2013/02/22

أوروبا.. وركوب قافلة الحل السوري


مَن يزور العاصمة الفرنسية هذه الأيام، يدرك حجم القلق الذي يعتري الفرنسيين وحكومتهم، خصوصاً بعد السياسات غير المتسقة التي مارستها حكومتهم في سياستها الخارجية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما بعد ما سُمي "الربيع العربي".

وبالفعل، يبدو الأميركيون في الشرق الأوسط أكثر خفّة وواقعية وقدرة على التفاعل مع الأحداث والتأقلم مع معطيات الميدان، من الأوروبيين الذين يبدون وكأنهم يجرّون عربة ضخمة من الاتحاد الذي يعاني حالة من الركود الاقتصادي والمشاكل المالية الهائلة، والذي لم يوحّد سياساته الخارجية بعد بسبب تباين مصالح دوله، ورغبة بعضها في إعادة مجد من الهيمنة الاستعمارية، بينما تعاني بعض دوله الأخرى للخروج من نفق الانهيار المالي.

ولعل مشهد جنود الجيش الفرنسي الذي يتمشون في شوارع باريس وهم مدججون بالسلاح، يعكس مدى القلق الأمني مما أدخلت فرنسا نفسها فيه في مالي وليبيا وسورية، وحيث يبحث الأوروبيون في هذه الأخيرة عن مخرج مشرّف يسمح لهم بالسير قدماً وراء الأميركيين في مشروع الحل السياسي، الذي بات الجميع يسوّق له بعد تخلّف دام نحو سنتين من القتال والحرب التي خلّفت الكثير من الضحايا والدمار والتدمير الممنهج للنسيج الاجتماعي السوري.

وفي تناقض لافت للنظر يعكس الازدواجية - أو على الأقل - عدم قدرة الأوروبيين على التحكم بمسار الأمور في سورية ولا حتى ضمن المعارضة التي يدعمونها، نجد أن الأوروبيين يفعلون الشيء وعكسه، وذلك كما يلي:

-         يدعو الاتحاد الأوروبي إلى تقديم الدعم للمعارضة، لكن في الوقت نفسه يتخوّف القادة الأوروبيون من أن سورية معرضة للسقوط في أيدي الجماعات المتشددة، ويؤكد الوزير الفرنسي لوران فابيوس أن الثورة التي بدأت باحتجاجات سلمية مطالبة بالديمقراطية بدأت تتحول إلى صراع بين ميليشيات.

-         يمدد الأوروبيون قرار حظر توريد الأسلحة إلى سورية، بينما يقوم بعض أعضاء الاتحاد بتمويل وتدريب المجموعات المسلحة في سورية، ومدّها بالسلاح، وإنشاء غرف عمليات عسكرية على الحدود السورية - التركية، وعلى الحدود اللبنانية - السورية، وذلك لأن الغياب عن الساحة العسكرية قد يدفع إلى الغياب عن الساحة التفاوضية الباحثة عن حل سلمي للأزمة، والتي باتت مفتوحة بين الروس والأميركيين، وبين الدول الإقليمية، كطهران ومصر وتركيا.

-         يعرض الفرنسيون على الأجهزة الأمنية الرسمية السورية التعاون الأمني في قضايا الإرهاب التي تقلق الرأي العام الفرنسي، والتي تشعره بعدم الأمن النسبي، خصوصاً بعد التدخل الفرنسي في مالي، بينما تقوم أجهزة الاستخبارات الفرنسية بالتعاون مع المعارضة السورية، والتي يترابط بعض فصائلها بشكل وثيق مع الجماعات التي تقاتل في مالي، وقد اعترف وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس بهذا الأمر، مؤكداً وجود شبكات جهادية تعمل في فرنسا لتجنيد متطوعين للقتال في سورية ومالي والصومال.

-         ينتقد الغربيون روسيا بسبب ما يقولون إنه إمداد النظام السوري بالأسلحة والعتاد الحربي، بينما يقومون هم بشراء السلاح الروسي تحديداً وشحنه إلى المعارضة السورية، وذلك لتحقيق مكاسب عدة أهمها: أولاً: إحراج الروس وتحاشي الظهور بمظهر الخارج عن الإجماع الأوروبي بحظر توريد الأسلحة إلى سورية، ثانياً: الإيحاء بأن ما يتم الحصول عليه من سلاح للمعارضة هو مغانم تمّ الحصول عليها من الجيش السوري الرسمي، وفي ذلك مكسب إعلامي هائل في الحرب النفسية التي تشَنّ على السوريين، فإما أن الجيش السوري ينهار ويسلّم أسلحته، أو أن المعارضة تكبده خسائر فادحة وتسيطر على عتاده ومراكزه.

في المحصلة، ما يجري في سورية اليوم من سباق بين الأطراف الإقليمية والدولية للتنصل من المجموعات المسلحة، وحجز مقاعد على طاولة المفاوضات التي يرتب شؤونها الأميركيون والروس لا يبدو مستغرباً، بل يبدو طبيعياً جداً في سباق الأمم نحو القوة والعمل على تحقيق المصالح، ولعل الإعلان العراقي عن موافقته على التوقيع على إطار اتفاق لبناء أنبوب للغاز يمر عبر أراضي العراق من إيران إلى سورية فأوروبا، يعكس مدى الأهمية التي يوليها الأوروبيون لمصالحهم في سورية، وعدم إيجاد أنفسهم خارج حافلة الحل السلمي التي يقفز لركوبها الأطراف الفاعلون من الغرب والشرق على حد سواء.


2013/02/14

البحرين وثورة اللاعنف

تعليق على كتاب "جدران 14 فبراير"، الصادر عن صحيفة "مرآة البحرين"
بيروت- الاونيسكو 14 شباط 2013
ليلى نقولا الرحباني
أن تؤرخ لثورة لم تنتهِ قد يكون أصعب من التأريخ لحدث تاريخي مضى وانقضى، وبانت وثائقه وأسراره وظهرت خباياه. وأن تعيش الحدث وتؤرخه في الوقت نفسه، قد يجعلك تحت دائرة الضوء، ومجهر القارئ الناقد الذي يريد أن يستشف مما كتبته، أين أنت وما هو موقعك، ولماذا تكتب أو تصوّر.
"جدران 14 فبراير" كتاب يصدر عن "مرآة البحرين" ليوثق للأجيال ثورة سلمية لم تتخلَ عن سلميتها بالرغم من كل ما حصل، ولم تندفع الى القتل والتنكيل والتكفير كما حصل في بلدان عربية أخرى... أن تسالم وتقاوم لهو أصعب بكثير من امتشاقك السلاح والساطور وتقطع أعناق معارضيك، وتجزّ أعناقهم باسم الله.
هل يمكن للجدران أن تشكّل مرآة!؟ نعم، لقد استطاعت جدران البحرين في هذا الكتاب ان تكون مرآة عاكسة لثورة لاعنفية في ثقافة عربية يتجذر فيها العنف والبطش منذ ما قبل الاسلام، حين كانت الحرب مؤسسة لصنع الابطال ولاكتساب الغنائم، والحصول على السبايا، والوصول الى السلطة.
فما هي فلسفة اللاعنف هذه، التي اختارها شعب البحرين؟
بالتأكيد، إن الاستراتيجية اللاعنفية التي اختارها البحرينيون، هي نقيض لاستراتيجتين معروفتين: الرضوخ والانصياع السلبي للظلم، أو الصدام المسلح معه.
وبتحليل إضافي لفلسفة واستراتيجيات اللاعنف المعتمدة تاريخيًا، قد يكون من المفيد إدراج بعض الملاحظات على أهمية مفهوم اللاعنف كاستراتيجية معتمدة في المعارك الداخلية للتحرر من الفساد والظلم والاستئثار والانتصار في معركة بناء الدولة، وهي على الشكل التالي:
- اولاً: اللاعنف لا يمكن أن يكون مطلقًا
يقول غاندي في تعليقه على مجموعة من أبناء شعبه، تركوا منازلهم وهربوا من الشرطة التي شنّت هجومًا على قريتهم، ونهبت أموالهم واغتصبت نساءهم، وحيث إنهم برروا هروبهم بامتثالهم لأوامره وتعليماته باللاعنف: "أردت أن أراهم يقفون كالترس بين الأعظم قوة وبين الأكثر ضعفًا... والحق أنه دليل بعضٍ من شجاعة أن يدافع الناس عن مقتنياتهم بحد السيف، ويصونوا كرامتهم...إني أفضل ألف مرة أن أخاطر فألجأ إلى العنف على أن أرى شعبًا بأسره يتعرض للإبادة". ويضيف: "بين العنف والجبن، فانا أفضل العنف".
وهكذا، فان اللاعنف لا يعني الجبن ولا يدعو اليه، فأمام تهديد الوجود أو الكرامة، لا يمكن للانسان أن يهرب من المواجهة بذريعة اللاعنف، ومن هذا المبدأ، قاوم بعض البحرينيون ورفعوا لافتات نجدها في ثنايا الكتاب تقول "عاشوراء ... نهج وثورة" وبعضها يؤكد "كلنا كربلائيون".
- ثانيًا: اللاعنف هو بالتأكيد ليس نأيًا بالنفس عن مقاومة الظلم
اللاعنف هو أبعد ما يكون عن السلبية والخنوع والاستقالة من الواجب الوطني بالمقاومة، لا بل ان اللاعنف يتطلب شجاعة هي أكبر بكثير من استراتيجية العنف. ويتطلب من الإنسان أن يتخذ موقفًا حاسمًا من القضايا، فلا يمكن أن يكون رماديًا بين أبيض وأسود، ولا يمكن أن ينأى بنفسه عن الصراع الدائر بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
واللاعنف ليس"من ضربك على خدك الأيمن در له الايسر" بذريعة السلام، فالعلاقة بين العبد والسيد هي حياة سلام طالما بقي العبد مستكيناً قانعًا شاكرًا سيده على النعمة، لكن "السلام الزائف" ينتهي عندما يبدأ العبد بالمطالبة بحقوقه وحريته.
- ثالثًا: في اللاعنف تتوحّد الغاية والوسيلة
اللاعنف هو استراتيجية ككل الاستراتيجيات الاخرى؛ قد تنجح وقد تفشل بحسب ظروف استخدامها، وقد تؤدي – كما العنف- الى تحقيق الهدف المنشود أو لا. إلا أنّها تتميّز بأنّ هدفها النهائيّ ليس الانتصار في المعركة فحسب، بل تهدف الى تغيير الواقع نفسه.
بالتأكيد، إن الوسائل غير الاخلاقية كقتل الابرياء وجزّ الاعناق، لا يمكن أن تؤدي الى أهداف أخلاقية ونبيلة، فالوسائل تكون بحد ذاتها أهداف، أو انها أهداف بطبيعتها.
-رابعًأ: المساواة هي ميزة المقاومة اللاعنفية
أي انها تشكّل حيزًا مفتوحًا يمكن للجميع أطفالاً وشبابًا وشيبًا، نساء ورجالاً، المشاركة فيه، على عكس العنف الذي يعتمد على القوة ويحتاج شبابًا وصحة و"ذكورة"، وهذا ما نلمسه على جدران الكتاب، فنحن نرى الطفل، والشيخ، والمرأة وحتى ذلك الأعرج في الصفحة 19، الذي لم تقعده اصابته وعصاه عن ممارسة حقه في المقاومة.
بهذا المعنى يمثل اللاعنف نقلة نوعية على المستوى الإنسانيّ، من خلال المساواة التي يؤمنها لممارسيه، فيعيد إليهم الأمل بقدرتهم على إحداث التغيير، إذ يستطيع كلّ شخص أن يكون فعّالاً مهما ضعفت وتواضعت امكاناته، وبنفس المستوى، دون أيّ تمييز بحسب الجنس او العمر أو الثقافة وغيرها.
        "جدران 14 فبراير" مبادرة توثيقية من خلال الصور والجرافيك، لصحيفة مرآة البحرين، لتقول للقارئ العربي أن جدار العزل الصهيوني العنصري ليس أقوى من جدار برلين الذي سقط، وجدران البحرين ستكون شاهدة على سقوط الخوف والترهيب باسم الدين المنتشر في أزقتنا، والذي يصبغ جدراننا بلون الحقد الأسود...
ها هي مرآة البحرين الشفافة تعكس ضمير الانسانية الصامت.. ضمير انسانية رأى في جدار برلين جدارًا عنصريا يجب هدمه، لكنه صمّ آذانه عن صرخات أطفال فلسطين، وصيحات المقاومين في البحرين... انسانية لا بد أن تجد نفسها يومًا في جدران صامتة قد تكون أبلغ كلامًا من كل خطابات الدول مدعية الحرية وحقوق الانسان.

استقالة البابا.. والقلق المسيحي الآتي


ترافقت الزيارة التاريخية للبطريرك الماروني بشارة الراعي إلى سورية مع إعلان البابا بنديكتوس السادس عشر استقالته من منصبه بسبب التقدم في العمر، كما أُعلن عن ذلك رسمياً.

لا شكّ أن استقالة البابا المفاجئة تطرح العديد من علامات الاستفهام، فهل للدوائر الغربية دور في استقالته، وهي التي قد تكون امتعضت من وقوف البابا إلى جانب مسيحيي المشرق، ودعوته المسيحيين إلى التجذر في أرضهم وعدم مغادرتها، وعدم القبول بما يُخطط لهم من مخططات اقتلاع وتهجير؟ وهل تكون هذه السياسة هي أحد الأسباب التي أدّت إلى التآمر عليه، وإحراجه بالفضائح الجنسية التي اتُّهم بها بعض الأساقفة، ثم بتسريب وثائقه الخاصة عبر كبير خدمه، في أشهر فضيحة عُرفت باسم "فاتيليكس"؟

وهل تآمر عليه الغربيون والصهيونية العالمية بسبب مقاومته السياسات الداعية إلى تهجير المسيحيين المشرقيين من أرضهم، وإلى تفتيت دولهم وإغراقها بالدماء والدمار والتكفير والقتل؟  وهل ساهمت دعوة البابا إلى وقف واردات الأسلحة إلى سورية ووصفها بالخطيئة الكبرى، ومعارضته السياسات التي ينتهجها الأوروبيون والأميركيون في منطقة الشرق الأوسط، وفي سورية بالتحديد، بدفعه دفعاً إلى الاستقالة مبكراً؟

من هنا، من حق مسيحيي المشرق أن يقلقوا، لكن من المعيب التهجّم على الزيارة الرعوية للبطريرك الراعي إلى سورية، والتي يكون جوهرها ما يلي:

أولاً: لم يخرج الراعي في تلك الزيارة عن جوهر ومضمون الإرشاد الرسولي الذي دعا المسيحيين إلى التجذر بأرضهم والتفاعل مع محيطهم، بل إن الزيارة برمزيتها تعطي إشارات واضحة إلى المسيحيين السوريين للتشبث بأرضهم، وعدم الهجرة كما فعل قبلهم مسيحيو العراق وفلسطين، وهي إشارة واضحة إلى تكاتف الكنائس المشرقية بأكملها جنباً إلى جنب في مواجهة الخطر الوجودي الذي يتهدد مصير مسيحيي المشرق، ومن ورائهم الشرق بأكمله بمسيحييه ومسلميه.

ثانياً: قد يكون البطريرك الراعي الأكثر تمثيلاً للسياسة الفاتيكانية للبابا المستقيل، والتي أدركت جلياً أن على البابا ومن ورائه بطاركة الشرق أن يقوموا بكل ما من شأنه أن يثبّت المسيحيين في المشرق ويمنع تهجيرهم، لذلك كانت سياسة الراعي المعلَنة باسم "شراكة ومحبة"، ومن هنا أيضًا أتت زيارته لسورية في هذه الظروف، ودعوته للحوار، وإدانته للعنف تتويجاً للمواقف التي أعلنها البابا بنديكتوس السادس عشر بدعوته أطراف النزاع في سورية إلى إلقاء السلاح وإلى حوار بنّاء في أقرب وقت ممكن يهدف إلى إنهاء نزاع لن يخلف وراءه سوى الكثير من الدمار، ومعارضاً أي تدخل عسكري في سورية على غرار ما شهده العراق أو ليبيا أو ساحل العاج.

ثالثاً: كان من المهم بمكان لمسيحيي سورية أن يشعروا بأنهم محتضَنون من قبل كنائسهم، وأنهم ليسوا جزءاً من جالية غير معترَف بوجودها، ولعل زيارة الراعي في هذا الإطار أتت لتعوّض الفرصة التاريخية لزيارة الرعية السورية وإخراجها من شعور التهميش والإقصاء تحت عباءة البابا السابق يوحنا بولس الثاني الذي زار سورية عام 2001، والتي فوتّها البطريرك صفير.

في الخلاصة، إن كل ما يُرجم به الراعي وما يُحمّل من أوزار وصلت إلى حد تحميله مسؤولية أعمال القتل والإرهاب المرتكب بحق المسيحيين السوريين، لا يعدو كونه كلاماً فارغاً، فالقرى المسيحية تعاني من التهجير وأعمال القتل والتكفير منذ سنتين، وأي ادعاء بأن هذا حصل نتيجة الزيارة مردود على أصحابه المعروفين بتاريخهم الطويل في قتل المسيحيين وتهجيرهم، واستعمالهم وقوداً في سياسات التقسيم والعزل والتعامل مع الخارج، ولا شكّ أن  بعض هؤلاء يتصرف تماماً كالطفل العاقّ الذي يشتم أهله، لأنهم يعطونه دواء مُرّاً يحتاج إليه بشدة لشفائه من مرض خبيث.

2013/02/08

العرب.. من الثورات إلى التفتيت؟

الخميس 7 شباط 2013

لم يكد يمضي عامان على انطلاقة "الثورات" في العالم العربي، حتى بدأت الخيبة والإحباط يلفان الشعوب العربية التي انتفضت مطالبة بتغيير سياسي، وكرامة وعنفوان وعدالة اجتماعية.

ولعل ما كان قد سُمي ثورات سلمية ملونة، قد أصاب كثيراً من العرب بالتفاؤل، معتبرين أنه حان وقت النهوض العربي، وأن صحوة عربية قادمة ستدفع العالم العربي إلى التقدم والديمقراطية والسير في ركب الحضارة لا محالة، ولكن العرب بمعظمهم لا يقرأون، ولا يتعظون من تجارب من سبقهم، ولو فعلوا لقرأوا واتعظوا مما قام به الغرب في البلقان في مطلع القرن الحادي والعشرين، أو قبلها بتغذية القتل والتطهير العرقي والإبادات في حروب الانفصال أو الاستقلال في أوروبا الشرقية التي حصلت على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات.

واتعاظاً من التجارب التاريخية الحديثة، نجد أن الغرب اليوم قد يعمد لاستعمال الأسلوبين معاً في المنطقة العربية التي حان دورها، بعدما شبعت أوروبا الشرقية والبلقان تقتيلاً وعنفاً وخضّات سياسية وثورات سميت على أسماء زهور وورود، فبعد الحرب التي شنّها حلف شمالي الأطلسي على يوغوسلافيا لإزاحة الرئيس السابق ميلوشيفيتش، قامت ثورة داخلية عرفت بـاسم "الثورة القرنفلية"، تلتها ثورة في جورجيا عرفت بـ"ثورة الورود" أزاحت إدوارد شيفاردنادزه من الحكم وأحلت محله ميخائيل ساكاشفيلي الموالي للغرب، وفي أوكرانيا قامت "الثورة البرتقالية" التي أحلت حليف الغرب فيكتور يوشنكو مكان فيكتور يانوكوفيتش المحسوب على موسكو، أما في لبنان، فقد أطلق الرئيس جورج بوش على التظاهرات الهائلة التي قامت ضد الوجود السوري على إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري اسم "ثورة الأرز"، لكن موازين القوى لم تسمح ببقاء حلفائه في الحكم ولا بإسقاط خيار المقاومة في لبنان.

وكان واضحاً خيار سياسة الدومينو التي أراد بوش أن يقوم به في العالم العربي بعد احتلاله العراق، متنبئاً بأن الدول المجاورة للعراق ستسقط تتابعاً، وأن انهيار حكم ديكتاتوي في دولة ما، سيؤدي إلى سقوط الآخرين وراءه كما أحجار الدومينو.

وما لم يستطع أن يحققه بوش بالاحتلال العسكري واستخدام القوة الصلبة، قرر الأميركيون تحقيقه باستخدام ما كان قد تمت تجربته سابقاً في أوروبا الشرقية، فتمّت "الثورات" العربية والتي، لسخرية القدر، كانت نتيجتها - وبسرعة قياسية - تماماً كما نتيجة الثورات المصطنعة في البلقان: إحباط شعبي من نتائجها ومن المعارضات التي وصلت إلى الحكم، وعدم القدرة الأميركية على السيطرة على المجريات الإقليمية والداخلية لمنطقة الثورات، ما جعل الروس يسقطون الحلم الجورجي بالضربة القاضية، وشعوب البلقان تعيد إسقاط "الثوار" في صناديق الاقتراع، وتعيد رموز الحقب السابقة المتحالفة مع الروس من باب الانتخابات العريض.

وكما في أوروبا الشرقية، كذلك في العالم العربي، وبعد فشل مبكر لثوار مفترضين تمّ تنصيبهم بدعم خارجي، بات يُخشى الآن من أن يعتمد الغرب الأسلوب الآخر الذي أثبت نجاعته في تفتيت دول الاتحاد السوفياتي السابقة وإضعافها وإنهاكها، وهو تعزيز النزعات الانفصالية واستثمار التطرف الأصولي الديني في حروب تطهير عرقي وديني ومذهبي ما زالت تداعياته إلى الآن.

وهكذا إذاً، وبعد سنتين من إطلاق شرارة المظاهرات العربية ومحاولات التغيير، يبدو أن الثورات الملونة أو المخملية السلمية لم تثبت نجاعتها، وقد نكون من الآن فصاعداً أمام مشهد مختلف من العنف والاقتتال الطائفي والعرقي الذي سيضعف الجميع، ويفتت الدول العربية، كما تمّ تفتيت يوغسلافيا السابقة إلى دويلات طائفية تتناحر فيما بينها، وتعيش حقداً يمنعها من التقدم أو التعاون، تتبعه محاكم جنائية دولية تكمل ما عجز الميدان والقتل أن يفعله، ففي الدول التي لم يستطع الأميركيون إيصال حلفائهم إلى الحكم، تقوم المحاكم الدولية بهذا الدور، فتكون بديلاً عن تدخل عسكري مكلف لإزاحة المناوئين وفرض حكام تابعين للإدارة الأميركية.

هو تاريخ حديث، لم يمرّ الزمن عليه بعد، وما زالت تفاصيله وأهوال مجازره ماثلة لغاية الآن، ولم تزل آثار التهجير والمذابح الطائفية والدينية والإبادات تخترق بنية أوروبا الشرقية بكاملها وتمنعها من أن تشكّل بيئة صحية للتقدم أو العيش بسلام وتعاون، وهو ما يُخطط لمنطقة أخرى من العالم، التي يراد لها أن تعيش حروب الآلهة على الأرض، وتعيش التطهير والإبادات والجرائم باسم الدين، إلى أن تتفتت كما تفتتت دول البلقان قبلها، فتصبح إمكانية اختراقها أسهل، ويمكن ضم بعض دولها الانفصالية إلى أحلاف عدائية تستخدم في تهديد جيرانها أو إخوتها الذين أصبحوا جيرانها - الأعداء.