ومحاولة تهجيرهم عديدة، وقد وعى لها التيار الوطني الحر مبكرًا، لذلك كان التفاهم بين التيار وحزب الله، جزء من حماية المسيحيين في الشرق وحفظ دورهم، من منطلق وطني قومي عربي وليس من منطلق طائفي مذهبي ضيق. ولعل السياسة التي يتبعها البطريرك الراعي اليوم تحت عنوان "شراكة ومحبة"، والتي تأتي بموافقة ومباركة من الفاتيكان، ما هي الا دليل ساطع على وعي هؤلاء خطورة الوضع، والقلق من أن سياسات الحكومات السابقة في لبنان، التي ناصرها البطريرك صفير ومن معه، ساهمت الى حد بعيد في ازدياد الشرخ بين المسيحيين والمسلمين، وبين المسيحيين والمسيحيين، مما أدى الى تيئيس المسيحيين وهجرتهم الى بلاد الله الواسعة والتخلي عن ارضهم ووطنهم.

ما زال هناك قسم من المسيحيين يحلمون تلك الاحلام البائدة بتقسيم لبنان، واقامة كونتون مسيحي فيه يكون منارة الشرق بحسب زعمهم، لذلك  يعادون البطريرك الراعي لانهم يجدون في سياسات الانفتاح البطريركي عائقًا أمام تحقيق طموحاتهم ومشاريعهم، لذا يدفعون الى اختراع "وهم" الخطر الشيعي المسلح على المسيحيين وهو ما لاحظناه في تضخيم حادثة انطلياس وغيرها من الاحداث السابقة، وكل ذلك من أجل تحقيق هدف من اثنين: اما  دفع المسيحيين الى التخلي طوعاً عن الهوية والأرض، فيفرون من خطر مجهول يتهدد وجودهم وكرامتهم واولادهم، واما دفعهم للمواجهة وحمل السلاح في وجه ابناء وطنهم الامر الذي يضرب صيغة العيش المشترك التي يتميز لبنان ويصبح مفهوم التقسيم سهل التحقيق.

اما  الاسباب التي تدفع الغرب الى تبنى خطة تهجير المسيحيين فتبدو عديدة واهمها:
-           من مصلحة الصهيونية ان تنشر ثقافة التهجير والاقتلاع و التغيير الديمغرافي في الشرق، واسقاط حق العودة للفلسطينين وابقائهم في اماكن تواجدهم وتوطين الفلسطينيين مكان المسيحيين المقتلعين.
-          من مصلحة اسرائيل ان تقطع التواصل الشرقي – الغربي، فتخلي الشرق من مسيحييه الذين هم القناة الطبيعية للتواصل بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي، لتحتل هي هذه المكانة وتقدم نفسها انها تلك الصلة فتفرض على الغرب الاعتماد عليها وحدها في تأمين مصالحه في الشرق، وبالتالي امدادها بكل ما يلزم لها من عناصر قوة البقاء والاستمرار.
-          في ظل ازدياد التطرف الاصولي في الغرب، يرى بعض المفكرين الغربيين ان اوروبا "العجوز" التي تحتاج الى شعوب الشرق للعمل فيها ولاعادة "شباب" المجتمعات، يجب ان تحد من هجرة المسلمين اليها، وتفتح الباب لمسيحيي المشرق، وذلك - بحسب رأيهم- لان المسيحيين أكثر قدرة على الاندماج في المجتمعات الاوروبية بسبب وحدة الدين والثقافة، ولأن وجود المسيحي المهاجر في اوروبا اقل إثارة للتطرف والعنصرية اليمينية من وجود المسلمين الذين تختلف عاداتهم وتقاليدهم ولباسهم عن الاوروبي المسيحي.

بلا شك، ان افراغ الشرق من مسيحييه، سيكون ضربة قاسية لكل مشاريع التطور والانفتاح فيه، فالخطة الغربية بتفتيت المنطقة من خلال تهجير المسيحيين واثارة الاقتتال المذهبي السني الشيعي، لن يبقي لهذا الشرق واهله الا التعاسة والدماء والدموع. لذلك يمكن اعتبار ان من يقف ضد "الشراكة والانفتاح" التي اعلنها البطريرك الراعي، وهم انفسهم الذين وقفوا ضد التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله قبل ان يقرأوه، يمكن اعتبارهم – من حيث يدرون او لا يدرون- مساهمين في المشاريع الغربية التقسيمية المعدة للمنطقة.

وفي هذا المجال، يتحمل المسيحيون أيضًا مسؤولية كبرى في الحال الذي وصلوا اليه، والذي قد يجدون انفسهم فيه في المستقبل. ان وعي المسيحيين المشرقيين ووقوفهم بوجه المخططات التي ترسم لتهجيرهم، هو الاساس الذي يمنع اقتلاعهم من ارضهم، وتشريدهم. وكما أعاق المسيحيون اللبنانيون سابقًا، من خلال وقوفهم الى جانب المقاومة في الدفاع عن لبنان، تمرير المشروع الاميركي في المنطقة وتحقيق حلم الشرق الاوسط الجديد الذي بشرتنا به كوندوليزا رايس خلال حرب تموز، يستطيع المسيحيون المشرقيون اليوم ايضًا ان يعيقوا تحقيق المشاريع التقسيمية والتفتيتية للمنطقة، من خلال التفاعل مع محيطهم وقضاياه والوقوف ضد أي تدخل اجنبي في شؤونهم، والقول باعلى صوت: ارضنا كرامتنا لن نتخلى عنها ولن نساوم على وجودنا ومصيرنا، فاما نكون في هذه الارض، او لا نكون.

*استاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية.

2011/08/18

الاصلاح في لبنان... أقل كلفة من موت وطن

الثبات - 18 آب 2011

تعيش عواصم العالم على وقع التظاهرات المتنقلة هنا وهناك، والتي بدأت بشرارة ما أسمي "الربيع العربي"، الذي اختلطت فيه العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بينما تعيش أأوروبا وأميركا على وقع أزمات اقتصادية عنيفة، دفعت بالشباب إلى الثورة والتعبير عن الغضب تحت عناوين عدة.
ولعل الانهيار الاقتصادي الأميركي والأوروبي، والتظاهرات في بريطانيا و"إسرائيل"، وقبلها في اليونان، وفي مناطق عدة من العالم، يشير إلى فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي، أو ما يسمى بـ"النيوليبرالية" التي تحدثت عن آليات السوق كبديل عن الدولة، ما أدى إلى ازدياد التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتصاعد معدلات البطالة، ويأس الشباب وتضخم الأسعار، وبات الوضع الاقتصادي العالمي اليوم أشبه بالنظم الإقطاعية في بلدان عدة خلال قرون خلت، حيث كانت أقلية تملك الثروة والسلطة في حين يعيش غالبية الشعب في الفقر والمرض.
وبالرغم من الادعاءات البريطانية واتهام المحتجين بأنهم مخربين، لكن الاضطرابات تظهر أنها امتداد لحركة غليان شعبي سببه الفقر والتهميش، ففي نهاية شهر آذار الماضي خرج عشرات آلاف البريطانيين للاحتجاج على سياسة الحكومة الاقتصادية التي تشمل خفض الإنفاق في قطاع الخدمات العامة، وضمت المظاهرات التي نظمها اتحاد النقابات المهنية مدرسين وموظفين وطلاباً وشرائح أخرى من المجتمع البريطاني، طالبت بإيجاد فرص عمل وتحقيق النمو والعدالة.
قياساً على الوضع اللبناني، نجد أن من المستغرب لغاية الآن أن الشعب اللبناني، وبالرغم من كل المآسي الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها، والتي من المؤكد أنها أعمق بكثير وأكثر إلحاحاً وفظاعة من الحالات الأوروبية، لكنه ما زال محجماً عن الثورة أو التظاهر ضد من يمنع عنه لقمة العيش، ويسد أمامه كل سبل التطور والتحسن والإصلاح في هيكلية دولة باتت مهترئة ومنخورة بالفساد حتى العظم.
المديونية في لبنان لم تتأتى عن خسارة في البورصة، ولا بسبب حروب خيضت، كحروب بوش الاستباقية ومغامراته، بل ببساطة ووضوح كلّييْن، يعاني لبنان ما يعانيه من الخسارة والمديونية التي ترهق كاهل المواطنين، لأن الطبقة السياسية التي حكمته منذ التسعينات مارست السرقة والنهب وهدر المال العام.
ومن هنا نسأل: ما الذي يمنع المواطنين اللبنانين بأن يقتدوا بالحركات الاحتجاجية في العالم للنزول إلى الشارع لإعلاء الصوت، والمطالبة بالمحاسبة، والتحقيق في الأموال المهدورة والمسروقة من خزانة الدولة وجيوب المواطنين؟
ما الذي يمنع من أن تكون شرارة الكهرباء الممنوعة عن المواطنين، بأمر نيابي، سبباً لثورة تطيح بهذه الطبقة السياسية الفاسدة من المنتفعين، والذي يريدون أن يحرموا القطاعات الحياتية الضرورية من الأموال اللازمة لكي يفقروها فيخصخصوها، تماماً كما فعلوا في "سوليدير" وأكلوا حقوق المواطنين، وسيطروا على الوسط التجاري، وأقاموا مرافئ غير شرعية يستخدمونها الآن في تمويل العمليات الإرهابية في سورية؟ هل من يذكر أن تبرعات جُمعت لإصلاح الكهرباء عندما قصفت "إسرائيل" المحطات عام 1996؟ وهل من يعرف أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا ما زال لبنان في القرن الحادي والعشرين محروماً من الكهرباء؟ وهل وضع في السابق أي خطط للكهرباء؟ ولماذا لم تنفذ؟ ولماذا تعرقل الخطة الإصلاحية اليوم للكهرباء؟ أليس لإفلاس القطاع وبيعه بأرخص الأسعار، وسرقة أموال الشعب، كما حصل في الخلوي سابقًاً، وخسرت من جرائه الدولة اللبنانية مليارات الدولارات؟
لماذا لا يثور هذا الشعب للقمة خبزه، وحقه في الكهرباء والماء وفي العيش بكرامة كما تثور الشعوب الأخرى؟ لماذا لا يثور من أجل حقه في شراء شقة بسعر مقبول يسمح له دخله بتقسيطها كما يفعل "الإسرائيليون"؟
كيف يؤخذ الشعب ببروباغندا إعلامية تشويهية هدفها الضغط للقول إن حقك في الماء والكهرباء والعيش الكريم تصان فقط إن عاد سعد الحريري إلى السلطة، وإلا سنمنع عنك أبسط حقوقك؟ وكيف يمكن لحكومة ادّعت أنها أتت لتعيش هاجس المواطنين وحاجاتهم أن تبقى بانتظار "أمر ملكي" يأتي من مشيخة سعد الحريري للمباشرة بالإصلاح؟
لماذا لم تنطلق بعد عجلة الإصلاح الحكومية؟ وما الذي ينتظره الوزراء لكي يطهروا ادارتهم من الفساد المعشش منذ التسعينات؟ ما الذي ينتظره وزراء ونواب الأمة لكي يفتحوا تحقيقات في ملفات الفساد التي تُكشف يوماً بعد يوم؟
كيف لحكومة أن تسير في الإصلاح بنفس الهيكل الإداري الفاسد القديم؟ ما الذي يمنع سهيل بوجي من أن يزوّر محاضر جلسات مجلس الوزراء ويخترع جلسات غير موجودة، وعلى من تقع المسؤولية في ذلك اليوم؟ وما الذي يمنع غيره من تخطي القوانين، والتذرع بحماية الطائفة وحرمانها وفقيدها "الغالي"، لكي يتخطى القانون والدستور وكل الأعراف النيابية والقانونية؟
أما من يسأل كيف يفرّ "الإسلاميون" من سجن رومية؟ وكيف أتلفت ملفات وزارة المالية؟ أما من يسأل ويسائل أين ذهبت أموال الهبات والصناديق؟
أسئلة كثيرة لا تنتظر أجوبة، لأن الاجوبة موجودة في الأداء الحكومي في المرحلة المقبلة.
اليوم الكهرباء، وغداً المياه والدواء ورغيف الخبز وغيرها.. حاجات حياتية حيوية ستبقى مرهونة برسم توافقات سياسية، وخشية "الوسطية" من كيد المعارضة وإعلامها. بات مصير لقمة عيش اللبناني، وحلمه بتحقيق دولة العدل والقانون والمواطنية، مرهوناً بموقف شارع هذا الزعيم أو ذاك، أو مؤجلة خشية موقف مذهبي من هذه الطائفة أو تلك.. فأي إصلاح سيتحقق؟ وأي حلم سيُبنى؟ وأي وطن، وأي حلم نتركه لأبنائنا ونحن نرى الإصلاح بعيد المنال، ولا يمكن تحقيقه إلا بثورة تطيح برؤوس الإقطاعيين والفاسدين المعششين في الدولة منذ زمن.
لن يكون عدل ولا دولة حق في هذا الوطن، إلا باقتلاع الفساد من جذوره.. قد يسبب الاقتلاع ألماً وخسارة للبعض، لكنه يبقى أقل كلفة من موت وطن.

2011/08/11

تدخل الاطلسي عسكرياً في سوريا..هل يبدو واقعياً؟

الثبات- الخميس 11 آب 2011
كما كان متوقعاً، طغت الأحداث الدموية على الوضع السوري خلال شهر رمضان، وقد أتت المآسي والأحزان وازدياد العنف والخيارات الأمنية، لترسم معالم الشهر الفضيل فتحوله عما يفترض أن يكون شهر الخير والبركات، فيعطي مجالاً للشعب السوري في هذا الشهر لالتقاط الأنفاس بعد أشهر صعبة من الضغوط السياسية وعدم الاستقرار الأمني والضغوط الاقتصادية التي تهدد بإفقار الشعب السوري بأكمله.
ومع تزايد الضغوط وحدة البيانات الشاجبة، يتحدث كثر في لبنان والعالم عن توجه لتدخل عسكري أطلسي أو تركي مباشر في سوريا، وذلك بعدما تيقن الجميع عدم إمكانية "المعارضة السورية" من الإطاحة بنظام الأسد من الداخل، كما صرحت كلينتون في وقت سابق. فقد أظهر الشعب السوري وحدة وتضامناً واستمراراً في تأييده للرئيس الأسد، كما فاجأ تماسك الجيش السوري الجميع أيضاً، وقد كشف عن محاولات لشق صفوف الجيش السوري أو تدبير انقلاب على الرئيس ولكنها باءت جميعها بالفشل، يضاف إلى هذه الأسباب البنيوية لقوة النظام، أن "المعارضين" أنفسهم لم يقدموا بديلاً مقبولاً للشعب السوري، وظهروا معارضات ضمن المعارضة، ولعل تخطي البعض منهم الخطوط الحمراء، قد خدم النظام السوري وأضر بالحركة "الإصلاحية" وضربها في الصميم.
وهكذا، وبعدما فشلت مراهنات التغيير من الداخل، تظهر مراهنات على سقوط النظام السوري من خلال تدخل عسكري خارجي يقال إنه سيمد الدعم للحركات المسلحة في الداخل، ويساعدها على فرض موازين قوى جديدة تجعل من إمكانية انقلاب العسكر أو السياسيين على نظامهم أمراً أسهل فتكر السبحة ويتهاوى النظام السوري كما تهاوت قبله أنظمة عربية، لكن من خلال دراسة موازين القوى على الأرض، وظهور قدرة الجيش السوري على الحسم في مناطق اعتبرت القلاع الأساسية لحركات المعارضة، فإن خيار التدخل العسكري الخارجي المباشر في سوريا، يبدو صعباً للغاية، فبالرغم من كل ما يقال ويشاع، عن احتمالات تدخل عسكري أطلسي أو سواه في سوريا، إننا نرى أن هذا الخيار مستبعد – أقله في الفترة الحالية، وذلك لأسباب عدة أهمها:
-         التجربة الليبية: لقد تحولت ليبيا – كما عبر أحد الباحثين الأوروبيين- إلى العاصفة المثالية للإطاحة بأوروبا الاتحادية، فقد أظهرت التجربة أن كل الآليات الأوروبية الاتحادية ما زالت غير ناضجة، لقد ظهر من التجربة الليبية والخلافات التي سادت في أوروبا خلال التحضير للحرب وما بعدها والانقسامات التي سادت حول الأسلوب الأنجع للتعامل مع ليبيا، وتهافت كل دولة أوروبية على تحقيق مصالحها الوطنية القومية على حساب وحدة الاتحاد الأوروبي، ظهر أن آليات لشبونة أضافت تعقيدات إلى سياسة الاتحاد الخارجية ولم تسهلها، وأن الأحلام بتحول أوروبا إلى قوة عسكرية ضخمة تفرض نفسها على الواقع الدولي كاتحاد قد تبخرت، كما تبين أن الأوروبيين كـ"اتحاد" لا يصلحون إلا للأعمال الإنسانية، بدليل فشلهم – حتى الآن- في تحقيق الأهداف التي وضعوها لتدخلهم في ليبيا.
