2016/09/29

الروس... وسيناريو "الأفغنة" في سوريا


د. ليلى نقولا
بدأت الحملة العسكرية للجيش السوري لتحرير حلب بعد انهيار الهدنة الروسية الأميركية التي كان واضحاً أنها لم تكن جدّية من الأساس، والتي نشر الروس بعض وثائقها، بينما سرّب الأميركيون في وقت سابق بعض بنودها.

ولعل التستُّر الأميركي على بنود الهدنة، ثم قيام مقاتلات التحالف الدولي بشنّ غارة على الجيش السوري في دير الزور، والتمهيد لـ"داعش" لاحتلال بعض المراكز الاستراتيجية، يشيرون إلى أن الاستنزاف - استنزاف الجميع - ما زال الخيار الأفضل بالنسبة للإدارة الأميركية والبنتاغون، وهو ما دفعهم إلى التصعيد العسكري والإعلامي والاشتباك الدبلوماسي مع الروس في مجلس الأمن.

ولعل التصريحات الأميركية حول أن انهيار الهدنة في سوريا قد يؤدي إلى قيام حلفائهم الخليجيين والسعوديين، وحتى الأتراك، بإمداد فصائل المسلحين السوريين بصواريخ مضادة للطائرات قد تكون جزءاً من التفكير الاستراتيجي الأميركي بتحويل الساحة السورية إلى مستنقع للروس، مستعيدين التجربة الأفغانية، ويعتقد الأميركيون أنهم يستطيعون ذلك، كما قال رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال جوزيف دانفورد، خلال جلسة استماع أمام لجنة القوات المسلَّحة في مجلس الشيوخ، حين اعتبر أنه ما زال من غير الواضح إن كانت روسيا قد باتت في مستنقع في هذا الوقت في سوريا، قبل أن يستدرك ويُطمئن بأن الأميركيين وحلفاءهم يملكون مجموعة واسعة من الخيارات العسكرية التي يمكن أن تساعد في تغيير الحسابات الروسية في سوريا.

فما هي الاحتمالات المتاحة أمام خيار "الأفغنة"؟

بداية، شكّلت أفغانستان - تاريخياً - بالنسبة للروس درساً عسكرياً مؤلماً يستفاد من خبرته ويُخشى من تكراره، تمامًا كما الدرس الفيتنامي للأميركيين، وهو درس عسكري استفادت منه جميع الدول الكبرى التي تقاتل في حروب لامتماثلة، حيث يغرق الجنود في حروب العصابات التي من الصعب جداً لأي جيش نظامي أن ينتصر فيها. من هنا، يدرك الأميركيون أهمية أفغانستان في الذاكرة الجماعية الروسية، لذا يحاولون بشكل دائم التهويل على الروس - إعلامياً وسياسياً - بالمستنقع السوري لثنيهم عن التقدُّم العسكري في سوريا.

أما عسكرياً، فتجزم الدراسات العسكرية أن سلاح الجو وحده لا يستطيع أن يحسم معركة، لذا تحتاج المعارك إلى جيوش برّية تقاتل على الأرض لكسب الحرب. من هنا، فإن ما يخفف من الخسائر الروسية وإمكانية استنزافهم بشرياً في سوريا، الاتكال على القوة البرية التي يشكّلها الجيش السوري وحلفاؤه للتقدم برياً في المعارك التي يمهّد لها سلاح الجو الروسي.

أما بالنسبة للصواريخ المضادة للطائرات المحمولة على الكتف، والتي تمّ بالفعل إدخال البعض منها إلى الساحة السورية، وهي التي ساهمت في إسقاط بعض الطائرات السورية في وقت سابق، والتي يهدد الأميركيون باحتمال مدّ المجموعات المسلحة بها لإسقاط الطائرات الروسية، فأمام هذا الخيار مصاعب عدة، أبرزها:

1-      تبدُّل ولاءات المجموعات المسلحة في سوريا، وتفلُّت بعضها من قبضة الراعي الإقليمي أو الدولي والالتحاق بتنظيم "داعش" أو "النصرة"، وللأميركيين تجربة مُرّة مع "نواة الجيش السوري" الذين حاولوا تأسيسه في تركيا ولم يبقَ لهم منه سوى خمسة عناصر، بينما استسلم الآخرون وسلّموا أسلحتهم الأميركية لـ"جبهة النصرة".

2-      سوق بيع الأسلحة الذي يدرّ ملايين الدولارات على المُتاجرين به، وإمكانية قيام المجموعات المسلَّحة ببيع هذه الصورايخ لجهات غير مرغوب فيها، تقوم بإطلاق تلك الصواريخ على طائرات التحالف الدولي في سورية والعراق، أو على الطائرات التركية التي تقاتل في الشمال السوري.

3-      يعمل الطيران الروسي بشكل أساسي في وسط وشمال سوريا أكثر من الجبهة الجنوبية (الحدود الأردنية - أو الحدود مع الجولان المحتل)، لذا يجب إدخال الصواريخ تلك بعد موافقة تركيا على إدخالها، فهل يغامر أردوغان بالسماح بإسقاط طائرة روسية أخرى في الشمال السوري؟

4-      احتمال أن يقوم بعض خبراء التحالف الدولي بإدخال بضعة صواريخ، وإطلاقها على الطائرات الروسية لإسقاطها، لإرسال رسالة تهديد للجيش الروسي، لكن أمام هذا الخيار مصاعب أخرى، أهمها شخصية فلاديمير بوتين، الذي سينتقم بشكل شديد، وإمكانية الرصد والاستطلاع المتطورة التي ستمكّن الروس من كشف مسار هذه الصورايخ ودخولها والجهة التي أطلقتها، والتي قد تسبب حرب مباشرة بين الغرب وروسيا، وهو خيار عالي الكلفة والمخاطر قد لا يتحمل أحد تكلفته.

في النتيجة، يبدو خيار استنزاف الروس من خلال "الأفغنة" صعباً في المدى القصير والمتوسط، بينما قد يكون متاحاً على المدى الطويل، ويدرك الروس جيداً هذا الأمر، لذا يهرولون إلى التفاهم مع الولايات المتحدة كلما سنحت لهم الفرصة، إذ تبقى كلفة أي حل سياسي أفضل بكثير من الاستنزاف الطويل الأمد، ولعل تجربة فشل الهدنة الأخيرة دفعتهم إلى الإيمان بأن لا حلّ متاح أمامهم للتخلص من سيناريو "الأفغنة" المرعب، سوى الذهاب إلى محاولة حسم عسكري يقلب موازين القوى السورية، ويدفع الرئيس الأميركي القادم إلى طاولة المفاوضات.

2016/09/22

بين عُقَد الهدنة السورية وإفشالها...مَن يحكم أميركا؟


د. ليلى نقولا
أثارت الضربات الجوية التي شنّتها طائرات التحالف الدولي على الجيش السوري في دير الزور نوعاً من الصدمة، لسببين؛ الأول: أن حبر التفاهم الروسي الأميركي حول الهدنة لم يجفّ بعد، والثاني: ما ظهر أنه نوع من "التعاون" بين التحالف الدولي و"داعش"، بعدما استفاد التنظيم الإرهابي من الضربة الجوية ليسيطر على بعض المناطق الاستراتيجية الهامة في سوريا.

وبالرغم من إعلان التحالف أن الأمر كان خطأ استخبارياً، وأنه يحقق في الموضوع، إلا أن كل ما حصل منذ إعلان الاتفاق ولغاية اليوم يثير العديد من التساؤلات حول آلية اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، خصوصاً بسبب ما ظهر - إعلامياً على الأقل - من أن البنتاغون ساهم من خلال هذه الضربة الجوية في إفشال هدنة كانت وزارة الخارجية الأميركية قد اتفقت عليها مع الروس.

يُجمع الباحثون على أن دراسة صُنع القرار في الإدارة الأميركية هي مغامرة صعبة، فهناك العديد من العوامل والظروف الموضوعية والتاريخية والاجتماعية، بالإضافة إلى تعدُّد اللاعبين والقوى في صياغة والتأثير عليه، مع العلم أن أياً منها ليست له صفة الحسم في كل منها، فما يستطيعه طرف ما في قضية ما، قد لا يجعله المؤثر الحاسم في كل القضايا.

بشكل عام، تتأثر عملية صُنع القرار في أي دولة بأمرين: الطرف المقرِّر، والبيئة أو الظروف الموضوعية والزمانية والمكانية المتعلقة بالقرار، علماً أن الظروف التاريخية السابقة للقرار، والتأثيرات اللاحقة للقرار، تشكّل في ذهن صاحب القرار ومحيطه العديد من الدوافع السيكولوجية والموضوعية لاتخاذ القرار أو عدمه.

وفي تطبيق ذلك على الأميركيين والتفاهم مع الروس، لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نُغفل تأثير وتصوّرات الحرب الباردة وما لها من جذور نفسية وسيكولوجية في ذهن صانع القرار والجمهور الأميركي على حد سواء، ما يعني أن أي تفاهم يعقده الأميركيون مع الروس سيكون مطبوعاً بعدم الثقة والخوف من "العدو" التاريخي.

وتبدأ عملية صنع القرار عامة في السياسة الخارجية، بدوافع أساسية، أي الحاجة إلى اتخاذ قرار بسبب وجود تغيرات في البيئة الخارجية، والذي يتأثر بشكل أساسي وحاسم بتقدير للموقف "Definition of situation"، أي نظرة صاحب القرار ورؤيته للتطورات، ووعيه للأخطار. من هنا، ندرك أن البيئة العسكرية المتشكّلة في سورية بعد حصار حلب، جعلت الأميركيين يؤمنون بحاجة إلى عقد تفاهم - هدنة مع الروس يحفظ الستاتيكو الميداني في سورية خلال مرحلة انتقالية بين رئيسين أميركيين، لأن خسارة حلب في هذا الوقت بالذات كانت ستسبب انقلاباً في موازين القوى لصالح الجيش السوري وحلفائه.

ولعل تقدير الموقف هذا، هو التباين الأساسي بين كل من وزارة الخارجية الأميركية والبنتاغون، فالتصورات لحجم الخطر والتهديد وفُرَص نجاح الهدنة في سورية تأثروا بالتصورات العقائدية والخلفيات الفكرية والاجتماعية وأدوار كل منهما.

ظهر التباين واضحاً بين كل من البنتاغون ووزارة الخارجية في خيار التفاهم مع الروس، وتجلّى في عوامل عدّة، أهمها: الهدف من هذه الهدنة، وتأثيرها على الأهداف الأخرى التي يريد الأميركيون تحقيقها في سورية، والنتائج المترتبة عليها، وهل هناك بدائل أفضل من خيار التعاون مع الروس لتحقيق الأهداف الأميركية؟

كما يبدو من دراسة صنع القرار الأميركي في الذهاب إلى الهدنة، فإن الرئيس الأميركي ومعه الخارجية اتخذا صيغة "الخيار العقلاني" (Rational choice)، الذي يؤمّن المصلحة الأميركية، أي دراسة البدائل، واختيار الموقف الأقل كلفة والأكثر ربحاً، أي تحقيق الربح النسبي الأكبر بإطالة فترة الاستنزاف، ومنع "العدو" من تحقيق مكاسب ميدانية، مستغلاً انشغال الأميركيين بانتخاباتهم الرئاسية.

بينما يبدو أن البنتاغون الرافض بقوة لخيار التفاهم مع الروس، قد اختار "النموذج الإدراكي" (Cognitive model)، أي رفض الخيارات التي أثبتت عدم جدواها في السابق، والبحث عن البدائل التي تتفق مع التصورات والعقيدة الأميركية التي تجد في الروسي "خطراً دائماً" على الأمن القومي الأميركي، ويجب منعه من التحوُّل إلى قوة عالمية، أو على الأقل من التحوُّل إلى قوة تُقاسم الأميركيين النفوذ في الشرق الأوسط.

كل هذا مقبول خلال صناعة القرار، لكن المشكلة تكمن لدى الأميركيين في أن الانقسام داخل الإدارة الأميركية ظهر إلى العلن بعد اتخاذ القرار، وقامت الأطراف الأميركية بمحاربة بعضها على الأرض السورية، فالغارة الجوية في دير الزور أصابت جون كيري قبل أن تصيب الجيش السوري، وأضرّت بصورة أميركا في الشرق الأوسط قبل أن تضرّ بالروس، وشوّهت صورة الرئيس باراك أوباما المتَّهم بالتردد والعجر؛ بإظهاره غير قادر على فرض وجهة نظره على المعترضين داخل إدارته.. علماً أن هذا التحليل يبقى بناءً على فرضية أن الخارجية الأميركية كانت صادقة بالذهاب إلى التفاهم مع الروس، اللهم إلا إذا كان الموضوع كله توزيع أدوار داخل الإدارة الأميركية، لكنها فرضية مستبعَدة، بسبب الضرر الكبير الذي لحق بصورة الإدارة الأميركية، ولا ينسجم مع صورة الولايات المتحدة كدولة عظمى، آمَنَ الجميع في العالم بتجذُّرها بالمؤسساتية والديمقراطية.