في ظل الثورات والانتفاضات الحاصلة في انحاء العالم العربي اليوم، وفي خضم حديث عن تحولات كبرى تعيشها المنطقة ستؤدي الى تغيير وجهها لمئة سنة قادمة، يعيش المسيحيون اللبنانيون ومعهم مسيحيي المشرق ككل، هاجس وجودهم ودورهم ومستقبل ابنائهم أكثر من أي وقت مضى.
ولعل استشعار الخطر الذي بدا واضحًا خلال السنوات الماضية خاصة بعد تهجير مسيحيي العراق، ازداد حدة في ظل التطورات المتسارعة والازمات التي تعصف بالمنطقة، وبعد بروز شعارات طائفية في سوريا تهدد بترحيل المسيحيين الى بيروت مما جعل المسيحيين السوريين ومعهم اللبنانيين يعيشون هاجسًا يوميًا بخطر "الاقتلاع" كما حصل مع مسيحيي القدس الذين لم يتبقَ منهم الا الفًا او الفين كحد اقصى.
واللافت ان الحملة لتهجير المسيحيين من المشرق والتي تبدو منهجية ومنظمة، تترافق مع سياسيات صهيونية وغربية مواكبة، نوجزها بما يلي:
- حديث اوروبي عن الاقليات المسيحية في الشرق، وضرورة منحهم اللجوء السياسي وتسهيل هجرتهم الى الغرب، بذريعة حمايتهم وحماية حقوق الانسان. ويبرز في هذا المجال، الاعلانات الرسمية التي اعلنتها الدول الاسكندنافية عن تساهل كبير في منح الاقليات المشرقية ومنها الاقليات في ايران، حق اللجوء السياسي وان اعداده هؤلاء اللاجئين في تزايد مستمر.
- مقالات صدرت في صحف اسرائيلية ونشرتها الكثير من المواقع الصهيونية تحرّض على مسيحيي المشرق وتتهمهم بمعاداة السامية، وتعتبر ان العيش بين اليهود وهؤلاء صعب حتى في ظل سلام في المنطقة.
ولعل الاسباب التي تدفع الى معاداة المسيحيين ومحاولة تهجيرهم عديدة، وقد وعى لها التيار الوطني الحر مبكرًا، لذلك كان التفاهم بين التيار وحزب الله، جزء من حماية المسيحيين في الشرق وحفظ دورهم، من منطلق وطني قومي عربي وليس من منطلق طائفي مذهبي ضيق. ولعل السياسة التي يتبعها البطريرك الراعي اليوم تحت عنوان "شراكة ومحبة"، والتي تأتي بموافقة ومباركة من الفاتيكان، ما هي الا دليل ساطع على وعي هؤلاء خطورة الوضع، والقلق من أن سياسات الحكومات السابقة في لبنان، التي ناصرها البطريرك صفير ومن معه، ساهمت الى حد بعيد في ازدياد الشرخ بين المسيحيين والمسلمين، وبين المسيحيين والمسيحيين، مما أدى الى تيئيس المسيحيين وهجرتهم الى بلاد الله الواسعة والتخلي عن ارضهم ووطنهم.
ما زال هناك قسم من المسيحيين يحلمون تلك الاحلام البائدة بتقسيم لبنان، واقامة كونتون مسيحي فيه يكون منارة الشرق بحسب زعمهم، لذلك يعادون البطريرك الراعي لانهم يجدون في سياسات الانفتاح البطريركي عائقًا أمام تحقيق طموحاتهم ومشاريعهم، لذا يدفعون الى اختراع "وهم" الخطر الشيعي المسلح على المسيحيين وهو ما لاحظناه في تضخيم حادثة انطلياس وغيرها من الاحداث السابقة، وكل ذلك من أجل تحقيق هدف من اثنين: اما دفع المسيحيين الى التخلي طوعاً عن الهوية والأرض، فيفرون من خطر مجهول يتهدد وجودهم وكرامتهم واولادهم، واما دفعهم للمواجهة وحمل السلاح في وجه ابناء وطنهم الامر الذي يضرب صيغة العيش المشترك التي يتميز لبنان ويصبح مفهوم التقسيم سهل التحقيق.
اما الاسباب التي تدفع الغرب الى تبنى خطة تهجير المسيحيين فتبدو عديدة واهمها:
- من مصلحة الصهيونية ان تنشر ثقافة التهجير والاقتلاع و التغيير الديمغرافي في الشرق، واسقاط حق العودة للفلسطينين وابقائهم في اماكن تواجدهم وتوطين الفلسطينيين مكان المسيحيين المقتلعين.
- من مصلحة اسرائيل ان تقطع التواصل الشرقي – الغربي، فتخلي الشرق من مسيحييه الذين هم القناة الطبيعية للتواصل بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي، لتحتل هي هذه المكانة وتقدم نفسها انها تلك الصلة فتفرض على الغرب الاعتماد عليها وحدها في تأمين مصالحه في الشرق، وبالتالي امدادها بكل ما يلزم لها من عناصر قوة البقاء والاستمرار.
- في ظل ازدياد التطرف الاصولي في الغرب، يرى بعض المفكرين الغربيين ان اوروبا "العجوز" التي تحتاج الى شعوب الشرق للعمل فيها ولاعادة "شباب" المجتمعات، يجب ان تحد من هجرة المسلمين اليها، وتفتح الباب لمسيحيي المشرق، وذلك - بحسب رأيهم- لان المسيحيين أكثر قدرة على الاندماج في المجتمعات الاوروبية بسبب وحدة الدين والثقافة، ولأن وجود المسيحي المهاجر في اوروبا اقل إثارة للتطرف والعنصرية اليمينية من وجود المسلمين الذين تختلف عاداتهم وتقاليدهم ولباسهم عن الاوروبي المسيحي.
بلا شك، ان افراغ الشرق من مسيحييه، سيكون ضربة قاسية لكل مشاريع التطور والانفتاح فيه، فالخطة الغربية بتفتيت المنطقة من خلال تهجير المسيحيين واثارة الاقتتال المذهبي السني الشيعي، لن يبقي لهذا الشرق واهله الا التعاسة والدماء والدموع. لذلك يمكن اعتبار ان من يقف ضد "الشراكة والانفتاح" التي اعلنها البطريرك الراعي، وهم انفسهم الذين وقفوا ضد التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله قبل ان يقرأوه، يمكن اعتبارهم – من حيث يدرون او لا يدرون- مساهمين في المشاريع الغربية التقسيمية المعدة للمنطقة.
وفي هذا المجال، يتحمل المسيحيون أيضًا مسؤولية كبرى في الحال الذي وصلوا اليه، والذي قد يجدون انفسهم فيه في المستقبل. ان وعي المسيحيين المشرقيين ووقوفهم بوجه المخططات التي ترسم لتهجيرهم، هو الاساس الذي يمنع اقتلاعهم من ارضهم، وتشريدهم. وكما أعاق المسيحيون اللبنانيون سابقًا، من خلال وقوفهم الى جانب المقاومة في الدفاع عن لبنان، تمرير المشروع الاميركي في المنطقة وتحقيق حلم الشرق الاوسط الجديد الذي بشرتنا به كوندوليزا رايس خلال حرب تموز، يستطيع المسيحيون المشرقيون اليوم ايضًا ان يعيقوا تحقيق المشاريع التقسيمية والتفتيتية للمنطقة، من خلال التفاعل مع محيطهم وقضاياه والوقوف ضد أي تدخل اجنبي في شؤونهم، والقول باعلى صوت: ارضنا كرامتنا لن نتخلى عنها ولن نساوم على وجودنا ومصيرنا، فاما نكون في هذه الارض، او لا نكون.
*استاذة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية.