2018/11/29

المواجهة الاوكرانية الروسية: هل تكون مقدمة لحرب عالمية؟


شكّلت المواجهة الروسية الأوكرانية في بحر آزوف، قلقًا بالنسبة للعالم أجمع، إذ تأتي هذه الأحداث والأزمات في وقت يشهد فيه العالم توترًا غير مسبوق على أكثر من صعيد.
ولعل الهاجس الذي يقلق الجميع، هو السؤال المحوري: هل تنشب الحرب بين روسيا وأوكرانيا وبالتالي تمتد الى إنحاء أخرى من العالم، وهل ينخرط فيها الأميركيون وحلف الناتو، ويضطر معها العالم الى تكرار تجارب الحروب العالمية الكبرى؟
بشكل عام، إن دراسي العلاقات الدولية وتاريخ الحروب خاصة العالمية منها، يجدون أن كثيرًا من التطورات التي نعيشها اليوم، تشبه الى حدٍ بعيد المقدمات التي تؤسس لحروب كبرى، وذلك على الشكل التالي:
أولاً: من مقدمات الحروب عادةً، هو ظهور مجموعة قوى جديدة تريد تغيير أسس النظام العالمي، فتستفيد من ضعف الامبراطوريات أو القوى العظمى لتحل محلها أو تسعى لملء الفراغ الاستراتيجي الذي تتركه. وهو ما نشهده في صعود مجموعة من الدول الكبرى والإقليمية ومحاولتها تحدّي القوة المهيمنة (الولايات المتحدة الأميركية) في أكثر من مكان في العالم.
ثانيًا: غالبًا ما تأتي الحروب الكبرى نتيجة تنافس عالمي محموم بين الدول الكبرى إما على استعمار الدول الأخرى أو على فتح الأسواق لتصريف الإنتاج وغيرها.. وإن كان التاريخ الحاضر لم يعد ملائمًا للإستعمار المباشر لكن سباق النفوذ العالمي الذي تجلّى على أشدّه منذ عام 2011 وما تلاه، يشي بما يشبه الهستيريا العالمية للتوسع.
ثالثًا: تشبه النزعات القومية التي سادت قبيل الحربين العالميتين الى حدٍ بعيد، طفرة الشعور القومي المتنامي في العالم، وخاصة في العالم الغربي، أي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. إن ارتفاع أسهم اليمين بشكل كبير في كل إيطاليا وإلمانيا والمجر والنمسا والسويد وغيرها، والمظاهرات التي رفعت شعارات النازيين في أكثر من مكان - منها أوكرانيا أيضًا- تؤكد أن الشعوب الأوروبية تبدو مستعدة لتكرار تجاربها التاريخية.
واقعيًا، إن صعود اليمين في أوروبا، ووصول ترامب الى البيت الأبيض، يؤكد أن ما سمي يومًا "نادي الرجل الأبيض" ما زال متجذرًا وبقوة في هذه المجتمعات.
رابعًا: لقد حصلت الحربين العالميتين بعد أزمات إقتصادية كبرى، واليوم ما زال العالم يعيش نتائج الأزمة الأقتصادية العالمية 2008، بدليل أن نتائجها على المجتمع الأميركي قد تكون أحد أسباب وصول ترامب الى الحكم، وهي التي تدفعه اليوم الى تهديد أوروبا ومطالبتها بالأموال..
لكن، بالرغم من تشابه المقدمات هذه، لا يمكننا القول ان العالم يتجه الى حرب كبرى. وحتى لو اتجهت الأمور بين أوكرانيا وروسيا الى تصعيد أكبر فلن تتحول الى حرب عالمية، لأسباب عدّة أهمها:
- لا يبدو الاتحاد الاوروبي معنيًا بإذكاء الحروب في نطاق جغرافي ملاصق لحيّزه الجغرافي، فها هي الحروب التي ساهم الإتحاد في تزكيتها في الشرق الاوسط لم تنتهِ، وما زالت تداعياتها (الهجرة والارهاب وصعود اليمين) تتفاقم لدرجة قد تهدد مستقبل الاتحاد الاوروبي برمته.
- لا يبدو حلف الناتو معنيًا بحرب كبرى مع الروس، ولنا في تجربة التصعيد التركي مع الروس بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية مثال وعبرة.
- ترامب غير معني لا من قريب ولا من بعيد بالحروب العسكرية، فكيف إذا كانت هذه الحرب مع صديقه "فلاديمير بوتين"؟. يعتمد ترامب في سياسته الخارجية على التهديد اللفظي، والأساليب الاقتصادية وحروب التجارة وهو ما يفهم به بحكم خبرته وحياته، لذا لن يفرّط بعلاقته مع بوتين من أجل أوكرانيا.
- من الناحية القانونية، إن قيام الروس بتفتيش السفن التي تمر عبر مضيق كيرتش ( وهو السبب الذي أدرجه الأوكرانيون لمحاولة زيادة قواتهم الحربية في بحر آزوف وهو ما أدّى الى التصعيد الأخير)، هو تطبيق للإتفاقية الموقعة بين البلدين عام 2003، والتي أنهت الخلاف القديم حول بحر آزوف، ووتمّ بموجبها الاقرار بأن بحر آزوف هو بحر داخلي بالنسبة لكل من اوكرانيا وروسيا معًا.
- من الناحية السياسية، لا يبدو الاوكرانيون مجمعون على الأسلوب الأنسب للتعامل مع الأزمة، فالرئيس الاوكراني يصعّد ضد الروس لجذب الناخبين تمهيدًا للانتخابات القادمة في الربيع القادم بعد أن تدنت شعبيته الى حدّ كبير. ويجزم معظم الخبراء الدوليون أن خروج اوكرانيا من الاتفاقيات مع روسيا، وخاصة إتفاقية آزوف سوف يكون مضرًا للاوكرانيين أكثر مما هو مضرّ للروس، هذا ناهيك عن اختلال موازين القوى العسكرية بين الطرفين (خاصة البحرية منها) لصالح الروس.

2018/11/22

مكافحة الارهاب: هل يخلي الأميركيون الساحة الأفريقية؟


في خطوة لافتة ومستغربة، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية  نيّتها خفض عديد قوات مكافحة الإرهاب في أفريقيا بنسبة 10% بهدف تحسين بنية الجيش الأميركي لمواجهة التهديدات الجديدة التي تمثلها دول مثل الصين وروسيا، وذلك تطبيقًا لسلم الأولويات التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في استراتيجية الأمن القومي، حيث احتل الخطر الارهابي المرتبة الثانية لأول مرة منذ عام 2001، بينما اعتبر "التنافس مع القوى الصاعدة، كالصين وروسيا"، من أبرز التهديدات الأكبر التي تتعرض لها الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن الاعلان عن سحب المئات من الجنود الأميركيين، يبقى لأفريقيا مكانة هامة في التخطيط الاستراتيجي الأميركي، وقد عكس وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الأسبق هذه الأهمية حين اعتبر “إن أمن بلادنا وازدهارها الاقتصادي مرتبطان بأفريقيا كما لم يحدث من قبل.” وأشار إلى أن ستة من أسرع عشرة اقتصادات نموًا في العالم هذا العام ستكون أفريقية، وأضاف “لكي يفهم المرء الاتجاه الذي يسير إليه العالم، يجب أن يفهم أن أفريقيا هي المستقبل”.
لماذا يقلّص الأميركيون، إذًا، عديد قوات مكافحة الارهاب الأفريقية؟
عام 2007،  أنشأت الولايات المتحدة قوة "أفريكوم" AFRICOM، وهي وحدة مكونة من قوات مقاتلة موحدة تحت إدارة وزارة الدفاع الأميركية وهي مسؤولة عن العمليات العسكرية الأميركية، وعن العلاقات العسكرية مع 53 دولة أفريقية في أفريقيا عدا مصر، التي تقع في نطاق القيادة المركزية الأميركية.
ولقد توسعت مهمة تلك الوحدة رويدًا رويدًا، لتشمل مهمات غير قتالية؛ كالمساعدة على بناء الدولة والمجتمع والتنمية الشاملة. ولقد برر الجيش الأميركي هذا التوسع المستمر في نطاق مهام أفريكوم، بأن بيئة المنطقة الرمادية بين المهام القتالية وبناء الدولة تبدو معقدة، وأن التهديدات الأمنية تنبع بشكل أساسي من البطالة وعدم التنمية والحرمان بالإضافة الى أن مشاكل الفساد وتصرفات قوات الأمن الحكومية المسيئة تجعل المواطنين الأفارقة "أهدافًا رئيسية للاستغلال من قبل المجرمين ومنظمات الإرهابيين في جميع أنحاء القارة" .
        وكان الرئيس باراك أوباما قد أعلن عام 2012 عن استراتيجية جديدة في إفريقيا تقوم على مفهوم الأمن الوقائي وذلك من خلال تنفيذ خطوات إستباقية في مجالات إنسانية واقتصادية واجتماعية عدّة جنبًا إلى جنب مع الخطوات العسكرية والأمنية بهدف تجفيف منابع الارهاب من جذورها.
وبدت أفريقيا أقل أهمية في الاستراتيجية الأميركية في إدارة ترامب، عندما وصف الرئيس ترامب البلدان الأفريقية بـ”الحثالة”، إلا أنه عاد ووجه رسالة الى رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي أثناء تجمعهم في أديس أبابا، وأرسل زوجته ميلانيا للقيام بجولة في بعض الدول الأفريقية.
وعليه، يدرك الأميركيون أن مكافحة الارهاب في أفريقيا هي جزء من الصراع الدائر بين القوى الكبرى على خيرات هذه القارة والسيطرة على مواردها وأسواقها، لذا لا يمكن أن يكون الاعلان عن تقليص عدد الجنود هو بداية إنسحاب أميركي أو اتجاه لترك فراغ في أفريقيا سيهرع كل من الصينيين والروس لملئه بسهولة. لكن - باعتقادي - قد يقلّص الأميركيون العنصر العسكري ليحل محله العنصر المدني المتخصص، وذلك لعدم زيادة موازنة مكافحة الارهاب من جهة، وللعمل بفعالية أكبر خاصة بعد دخول الروس الى الساحة الأفريقية، بعدما كان التنافس أميركيًا صينيًا لفترة طويلة.
لطالما أعلن الأميركيون أن مكافحة الارهاب في أفريقيا تحديدًا لا تتطلب عملاً عسكريًا بالدرجة الاولى، إذ تشير الدراسات الى أن البطالة وليس الدين هو ما يجذب الشباب للانخراط في بوكو حرام وممارسة الارهاب (على سبيل المثال)، بالاضافة الى استفادة الارهابيين من ضعف الدولة المركزية وغياب التنمية والفقر والجوع وتعسف السلطة لاستغلال الشباب وتجنيده، خاصة في البيئات التي يستطيع فيها الارهابيون أن يقدموا المساعدات الاجتماعية. ولطالما شكا الأميركيون من أن الجيش الاميركي - وضمن نطاق عملياته في أفريقيا- يقوم بمهمات ليست من مهام الجنود أصلاً.
إذًا، إن انسحاب بعض الجنود الأميركيين من أفريكوم، قد يكون هدفه إعادة تموضع، وسحب لبعض العناصر العسكرية تمهيدًا لاستبدالها بقوى ذات طابع غير عسكري، ومن ضمن التنافس مع الصين وروسيا في أفريقيا أيضًا وليس خارجها.

2018/11/15

حرب اليمن ستنتهي، ولكن!


ليلى نقولا - الميادين
14 تشرين الثاني 2018
شغلت حرب اليمن والمأساة الإنسانية التي يعيشها اليمنيون حيّزاً مهماً من النقاشات وتصريحات القادة المجتمعين في باريس لإحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى، وقد يكون ذلك مردّه إلى الإحراج الذي سبّبته قضية الخاشقجي للمملكة العربية السعودية وللدول الداعِمة لها، وأهمها الدول الغربية التي استمرت تبيعها الأسلحة بالرغم من الكارثة الإنسانية غير المسبوقة التي حصلت في اليمن بسبب استخدام تلك الأسلحة.
وقد تكون إدراة ترامب أرادت استباق أيّ اجتماع للكونغرس للبحث في مصير المُشاركة العسكرية (ولو الرمزية) للولايات المتحدة الأميركية في حرب اليمن، فتمّ الاتفاق على وقف خدمة تزويد طائرات التحالف السعودي بالوقود في الجو. وتشير التقارير إلى أن الأميركيين يُسهمون بأكثر من هذه المشاركة الرمزية، فيقومون بتزويد التحالف بصواريخ ذكية، بالإضافة إلى تقديم إحداثيات عن مواقع الحوثيين وتقديم معلومات استخبارية وغيرها..
وهكذا، قد تكون حرب اليمن قد اقتربت من نهايتها لأول مرة منذ اندلاعها وشنّ التحالف السعودي حربه بحجّة إعادة الشرعية، فلأول مرة تستفيق المُستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الكارثة اليمنية فتصفها بأنها "أسوأ كارثة إنسانية على وجه الأرض"، وتحدّث الرئيسان الفرنسي والأميركي عن إمكانية أن تُتيح قضية مقتل الصحافي السعودي جمال الخاشقجي فرصة للتوصّل إلى حلٍ سياسي في اليمن. وقام وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت بزيارة إلى كلٍ من السعودية والإمارات للضغط من أجل إنهاء الحرب في اليمن ودعوة قادة السعودية للتعاون في التحقيق بشأن مقتل الصحافي جمال الخاشقجي.
قد يكون ترامب أقل المُهتّمين بإنهاء حرب اليمن، كون هذه الحرب تشكّل حافِزاً للسعودية لشراء المزيد من الأسلحة الأميركية، وباعتبار أن الدعم الأميركي والمال السعودي يستطيعان كبح جماح الانتقادات الدولية لما يُسمّى أسوأ كارثة إنسانية في العالم على الإطلاق، بحسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش. لكن مشكلة ترامب الحقيقية تبدو في هذا الإطار مُتعدّدة الوجوه، وذلك باختصار على الشكل التالي:
أولاً، هو يريد الاستمرار بدعم الحُكم الحالي في المملكة لأنه يستفيد منه، ولكنه لا يريد لهذا الدعم أن يؤثّر على مستقبله السياسي في الداخل الأميركي، أو أن يسمح لأعضاء الكونغرس بالدخول من هذه النافذة للتضييق عليه أو إحراجه في الداخل.
ونذكر في هذا الإطار، أن أعضاء جمهوريين وديمقراطيين في الكونغرس بدأوا يتحدّثون عن ضرورة وقف الدعم الأميركي للسعودية في حربها على اليمن، كما أن ثلاثين مسؤولاً أميركياً في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بعثوا برسالة إلى البيت الأبيض، يقرِّون فيها بخطأ التدخّل العسكري في اليمن، داعين إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى وقفه. وقالت صحيفة "واشنطن بوست" إن المسؤولين اعترفوا في الرسالة بدورهم ومسؤوليّتهم عن التدخّل الأميركي في الحرب المُدمِّرة التي يعيشها اليمن، داعين إدارة دونالد ترامب، لوقف هذا التدخّل.
ثانياً، يُدرِك ترامب أن تخليص السعودية من قضية الخاشقجي تبدو مستحيلة، لذا هو يريد على الأقل أن يمنع دول العالم من المُطالبة بتغيير في هيكلية الحُكم في السعودية، لذا أكّد لماكرون بأن السعودية مهمة لاستقرار المنطقة، ويجب العمل على حفظ استقرار السعودية الداخلي ( أي أنه يُلمّح إلى أن أيّ اتّهام لأعضاء من الأسرة الحاكِمة أو محاولة الإطاحة بوليّ العهد لن يمر بسهولة، وقد يُسبِّب اضطرابات وعدم استقرار في السعودية).
ثالثاً، إن الضغط الأميركي لإنهاء حرب اليمن، والدعوة التي وجَّهها وزير الخارجية بومبيو لوليّ العهد السعودي بضرورة إنهاء حرب اليمن، لا يعني تخلّي إدارة ترامب عن السعوديين، بل تهدف إلى حدٍ بعيدٍ إلى الحدّ من الخسائر السعودية في المنطقة وعلى الصعيد العالمي، وذلك للتخفيف من القضايا التي يمكن للرأي العام العالمي أن يستخدمها ضدّ المملكة وداعميها الدوليين.
وهكذا، يبدو أن الحلّ السياسي بات يقترب في اليمن، بسبب الإحراج السعودي الدولي في قضية الخاشقجي، ولكن إلى أن يتمّ ذلك الحلّ وإلى أن تستطيع الأمم المتحدة جَمْع أطراف النزاع على طاولة الحوار، سيقوم التحالف السعودي بتكثيف حربه على اليمن، وذلك لتحقيق مكاسب ميدانية للمفاوضة من باب القوّة على طاولة الحوار... وعليه، قد تكون أيام ما قبل المفاوضات، أسوأ أيام يعيشها المدنيون اليمنيون، على الإطلاق، منذ بدء الحرب.

2018/11/07

ما هي فعالية العقوبات الأميركية على إيران؟

ليلى نقولا- الميادين
بدأت الإثنين في 4 تشرين الثاني الحالي، حزمة العقوبات الأميركية الجديدة على إيران، والتي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بعدما أعلن انسحابه من الاتفاق النووي المُبرَم مع إيران والذي توصّلت إليه مجموعة الدول الست، والذي تحوَّل إلى قرارٍ دولي صادِرٍ عن مجلس الأمن (القرار رقم 2231).

وبالرغم من الترحيب الصادِر عن الإسرائيليين وبعض الإعلام الخليجي بإعادة فَرْض العقوبات على إيران، إلا أن هذه العقوبات يبدو أنها لن تكون على قدر آمال هؤلاء أو آمال الرئيس ترامب بحيث "تحدُّ هذه الإجراءات من النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، أو توقِف برنامجها الصاروخي أو تدفعها إلى تغيير سلوكها.."، بحسب تعبير ترامب وأفراد من إدارته.

ويمكن القول إن الاقتصاد الإيراني سيُعاني بسبب عدم قدرة الشركات العالمية على الاستثمار في الداخل الإيراني، خوفاً من التعرّض لعقوباتٍ أميركيةٍ، وسيكون الإيرانيون أمام صعوبات إقتصادية تُضاف إلى الصعوبات السابقة التي يعانونها، والتي تظاهروا من أجلها في السابق. لكن في تقييم مبدأ العقوبات على قطاع النفط بالتحديد، يبدو أنها - وبالرغم من أنها ستكون مؤلِمة وستؤثِّر سلباً على الإقتصاد الإيراني- إلا أنها تبدو لغاية الآن عاجِزة عن تحقيق أيٍّ من أهدافها، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: من المعروف أن الايرانيين يعانون من عزلةٍ وعقوباتٍ إقتصاديةٍ منذ زمنٍ طويلٍ، ولقد اعتادوا على التقشّفِ في الميزانية. ويُصرِّح العديد من الخُبراء والمسؤولين الإيرانيين أن العقوبات السابقة على إيران دفعتها إلى الاعتماد على الذات وتطوير صناعات محلية، ما كانت لتطوّرها لو كان باستطاعتها استيرادها بسهولة من الخارج.

ثانياً: إن إعادة فَرْض العقوبات على إيران والخروج من الإتفاق النووي، أظهر الولايات المتحدة الأميركية كشريكٍ لا يمكن الوثوق به، وهذا ما يُقوّي موقف المُحافظين في الداخل ويدفع بعض الفئات في الداخل الإيراني - خاصة الشبابية - التي عوَّلت على الانفتاح على الغرب وطالبت به، إلى الإحباط والإيمان بعدم الاتّكال على القوى الغربية للمُساعدة، وبالتالي إن المُراهنة على تغيير في سلوك النظام لا تبدو في محلها.

ثالثاً: إن الإعفاءات التي منحتها إدارة ترامب لثماني دولة "حليفة" للاستمرار بشراء النفط الإيراني لفترةٍ محدودةٍ، تقوّض نظام العقوبات قبل أن يبدأ. بحسب التقارير العالمية، إن أهم الدول التي تستورد النفط الإيراني هي: الصين (بالدرجة الأولى) تليها الهند، كوريا الجنوبية، تركيا، إيطاليا، اليابان، الإمارات، إسبانيا، فرنسا واليونان الخ...

وفي نظرةٍ على هذه الدول، وبحسب ما أُعلِن من نظام الإعفاءات، وبعد إعلان الاتحاد الأوروبي وكل من بريطانيا وإلمانيا وفرنسا، عن آليّةٍ خاصةٍ للاستمرار في شراء النفط الإيراني... يبدو أن النفط الإيراني سيستمر بالتدفّق وقد يعود الإنتاج اليومي إلى سابق عهده، بعد أن تنتهي زوبعة الحرب النفسية التي يقوم بها ترامب على أبواب الانتخابات النُصفيّة.

رابعاً: إن اليمينية الشعبوية التي يحاول ترامب نَشْرها في كلٍ من أميركا اللاتينية والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المُعاملة السيِّئة والضغوطات والكلام القاسي الذي وجّهه في وقتٍ سابقٍ إلى حلفائه الأوروبيين، يدفع هؤلاء إلى مزيدٍ من التحدّي للإدارة الأميركية الحالية، وبالتالي ستستفيد إيران من هذا التبايُن بين الطرفين للظهور بمظهر المُحافِظ على العلاقات الدولية والالتزام بالقانون الدولي، في حين يقوِّض ترامب أُسُس القانون الدولي وخاصة إتفاقية فيينا لقانون المُعاهدات (1969)، والتي دخلت حيِّز النفاذ عام 1980.

إذاً، وفي المُحصّلة، إن الصعوبات الاقتصادية التي سيُعانيها الإيرانيون من غير المُرجَّح أن تدفعهم إلى الاستسلام لشروط ترامب، فالإيرانيون يُتقِنون فن التهرّب من نظام العقوبات وهو ما قاموا بفعله على مدى سنين من العقوبات الدولية الشاملة، هذا بالإضافة إلى امتلاك إيران للعديد من أوراق القوّة الاستراتيجية في المنطقة والتي لم تستخدمها لغاية الآن.