2024/03/14

بالدليل والسوابق: الخسائر الاستراتيجية الاسرائيلية بدأت

مع دخول الحرب الاسرائيلية على غزة شهرها السادس، ومع انتشار صور الدمار والمجاعة في القطاع، بدأت بعض الأصوات العربية تخرج لتقول أن حماس ارتكبت عملاً غير محسوب النتائج، وأنها أدّت الى خسارة غزة وخسارة للقضية الفلسطينية، وأن حماس أعطت الفرصة لاسرائيل لتستفيد من تلك الحرب لتقضي على قطاع غزة كلياً وتعيد احتلاله وتقضي على ما تبقى من القضية الفلسطينية.

وبالرغم من الكلفة البشرية والمادية العالية في القطاع، إلا أن تقييم الارباح والخسائر في حرب لامتماثلة لا يحتسب بهذه الطريقة التبسيطية، ولا يمكن تقييم نتائج تلك الحروب كما يتم تقييم الحروب التقليدية التي تحصل بين جيوش نظامية حيث تقاس نتائجها بأعداد الجنود القتلى ومساحة الأرض المحتلة. هذا بالاضافة الى أن تقييم الأرباح والخسائر على المدى القصير في غزة لا يمكن أن يلغي الخسارة الاستراتيجية التي تتعرض لها "اسرائيل" والتي يستمر بالتحذير منها كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي حذّر اسرائيل من استبدال النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية.

ولعل أحد الأمثلة على الهزيمة الاستراتيجية الاسرائيلية هو تبدّل الرأي العام العالمي وصورة اسرائيل في العالم، والتي ارتبطت بأعمال القتل والتجويع والابادة في غزة، خاصة مع قرار محكمة العدل الدولية  الابتدائي الذي وجد " معقولية" لادعاء جنوب أفريقيا على اسرائيل بأنها ترتكب "إبادة جماعية" في غزة وأن الفلسطينيين يحتاجون الى حماية، وان على اسرائيل ان تلتزم بما تمليه عليه التزاماتها في "اتفاقية منع إبادة الجنس" الصادرة عام 1951، والموقّعة عليها اسرائيل.

وإذا كان بعض العرب وداعمي اسرائيل في العالم يعتقدون أن اسرائيل غير معنية ولا تكترث بصورتها الدولية، فيمكن أن نشير الى سابقة تعاملها مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، المعتمد في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975، والذي أقرّ أن "الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري" والذي اتخذته الجمعية العامة بأغلبية 72 صوتًا مقابل 35 صوتًا وامتناع 32 عن التصويت. وحيث أتت أهمية ذلك القرار بعد إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري في 21 كانون الأول/ديسمبر 1965 والتي بدأ نفاذها في 4 كانون الثاني/يناير 1969.

لم تستطع اسرائيل "هضم" هذا القرار غير الملزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعملت دائماً على تقويض سمعة الأمم المتحدة والجمعية العامة التي اتخذت العديد من القرارات التي أدانت اسرائيل وانتصرت للقضية الفلسطينية، الى أن وصل العام 1991، حيث اشترطت اسرائيل أن يتم إلغاء القرار رقم 3379، قبل أن تقبل المشاركة في عملية السلام مع الفلسطينيين، والسير في مسار أوسلو.

وبناءً على الضغوط الأميركية وحاجة العالم للتقدم قدماً في مسار عملية السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين وحيث أن تبدل النظام العالمي وتغيّر الوضع الجيوسياسي في العالم فتح نافذة للأمل بتحقيق مسار للسلام في الشرق الاوسط، تم الغاء القرار المذكور بموجب بموجب القرار 46/86، الذي تم اعتماده في 16 ديسمبر 1991 بأغلبية 111 صوتًا مقابل 25 صوتًا وامتناع 13 عضوًا عن التصويت.

وكانت اسرائيل تسعى الى إصدار قرار معاكس للقرار 3379، وواضح من حيث "الاقرار ان الصهيونية ليست شكلاً من أشكال العنصرية" وحاولت شتى السبل للوصول الى صيغة واضحة في هذا المجال. وبالرغم من ذلك، عادت وقبلت – على مضض- النص القصير الذي فرضته الولايات المتحدة (والتي هيمنت على الأمم المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي) والذي يتضمن عبارة واحدة ""[الجمعية العامة] تقرر إلغاء التحديد الوارد في قرارها 3379 المؤرخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975".

وبالرغم من أن القرار الجديد لم يذكر الصهيونية، وليس فيه إعلان صريح أن الصهيونية ليس شكلاً من أشكال العنصرية، فقد اعتبرته اسرائيل انتصاراً ونتيجة لحملة طويلة من العلاقات العامة والضغوط الدبلوماسية التي مارستها الدول الغربية والولايات المتحدة واسرائيل لنقض القرار السابق.

وعلى هذا الأساس، وبالرغم من أن المعركة العسكرية الجارية في غزة لم تنتهِ، وبالرغم من الكلفة البشرية العالية التي لحقت بالفلسطينيين، يمكن القول أن خسائر استراتيجية لحقت – وستلحق- باسرائيل بعد هذه الحرب.

إن خسارة السمعة والصورة التي عملت اسرائيل طويلاً على تكريسها كـ "دولة ديمقراطية، وضحية" في الشرق الأوسط، ليس تفصيلاً في مسار اسرائيل في المنطقة والعالم، والقضية المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية (بغض النظر عن نهاياتها بعد أعوام) ليس بالأمر الذي يمكن لاسرائيل أن تتخطاه، والأصوات اليهودية في العالم التي ترفض استخدام الهولوكست لتبرير الابادة في غزة ... كلها خسائر متحققة منذ الآن، تضاف الى ما سيترتب على هذه الحرب من أكلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وانقسامات داخل اسرائيل.

 

2024/03/08

كيف يصنّف القانون الدولي حرب التجويع الاسرائيلية على غزة؟

وصف المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء مايكل فخري في جلسة لمجلس حقوق الانسان هذا الاسبوع، استخدام إسرائيل لحملة التجويع ضد الشعب الفلسطيني في غزة بأنه "إبادة جماعية.  وقال"عندما اندلعت الحرب، رأينا الناس يعانون من الجوع بطرق غير مسبوقة. لم نر قط أي مجتمع يعاني من الجوع بهذه السرعة. والآن ما نراه هو المجاعة. ويموت الأطفال بسبب سوء التغذية والجفاف”.

وذكّر فخري بأن إسرائيل قطعت إمدادات المياه عن غزة مباشرة بعد بدء الحرب في 8 تشرين الأول/ أكتوبر، وقال إن غزة محاصرة بالكامل  منذ 9 تشرين الأول/ أكتوبر. وأضاف: "لم نشهد قط أطفالاً يُدفعون نحو سوء التغذية بهذه السرعة في أي صراع في التاريخ الحديث".

كيف ينظر القانون الدولي الى التجويع الاسرائيلي للفلسطينيين؟

1-  التجويع في القانون الدولي لحقوق الإنسان:

يذكر القانون الدولي لحقوق الانسان بشكل واضح وصريح "حق الانسان في الغذاء"، وتؤكد المادة 25 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، على "حق كل فرد في مستوى من المعيشة يكفي للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، بما في ذلك المأكل والملبس والمسكن والرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية الضرورية".

كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (المواد 11 و2)  على هذا الحق وعلى اعتراف وتعهد الدول بالعمل على الحفاظ على هذا الحق. أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المواد 6) فينص على "الحق الأصيل في الحياة لكل إنسان، حيث يجب حماية هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً" ومنها يتفرع عدم جواز تجويع الاشخاص أو تعريضهم لما يمكن أن يحرمهم الحق في الحياة تعسفاً.

وتنص المادة 1.2 (المشتركة بين العهدين) على أنه " لا يجوز بأي حال من الأحوال حرمان أي شعب من وسائل عيشه الخاصة"، ما يعني عدم جواز ما تقوم به اسرائيل في غزة من حصار ومنع السكان من القدرة على تحصيل وسائل العيش، بالاضافة الى عدم جواز قيامها باستخدام الفوسفور الابيض الحارق للتربة بهدف منع سكان غزة في المستقبل من امكانية الزرع وانتاج الغذاء.

 

2-  التجويع في القانون الدولي الإنساني:

في عام 1919، أدرجت لجنة المسؤولية الدولية بعد الحرب العالمية الأولى، "التجويع المتعمد للمدنيين" كانتهاك لقوانين وأعراف الحرب التي تؤدي الى الملاحقة الجنائية لمن يرتكبها. وبموجب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يعتبر "تعمد تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب" جريمة حرب في النزاعات المسلحة الدولية.

أ‌-     القاعدة 53 من القانون الدولي العرفي من القانون الدولي الانساني، أو يُعرف بقانون النزاعات المسلحة، تنص على ما يلي: "يُحظر استخدام تجويع السكان المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب."

ويشترط القانون الدولي الانساني على الدول ضرورة احترام هذه القاعدة باعتبارها قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي المطبقة في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. ويرد حظر التجويع كأسلوب من أساليب الحرب في البروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لاتفاقيات جنيف الاربعة. وبالإضافة إلى ذلك، ترد هذه القاعدة في صكوك أخرى تتعلق أيضًا بالنزاعات المسلحة غير الدولية، وفي الكتيبات العسكرية التابعة للجيوش النظامية.

ب‌-  القواعد 54-55- 56 هي نتيجة طبيعية لحظر تجويع المدنيين كوسيلة من وسائل الحرب.

تحظّر (القاعدة 54) مهاجمة الأعيان التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، أما (القاعدة 55) فتحظّر منع وصول المساعدات الإنسانية المخصصة للمدنيين المحتاجين، بما في ذلك تعمد إعاقة المساعدات الإنسانية. بينما تعتبر (القاعدة 56) أن تقييد حرية حركة موظفي الإغاثة الإنسانية قد يشكل انتهاكًا لحظر التجويع.

 

ج- الحصار التجويعي

يميّز قانون النزاعات المسلحة بين الحصار الذي يهدف الى تحقيق أهداف عسكرية وبين تجويع المدنيين، فالأول ليس محظراً في القانون، بينما الثاني يعتبر جريمة حرب وقد يرقى الى مستوى الابادة.

وفي تطبيق هذا التمييز بين الحصار العسكري والحصار التجويعي على ما تقوم به اسرائيل في غزة، نشير الى أنه لا يمكن لاسرائيل أن تدّعي ان هدف حصارها هو تحقيق أغراض عسكرية بدليل انها تقول أنها أنهت قدرات المقاومة الفلسطينية في شمال القطاع، بينا تقوم بمنع المساعدات الغذائية عن السكان وتتعمد تجويعهم في تلك المناطق حيث تقوم باقفال المعابر وقصف شاحنات المساعدات، ما يعني أن الحصار هو تجويعي متعمد وليس حصاراً لأهداف عسكرية.

بالاضافة الى ذلك، إن اسرائيل بوصفها دولة احتلال تبقى مسؤولة عن الشعب المتواجد على الأرض التي تحتلها وبالتالي من المحظّر تجويعهم أو حرمانهم الحق في الغذاء.

 

في النتيجة، وبالرغم من وضوح النص حول حظر تجويع المدنيين ووجوده في القانون الدولي لحقوق الانسان، إلا أنه ليس هناك آليات للمحاسبة على خرق هذا الحق في ذلك القانون وتبقى آلياته ومبادؤه معنوية، وبالتالي لا يمكن الزام اسرائيل بها. ولكن، يمكن بالطبع محاسبة اسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي الإنساني حيث أن مخالفة الدولة لالتزاماتها في حفظ هذه الحقوق خلال النزاعات المسلحة، يرتب مساءلة جنائية للأشخاص المسؤولين في الدولة عن ارتكابها وتسهيلها وإعطاء الأوامر لتجويع المدنيين.

 

2024/03/01

الوجه الآخر للحرب الاسرائيلية على لبنان

منذ السابع من تشرين الأول /اكتوبر لم تتوقف التهديدات الاسرائيلية بشنّ حرب على لبنان، لإقامة منطقة عازلة ولإبعاد حزب الله عن الحدود كما يحد الاسرائيلي في الأهداف التي يرمي اليها من تلك الحرب. ومؤخراً، نقلت شبكة "سي أن أن" عن مسؤولين في الإدارة الأميركية أن هناك قلقاً أميركيا من خطط اسرائيلية لتوغل في لبنان في الربيع أو الصيف القادم إذا فشلت الجهود الدبلوماسية في دفع حزب الله إلى التراجع عن الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة. ونقلت الشبكة عن مسؤول وصفته بالمطلع، إلى أن "الإدارة تعمل افتراضها حدوث عملية عسكرية إسرائيلية في الأشهر المقبلة". وأردف قائلاً: "ليس بالضرورة أن يحصل أن التوغل خلال الأسابيع القليلة المقبلة ولكن ربما في وقت لاحق من هذا الربيع".

ولا شكّ أن تلك التسريبات الاعلامية تحاول ان ترفد التهديد الاسرائيلي بتوغل برّي للضغط على لبنان لتقديم تنازلات، عبر حرب نفسية وإعلامية تهدف الى استخدام كل عناصر الضغط الخارجية العسكرية والدبلوماسية على لبنان، بالاضافة الى الضغط الداخلي السياسي والاجتماعي والاقتصادي لتحقيق أهداف الحرب بدون خوضها، وذلك تطبيقاً لمقولة شهيرة للمفكر العسكري الاستراتيجي الصيني صن تزو "في كتابه "فنّ الحرب"، أنَّ " فنّ الحرب الأسمى هو إخضاع العدو من دون قتال".

ولفهم ما تقوم به إسرائيل من حرب غير تقليدية بالتوازي مع الحرب العسكرية، يجب الاشارة الى الأبعاد المتعددة التي تستخدمها اسرائيل في تلك الحرب، وهي:

‌1- البعد الإدراكي:

يضمّ هذا البعد الأشخاص التي تبث الشائعة أو الخبر او التهديد، وتلك التي ترسلها، والتي تتجاوب معها وتنقلها. وهذا البعد يركّز على فهم المجموعات والبيئات اللبنانية المتعددة، والتي تختلف وتتباين بحسب التصورات والمفاهيم والمعتقدات التي تعتنقها. وعلى هذا الأساس، يركّز الاسرائيلي على السياقات الثقافية والدينية والتاريخية للمجموعات اللبنانية، لتسويق السردية الاسرائيلية التي تناسب تلك البيئة فتنقلب على حزب الله، أو لترهيب بيئة المقاومة أو لجعل هذه البيئات جميعها مشاركة في الحرب النفسية الاسرائيلية على حزب الله.

يتطلب النجاح في هذا البعد فهمًا للجمهور المستهدف، واختيار الأساليب الأمثل والمفردات المناسبة والشخصيات التي يمكن لها اختراق العقل الجمعي للجمهور، حيث يكون لكل بيئة وجمهور، مفرداته، وسائله وأشخاصه الحقيقيين أو الافتراضيين الذين يستطيعون الوصول إليه وتوزيع المعلومات التي تكون أحياناً مضللة، أو كاذبة أو جزءًا من الحرب النفسية الاسرائيلية.

2- البعد المعلوماتي

وهو البعد الذي يحتوي على الداتا والصور والمعلومات، والذي تقوم فيه اسرائيل بتحديد المعلومات والرسائل التي تريد بثها سواءً مباشرة أو عبر وكلائها وعملائها داخل وخارج لبنان. وفي هذا البعد أيضاً تعمل اسرائيل على جمع المعلومات من وسائط متعددة، سواء لفهم الجمهور أو للحصول على معلومات حساسة تستخدمها في حربها  العسكرية ضد حزب الله، وفي حربها النفسية ضد اللبنانيين.

3-  البعد الاعلامي- وسائل التواصل والإعلام التقليدي

يلعب الإعلام دوراً أسياسيًا في الحرب غير التقليدية التي تقوم بها اسرائيل سواءً ضد لبنان أو ضد الفلسطينيين في غزة. وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً فعّالاً  في تلك الحرب والتي تستطيع من خلالها اسرائيل اختراق البيئات المحتلفة، والتخفي تحت أسماء مستعارة، والوصول الى الجمهور بطريقة أسهل مما يمكن الوصول إليه عبر وسائل الإعلام التقليدي.

ولا شكّ أن اسرائيل وعبر التطور التقني والتكنولوجي، تتقن استخدام العالم الافتراضي لتطبيق ما يسمى "الهندسة الإجتماعية" والتي تستخدمها لاستهداف الافراد والمجتمعات ثقافياً وسياسياً، وتحاول من خلالها أن تمارس حرباً نفسية على اللبنانيين والفلسطينيين والعرب، للتشكيك في جدوى المقاومة، وإضعاف الروح المعنوية للأفراد والمجموعات.

لكن تجدر الاشارة الى أن اسرائيل لم تعد تحتكر هذا المجال، فلقد أظهرت حرب غزة الاخيرة أن هذا وسائل التواصل الاجتماعي لعبت في هذه الحرب دوراً فعالاً ضد الدعاية الاسرائيلية وكشفت زيف تلك السردية وكشفتها أمام الرأي العام العالمي.

في المحصلة، لا بد للبنانيين والعرب معرفة هذه الأبعاد التي يمكن أن تستخدمها اسرائيل للتأثير على وعيهم الجمعي والفردي، وللتأثير عليهم ودفعهم الى الانهيار الإدراكي والذي تكون معه الهزيمة من الداخل قبل أن تكون عسكرياً من الخارج.


 

2024/02/23

ما الهدف من ورقة نتنياهو التي استعادت طروحات شامير؟

بعد الانتقادات الداخلية والاميركية بأن الحكومة الاسرائيلية لا تملك استراتيجية واضحة لمسار الحرب في غزة وأهدافها وتصوراتها، وفي محاولة لتقديم إطار عام يعد بمثابة "استراتيجية خروج" من الحرب، أو ما يسمى خطة "اليوم التالي" قدم بنيامين نتنياهو لمجلس الوزراء الأمني وثيقة مبادئ من صفحة واحدة، تتعلق بتصوره لمستقبل القطاع في مرحلة ما بعد الحرب.

ويمكن تعريف استراتيجية الخروج بأنها "الخطة التي تعدّها القوة المتدخلة لسحب قواتها العسكرية من البلد المتدخل فيه". وكانت النقاشات الاكاديمية في الولايات المتحدة الاميركية بدأت حول استراتيجيات الخروج وكيفيتها بشكل مكثف، منذ تسعينيات القرن الماضي.

ولعل ما دفع الى تكثيف هذه الدراسات هو السياسة التدخلية التي بدأتها الولايات المتحدة الاميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي بدأت تباشيرها في العراق عام 1990 ومن ثم في البلقان. وما أن وجد الأميركيون أنفسهم في مأزق كبير في الصومال، دفعهم الى الانسحاب بسرعة قياسية، حتى بدأ بعض الاستراتيجيين الأميركيين يعتقدون أنه على الولايات المتحدة قبل البدء بأي تدخل عسكري مفترض، أن تضع معه وبصورة مسبقة “استراتيجية خروج” ممكنة وفعّالة تحفظ لها هيبة جنودها وموقعها والتزاماتها الدولية.

وتتضمن خطة نتنياهو المقترحة للخروج من الحرب، تعيين "مسؤولين محليين فلسطينيين غير مرتبطين بدول أو كيانات تدعم الإرهاب لإدارة الخدمات في القطاع بدلاً من حماس" كما تقول الوثيقة، وإلغاء الاونروا، والسيطرة عسكرياً على القطاع لفترة غير محددة.

ويحدد نتنياهو مستويات من الاهداف الأمنية والعسكرية، فعلى المدى القصير ستتواصل الحرب حتى تحقيق هدف "تدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية الحكومية لحماس والجهاد الإسلامي، وإعادة الرهائن الذين اختطفوا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر (على المدى القصير)، وعلى المدى المتوسط يحتفظ الاسرائيليون بحرية غير محدودة للعمل الامني والعسكري، وعلى المدى الطويل إزالة أي تهديد أمني من القطاع.

وتقول الخطة بإقامة مناطق عازلة على الجانب الفلسطيني من قطاع غزة وتجريد القطاع من السلاح،  والاحتفاظ بسيطرة أمنية على كامل "منطقة غرب الاردن" (كما تحدد الوثيقة). كما تفرض اسرائيل اغلاقاً أمنياً على الحدود مع مصر، وسيتم دعم الإغلاق بمساعدة الولايات المتحدة وبالتعاون مع مصر "قدر الإمكان"، كما جاء في الوثيقة. ولن تسمح اسرائيل بإعادة اعمار غزة إلا بعد تحقيق "اجتثاث التطرف... في جميع المؤسسات الدينية والتعليمية والرعاية الاجتماعية في غزة بمشاركة ومساعدة الدول العربية التي لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرف".

وعليه، ولا بد من الاشارة الى بعض الملاحظات على هذه الورقة:

1-  فكرة تشكيل حكومة مدنية محلية، هي فكرة اسرائيلية قديمة كان قد تقدم بها اسحاق شامير سابقاً الذي قال انه يوافق على حكم ذاتي للبشر لا للارض. بمعنى أن الاراضي العربية التي هي أراضٍ اسرائيلية من ضمن اسرائيل الكبرى يمكن للبشر الذين يقطنون عليها ان يحصلوا على حكم ذاتي، ويمكن توكيل بشر غير اسرائيليين بادارتها، بدون أن يكون لهؤلاء سيادة على الارض التي تبقى لإسرائيل.

2-  بشكل أساسي، ما تمّ نشره من الوثيقة يشي بأن لا شيء جديد فيها، بل وضع فيها نتنياهو ما كان قد أعلنه في تصريحات سابقة، ووثقها في ورقة مبادئ ليقدمها كاستراتيجية خروج لحرب غزة. من غير المعروف ان كان ما قدمه نتنياهو من تصورات لتعاون مع الولايات المتحدة ومع مصر ودول الخليج هو منسّق مع تلك الاطراف أو انها تصورات اسرائيلية للهروب الى الامام ولحشر تلك الاطراف، مع العلم أن السعودية كانت قد أعلنت أنها لن تساهم في إعادة إعمار غزة إلا بعد الاتفاق على مسار جدّي لتحقيق دولة فلسطينية.

3-  عادة، الحرب ليست هدف بحد ذاته بل لتحقيق أهداف سياسية. وعلى هذا الاساس، يريد نتنياهو اطالة أمد الحرب لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً. وعليه، إن تقديم هذه الورقة ليس هدفه طرح افكار للنقاش أو الوصول الى حل سياسي، بل تتجلى أهدافه أما في المماطلة لما بعد شهر رمضان لعودة آلة القتل الاسرائيلية الى تهجير الفلسطينيين وإبادتهم في غزة، أو لإرضاء اليمين الاسرائيلي الذي يريد منع تحقيق أي خطة سلام مع الفلسطينيين ويريدون اعادة احتلال غزة ونشر المستوطنات فيها.

 

2024/02/17

بايدن ونتنياهو: هل هناك خلاف حقيقي؟

يتحدث عديدون عن أن الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الاسرائيلي ليسا على وفاق، وأن الادارة الأميركية ممتعضة من الاداء الاسرائيلي في الحرب على غزة، وان العلاقة بين الطرفين متوترة.

لكن اللافت في الامر، أن المحادثة الهاتفية الاخيرة بين الرجلين والتي استمرت وقتاً طويلاً بحسب وسائل الاعلام، لم تعكس استياء بايدن ن نتنياهو، ولم ينتقد الاسرائيليين في حربهم الخارجة عن القانون الدولي الانساني وعن قواعد الحرب، بل منح الهجوم الاسرائيلي على رفح ضوءًا أخضر، بدليل محتوى البيان الذي أصدره البيت الابيض عن المحادثة.

قال بيان البيت الأبيض إن "بايدن أكد وجهة نظره بأن العملية العسكرية في رفح لا ينبغي أن تتمّ دون خطة موثوقة وقابلة للتنفيذ". وأضاف أن بايدن أكد لنتنياهو "ضرورة وجود خطة، لضمان سلامة ودعم أكثر من مليون شخص لجأوا إلى رفح". كما أكد بايدن "ضرورة الاستفادة من التقدم في المفاوضات لإطلاق جميع الرهائن بأقرب وقت"، وشدّد على أن "هزيمة حماس وضمان الأمن الطويل الأمد لإسرائيل هدف مشترك".

هذا النص يؤكد بما لا يقبل الشكّ أن بايدن داعم كلياً للعمليات العسكرية الاسرائيلية، وأن الادعاءات الاعلامية حول خلاف وغضب بايدن من نتنياهو ما هو إلا حملة إعلانية هدفها تبرئة بايدن من الدم المسفوك في غزة، وإظهاره أمام الجمهور الاميركي والعالمي بأنه غير موافق على ما يرتكب من مجازر.

ويحتاج بايدن الى حملة العلاقات العامة تلك لأسباب متعددة، أبرزها:

1-  التملص من مسؤولية الهزيمة:

بعد مرور ما يقارب الخمسة أشهر على بدء الحرب الاسرائيلية على غزة، لم يحقق الجيش الاسرائيلي انتصاراً عسكرياً يحسب له حساب في ميزان المقايضة السياسية التي ستلي الحرب في غزة. وينقسم الاسرائيليون على أنفسهم، ويتبادلون الاتهامات بالمسؤولية، ويتحدث الجيش الاسرائيلي أن هدف القضاء على حماس قد يحتاج سنة من القتال إن لم يكن أكثر.

وعلى هذا الاساس، يقوم بايدن بتغطية الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين لكنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية الهزيمة الاستراتيجية حين تحصل.

2- استطلاعات الرأي في الداخل الأميركي

تعكس استطلاعات الرأي المتعددة في الولايات المتحدة الاميركية، تحوّلاً في اتجاهات الرأي العام تجاه اسرائيل، خاصة ضمن قواعد الحزب الديمقراطي.

منذ عام 2014، بدأ الشباب الأميركي يعكس تحوّلاً في نظرته الى الصراع العربي الاسرائيلي، حيث بدأ هذا التحول يظهر في استطلاعات الرأي في مراكز مثل "بيو" Pew وغالوب Gallup، اللذان أظهرا اختلافاً في الرأي بين الفئات الشبابية والكبار في السن في موضوع الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، حيث يميل الشباب الى التعاطف أكثر مع الفلسطينيين.

وبعد حرب غزة عام 2023 وانتشار وصور المجازر الاسرائيلية، وتأثير وسائل التواصل التي كسرت هيمنة واحتكار الاعلام الاميركي التقليدي الموالي والداعم بصورة مطلقة لاسرائيل، ظهر أن  الغالبية من فئات الشباب والملونين والمسلمين والعرب المؤيدين للحزب الديمقراطي ترفض سياسة ادارة بايدن المؤيدة بشكل تام لاسرائيل.

3-  المنافسة الانتخابية

كشف استطلاع حديث للرأي في الولايات المتحدة الأميركية، أجراه مركز بيو، الى أن "41% من الاميركيين يدعمون سياسات الحزب الجمهوري، في مقابل 31% يدعمون سياسات الحزب الديموقراطي". وبالرغم من أن قضية فلسطين ليست هي المؤثر على هذه النتيجة، بل أمور داخلية تتعلق بالاقتصاد والهجرة غير الشرعية، لكن الاحتمال يكبر بعودة ترامب الى البيت الابيض وفوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة.

ومع هذه النتائج، يتزايد الحديث في الولايات المتحدة عن حالة الرئيس جو بايدن الذهنية والعقلية، ويدور جدل داخل قيادات الحزب الديموقراطي بشأن مصير الرئيس بايدن كمرشّح للحزب مع التيقن بأن استمراره قد يسبب هزيمة للحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة مقابل دونالد ترامب.

أمام هذه التحديات والتي ترتبط بأداء الادارة الحالية وشخص بايدن وحالته، يحتاج الحزب الديمقراطي الى كسب دعم وتأييد جميع فئات الحزب الديمقراطي، وإلا كان مصير بايدن في انتخابات الرئاسة هذا العام مشابهاً لمصير هيلاري كلينتون عام 2016، التي كانت مكروهة من شرائح واسعة من الحزب الديمقراطي والتي امتنعت عن التصويت لها، ففاز ترامب.

في النتيجة، لا يوجد أي خلاف اسرائيلي اميركي حول الحرب في غزة، وما زالت الادارة الأميركية داعمة للحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين، بل تريد أن تعطي نتنياهو الوقت الكافي لتحقيق أهداف الحرب التي أعلنها، وكل ما يحكى عن خلاف ما هو إلا مجرد حديث إعلامي يحتاجه بايدن في الداخل الأميركي، ولا يعوّل عليه.

 

2024/02/10

عودة الانخراط الاميركي في الشرق الاوسط: مَن المستفيد؟

 

في السنة الاولى لرئاسة جو بايدن، ناقش مسؤولو الادارة موضوع تخفيف الانخراط في الشرق الاوسط، وذلك لتحويل الاهتمام والموارد الى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لاحتواء التهديد المتزايد للصعود الصيني العالمي.

وبعد حرب أوكرانيا، وجد الاميركيون أن حلفاءهم في المنطقة، وخاصة الخليجيين، لم يلتزموا بالعقوبات على روسيا، وكانوا حذرين من الاستمرار في الاتكال على الولايات المتحدة في ضمان أمنهم، وكجزء من استراتيجية "التحوط الاستراتيجي"، كانوا منفتحين على البحث عن شراكات مع روسيا أو الصين. وعلى هذا الاساس، ردد الكثير من المسؤولين الاميركيين أن الولايات المتحدة لن تغادر المنطقة، وأكد العديد منهم، ومنهم الرئيس جو بايدن خلال زيارته للمنطقة، أن الولايات المتحدة باقية وهي ملتزمة بأمن حلفائها.

وفي ايلول/ سبتمبر من عام 2023، أوضح مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان الأهداف الإقليمية للإدارة؛ وهي خفض الضغط وتخفيف التصعيد ودمج دول المنطقة الحليفة للأميركيين في منطقة الشرق الأوسط في نهاية المطاف. وللقيام بذلك، ركزت الإدارة على ثلاثة مجالات سياسية: تعزيز التكامل الاقتصادي، احتواء إيران، وتشجيع التطبيع العربي الإسرائيلي.

وعلى هذا الأساس، اعتقدت الادارة الأميركية أن السلام والاستقرار يمكن أن يتحقق في المنطقة، عبر دمج اسرائيل والدول العربية في مشاريع اقتصادية، وعبر اتفاقيات تطبيع تشجع التعاون بينها. تجاهلت الادارة الأميركية الحالية والسابقة كلياً الموضوع الفلسطيني، وساد اعتقاد لدى العديد من السياسيين في الولايات المتحدة والمنطقة، أن السلام يمكن أن يتحقق بمعزل عن اعطاء الفلسطينيين حقوقهم.

لقد أثبتت حرب غزة الاخيرة، أن هذا التجاهل كان خاطئاً ومكلفاً أيضاً. لقد أدّت حرب غزة الى إعادة انخراط الاميركيين بقوة في الشرق الاوسط، وعطلت قدرتهم على التوجه نحو الصين لاحتوائها. بالاضافة الى أن الهدف الاميركي باحتواء ايران قد انقلب رأساً على عقب، وذلك بعدما أدّت حرب غزة الى تقارب عربي اسلامي، ولادانة واسعة للمجازر الاسرائيلية في غزة، والدعوة الى حل عادل للقضية الفلسطينية.

لقد راهن الاميركيون على أن التفاهم السعودي الايراني لن يعمّر طويلاً، ومؤحراً قال مسؤول البيت الأبيض، جون كيربي، أن السعودية منفتحة على التطبيع مع اسرائيل بغض النظر عن وقف النار في غزة وحقوق الفلسطينيين. لكن الردّ أتى واضحاً من وزارة الخارجية السعودية، ليجزم أن السعودية لن تقيم علاقات مع اسرائيل إلا بعد تحقيق الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وفي هذا الامر، عودة للسعودية الى مبادرة بيروت عام 2002، وهي التي كانت قد غضت النظر عنها خلال مشاورات التطبيع قبل حرب غزة.

وهكذا، تعود عقارب الساعة الى الوراء. ويجد الأميركيون أنفسهم معنيين بإعادة الانخراط العسكري والسياسي والدبلوماسي في المنطقة لحماية اسرائيل. فمن المستفيد من إعادة الانخراط الاميركي؟

1-  في البداية، لا شك أنها الصين:

منذ إدارة باراك أوباما، وبغض النظر عن الحزب السياسي الذي يحكم في البيت الأبيض، ينظر الأميركيون الى الصين على أنها منافس استراتيجي وتهديد للقوة والهيمنة الاميركية على العالم.

ويعتبر الاميركيون الصين المنافس الأساسي على المدى الطويل وتشكل تهديداً متعاظماً ومتسارعاً، كما  قالت وزارة الدفاع الأميركية. ولمنع الصينيين من السيطرة على صناعات التكنولوجيا الفائقة مثل تصنيع أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، شنّت الولايات المتحدة حربًا اقتصادية ضد الصين.

وعليه، إن الانخراط الأميركي في الشرق الاوسط، سوف يؤخّر توجههم نحو آسيا. وبالمقابل، إن أي تأخير إضافي في التحول الأميركي نحو شرق آسيا من شأنه أن يمنح الصين أفضلية في جوارها، وقدرة على توسيع نفوذها والمضي قدماً في مبادراتها العالمية "مبادرة الطريق والحزام".

2-  في المرتبة الثانية روسيا:

لإضعاف روسيا ومساعدة أوكرانيا على هزيمتها واستنزافها كانت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يخوضان حربًا بالوكالة ضد روسيا منذ شباط/ فبراير من عام 2022. وبالرغم من الدعم العسكري الغربي غير المحدود لم تكن الحرب تسير كما هو متوقع لها، وفشل الهجوم الأوكراني في الصيف (2023) في تحقيق تقدم عسكري.

وبالرغم من أن الاميركيين والاوروبيين مستمرين في دعمهم لاوكرانيا، إلا أن تحويل الاهتمام العالمي من أوكرانيا الى فلسطين، سوف يسمح للروس باستمرار عمليتهم العسكرية بهدوء، بالاضافة الى أن المقارنة بين القضيتين يكشف زيف الادعاءات الغربية حول حقوق الشعوب، ويكشف ازدواجية المعايير الغربية، وهذا يفيد الروس بلا شكّ.


2024/02/01

الصراع في البحر الأحمر: السعي لـ "الهيمنة العالمية"


في وقت تستمر فيه عمليات التحالف الاميركي في البحر الأحمر، أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن مهمة مماثلة ولكن مستقلة للاتحاد الأوروبي اطلق عليها اسم  "أسبايرز"، مهمتها "حماية السفن في البحر الأحمر"،  كما قال بدون تحديد الدولة الاوروبية التي ستقود تلك العملية.

واللافت في هذه المهام العسكرية البحرية، قيام الاميركيين والاوروبيين بمهام بحرية عسكرية في البحر الأحمر، لمواجهة جماعة "انصار الله" الحوثية التي قالت أنها ستفرض حظراً على السفن المتجهة لاسرائيل أو التي يملكها اسرائيليون، بهدف وقف الحرب الاسرائيلية على غزة،  علماً أنه كان من الاجدى أن يعالج الاميركيون والاوروبيون سبب المشكلة وجذورها لا نتائجها.

واقعياً، ترتبط العمليات البحرية في البحر الأحمر الى حدٍ بعيد بالسيطرة على ممرات وطرق الملاحة الاستراتيجية، لانها تشكّل المفتاح الأساسي للسيطرة العالمية. علماً أن التاريخ العالمي يشير الى السيطرة على البحار والطرق الملاحية كانت سبباً رئيسياً في هيمنة بريطانيا على العالم وسبباً في نجاح ما يسمى  "السلام البريطاني Pax Britannica".

كان يُنظر إلى "السلام البريطاني" (1815-1914)، أو قرن "السلام الأوروبي"، حيث بلغت بريطانيا ذروتها كقوة مهيمنة، على أنه دليل على أن لعب دور "الموازن من خارج الصراع"  يمكن أن يكون استراتيجية كبرى ممتازة لقوة مهيمنة.

أما الامور التي ساهمت في ارساء "السلام البريطاني" أو الهيمنة البريطانية على العالم فهي:

1. الانتصار في الحروب ضد نابليون.

2. قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة لتحقيق مكانة القوة العظمى.

3. تفوق بحري وتكنولوجيا عالية وقوات برية هائلة للمساهمة في توازن القوى الأوروبي.

4. الاعتراف العالمي بوضع بريطانيا كقوة عظمى.

وتشير الدراسات الى إن قدرة بريطانيا على بناء إمبراطورية عالمية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت ممكنة بفضل تفوقها البحري. خلال تلك الفترة، اعتمدت السياسة الخارجية البريطانية بشكل كبير على ما يسمى استراتيجية "حكم الأمواج"، وهي استراتيجية تستلزم تطوير أسطول قوي للدفاع عن المصالح البريطانية على مستوى العالم، وخاصة مستعمراتها وخطوطها التجارية، بالاضافة الى قيام البحرية الملكية بالتحكم والسيطرة على الطرق المائية الاستراتيجية لدعم المصالح البريطانية. وعليه، باتت بريطانيا قادرة على فرض شروطها في جميع أنحاء العالم  وهو أمر ضروري للحفاظ على هيمنتها ونفوذها في العالم.

 

وبنفس التصور، إن انتشار الولايات المتحدة العسكري في مياه الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية، خاصة في الخليج وباب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والمحيط الهندي، مدفوع باهتمامها بالحفاظ على طرق التجارة البحرية وحرية الملاحة، يشي بمحاولتها السعي الى ممارسة نفوذ عالمي شبيه بنفوذ بريطانيا العظمى خلال فترة "السلام البريطاني".

لكن الفارق بين السلام البريطاني، ومحاولة الولايات المتحدة فرض نموذج مشابه بعنوان "السلام الأميركي"، يتجلى في الانخراط الاميركي المكلف عسكرياً في العالم ومحاولة السيطرة على العالم عبر المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى في النظام، وهو ما لم تفعله بريطانيا خلال فترات سيطرتها التي أدركت كلفة الانخراط العسكري المكلف وتوسعه.

وتذكر الدراسات التاريخية أنه حتى خلال الحروب النابليونية، وعندما اضطرت بريطانيا إلى مواجهة وكبح جماح الصعود المحتمل لقوى أوروبية عظمى أخرى، حافظت على استراتيجية "الانعزال" التي ساعدتها في الحفاظ على نفوذها. وقد لخص نايجل جونز، أحد المؤرخين المهمين في هذا الاطار، الاستراتيجية البريطانية الكبرى في القرن التاسع عشر قائلاً إن "بريطانيا، التي كانت تحكم أمواج العالم، كانت راضية بأن تهتم بشؤونها على هامش أوروبا، وتركّز جهودها واهتمامها على الثراء والبحبوحة ودعم الصناعة الفيكتورية، فاتسعت إمبراطوريتها حتى حكمت ربع الكرة الأرضية" في حين كان الأوروبيون مشغولون بالاقتتال وتوازن القوى فيما بينهم.

وهكذا، وخلال القرن التاسع عشر، لم تكن الهيمنة البريطانية مبنية على استراتيجية «توازن القوى» التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تطبقها اليوم، فتقوم بمحاولة منع أي قوة من الظهور على المسرح العالمي، بل استفاد البريطانيون من السلام الذي تحقق نتيجة لتسويات «الوفاق الأوروبي» عام 1815، ولعبوا دور "الراكب بالمجان  free rider على حساب الدول الاوروبية الأخرى. وهكذا استفاد البريطانيون ووسعوا نفوذهم وصناعتهم ونعموا بالبحبوحة على حساب الدول الأخرى التي اقتتلت مع بعضها وعانت من تكاليف الحروب.

في النتيجة، ان الاستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن، والتي سعت الى الانخراط في صراع بالوكالة مع الروس، واندفعت الى احتواء الصين عبر تأسيس تحالفات في محيطها الجغرافي، وتطويقها بقواعد عسكرية، بالاضافة الى الانخراط المكلف في الشرق الاوسط للدفاع عن اسرائيل وترسيخها كقاعدة غربية متقدمة للهيمنة الغربية ومحاولة "السيطرة على الأمواج" بالقوة العسكرية.. كل هذه الامور تجعل من قدرة الأميركيين على فرض نمط امبراطوري شبيه بالامبراطورية البريطانية، وفرض "السلام الأميركي Pax Americana والسيطرة العالمية أصعب لأن الانخراط  العسكري مكلف ويحتّم مواجهة مقابلة ستكون تكاليفها كبيرة أيضاً على الأميركيين والعالم.