-         وضع حلف شمالي الأطلسي، الذي تسيطر عليه الولايات الأميركية، وقد تأثرت موازنة الأطلسي بالأزمات الاقتصادية التي تعيشها دوله، وقد أتهم روبرت غيتس الحلفاء الأوروبيين في الأطلسي، بأنهم فقراء في الإنفاق الدفاعي والقدرات العسكرية، وحذر من مستقبل قاتم إن لم يكن كئيباً لمستقبل حلف شمالي الأطلسي إن استمر الوضع على ما هو عليه.
-         الأزمات الاقتصادية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والتي تدفع الأطراف جميعاً إلى تخفيض موازنات الدفاع بالإضافة إلى اقتطاع أجزاء مهمة من الخدمات الاجتماعية، فكيف سيبرر الأوروبيون والأميركيون خياراتهم الحربية أمام شعوبهم مهما عظمت الذرائع الإنسانية، وهي خيارات ستؤدي إلى إنفاق ضخم وإرهاق الخزينة واستهلاك أموال دافعي الضرائب، في وقت يطلب من مواطني هذه الدول "شد الأحزمة" والتكيف مع تناقص التقديمات الاجتماعية بسبب الإفلاس.
-          خشية الدول من دخول إيراني إلى الجبهة في حال نشوب حرب على الحليف الاستراتيجي السوري بموجب استراتيجية "وحدة الجبهة" التي أعلنت من دمشق في شباط 2010، ويدرك حلف شمال الأطلسي أن لدى الإيرانيين القدرة على استهداف الأميركيين في العراق، وقوات الحلف الأطلسي في أفغانستان وغيرها من المناطق، كما يملك القدرة على استهداف تركيا في حال غامر الأتراك بتدخل عسكري مباشر في سوريا.
-         إن اندلاع حرب إقليمية تساهم فيها إيران، مدخلها تدخل عسكري في سوريا، ستلهب أسعار النفط العالمي، وبالتالي فإن عاصفة اقتصادية هائلة سوف تضرب اقتصاديات الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، وسيكون الثمن المدفوع لتدخل عسكري غير مضمون النتائج كبيراً جداً.
-         هذا في ما خص الأطلسي، أما في الحديث عن قيام إسرائيل بهذه الحرب فلا يبدو واقعياً أيضاً، فالوضع الإسرائيلي لا يسمح لإسرائيل الآن في الدخول في حرب لا تعرف نتيجتها، ولا تستطيع أن تضبط إيقاعها، فالإسرائيليون مشغولون بأزماتهم الداخلية، ويدركون هشاشة جبهتهم الداخلية، لذا لن يذهبوا إلى خيار تدخل عسكري في سوريا غير مضمون النتائج.
-         أما تركيا، فهي تدرك أيضاً أن الدخول العسكري المباشر في سوريا لن يكون نزهة كما أن السوريين والإيرانيين يملكون من الإمكانيات والأوراق التي تجعل من المغامرة التركية مكلفة جداً.
هكذا إذاً، تبدو الطريق مقفلة أما تغيير النظام السوري بالقوة، فالدروس المستفادة غربياً من التجربتين الليبية والعراقية، بالإضافة إلى ما تملكه سوريا من أوراق استراتيجية هامة، تجعل من هذه الرهانات، غير واقعية لا بل أقرب إلى سراب وأوهام تبقى في تمنيات مطلقيها وخيالاتهم، لذلك ما على السوريين إلا الجلوس للحوار فيما بينهم، للسير ببلدهم نحو طريق الإصلاح والتغيير الديمقراطي الصحيح، وعدم الاتكال على الخارج ولهم في التجربة العراقية وتهجير الشعب العراقي وتشتته في بقاع الأرض ونهب ثروات العراق بذريعة "دمقرطته"، عبرة ودرس لا يجب إغفاله.
  • أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية.

2011/08/04

التدخل المستقبلي في الشؤون السورية.. أوهامه وحدود قدراته

تعود نبرة المستقبليين اليوم إلى الارتفاع، مع ارتفاع حدة المواجهات العسكرية في سوريا، ومع ارتفاع منسوب التوقعات برمضان مأساوي في سوريا، قد يؤدي إلى تدويل القضية وإلى مزيد من الضغوط على النظام السوري دولياً وعربياً.
ولئن كان المستقبليون "دعاة سيادة جدداً"، ومستفيقين متأخرين على دعوات إلى "لبنان السيد الحر المستقل"، تبدو دعواتهم اليوم مريبة، بما أنهم يعتبرون السيادة
والاستقلال اللبنانيين مرتبطين فقط بالدولتين السورية والإيرانية وعلاقتهما بلبنان، بينما يجوبون العالم بحثاً عن ضغوط خارجية سياسية واقتصادية على لبنان وشعبه، لتهديده بلقمة عيشه وأمنه وسلامه مقابل عودة مظفرة لهم إلى السلطة تبدو بعيدة المنال.
اليوم، لا تبدو الدعوات المستقبلية إلى التضامن مع الشعب السوري بريئة، خصوصاً في ظل مطالبات دائمة من قبل المستقبل وحلفائه بعدم تدخل سوري في الشؤون اللبنانية، وعدم فرض الإرادة السورية على لبنان، والغريب، التصريحات المستقبلية واللغة الاستعلائية لسعد الحريري، وكأنهم ينطقون باسم قوى عظمى تستطيع أن تأمر وتنهى، وتفرض شروطها في العلاقات الدولية.
فباسم من يتكلم الحريري؟ هل باسم تيار المستقبل وحلفائه، أم باسم لبنان وهم مجموعة أقلية في البرلمان اللبناني، خلعوا خلعاً من السلطة التي وصلوا إليها من خلال تزوير الإرادة الناخبة بالضغط والترهيب والترغيب وصرف المال والنفوذ؟
وبغض النظر عن الوهم الذي يعيشه حزب المستقبل حول حجمه ودوره، وحجم لبنان في المعادلات الإقليمية، من الأكيد أن التدخل اللبناني في الشؤون السورية الداخلية لن يفيد أحداً من اللبنانيين، وهو بطبيعة الحال لن يؤدي إلى تبدل موازين القوى في سوريا، فالدولة السورية ما زالت من القوة والتماسك بحيث تستطيع أن تحافظ على سيادتها ضد أي تدخل خارجي في شؤونها.
وفي تقييمنا للدول التي يمكن التدخل في شؤونها، ضمن نظريات "التدخل الدولي" ومفاهيمه الحديثة، نميز بين الدول وفقاً لعنوانين :
الأول.. يتعلق بالدول الممكن التدخل في شؤونها:
يبرز تحت هذا العنوان فئتان: دول يمكن التدخل في شؤونها، ونصنفها دولاً ضعيفة أو عاجزة أو محدودة القدرات، ودول لا تسمح بالتدخل في شؤونها، فسلطتها القائمة قادرة على منعه والحؤول دون إتيانه لمفاعيله، وهي الدول التي تمتلك القدرات الكافية لمنع التدخل، وتملك من الأوراق الاستراتيجية الهامة التي تجعلها لاعباً إقليمياً فاعلاً، ضمن هذا التصنيف، ما زالت الدولة السورية، ضمن الفئة الثانية التي تجعل من أي تدخل سياسي أو عسكري مباشراً كان أو غير مباشر، تدخلاً مكلفاً للقائمين به.
الثاني.. يتعلق بالجهة القادرة على التدخل:
وهنا نميز بين دولة تستطيع التدخل في شؤون الغير وتسمح لها قوتها بذلك، وبين دول لا تستطيع ولا تملك الإمكانيات والقدرات على التدخل في شؤون الدول الأخرى .
ومن خلال هذا التمييز وهذين العنوانين، نستطيع تصنيف الدول في العالم اليوم بين :
  1. دول لا يمكن أن يتم التدخل في شؤونها، ويمكنها التدخل في شؤون الآخرين بأحادية، وهي الدول العظمى كالولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من أن أزمتها الاقتصادية وتعثرها في العراق وأفغانستان يحدان من قدراتها التدخلية وإمكانية فرض الإملاءات على الآخرين.
  2. دول لا يمكن أن يتم التدخل في شؤونها، لكنها لا تستطيع أن تتدخل في شؤون الآخرين، وهي الدول المتوسطة كالدول الصاعدة اليوم على الساحة الدولية.
  3. دول يمكن أن يتم التدخل في شؤونها، ولا تستطيع أن تتدخل في شؤون الآخرين، وهي الدول الضعيفة.
  4. ويبقى نوع أخير، تحاول بعض الدول الكبرى التوجه نحوه، وهو:
دول لا يمكن التدخل في شؤونها، وتستطيع أن تكون جزءاً من منظومة عالمية تدخلية من غير تفرد في العمل، وهو ما تحاول الدول الأوروبية اعتماده، بالرغم أيضاً من محاولات ساركوزي التوجه نحو الاستفراد الدولي، وبالرغم من أن الأزمة الاقتصادية الأوروبية، وتفشي التطرف بصعود اليمين ووصوله إلى البرلمانات الأوروبية، والتوجه نحو غرق في المستنقع الليبي سيدفع الأوربيين إلى إعادة النظر في سياساتهم التدخلية، ليكونوا أكثر حذراً في أي مغامرة تدخلية جديدة.
وضمن هذه التصنيفات، يدخل لبنان بإمكاناته ومحدودية قدراته العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وعدم الانسجام بين مكوناته ضمن الفئة الثالثة بالتأكيد، أي من الدول التي لا تستطيع أن تتدخل في شؤون أحد، وباستطاعة الجميع التدخل في شؤونها.
من هنا، نرى أن المستقبل يدفع الأمور إلى الأسوأ من خلال تدخل مباشر وعلني وصريح ضد سوريا، ومحاولة زج لبنان من خلال استخدام أراضيه في إدارة المعركة ضدها، وهو إنما يزج بلبنان بمواقف خطيرة هو بغنى عنها، ولا طاقة له على احتمالها.
قد يكون عودة الهيجان المستقبلي ضد سوريا، لأنهم يمنون النفس بعزلة دولية لسوريا، أو قرار يصدر عن مجلس الأمن كالقرار الليبي، لكن ما لا يفهمه المستقبل وغيره من الحالمين، أن موازين القوى الدولية في مجلس الأمن ليست لصالح قرار كهذا، وحتى لو فرضنا أن الروس والصينيين وافقوا على قرار كهذا، فدول الناتو التي من المفترض أن ترسل أساطيلها لقصف سوريا، هي دول منهكة اقتصادياً، ومنهكة عسكرياً وسياسياً في المستنقع الليبي الذي لا يبدو باتجاه حل قريب، ومن يقرأ الصحف الأميركية والأوروبية ويطلع على مراكز الأبحاث المختلفة، يدرك أن الأوروبيين باتوا يفتشون عن حل للمأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه في ليبيا، تمامًا كما تفتش الولايات المتحدة اليوم عن منفذ يخرجها من أفغانستان، ويحفظ مصالحها في العراق بعد مغامرات بوش التدخلية وسياساته التي أفلست الخزينة الأميركية وأنهكت الجيش الأميركي في "حرب على الإرهاب" لم تقضِ عليه بل زادته حدة وانتشاراً، والدليل ما حصل في النرويج الأسبوع المنصرم.
ليلى نقولا الرحباني*
*أستاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية