مَن يزور العاصمة الفرنسية هذه الأيام، يدرك حجم القلق
الذي يعتري الفرنسيين وحكومتهم، خصوصاً بعد السياسات غير المتسقة التي مارستها حكومتهم
في سياستها الخارجية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاسيما بعد ما سُمي "الربيع
العربي".
وبالفعل، يبدو الأميركيون في الشرق الأوسط أكثر خفّة
وواقعية وقدرة على التفاعل مع الأحداث والتأقلم مع معطيات الميدان، من الأوروبيين الذين
يبدون وكأنهم يجرّون عربة ضخمة من الاتحاد الذي يعاني حالة من الركود الاقتصادي والمشاكل
المالية الهائلة، والذي لم يوحّد سياساته الخارجية بعد بسبب تباين مصالح دوله، ورغبة
بعضها في إعادة مجد من الهيمنة الاستعمارية، بينما تعاني بعض دوله الأخرى للخروج من
نفق الانهيار المالي.
ولعل مشهد جنود الجيش الفرنسي الذي يتمشون في شوارع باريس
وهم مدججون بالسلاح، يعكس مدى القلق الأمني مما أدخلت فرنسا نفسها فيه في مالي وليبيا
وسورية، وحيث يبحث الأوروبيون في هذه الأخيرة عن مخرج مشرّف يسمح لهم بالسير قدماً
وراء الأميركيين في مشروع الحل السياسي، الذي بات الجميع يسوّق له بعد تخلّف دام نحو
سنتين من القتال والحرب التي خلّفت الكثير من الضحايا والدمار والتدمير الممنهج للنسيج
الاجتماعي السوري.
وفي تناقض لافت للنظر يعكس الازدواجية - أو على الأقل
- عدم قدرة الأوروبيين على التحكم بمسار الأمور في سورية ولا حتى ضمن المعارضة التي
يدعمونها، نجد أن الأوروبيين يفعلون الشيء وعكسه، وذلك كما يلي:
- يدعو الاتحاد الأوروبي إلى تقديم الدعم للمعارضة،
لكن في الوقت نفسه يتخوّف القادة الأوروبيون من أن سورية معرضة للسقوط في أيدي الجماعات
المتشددة، ويؤكد الوزير الفرنسي لوران فابيوس أن الثورة التي بدأت باحتجاجات سلمية
مطالبة بالديمقراطية بدأت تتحول إلى صراع بين ميليشيات.
- يمدد الأوروبيون قرار حظر توريد الأسلحة
إلى سورية، بينما يقوم بعض أعضاء الاتحاد بتمويل وتدريب المجموعات المسلحة في سورية،
ومدّها بالسلاح، وإنشاء غرف عمليات عسكرية على الحدود السورية - التركية، وعلى الحدود
اللبنانية - السورية، وذلك لأن الغياب عن الساحة العسكرية قد يدفع إلى الغياب عن الساحة
التفاوضية الباحثة عن حل سلمي للأزمة، والتي باتت مفتوحة بين الروس والأميركيين، وبين
الدول الإقليمية، كطهران ومصر وتركيا.
- يعرض الفرنسيون على الأجهزة الأمنية الرسمية
السورية التعاون الأمني في قضايا الإرهاب التي تقلق الرأي العام الفرنسي، والتي تشعره
بعدم الأمن النسبي، خصوصاً بعد التدخل الفرنسي في مالي، بينما تقوم أجهزة الاستخبارات
الفرنسية بالتعاون مع المعارضة السورية، والتي يترابط بعض فصائلها بشكل وثيق مع الجماعات
التي تقاتل في مالي، وقد اعترف وزير الداخلية الفرنسي مانويل فالس بهذا الأمر، مؤكداً
وجود شبكات جهادية تعمل في فرنسا لتجنيد متطوعين للقتال في سورية ومالي والصومال.
- ينتقد الغربيون روسيا بسبب ما يقولون إنه
إمداد النظام السوري بالأسلحة والعتاد الحربي، بينما يقومون هم بشراء السلاح الروسي
تحديداً وشحنه إلى المعارضة السورية، وذلك لتحقيق مكاسب عدة أهمها: أولاً: إحراج الروس
وتحاشي الظهور بمظهر الخارج عن الإجماع الأوروبي بحظر توريد الأسلحة إلى سورية، ثانياً:
الإيحاء بأن ما يتم الحصول عليه من سلاح للمعارضة هو مغانم تمّ الحصول عليها من الجيش
السوري الرسمي، وفي ذلك مكسب إعلامي هائل في الحرب النفسية التي تشَنّ على السوريين،
فإما أن الجيش السوري ينهار ويسلّم أسلحته، أو أن المعارضة تكبده خسائر فادحة وتسيطر
على عتاده ومراكزه.
في المحصلة، ما يجري في سورية اليوم من سباق بين الأطراف
الإقليمية والدولية للتنصل من المجموعات المسلحة، وحجز مقاعد على طاولة المفاوضات التي
يرتب شؤونها الأميركيون والروس لا يبدو مستغرباً، بل يبدو طبيعياً جداً في سباق الأمم
نحو القوة والعمل على تحقيق المصالح، ولعل الإعلان العراقي عن موافقته على التوقيع
على إطار اتفاق لبناء أنبوب للغاز يمر عبر أراضي العراق من إيران إلى سورية فأوروبا،
يعكس مدى الأهمية التي يوليها الأوروبيون لمصالحهم في سورية، وعدم إيجاد أنفسهم خارج
حافلة الحل السلمي التي يقفز لركوبها الأطراف الفاعلون من الغرب والشرق على حد سواء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق