2021/08/24

كامالا هاريس في آسيا: وعود أميركية لم تعد جذابة

في ظل انسحاب مفاجئ من افغانستان، وصور مرعبة لمتعاونين أفغان يتعلقون بالطائرات الأميركية للنجاة بأنفسهم من انتقام طالبان، تزور كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي جو بايدن، آسيا، في رحلة هي الأولى لها الى لتعزيز التحالفات الاقليمية، وتهدئة مخاوف الحلفاء.

تبدأ هاريس زيارتها الى سنغافورة، الشريك الأكثر موثوقية بالنسبة للولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا، فالاتفاقيات الدفاعية والأمنية الموقعّة بين البلدين تسمح للجيش الأميركي بالوصول إلى أراضيها ومياهها الإقليمية واستقرارها والتحليق فوقها.

تحاول هاريس في زيارتها تلك، التشبه بالزيارة الخارجية الأولى لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، حيث تمّ التأكيد من خلال تلك الزيارة أن آسيا ستكون الوجهة الأساسية للاستراتيجية الأميركية في عهد أوباما. وكما أوباما، يحاول بايدن ونائبته التأكيد على "أولوية آسيا" في الاستراتيجية المعتمدة للإدارة الحالية، إلا أن تجربة الأسيويين مع إدارتي أوباما وترامب، وصور أفغانستان المذلّة، ستجعل من الصعب على الأميركيين اختراق النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة.

وسيكون أمام الأميركيين، عقبات عدة، منها:

-      صورة الانسحاب الفوضوي من أفغانستان

المشكلة بالنسبة للأميركيين، والتي ستواجه هاريس، أن صورة تخلي الأميركيين عن حلفائهم والانسحاب بدون الالتفات الى الوراء والتي تذكّر بانسحابهم من فيتنام (التي تزورها هاريس أيضاً)، ستدفع العديد في المنطقة الى اعتماد سياسة "منتصف العصا" أي الإبقاء على التعاون مع الصين وأميركا معاً، في منطقة تشهد تزايداً للنفوذين الصيني والروسي بالاضافة الى النفوذ الأميركي.

 

-      تراجع الموقع التجاري للولايات المتحدة

بالرغم من كل الخطابات الواعدة للرئيس بايدن، إلا إن مركز الولايات المتحدة المتضاءل في التجارة الآسيوية لم يعد موضع شك، فالصين استغلت انشغال الإدارات الأميركية المتعاقبة في الشرق الأوسط، لتطلق خطتها للمنطقة عام 2012، ثم أتى قرار دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاقية الشاملة "للشراكة عبر المحيط الهادئ" في عام 2017، ليكرّس تراجع أميركا كلاعب مهيمن في السياسة التجارية في آسيا، ولتصبح الصين  - وليس أميركا- الشريك التجاري الرائد لكل دولة في المنطقة.

واليوم، تحاول الولايات المتحدة ولضرورات جيوسياسية إعادة تأكيد ريادتها الاقتصادية في آسيا، ولكن بايدن يواجه عقبات داخلية تعيق قراراته في مجال التجارة والاقتصاد، فعلى الرغم من أنه أكد في البداية رغبته بالعودة إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي خرج منها ترامب، إلا أن شيئًا لم يحصل لغاية الآن، كما معظم وعود بايدن الانتخابية الأخرى فيما خص العلاقات الخارجية، ومنها العودة الى الاتفاق النووي مع إيران.

-      أخطاء تاريخية في التعامل مع جنوب آسيا

الملاحظ أنه ولعدة عقود، لم تضع الولايات المتحدة سياسة إقليمية حقيقية لجنوب آسيا، بل تعاملت مع المنطقة أنطلاقاً من نظرتهم الى الحرب في أفغانستان، والتي طبعت النظرة الأميركية الى باكستان أيضاً، بالاضافة الى الشراكة بين الولايات المتحدة والهند. لم تحتل الدول الأخرى في جنوب آسيا مكانة بارزة في التفكير الاستراتيجي للولايات المتحدة، بل بقيت على الهامش في رؤية صانع القرار الأميركي، ولقد ظهر ذلك جلياً عندما كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب النقاب عن "استراتيجية جنوب آسيا" عام 2017 ، فكانت أفغانستان والهند وباكستان هي الدول الوحيدة المذكورة في تلك الأستراتيجية.

حتى من الناحية الإدارية والعسكرية، لا تبدو منطقة جنوب آسيا وحدة اقليمية متمايزة بالنسبة للأميركيين، ونلاحظ ذلك من دمج منطقتي حنوب آسيا وأسيا الوسطى في وزارة الخارجية، وقيام البنتاغون بتقسيم القيادة والسيطرة على المنطقة، فالقيادة المركزية تشرف على باكستان، والقيادة الهندية والمحيط الهادئ تشرف على الهند.

هذا يعني أن خروج الولايات المتحدة من أفغانستان سيعطي فرصة للصين لتصبح الشريك الاستراتيجي الأهم لدول جنوب آسيا، وسيجعل الولايات المتحدة مرغمة على أن تعطي أهمية استراتيجية أكبر لدول جنوب شرق آسيا والتي كانت حتى الأمس القريب تعتبر هامشية.

أنطلاقاً مما سبق، يبدو أن زيارة هاريس تهدف الى التأكيد أن المنطقة ودولها تبقى ذات اهمية استراتيجية واقتصادية لواشنطن، لكن من الصعب على تلك الدول أن تؤخذ بالخطابات بدون التزام عسكري واقتصادي واضح من الإدارة الأميركية. إن الضغوط الداخلية، وصور أفغانستان المذلة، وعدم إقدام بايدن وإحجامه عن العودة الى الاتفاقيات السابقة، سيجعل ما سيعرضه على الشركاء الآسيويين أقل جاذبية مما تعرضه الصين، وعليه من غير الممكن بالنسبة للولايات المتحدة أن تستعيد موقعها المهيمن في التجارة الآسيوية بأنصاف حلول، وأنصاف إجراءات، كما يحاول بايدن أن يفعل.

وهكذا، في منطقة تتسم بتزايد نفوذ الصين، لا يمكن للولايات المتحدة الاميركية الاستمرار في السياسة التي كانت تنتهجها سابقاً في تلك المنطقة، وهذا ما سيحوّل المنطقة الى مناطق تنازع نفوذ، سيجعلها أقل استقرارًا وأقل أمناً، ما قد يخدم خطة الولايات المتحدة لتقويص مبادرة طريق الحرير الجديد.

 

2021/08/09

لبنان يكرّس: عدم إفلات اسرائيل من العقاب


 

بعد أيام مليئة بالتوتر والحذر الاقليميين، وغارات اسرائيلية على جنوب لبنان قوبلت بردٍ من حزب الله عبر إطلاق صواريخ على أراضٍ غير مأهولة في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، حدد السيد حسن نصرالله بدقة ووضوح المعادلات التي تحكم عمل المقاومة في ردّها على الاسرائيليين في الحرب المفتوحة بين لبنان "واسرائيل".

 

لقد حرص السيد نصرالله على تأكيد مسلمتين تحكم العمل المقاوم اللبناني تجاه العدوان الاسرائيلي على لبنان، ونبرزها كما يلي:

 

اولاً- جوهرية "عدم افلات اسرائيل" من العقاب، وفيها معيارين:

 

-       المعيار الأول: التكافؤ الردعي

 

-      المعيار الثاني: طبيعة الساحة - الجغرافيا

 

 

 

لا شكّ أن قيام لبنان باجبار الاسرائيليين على الانسحاب – ولأول مرّة- من أراضٍ عربية بالقوة وبدون قيد أو شرط ومن دون توقيع اتفاقية سلام أو استسلام، شكّل مأزقاً لاسرائيل التي اعتادت على "قبض ثمن" العدوان الذي تقوم به على الدول العربية.

 

وكانت حرب تموز 2006، المحاولة الاسرائيلية لقلب المعادلات وإعادة عقارب الساعة الى الوراء واستعادة هيبة الردع وانتقاماً لانسحاب مذلٍ من لبنان، والتخلص من المقاومة، لكن السحر انقلب على الساحر، وتحوّلت حرب تموز  أو ما يسميه الاسرائيليون "حرب لبنان الثانية" بمثابة الحدّ الفاصل بين زمنين؛ الاول زمن فيه غطرسة واضحة وتهديدات لكل من تسوّل له نفسه تحدي الارادة الاسرائيلية في المنطقة، أما الثاني فزمن استطاعت فيه المقاومة أن تُظهر اسرائيل دولة واهنة، غير قادرة على الانتصار في حرب خرجت إليها مستعدة، فتحوّلت الى هزيمة لم تزل تداعياتها تطبع فكر وعقيدة صانع القرار العسكري الاسرائيلي لغاية اليوم.

 

قبل حرب تموز، كانت إسرائيل تملك قرارين أساسيين: قرار الدخول في الحرب وقرار الخروج منها وإنهائها ساعة تشاء، وبالشكل الذي تريد. ولقد شكّل التفوق العسكري والدعم الدولي المفرط سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً عاملاً مساندًا لها في الهيمنة في المنطقة، واحتكار قرار الحرب والسلم.

 

في تلك المرحلة بالذات، استطاعت اسرائيل وحلفائها الدوليين أن يخلقوا في ذهن الشعوب العربية أن كلفة الاستسلام تبقى أقلّ من كلفة الحرب، فكانت اسرائيل تحقق عبر التهويل ما تريد تحقيقه بالحرب وبكلفة لا تُذكر، فتنتصر في حربٍ لا تضطر أحياناً الى خوضها.

 

أما بعد حرب تموز، فلقد ظهر جلياً أن إحدى القرارين (الدخول في الحرب والخروج منها) قد خسرته اسرائيل وللأبد، وبقيت اسرائيل لغاية هذه اللحظات، تستطيع اتخاذ القرار بالحرب ولكنها تدرك أن الخروج منها بانتصار أو بأكلاف قليلة لم يعد بمتناول يدها. وباتت تخشى أن تتدحرج الأمور في أي حرب مقبلة، فتتحول الأراضي الفلسطينية المحتلة والجليل الى ساحة المعركة وانتفت قدرتها على "أخذ الحرب الى ديار العدو".

 

 ومنذ ذلك الوقت، كرّست المقاومة معادلة "عدم افلات اسرائيل من العقاب على العدوان"، فكانت معادلة دقيقة "عاصمة مقابل عاصمة، مطار مقابل مطار، مقاتل مقابل مقاتل..." لتعطي قوة للبنان، بأن زمن الافلات الاسرائيلي من العقاب قد انتهى، وان انتظار المحاكم الدولية والأمم المتحدة لمحاسبة اسرائيل على عدوانها وعلى جرائمها المرتكبة في كل من لبنان وسوريا وفلسطين لن يجدي نفعاً.

 

وانطلاقاً من هذه المعادلة الدقيقة، يتعاطى حزب الله مع الجغرافيا التي يتم فيها العدوان بدقة أيضاً، فالعدوان على لبنان لا يمر مرور الكرام مهما بلغت الأثمان المدفوعة، وقيام اسرائيل باغتيال أحد قادة المقاومة أو عناصرها يستوجب ردًا بالتأكيد لكن الساحة التي يتم فيها الاستهداف تؤخذ بعين الاعتبار، وهو ما كرّس خطاً أحمر حول مساحة لبنان، التي تحوّلت الى مساحة يخشاها الاسرائيلي ويتعامل معها بحذر شديد.

 

 

 

ثانياً- الالتزام بمبادئ القانون الدولي الانساني

 

لقد حدد القانون الدولي الانساني، أو ما يُعرف بقانون النزاعات المسلحة (قانون الحرب)، قواعد لما يمكن أن يكون مقبولاً من أعمال عسكرية خلال الحروب، وذلك انطلاقاً من ضرورة المواءمة بين الاعتبارات الإنسانية والضرورة العسكرية التي تحتّم على المتقاتلين أن يحترموا قواعد أساسية لحماية المدنيين خلال نزاعاتهم المسلحة.

 

ولعل أبرز هذه المبادئ، هي التمييز بين المدنيين والعسكريين، والتي تتضمن مبدأ المشاركة المباشرة في الاعمال العدائية، ومبدأ التناسب.

 

وبهذا المعنى، نلاحظ مما شرحه السيد نصرالله في خطابه الأخير، أن الحزب كان حريصاً في ردّه على الاسرائيليين، على احترام تلك القواعد، وذلك عبر:

 

-      الردّ اللبناني على أراضٍ مفتوحة غير مأهولة، مقابل القصف الاسرائيلي على أراضٍ مفتوحة غير مأهولة، وهو مبدأ التناسب بين الفعل ورد الفعل.

 

-      الاشارة الى أن الحزب كان يحرص في محاولة الردّ على اغتيال أفراده في سوريا، باستهداف العسكريين الاسرائيليين، يعني أن الحزب يلتزم مبادئ القانون الدولي الانساني في التمييز بين المدنيين والعسكريين، بحيث يكرّس هذا القانون ضرورة حماية المدنيين، في حين أن العسكريين والمشاركين مشاركة مباشرة في الاعمال العدائية ( وحتى لو كانوا من غير العسكريين) هم أهداف مشروعة خلال النزاع العسكري.

 

 

 

في الخلاصة، الجميع بات يدرك أن "إسرائيل" التي كانت دائماً تضع نصب عينيها حاجتها لإخضاع اللبنانيين وإذلالهم عبر الحديد والنار، وأنها انتقلت الى استراتيجية أخرى في السنوات الأخيرة، وهي اخضاع اللبنانيين وإذلالهم عبر تجويعهم (وهو ما هدد به بومبيو وشينكر)، للقبول بما لا يُقبل به وفقدان السيادة والكرامة الوطنية. لكن اللبناني يستمد قوته من نفسه وتاريخه. والتاريخ يذكر أن صور فضلت أن تحرق نفسها على أن تخضع للمحتل وتخسر كرامتها، واليوم، يفضّل اللبناني أن يجوع ويأكل التراب على أن يخسر كرامته وشرفه ويعيش عبداً ذليلاً، أو يخسر سيادته على أرضه ومياهه وغازه.

  

لماذا فشلت تحركات ذكرى 4 آب؟


 

توقع كثيرون في لبنان أن تشهد ذكرى الرابع من آب، أحداثًا كبيرة منها إقفال طرقات، وتحركات باتجاه مؤسسات الدولة واحتلالها، وباتجاه منازل السياسيين، لإظهار الغضب في الشارع، والذي من المفترض بحسب المنظمين، أن يجرف السلطة السياسية التي تتعامى عن صرخات الأهالي ووجعهم، وتضرب بعرض الحائط كل مطالباتهم بالعدالة والمساءلة.

 

لكن، المشكلة أن الذكرى تمّ تشويهها، بعد أن ساد الاقتتال في الشارع بين المجموعات أنفسهم، وتباينت أهدافهم. وفي مراجعة نقدية لمسار الاحداث في تلك الذكرى، نجد ما يلي:

 

-      بعض القوى اليسارية، وبالتحديد الحزب الشيوعي الذي كان مشاركاً في معظم التظاهرات منذ 17 تشرين الأول، كان يريد أن يدفع عن نفسه تهمة الانخراط مع بعض القوى الأخرى التي لا تشبه مساره التاريخي ومبادئه، فحاولوا استخدام شعارات سياسية ضد ما اصطلحوا على تسميته بـ "القوى الانعزالية وأهمها القوات اللبنانية، الأمر الذي ساهم بالاقتتال في الجميزة.

 

-      أما القوات اللبنانية، والتي انخرطت بقوة في التظاهرات في الشارع منذ 17 تشرين الاول 2019، عبر محازبيها بطريقة مباشرة، أو عبر أسماء جمعيات ومنظمات مدنية يترأسها قواتيون، وكانت تشكّل غطاءً للتمويل والتنظيم والبروباغندا الاعلامية حيث لم يكن يفيد الشعار الحزبي المباشر.

 

وتشير العديد من منظمات المجتمع المدني، الى أن ممارسات القوات ونزولهم الى الشارع بشعارات حزبية، وقيامهم بالاعتداء على أهالي الضحايا أمام المرفأ، ثم اشتباكهم مع الشيوعي، واستعمال الهراوات والعصي والسكاكين، وعودة الحديث عن مناطق "شرقية" تحميها "قوى مسيحية" وتحتكرها، أضرّ بالتظاهرات وبالقوى التي تشكّل عصب 17 تشرين، واستفادت منه الطبقة السياسية.

 

-      لم يكن للتحركات والاشتباكات التي قامت بها بعض القوى المشاركة، وتوجهها الى المؤسسات العامة أي مغزى فعلي مرتبط بالمناسبة الأليمة. فاقتحام وزارة الاقتصاد ونهب محتوياتها لا يعني أي شيء بالنسبة لضحايا الانفجار وعائلاتهم، الذين يطلبون العدالة والمساءلة، وبالتالي فإن الحراك "الهزيل" أمام مجلس النواب كان يعني أكثر بكثير من اقتحام وزارة الاقتصاد وشركة الكهرباء، باعتبار أن المجلس متهم من قبل أهالي الضحايا بأنه يحاول طمس الحقيقة عبر الامتناع عن رفع الحصانات، ثم عبر توقيع عريضة نيابية تهدف الى تحويل القضية الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، الذي لم يبصر النور بعد.

 

وفي هذا الإطار، نشير الى أن المادة 80 من الدستور تنص على أنه “يتألف المجلس الأعلى، ومهمته محاكمة الرؤساء والوزراء، من سبعة نواب وثمانية قضاة من أعلى القضاة رتبة حسب درجات التسلسل القضائي أو باعتبار الأقدمية إذا تساوت درجاتهم ويجتمعون تحت رئاسة أرفع هؤلاء القضاة رتبة، وتصدر قرارات التجريم من المجلس الأعلى بغالبية عشرة أصوات، وتحدد أصول المحاكمات لديه بموجب قانون خاص”.

 

من جهة ثانية، فإن عبارة “لمجلس النواب أن يتهم” تدل على أن المجلس يتمتع بصلاحية استنسابية في توجيه الإتهام أو عدمه، وهو يمارسها في ضوء تقديره لأعمال الوزير والظروف المحيطة بها. كما يتطلب صدور قرار الاتهام من المجلس النيابي غالبية الثلثين من مجموع أعضائه، أي أن  هذا الاتهام يحتاج الى توافق شامل بين الكتل النيابية وتسويات تشبه الى حدٍ بعيد التسوية التي تعقد لانتخاب رئيس الجمهورية، وهذا ما سيدفن العدالة بشكل تام.

  

2021/08/03

النهضة في تونس ودروس مصر 2013

 كان يوم 25 تموز/يوليو يوماً مفصلياً في حياة تونس، إذ اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد سلسلة من القرارات الجريئة، مستنداً الى الفصل 80 من الدستور الذي يعطي الرئيس صلاحية اتخاذ تدابير استثنائية "في حالة خطر داهم" يهدّد الأمن القومي. وكانت المظاهرات قد عمّت تونس احتجاجًا على المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسوء إدارة أزمة كورونا، وأعداد الضحايا المرتفعة والتي أبرزت تونس كأحد أسوأ الدول الافريقية في التعاطي مع الجائحة.

وبمشهد يذكّر بما حصل في حزيران/ يونيو عام 2013 في مصر، اعتبر حزب النهضة الاسلامي التونسي أن ما قام به سعيّد هو "انقلاب" في مقارنة واضحة بما قام به السيسي في مصر بعد الاطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي. وكان واضحاً أن الانقسام الخارجي والدولي والتسويق الاعلامي السياسي لهذا الطرف أو ذاك في المشهد التونسي، يشبه الى حدٍ بعيد ما حصل في مصر بعد ثورة 30 يونيو، مع الفارق الوحيد أن التجربة المصرية كانت أشد وقعاً وأكثر استقطاباً، بسبب حداثة ما سمي "الربيع العربي" آنذاك.

واقعياً، عاش التونسيون سنوات عشر عجاف منذ الثورة الاولى والاطاحة بحكم بن علي، فلم تستطع تونس أن تعيش انتقالاً ديمقراطياً حقيقياً، ولم تتحسن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ولم تؤسس الأحزاب التونسية لدولة قانون حقيقية، بل استشرى الفساد في جميع مفاصل الدولة. ويتهم التونسيون حزب النهضة باعتماد سياسة "الغنيمة" الشبيهة الى حدٍ بعيد بما قام به حزب "الحرية والعدالة" في مصر، الذي اتُهم بـ "أخونة الدولة" حينذاك. ويتهم التونسيون معظم الاحزاب الحاكمة باعتماد سياسة المحسوبية والزبائنية والتمكين على حساب المؤسسات في الدولة، ناهيك عن الفساد حيث بيّنت المحكمة شبهات فساد جدّية متعلقة بتمويل خارجي للحملات الانتخابية للعديد من الأحزاب وهو ما يعاقب عليه القانون التونسي.

ويؤخذ على "النهضة" استعمال منطق الغلبة في البرلمان، بحيث يتهم التونسيون الغنوشي بأنه جعل من البرلمان دائرة نفوذ شخصية، وأنها أسقطت "حكومة الرئيس" في السابق بحجج واهية.

وبكل الأحوال، وقياساً على ما حصل عام 2013 في مصر، وبالرغم من أن الواقع المصري مختلف عن الواقع التونسي ولا يمكن قياس التجارب بهذه الطريقة، لكن لا بد من الإشارة الى أن حزب النهضة قد لا يتلقى الدعم الذي تلقاه الاخوان في مصر عام 2013، بسبب اختلاف الظروف الدولية والاقليمية، ونشير الى ما يلي:

-      الموقف الاميركي: استمر الأميركيون في دعم حكم مرسي في مصر الى النهاية، وكانت السفيرة الأميركية في مصر آن بترسون قد أعربت عن دعمها لمرسي، ورفض التغيير عبر الشارع، معتبرة أن احتجاجات الشارع «لن تؤدي إلى الديمقراطية المستقرة، التي لن تتحقق سوى بالانتخابات[1]».

وبالرغم من أن الولايات المتحدة كانت قد جمدت مساعداتها العسكرية لمصر على أثر الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، إلا أن إدارة أوباما عادت وأفرجت عن تلك المساعدات لعدة أسباب أبرزها، الحفاظ على أمن اسرائيل وأهمية التعاون مع الجيش المصري في هذا الاطار، عدم خسارة التعاون والعلاقة الجيدة مع الجيش المصري الذي كان يكافح الارهاب في نفس الوقت، ضغوط داخلية من قبل لوبيات السلاح التي كانت قد وقّعت مع الادارة الأميركية على عقود سلاح لتقديمها للجيش المصري.

واليوم، يبدو أن إدارة الرئيس بايدن غير معنية بدعم الاخوان في تونس بدليل رفض المتحدثة باسم البيت الأبيض بتوصيف الأمر انقلاباً، بعكس التصريحات الأميركية حول مصر والتي استمرت السفيرة الأميركية نفسها بوصفها بالانقلاب لغاية اليوم، وذلك خلال حلقة نقاشية، بعنوان “الانتفاضات العربية بعد 8 سنوات.. الدروس المستفادة لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”، والتي نظمها مركز التقدم الأميركي في واشنطن، في شباط عام 2019[2].

 

-      اختلاف الموقف التركي عما كان عليه عام 2013:

لا شكّ أن التطورات التي حصلت خلال الاعوام الأخيرة، والتدخل الروسي في سوريا، وتبدل أولويات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ومحاولة مدّ نفوذه الى أبعد من الشرق الأوسط والعالم العربي، وتدخله في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، ومحاولة تقرّبه مع مصر والخليجيين، تجعل من الدعم التركي للنهضة أقل حدّة وعلانية مما كان عليه الدعم لاخوان مصر واعتصام رابعة في مصر.

-      النفوذ الخليجي المتصاعد في شمال أفريقيا، والنجاح الذي حققه الخليجيون في تشكيل التطورات والتغييرات في المنطقة بما يجعل من قدرتهم على التدخل أقوى وأفعل مما كان عليه عام 2013.

 

بالمحصلة، وبغض النظر عن التوصيفات المستنسخة من التجربة المصرية وتجارب حكم الإخوان في المرحلة الاولى التي تلت انتفاضات "الربيع العربي"، يبدو حزب النهضة التونسي أكثر براغماتية من الاحزاب الإخوانية الاخرى في الدول العربية، ففي حمأة تساقط الاحزاب الاسلامية وتداعي مشروع "العثمانية الجديدة" عام 2013، استطاع النهضة أن يحافظ على نفسه في تونس، ويعمد الى تقليص سقف توقعاته، الأمر الذي أدّى الى حيازته كتلة نيابية وازنة في الانتخابات التشريعية عامي 2014، و2019.

 واليوم، نجد أن هناك توزيعاً للأدوار داخل حزب النهضة، ففي حين يعمد البعض الى تليين الأمور وطلب الاعتذار من الشعب التونسي، يحرّض بعض وجوه النهضة الآخرين على الاشتباك ودفع الامور الى الشارع، وبين هذين الحدّين، يقف الغنوشي عارضاً التسوية والتشارك في السلطة وملوحاً بالتصعيد، في مشهد يوحي بأنه يقف بانتظار ما ستؤول اليه قدرته على حشد الدعم والتأييد الداخلي والاقليمي ليبني على الشيء مقتضاه.

 

2021/08/02

خلدة والجيش .. وشينكر!

 

 

كان ينقص اللبنانيين الاشتباك في خلدة لتكتمل فصول الانهيار الاقتصادي والأمني والاجتماعي، ولتدخل البلاد في توتر أمني، يرافقه تحريض على الاقتتال على وسائل التواصل الاجتماعي، ودعوات للثأر والثأر المضاد.

 

واللافت، أنه وبالرغم من المواطنين يعيشون في ظل وضع اقتصادي متردٍ، إلا أن السلاح والرصاص يبدو متوافراً بكثرة، وقد شهدنا هذا الامر في طرابلس خلال الشهرين المنصرمين، وفي خلدة وفي العديد من المناطق اللبنانية، بشكل يجعل كلفة الرصاص المستخدم قادرة على إعالة عائلات عدّة لأشهر.

 

وفي موضوع التوترات الأمنية المتنقلة، يلفتنا الملاحظات التالية:

 

أولاً- مع كل انتكاسة أمنية تخرج الأصوات السياسية الداعية الى التهدئة، ملقية اللوم على الخارج ومعتبرة أن على الداخل تفويت الفرصة لمن يريد اللعب بالنار.

 

بشكل عام، يستسهل اللبنانيون اتهام الخارج بالتآمر على لبنان، متناسين أن الخارج يستخدم أدوات محلية لتنفيذ تلك المؤامرات في حال وُجدت.

 

أما لماذا يسارع السياسيون لاتهام الخارج، فلأنهم يدركون أن السياسة التي يتبعونها في لبنان، تقوم على المحاصصة، والتسويات، وأن العداوة بينهم لا تعدو كونها كلاماً تسويقياً لشحن النفوس، بينما سيجلسون مع خصومهم غداً لتقاسم السلطة. وعليه، من الأسهل اتهام الخارج وتبرئة الأطراف الداخليين، لترك الباب مفتوحاً للعودة الى التسوية لاحقاً.

 

ثانياً- يعاني الجيش اللبناني من ازدواجية تعامل السياسيين معه. من ناحية، هم ينظمون الشعر له في المناسبات الوطنية، ومن جهة أخرى ما انفكت موازنات الجيش تتقلص منذ استلام الرئيس السنيورة رئاسة مجلس الوزراء لغاية اليوم، وتقوم الاطراف المختلفة في العديد من المناسبات بشتم الجيش واتهامه بالتآمر.

 

تعاني معظم الاحزاب السياسية التي تمارس السلطة في لبنان، من "عقدة" الجيش اللبناني، فبعضها طالب مراراً بتغيير عقيدة الجيش، والبعض الآخر طالب بتقليص موازنته، وغيرهم حرّض اعلامييه وناشطيه لشيطنة الجيش... أما السبب الأساسي، فيعود الى أن معظمها قد انتقل من الاطار الميليشاوي خلال الحرب، الى الاطار الحزبي السلطوي خلال السلم، ولا شك، إن اشتباك معظم تلك الميليشيات خلال الحرب مع الجيش لمنع قيام الدولة لا زال ماثلاً في أذهانها لغاية اليوم.

 

ولا تأتي الحملة على الجيش من الداخل فقط، فالعديد من الناشطين في الولايات المتحدة الأميركية والمحسوبين على جهات حزبية لبنانية، ما انفكوا يحرّضون على الجيش في الكونغرس الاميركي، ويطالبون الولايات المتحدة بوقف الدعم المخصص للجيش اللبناني. أضيف الى هؤلاء مؤخراً دايفد شينكر، مساعد وزير الخارجية الاميركية (بومبيو) الأسبق لشؤون الشرق الادنى، الذي قام خلال شهادته أمام الكونغرس بالتحريض على الجيش متهماً إياه بأنه "يشغّل المتعاطفين مع حزب الله و / أو النشطاء الموالين للحزب في المناصب الرئيسية، وأنه يعيق في كثير من الأحيان  قدرة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) من التحقيق في أنشطة حزب الله العدائية في جنوب لبنان"، بحسب ما زعمه شينكر.

 

وينصح شينكر إدارة الرئيس بايدن – وكشرط للمساعدات – أن تقوم بـ "إقصاء كبار الضباط الموالين لحزب الله، وإنهاء الممارسات (الفاحشة) المتمثلة في استخدام المحاكم العسكرية لاستهداف منتقدي حزب الله في الداخل والخارج"...

 

سلسلة من الاتهامات الباطلة أطلقها شينكر ضد الجيش اللبناني، لكن الجيد أنها لا تُصرف في الولايات المتحدة، إذ أن العلاقة مع الجيش يحددها البنتاغون وليس وزارة الخارجية.

 

وبكل الأحوال، إن كل هذه الحملات ضد الجيش، لا تنفصل بأي شكل من الاشكال عن الحملات المشبوهة والتي تندرج جميعها، في السعي لعدم بناء دولة قوية قادرة في لبنان، لصالح التدخل الخارجي والفساد والافساد السلطوي الداخلي.