الثبات - 18 آب 2011
تعيش عواصم العالم على وقع التظاهرات المتنقلة هنا وهناك، والتي بدأت بشرارة ما أسمي "الربيع العربي"، الذي اختلطت فيه العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بينما تعيش أأوروبا وأميركا على وقع أزمات اقتصادية عنيفة، دفعت بالشباب إلى الثورة والتعبير عن الغضب تحت عناوين عدة.
ولعل الانهيار الاقتصادي الأميركي والأوروبي، والتظاهرات في بريطانيا و"إسرائيل"، وقبلها في اليونان، وفي مناطق عدة من العالم، يشير إلى فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي الحالي، أو ما يسمى بـ"النيوليبرالية" التي تحدثت عن آليات السوق كبديل عن الدولة، ما أدى إلى ازدياد التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتصاعد معدلات البطالة، ويأس الشباب وتضخم الأسعار، وبات الوضع الاقتصادي العالمي اليوم أشبه بالنظم الإقطاعية في بلدان عدة خلال قرون خلت، حيث كانت أقلية تملك الثروة والسلطة في حين يعيش غالبية الشعب في الفقر والمرض.
وبالرغم من الادعاءات البريطانية واتهام المحتجين بأنهم مخربين، لكن الاضطرابات تظهر أنها امتداد لحركة غليان شعبي سببه الفقر والتهميش، ففي نهاية شهر آذار الماضي خرج عشرات آلاف البريطانيين للاحتجاج على سياسة الحكومة الاقتصادية التي تشمل خفض الإنفاق في قطاع الخدمات العامة، وضمت المظاهرات التي نظمها اتحاد النقابات المهنية مدرسين وموظفين وطلاباً وشرائح أخرى من المجتمع البريطاني، طالبت بإيجاد فرص عمل وتحقيق النمو والعدالة.
قياساً على الوضع اللبناني، نجد أن من المستغرب لغاية الآن أن الشعب اللبناني، وبالرغم من كل المآسي الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها، والتي من المؤكد أنها أعمق بكثير وأكثر إلحاحاً وفظاعة من الحالات الأوروبية، لكنه ما زال محجماً عن الثورة أو التظاهر ضد من يمنع عنه لقمة العيش، ويسد أمامه كل سبل التطور والتحسن والإصلاح في هيكلية دولة باتت مهترئة ومنخورة بالفساد حتى العظم.
المديونية في لبنان لم تتأتى عن خسارة في البورصة، ولا بسبب حروب خيضت، كحروب بوش الاستباقية ومغامراته، بل ببساطة ووضوح كلّييْن، يعاني لبنان ما يعانيه من الخسارة والمديونية التي ترهق كاهل المواطنين، لأن الطبقة السياسية التي حكمته منذ التسعينات مارست السرقة والنهب وهدر المال العام.
ومن هنا نسأل: ما الذي يمنع المواطنين اللبنانين بأن يقتدوا بالحركات الاحتجاجية في العالم للنزول إلى الشارع لإعلاء الصوت، والمطالبة بالمحاسبة، والتحقيق في الأموال المهدورة والمسروقة من خزانة الدولة وجيوب المواطنين؟
ما الذي يمنع من أن تكون شرارة الكهرباء الممنوعة عن المواطنين، بأمر نيابي، سبباً لثورة تطيح بهذه الطبقة السياسية الفاسدة من المنتفعين، والذي يريدون أن يحرموا القطاعات الحياتية الضرورية من الأموال اللازمة لكي يفقروها فيخصخصوها، تماماً كما فعلوا في "سوليدير" وأكلوا حقوق المواطنين، وسيطروا على الوسط التجاري، وأقاموا مرافئ غير شرعية يستخدمونها الآن في تمويل العمليات الإرهابية في سورية؟ هل من يذكر أن تبرعات جُمعت لإصلاح الكهرباء عندما قصفت "إسرائيل" المحطات عام 1996؟ وهل من يعرف أين ذهبت هذه الأموال؟ ولماذا ما زال لبنان في القرن الحادي والعشرين محروماً من الكهرباء؟ وهل وضع في السابق أي خطط للكهرباء؟ ولماذا لم تنفذ؟ ولماذا تعرقل الخطة الإصلاحية اليوم للكهرباء؟ أليس لإفلاس القطاع وبيعه بأرخص الأسعار، وسرقة أموال الشعب، كما حصل في الخلوي سابقًاً، وخسرت من جرائه الدولة اللبنانية مليارات الدولارات؟
لماذا لا يثور هذا الشعب للقمة خبزه، وحقه في الكهرباء والماء وفي العيش بكرامة كما تثور الشعوب الأخرى؟ لماذا لا يثور من أجل حقه في شراء شقة بسعر مقبول يسمح له دخله بتقسيطها كما يفعل "الإسرائيليون"؟
كيف يؤخذ الشعب ببروباغندا إعلامية تشويهية هدفها الضغط للقول إن حقك في الماء والكهرباء والعيش الكريم تصان فقط إن عاد سعد الحريري إلى السلطة، وإلا سنمنع عنك أبسط حقوقك؟ وكيف يمكن لحكومة ادّعت أنها أتت لتعيش هاجس المواطنين وحاجاتهم أن تبقى بانتظار "أمر ملكي" يأتي من مشيخة سعد الحريري للمباشرة بالإصلاح؟
لماذا لم تنطلق بعد عجلة الإصلاح الحكومية؟ وما الذي ينتظره الوزراء لكي يطهروا ادارتهم من الفساد المعشش منذ التسعينات؟ ما الذي ينتظره وزراء ونواب الأمة لكي يفتحوا تحقيقات في ملفات الفساد التي تُكشف يوماً بعد يوم؟
كيف لحكومة أن تسير في الإصلاح بنفس الهيكل الإداري الفاسد القديم؟ ما الذي يمنع سهيل بوجي من أن يزوّر محاضر جلسات مجلس الوزراء ويخترع جلسات غير موجودة، وعلى من تقع المسؤولية في ذلك اليوم؟ وما الذي يمنع غيره من تخطي القوانين، والتذرع بحماية الطائفة وحرمانها وفقيدها "الغالي"، لكي يتخطى القانون والدستور وكل الأعراف النيابية والقانونية؟
أما من يسأل كيف يفرّ "الإسلاميون" من سجن رومية؟ وكيف أتلفت ملفات وزارة المالية؟ أما من يسأل ويسائل أين ذهبت أموال الهبات والصناديق؟
أسئلة كثيرة لا تنتظر أجوبة، لأن الاجوبة موجودة في الأداء الحكومي في المرحلة المقبلة.
اليوم الكهرباء، وغداً المياه والدواء ورغيف الخبز وغيرها.. حاجات حياتية حيوية ستبقى مرهونة برسم توافقات سياسية، وخشية "الوسطية" من كيد المعارضة وإعلامها. بات مصير لقمة عيش اللبناني، وحلمه بتحقيق دولة العدل والقانون والمواطنية، مرهوناً بموقف شارع هذا الزعيم أو ذاك، أو مؤجلة خشية موقف مذهبي من هذه الطائفة أو تلك.. فأي إصلاح سيتحقق؟ وأي حلم سيُبنى؟ وأي وطن، وأي حلم نتركه لأبنائنا ونحن نرى الإصلاح بعيد المنال، ولا يمكن تحقيقه إلا بثورة تطيح برؤوس الإقطاعيين والفاسدين المعششين في الدولة منذ زمن.
لن يكون عدل ولا دولة حق في هذا الوطن، إلا باقتلاع الفساد من جذوره.. قد يسبب الاقتلاع ألماً وخسارة للبعض، لكنه يبقى أقل كلفة من موت وطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق