2022/12/27

الدبلوماسية الرياضية: وداعاً للعالم القديم

تطورت آليات الدبلوماسية الحديثة، ودخل اليها عناصر عدّة بفعل العولمة والتطور التقني والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل، وخروج الحيّز السياسي من هيمنة النخب الى مساحة الشعوب والأفراد على مستوى العالم. وفي هذا الإطار، دخلت الرياضة الى معترك العلاقات الدبلوماسية وباتت جزءاً من الدبلوماسية العامة، وفرعها: الدبلوماسية الرياضية.

تعريف الدبلوماسية الرياضية في العلاقات الدولية يشير الى استخدام الظواهر الرياضية في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، ولتحقيق أهداف الدول على اعتبار ان الرياضة ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود اللغوية والوطنية والثقافية، ما يسهّل التواصل بين الشعوب والثقافات المختلفة أو التسويق لأفكار ومعتقدات. ولأهمية هذا الأمر، أنشأت الولايات المتحدة الأميركية قسم الدبلوماسية الرياضية في وزارة الخارجية في أعقاب أحداث 11  أيلول / سبتمبر 2001،  كوسيلة للوصول إلى الشباب في الشرق الأوسط من خلال كرة القدم، ثم توسع نطاق هذا القسم تدريجياً ليشمل جميع  مناطق العالم ومجموعة كاملة من الرياضات.

تاريخياً، شكّلت الرياضة أداة دبلوماسية منذ الألعاب الأولمبية في اليونان القديمة، وتمّ استخدام الألعاب الأولمبية لتحسين صورة بلد ما في الخارج أو لتحسين العلاقات بين الدول المتحاربة. وخلال الحرب الباردة وقبلها، كانت الرياضة عاملاً هاماً في العلاقات الدولية، تستخدمها الدولة في سياساتها الخارجية أو ضمن محاولاتها اكتساب الشرعية الداخلية والخارجية كما فعل هتلر خلال أولمبياد برلين عام 1936.

وقد تطورت الدبلوماسية الرياضية، وتباينت أساليبها منذ الحرب الباردة وما بعدها وذلك على الشكل التالي:

أولاً: الدبلوماسية الرياضية خلال الحرب الباردة:

أ‌-     دبلوماسية كرة الطاولة:

خلال الحرب الباردة ، تم استخدام الأحداث الرياضية الثنائية بشكل متكرر لزيادة التواصل بين الدول المعادية. مباراة كرة الطاولة، على سبيل المثال، بين الصين والولايات المتحدة سمحت للدولتين في منتصف الحرب الباردة باستئناف الحوار وكسر الجليد بينهما. الامر الذي مهّد لزيارة تاريخية قام بها الرئيس الأميركي ريشارد نيكسون الى الصين، مما أدى إلى تحسن العلاقات الثنائية بين البلدين في العقود القادمة.

ب‌- دبلوماسية لعبة "كريكيت":

عام 1987، قرر رئيس باكستان آنذاك الجنرال ضياء الحق حضور مباراة كريكيت بين الهند وباكستان في جايبو، حيث رافقه 68 مسؤولاً حكومياً وأفراد عائلته، وهي زيارة أدّت الى تهدئة التوترات التي كانت قائمة بين الدولتين في ذلك الحين.

ت‌- حرب كرة القدم:

هي حرب حصلت بين السلفادور وهندوراس واستمرت 100 ساعة قبل التدخل الدولي الذي أوقفها. كانت لعبة "كرة القدم" الشرارة التي أشعلت الحرب، على الرغم من أن جذور المشكلة أعمق بكثير.

في بداية القرن العشرين، بدأ سكان السلفادور بالهجرة بأعداد كبيرة إلى هندوراس بسبب الضائقة الاقتصادية. وبحلول عام 1969، كان أكثر من 300000 سلفادوري يعيشون في هندوراس، ويشكّلون 20 في المائة من سكان هندوراس، الأمر الذي أدّى الى تشنج العلاقات بين البلدين.

تحضيراً لكأس العالم لكرة القدم عام 1970، كان من المقرر أن تلعب هندوراس والسلفادور ثلاث مباريات تأهيلية في  حزيران / يونيو 1969 بعد الانتهاء من صدارة مجموعتهما. حصلت اشتباكات واستفزازات عنيفة بين مشجعي الفريقين خلال المباريات وحصلت عمليات قتل وتهجير بين الطرفين.

 وفي المباراة الثالثة الفاصلة في مكسيكو، ربحت السلفادور المباراة، لكنها قامت بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع هندوراس، وادّعت إنه في الأيام العشرة التي تلت المباراة السابقة التي ربحت فيها السلفادور، أُجبر عشرات الألاف من السلفادور على الفرار من هندوراس وأتهمت هندوراس بالابادة الجماعية، وشنّ الجيش السلفادوري حملة عسكرية ضد هندوراس.

 

ثانياً: ما بعد العولمة: الرياضة في خدمة السياسة

سلطت الألعاب الأولمبية الشتوية التي حصلت في روسيا عام 2014 الضوء على استخدام الأحداث الرياضية في البروباغندا وحملة العلاقات العامة والتسويق السياسي.

بينما استخدمت روسيا تلك الألعاب الشتوية ومونديال عام 2018،  لتظهر الأهمية السياسية والسياحية للبلد، قاطع العديد من رؤساء الدول الغربية دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي احتجاجًا على ما سموه انتهاكات الحقوق المدنية ضد مجتمع المثليين في روسيا، وضمّ القرم. وبالمثل، بعد الحرب الأوكرانية هذا العام، تمّ منع الفرق الروسية من المشاركة في مباريات رياضية عالمية، وطرد العديد من اللاعبين الروس وحرمانهم من حق المشاركة.

ومؤخراً، تعرضت قطر بعد استضافتها المونديال للعديد من الانتقادات والحملات الأعلامية الغربية التي دعت الى مقاطعة المبارايات بسبب ما تم الادعاء بأنه إجحاف قطر بحقوق العمال، وتهم بالفساد والرشوة للحصول على حق استضافة المونديال، والتضييق على المثليين، وغير ذلك. وكانت التصريحات الإلمانية غير الدبلوماسية مثيرة للدهشة، حيث قالت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر إنه "من الأفضل عدم منح شرف تنظيم البطولات لدول كهذه".

وبعد انتهاء المونديال، شنّت حملة عنيفة غربية عنصرية ضد قيام لاعب كرة القدم الارجنتيني ليونيل ميسي بإرتداء "البشت" العربي، خلال الاحتفال بتتويج الارجنتين بطل العالم لكرة القدم لعام 2022، بالرغم من ان المشجعين الأرجنتيين رحبوا بتلك الصورة معتبرين أنها عبارة عن التكريم وليست مسيئة أبداً.

وهكذا، دخلت الرياضة اليوم الى السياسة من بابها الواسع، وباتت المباريات الرياضية مناسبة لتسويق الايديولوجيات السياسية وللاستخدام في الحرب الناعمة، وفي تشويه صورة الخصم، وللاستخدام في فرض نمط ثقافي شمولي واحد على العالم، والترويج لقيم ثقافية معينة باعتبارها النمط الذي يجب أن تسير به الدول وإلا اعتبرت متخلفة وخارج ركب الحضارة الإنسانية (الغربية).

لكن، نجاح قطر في استضافة المونديال، والإشادات الدولية بمستوى التنظيم والحشد سيدفع العالم الى تغيير النظرة القديمة حول تقسيم العالم، وسيدفع لاستخدام الدبلوماسية الرياضية لإبراز التنوع الحضاري، ولتكريس حق الشعوب في الاختلاف الفكري والعقائدي والثقافي مع دول الغرب. 

2022/12/26

متى تأتي التسوية اللبنانية وكيف؟

ليلى نقولا

أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مبادرات سيطلقها بشأن لبنان في الأسابيع المقبلة، ودان الطبقة السياسية اللبنانية التي تحارب التغيير، وقال أنه يريد المساهمة في إيجاد حل سياسي عبر إقامة مشاريع ملموسة وفي الوقت نفسه «عدم التساهل» مع الطبقة السياسية، بالرغم من أنه نفى إمكانية عقد مؤتمر دولي حول لبنان.

يؤكد نفي الرئيس ماكرون إمكانية عقد مؤتمر دولي، ما كان السفير السعودي في لبنان وليد البخاري قد اعلنه في مؤتمر الطائف من ان فرنسا أكدت للسعوديين أنها لن تسعى لعقد مؤتمر حول لبنان، وأن لا نيّة أو طرح لتغيير اتفاق الطائف. لكن هل فعلاً يمكن لماكرون أن يحقق أي اختراق في جدار الأزمة اللبنانية الحالية؟

من الصعب أن يحقق ماكرون بمفرده أي اختراق في جدار المراوحة اللبنانية، لأنه لا يملك مفاتيح الأزمة بل إن مفاتيحها في مكان آخر، وهذا ما برهنته الخبرة والتجربة مع الفرنسيين، وخاصة الرئيس ماكرون الذي وعد اللبنانيين بمبادرة إنقاذية بعد انفجار بيروت في 4 آب / أغسطس 2020، لكنه لم يستطع خرق جدار الضغوط القصوى التي فرضها ترامب على اللبنانيين، ولم يستطع فرض عقوبات أوروبية على السياسيين اللبنانيين كما هدد في وقت سابق.

واقعياً، إن الأطراف التي تمتلك مفاتيح حلّ الأزمة اللبنانية لا تبدو مستعجلة على الحلَ، علماً أن لا شيء يمنع من أن يحصل في لبنان، "تسوية موضعية" تشبه الى حدٍ بعيد التسوية التي حصلت في العراق، حيث تقاسم أطراف الأزمة النفوذ، برئيس جمهورية حليف لمحور، ورئيس حكومة يختاره المحور المقابل.

لكن بالمقارنة مع العراق، وإذا كان التشابه الدائم بين لبنان والعراق يجعل من الحالتين قابلتين للمقارنة والقياس، يمكن أن نشير الى أن التسوية العراقية سبقها توتر أمني وسياسي ومظاهرات شعبية لأنصار مقتدى الصدر قامت بالتوجه الى المنطقة الخضراء واقتحامها، ما كاد يتسبب بانفجار أمني وفتنة خطيرة، لولا ضبط النفس الذي مارسه الأفرقاء. بالنتيجة، أدّى استفحال الأزمة في الشارع الى تسوية سياسية أنهت التعطيل السياسي السابق.

وإذا نظرنا الى حالات الفراغ اللبنانية السابقة، نجد أنه بعد انتهاء عهد الرئيس إميل لحود، ودخول لبنان الفراغ الرئاسي، أدّت الاشتباكات الداخلية في لبنان في أيار/ مايو 2008، الى "تسوية الدوحة" التي أنهت الفراغ الرئاسي حينها وانتخاب الرئيس ميشال سليمان، بينما أدّت التطورات في الاقليم، وخاصة سقوط حلب الى إنهاء حالة الشغور الرئاسي الثانية في لبنان عام 2016، وقبول الأطراف بالتوصل الى تسوية، وانتخاب الرئيس ميشال عون.

وعليه، يبدو أن لبنان سيكون في مرحلة من الشغور الرئاسي الطويل، إلا إذا حصلت تطورات اقليمية بارزة دفعت الأطراف الى القبول أو التفاهم على تسوية في لبنان، أو حصل انفجار اجتماعي اقتصادي في الداخل، أدى الى مظاهرات أو خضّات أمنية خطيرة (على سبيل المثال لا الحصر)، دفعت الأطراف المعنية الى الجلوس للبحث في صيغة تسوية معينة، تؤدي الى تقاسم النفوذ بين المحورين المتصارعين في المنطقة، فيكون رئيس الجمهورية محسوباً على محور، بينما رئاسة الحكومة للمحور المقابل، وتنتهي معها فترة الشغور الرئاسي والحكومي الحالية.

للأسف، إن قدر لبنان واللبنانيين أن يكون بلدهم عرضة لتدخلات سياسية خارجية تؤدي الى تسويات أو تعطيل للحياة السياسية في الداخل... إنها لعنة الجغرافيا، والطبقة السياسية التي تدين بوصولها الى الخارج منذ العثمانيين ولغاية اليوم.

2022/12/21

حصار ناغورنو كاراباخ: ضريبة الحرب الأوكرانية

بذرائع بيئية واهية، وبسبب ما قالوا إنه استخراج غير شرعي للمعادن يقوم به الأرمن في المنطقة، قام متظاهرون أذريون في 12 كانون الأول/ديسمبر بقطع ممر لاتشين؛ الطريق الوحيد الذي يربط ناغورنو كاراباخ بأرمينيا، الأمر الذي أدى إلى عزل سكان الإقليم عن العالم، وقطع الإمدادات الحيوية والغذائية عن الإقليم، وكاد يتسبب بكارثة إنسانية، وخصوصاً بعدما قامت أذربيجان في اليوم التالي بقطع إمدادات الغاز عن منطقة ناغورنو كاراباخ الخاضعة للسيطرة الأرمينية.

وضربت أذربيجان بعرض الحائط كلّ الاعتبارات الإنسانية، وصمّت آذانها عن المناشدات العالمية التي دعتها إلى فكّ حصارها عن الإقليم، والتي تتخوف من حصول كارثة إنسانية، إذ قال البابا فرنسيس إنه "قلق بشكل خاص بشأن الظروف الإنسانية الهشة التي يعيشها السكان، والتي قد تتدهور خلال الشتاء"، ودعا "جميع الأطراف إلى الالتزام بإيجاد حلول سلمية لما فيه خير الشعب"، وحذّر الأميركيون من أن إغلاق ممر لاتشين له "عواقب إنسانية خطرة"، و"يقوض عملية السلام الهشة" بين البلدين.

وعلى الرغم من أنَّ الاتفاقية الثلاثية (روسيا - أذربيجان – أرمينيا) الموقعة في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، والتي وضعت حداً لحرب كاراباخ الثانية، تنصّ على أن "تضمن أذربيجان السفر الآمن على طول ممر لاتشين في كلا الاتجاهين للمدنيين ووسائل النقل والبضائع"، فإنَّ الأذريين اليوم يفرضون حصاراً على الأرمن في ناغورنو كاراباخ، متذرعين بأنَّ الاتفاقية انتهكت مرات عدة، وأن الأرمن يتسبّبون بأضرار بيئية للأراضي التي سيعيد الأذريون توطينها قريباً من خلال الاستمرار في تشغيل مناجم المعادن الملوثة في أجزاء من ناغورنو كاراباخ التي لا يزال الأرمن يسيطرون عليها.

اليوم، يدفع الأرمن في إقليم آرتساخ (التسمية الأرمنية للإقليم) أو ناغورنو كاراباخ ضريبة مزدوجة، فإضافةً إلى الهزيمة التي مُنيت بها القوات الأرمينية عام 2020، ما اضطرها إلى القبول بشروط مجحفة لوقف إطلاق النار والتخلي عن العديد من الأراضي، حتى ضمن أراضي أرمينيا، فإنّ الأرمن يدفعون أيضاً ثمن التطوّرات التي استجدت بعد الحرب في أوكرانيا.

منذ انتهاء الحرب بين الطرفين عام 2020، تستمرّ أذربيجان في محاولات تغيير الخرائط في منطقة القوقاز وتهديد الأمن القومي لكلٍّ من أرمينيا وإيران، ويستغل الأذريون الصراع في أوكرانيا للاستفادة من انشغال الروس بالنزاع الأوكراني لقضم المزيد من الجغرافيا في ناغورنو كاراباخ، ومحاولة قطع الممر الذي يربط أرمينيا بإيران، ما يجعل أرمينيا دولة معزولة محاطة بالأعداء من كل صوب، ويغيّر موازين القوى على الحدود مع إيران.

يعتمد الروس في الوقت الراهن على إدارة النزاع ودبلوماسية الهاتف والتواصل بين الرؤساء ومحاولة مسك العصا من الوسط، لكن أذربيجان التي تعيش وهم فائض قوة عسكري وسياسي في المنطقة تراهن على أن تكسب في القوقاز نتيجة النزاع المتطور في أوكرانيا، لتحصل من جنود السّلام الروس على تنازلات لمصلحتها في المنطقة، وتراهن أيضاً على التسبب بكارثة إنسانية وغذائية وصحية في منطقة جبلية تغمرها الثلوج، ما يدفع سكان الإقليم الأرمن إلى هجرة نهائية من هناك بسبب صعوبة العيش، فتسيطر على الأرض بعد أن يهجرها أهلها.

لا شكّ في أن سكان ناغورنو كاراباخ في وضع لا يحسدون عليه، فمن غير المتوقع أن يقوم الروس بفك الحصار عن الإقليم وفتح الطريق في ممر لاتشين بالقوة، لأنَّ ذلك سوف يقوّض العلاقات مع أذربيجان، وهو ما لا تريده موسكو التي ترتبط بمصالح إستراتيجية مع أذربيجان. 

في المقابل، تدرك باكو أنَّ الأوروبيين يحتاجون إلى تأمين مصادر للغاز بديلاً من الغاز الروسي، ما يعطيها رافعة جيوبوليتيكية وسياسية. لذا، من غير المتوقع أن يضغط الاتحاد الأوروبي على أذربيجان لوقف حصارها والعودة إلى الترتيبات السابقة.

واقعياً، تزداد جرأة أذربيجان بشكل متزايد بسبب سكوت الروس وتجاهلهم ما يقوم بها الأذريون في الإقليم وعدم رغبتهم في التصعيد، إذ تصف وسائل الإعلام الأذرية الموالية للحكومة في البلاد قوات حفظ السلام الروسية بـ"قوات احتلال"، وتحمّلها المسؤولية عما تسميه "تفلّت الأمور في المناطق التي يسيطر عليها الأرمن"، ومحاولة تأليب السكان على قوات حفظ السلام الروس لطردهم من المنطقة، وذلك بإلقاء اللوم في قطع الطريق على تلك القوات حيناً، وأحياناً أخرى اتهامهم بأنهم "أرمن مقنّعون". 

وتراهن باكو على رغبة الأوروبيين في الاستفادة من التطورات لنشر "قوات حفظ سلام أوروبية طويلة الأمد في أرمينيا للمساعدة في إحلال السلام الدائم في جنوب القوقاز"، كما أعلن مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والخارجية، جوزيب بوريل، وذلك بهدف تعزيز حضور الاتحاد الأوروبي في جنوب القوقاز ومنافسة الروس في محيطهم الجغرافي.

 

2022/12/19

التسوية الشاملة مؤجلة: هل تكفي التسويات الموضعية؟

لم تظهر مفاعيل اتفاق الترسيم البحري الذي استبشر به اللبنانيون خيراً، والذي تمّ توقيعه عبر مفاوضات غير مباشرة بين لبنان "واسرائيل"، والذي أعطى لبنان القدرة على التنقيب في مياهه ورفع الفيتو الذي كان الأميركيون قد وضعوه من ضمن الضغوطات القصوى التي مارسوها على لبنان.

عملياً، يعتبر إتفاق الترسيم البحري تسوية موضعية، لا يتوقع أن تخرج لبنان كلياً من عنق الزجاجة الذي وُضع فيه، ولكنها ستؤدي الى بدء الثقة بحصول الدولة اللبنانية على مداخيل بما يؤدي الى القدرة على التفاوض مع الدائنين وصندوق النقد الدولي حين تظهر إرادة دولية لذلك.

والآن، وفي خضّم الفراغ الرئاسي والحكومي، يحتاج لبنان بشدّة الى أمرين: قراءة واضحة ودقيقة لأسباب الانهيار، ثم تصوّر لحلول جذرية.

-      أسباب الأنهيار:

لا شكّ تتباين نظرة اللبنانيين حول أسباب الأنهيار الذي حصل، وذلك بحسب الجهة السياسية التي ينتمون إليها، والتي تبرر أو توصف الانهيار بحسب مصالحها أو إيديولوجيتها السياسية.

يندفع البعض لتحميل الأميركيين كامل المسؤولية عن الانهيار الشامل الذي حصل، لكن- وإن كان الأميركيون يتحملون مسؤولية في الضغوط الاقتصادية الكبرى التي مارسوها وفي الغطاء السياسي الذي أمنوه لحلفائهم ولحاكم البنك المركزي- إلا أن هذا لا يعني أن يتم التذرع بالضغط الأميركي لتبرئة الطبقة السياسية اللبنانية من الذنوب والخطايا التي ارتكبتها.

إن المساهمة الأميركية في الانهيار اللبناني لا يجب أن تطمس الحقيقة عن الفساد المنظّم والممنهج  والسرقات الضخمة التي ارتكبتها الطبقة السياسية اللبنانية منذ الطائف ولغاية اليوم،  وتعطيل المؤسسات، وغياب الرقابة والمساءلة، بالاضافة الى السياسات الاقتصادية وتثبيت سعر صرف الليرة، وضرب أسس الاقتصاد المنتج لصالح الاقتصاد الريعي، والهندسات المالية التي قام بها رياض سلامة والتي أغدق فيها أموال الناس على البنوك، في وقت كان يتذرع بعدم قدرة البنك المركزي على دعم القروض السكنية وغيرها... الى أن تمّ تتويجها بإنقلاب 17 تشرين الأول 2019، وإقفال البنوك وتهريب الأموال الى الخارج في أكبر سرقة منظمة في التاريخ الحديث.

-      الحلّول:

بما أن الإنهيار مردّه الى عوامل مركّبة داخلية وخارجية، فلبنان يحتاج الى حلّ متعدد الوجوه، ولا يكفي أن يكون هناك تسوية إقليمية -داخلية تهندسها الولايات المتحدة، وتؤدي الى إعادة سير الحياة السياسية وانتخاب رئيس جمهورية وحكومة كاملة الصلاحيات، بدون معالجة حقيقية لمسار الأمور في الداخل، وتأمين حدّ أدنى من المحاسبة والمساءلة، وتوقف النهب المنظّم لخزينة الدولة.

الواضح من مسار التطورات الدولية ان التسوية الشاملة في المنطقة مؤجلة، والاتجاه الدولي وخاصة الأميركي هو الى تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط وليس الذهاب الى تسويات كبرى، لذا، فإن أي تسوية موضعية في لبنان تؤدي الى انتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية والتوافق على أسم رئيس الحكومة وشكلها، بدون الاتفاق على مسار لمكافحة الفساد ومحاسبة البنوك والتخلص من رياض سلامة، والاستمرار بالتدقيق الجنائي الخ.. أي تسوية سياسية بدون تلك الاجراءات وبدون اي اتفاق على مسار الإصلاح، يعني أن الطبقة السياسية استطاعت أن تؤمّن لنفسها  ولأركان الدولة العميقة عفواً "واقعياً de facto  " عن كل الجرائم المالية التي قامت بها، وبالتالي استطاعت أن تفلت من العقاب مرة أخرى كما فعلت في بداية التسعينات من القرن الماضي، عبر إقرار  العفو العام الجنائي الذي حصل في تسوية  ما بعد الحرب الاهلية. 

2022/12/15

مأساة نساء غرينلاند: "إبادة جماعية" شاهدة على عنصرية لا تنتهي

تفاعلت إعلامياً الحملة التي تقوم بها مجموعة من سيدات غرينلاند لمطالبة السلطات الدنماركية بتحقيق شفاف فيما قامت به سلطات الدنمارك على مدى عقود (منذ الحرب العالمية الثانية) من انتهاك لحقوقهن وإخضاعهن لعمليات قسرية تستهدف منعهن من الحمل من دون علمهن أو علم أهاليهن.

وطالب العديد من منظمات حقوق الإنسان وبرلمان غرينلاند بإجراء تحقيقات واسعة في الحملة التي قامت بها الدنمارك على مدى عقود، واستهدفت منع النساء في غرينلاند من الإنجاب. واتفقت الحكومتان في الدنمارك وغرينلاند على بدء تحقيق لمدة عامين، يسعى لتوثيق خلفية حملة تحديد النسل وتنفيذها وأسباب إطلاقها واستمرارها، ولتوثيق برامج أخرى للتحكّم في الخصوبة حتى عام 1991، على الرغم من أن أهالي المدينة يرون أن الحملة استمرت إلى ما بعد عام 1991.

هذه القضية أعادت التذكير بقضيّة سابقة كشفت قيام الحكومة الدنماركية ببرنامج تجريبي على الأطفال في غرينلاند عام 1951، بحيث تمّ نقل 22 طفلاً من أطفال الإنويت في غرينلاند إلى أسر حاضنة دنماركية، في محاولة لإعادة تعليمهم على أنهم "دنماركيون صغار"، ليصبحوا فيما بعد الطبقة التي ستحكم غرينلاند في المستقبل وللمساهمة في "تمدين" سكانها وإخراجهم من "التخلف".

وفي حين كان من المفترض أن يكون جميع الأطفال أيتاماً، فإنَّ التحقيقات كشفت أن 6 منهم فقط كانوا أيتاماً، فيما تمّ نزع الأطفال الآخرين من أسرهم عنوةً. وقد عانى الأطفال عزلة ثقافية واسعة النطاق واغتراباً اجتماعياً، وتعرّض نصفهم لاضطرابات نفسية وإدمان ورغبة في الانتحار طيلة حياتهم، ومات نصفهم في بداية سن الرشد. 

وقد اعتذرت حكومة الدنمارك رسمياً عام 2020، بعد سنوات من رفض المسؤولين الدنماركيين ومطالبة المسؤولين في غرينلاند بذلك.

قانونياً، وبالاستناد إلى تشريعات القانون الدولي، وخصوصاً نظام روما الأساسي (نظام المحكمة الجنائية الدولية)، فإن ما قامت به الدنمارك هو "جريمة إبادة جماعية". وتنصّ المادة 6 من نظام روما الأساسي على أن "الإبادة الجماعية" تعني ارتكاب أيّ فعل من الأفعال التالية بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه إهلاكاً كلياً أو جزئياً:

أ)- قتل أفراد الجماعة.

ب)- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفرادها.

ج)- إخضاعها عمداً لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كلياً أو جزئياً.

د)- فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخلها.

هـ)- نقل أطفالها عنوةً إلى جماعة أخرى.

إنَّ ما ظهر من الممارسات الدنماركية الاستعمارية في غرينلاند، وخصوصاً موضوع فرض تدابير على النساء تمنعهنّ من الإنجاب، يعد جريمة إبادة جماعية، وأركانها كما يلي:

1- أن يفرض مرتكب الجريمة تدابير معيّنة على شخص أو أكثر.

2- أن يكون الشخص أو الأشخاص منتمين إلى جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية معينة.

3- أن ينوي مرتكب الجريمة إهلاك تلك الجماعة القومية أو الإثنية أو العرقية أو الدينية، كلياً أو جزئياً، بصفتها تلك.

4- أن يُقصد بالتدابير المفروضة منع الإنجاب داخل تلك الجماعة.

5- أن يصدر هذا السلوك في سياق نمط سلوك مماثل واضح موجّه ضد تلك الجماعة، أو أن يكون من شأنه أن يحدث بحد ذاته ذلك الإهلاك.

في النتيجة، قد لا يطالب برلمان غرينلاند إلا بمعرفة الحقيقة والاعتذار، إلا أنَّ هذه الإبادة الجماعية لسكان المدينة ومحاولات "تمدينهم" وإخراجهم من "التخلف"، تشير إلى عنصرية راسخة ومتجذرة، سببها عقدة التفوق لدى الشعوب الغربية "البيضاء" بشكل عام، والأوروبية بشكل خاص.


لبنان: هل انتهت مفاعيل تفاهم مار مخايل؟

لا شكّ أن الازمة الأخيرة التي طغت على علاقة التيار الوطني الحر وحزب الله، كانت الأخطر في علاقة الطرفين التحالفية الممتدة منذ أكثر من 16 عاماً وبالتحديد منذ 6 شباط / فبراير 2006، حين قام كل من أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ورئيس التيار الوطني الحر آنذاك العماد كيشال عون بتوقيع اتفاق تاريخي سمي "تفاهم مار مخايل" نسبة الى الكنيسة التي تمّ فيها توقيع الاتفاق في ضاحية بيروت الجنوبية.

وبغض النظر عن الأسباب الفعلية التي دفعت الطرفين الى تبادل الاتهامات والبيانات علناً، لم تٌفهم لغاية الآن الاسباب الفعلية التي دفعت حزب الله لدعم قيام الرئيس نجيب الميقاتي بعقد جلسة لمجلس الوزراء وحضورها بدون إفساح بالمجال أو دعوة للتشاور حولها، بالرغم من رفض القوى المسيحية لها، فبالاضافة الى حليفه التيار الوطني الحر التي اعتُبر مقصوداً حصراً بها،  لقد تم رفضها من قبل البطريرك الماروني بشارة الراعي، ومطران بيروت للروم الارثوذكس الياس عودة، والقوات اللبنانية وآخرون.

فهل انتهت مفاعيل تفاهم مار مخايل فعلاً؟

مباشرة بعد توقيع تفاهم مارمخايل، الذي تضمن التفاهم 10 بنود، تتعلق بالمواضيع اللبنانية الداخلية منها الحوار والديمقراطية التوافقية، وبناء الدولة والعلاقات اللبنانية السورية واللبنانية الفلسطينية، وحماية لبنان الخ.. تعرّض التفاهم لانتقادات واسعة حيث اعتبره البعض غطاء مسيحي لسلاح حزب الله، والبعض الآخر اعتبره تحالف الاقليات.

ولا شكّ أن التفاهم تعرّض لضغوط كبرى منذ اللحظات الاولى لتوقيعه، وخاض أطرافه العديد من الاختبارات والمصاعب وحققوا الانجازات، ونذكر منها ما يلي:

-      الاختبارات الأولى:

كانت حرب تموز 2006 الاختبار الأول للتفاهم الفتي، والتي  كان من الممكن أن تطيح به لكنه صمد. وأدّى قيام التيار الوطني الحر بدعم المقاومة سياسياً واستقبال المهجرّين اللبنانيين من الجنوب، عاملاً مساهماً في تعميق التفاهم وانسحابه على القواعد الشعبية بدل بقائه تفاهماً نخبوياً فوقياً.

أما الاختبار الثاني، فكان على أثر أحداث 7 أيار 2008، وتسوية الدوحة التي أتت بميشال سليمان رئيساً للجمهورية بموافقة حزب الله الذي كان منتصراً عسكرياً آنذاك. اعتقد كثيرون أن طموح ميشال عون الرئاسي وعدم إصرار حليفه على تبوئه سدة الرئاسة حينها، يجب أن ينهي التفاهم، لكنه لم ينتهِ بل صمد واستمر عميقاً حتى خلال الحرب في سوريا والتي انخرط فيها حزب الله عسكرياً.

-      إنجازات للبنان:

كان من المفترض أن تؤدي مساهمة حزب الله في إيصال ميشال عون الى سدّة الرئاسة الحافز الأكبر لازدهار وتعميق شراكة مار مخايل.

 بالفعل، كان العام الاول للعهد (عام 2017) مفصلياً، حيث ساهم التحالف والثقة بين الطرفين الى الانتهاء من الخطر الارهابي الذي تهدد لبنان، وبالفعل أدّى توافق السلطة السياسية والجيش والمقاومة الى إنهاء أكبر خطر أمني تهدد اللبنانيين منذ بدء الحرب السورية والذي تمدد الى لبنان فأمعن باللبنانيين قتلاً عبر ظاهرة الانتحاريين التي لم يعرفها لبنان من قبل.

أما الانجاز الثاني الذي يُحسب للتفاهم فهو موضوع ترسيم الحدود البحرية الجنوبية والتفاوض مع اسرائيل التي أدارها الطرفان بدقة مستخدمين كل أوراق القوة التي يملكها لبنان والتي أدّت في النهاية الى تحقيق أهداف لبنان بترسيم حدوده البحرية، ورفع الفيتو الأميركي عن شركات التنقيب في المياه الاقليمية اللبنانية.

-      تباين الرؤى

لكن، من ناحية أخرى، أدّت الضغوط الداخلية والخارجية على الرئيس عون وتياره، خاصة بعد ثورة 17 تشرين الاول 2019، الى اختلاف المقاربات بين الحليفين.

أراد التيار التيار الوطني الحر من حزب الله دعمه في تطبيق البند الرابع (بناء الدولة) الذي يتضمن مشروعاً لمكافحة الفساد وبناء الدولة الحق وإصلاح القضاء والمؤسسات وغيرها، معتبرين أن تركيز حزب الله على البند العاشر، الذي يقارب فيه الطرفان موضوع حزب الله وسلاحه باعتباره حاجة لبنانية للدفاع عن السيادة وتحرير الارض وحماية لبنان من التهديدات الاسرائيلية، لا يعني إغفال بناء الدولة، إذ لا يمكن حماية لبنان من الخارج في وقت يتصدع فيه الهيكل من الداخل.

اختلاف المقاربة والاهداف بين الطرفين ساهمت في تعميق الفجوة بينهما. كان التيار يريد أن ينهي ميشال عون مسيرته الرئاسية والسياسية بتحقيق "التدقيق الجنائي" وإقرار قوانين تؤسس لبناء دولة، وتترك إرثاً سياسياً للبنانيين والعونيين يفخرون به، بينما كانت مقاربة حزب الله تركّز بشكل أساسي على حماية المقاومة والسلاح، و"وحدة الصف الشيعي"، وتخشى من الاندفاع في مكافحة الفساد، وذلك بحسب ما قاله السيد حسن نصرالله في مقابلة تلفزيونية في أيار عام 2019، من أن مكافحة الفساد قد تؤدي الى حرب أهلية.

إذاً، هي مجموعة تراكمات بين الطرفين وسنوات عجاف من الضغوط القصوى التي تعرض لها الطرفان، أدّت الى شعور مجموعات في التيار بالغبن السياسي وبتخلٍ من قبل حزب الله عن ميشال عون والمساهمة في تقويض عهده، بينما اعتبر حزب الله أنه أوفى بما عليه من دين للتيار وأنه حمى "العهد" بعد ثورة 17 تشرين الاول 2019، وأنه أعطى التيار بقدر قدرته وإن ما يطلبه التيار أحياناً هو فوق المستطاع.

-      تفاهم ما مخايل: الى أين؟

لا شكّ أن هناك مجموعات لدى الطرفين تدعو الى فكّ التفاهم، كما هناك مجموعات داخلية تدعو الى حمايته. لكن حساب المصالح الحقيقية للطرفين، تقول بأن الطرفين مستهدفان من الداخل والخارج، وبالتالي يستطيعان معاً تحقيق مصالحهما  السياسية بشكل أفضل. من الصعب على حزب الله أن يجد شريكاً مسيحياً وازناً يستطيع التفاهم معه أن يصمد كما صمد تفاهم التيار مع حزب الله، وبالتالي سيخسر الحزب جزءًا كبيراً من الشارع المسيحي بدون التيار، كما أن التيار الذي لا يملك حليفاً لبنانياً آخر غير حزب الله، سيكون أضعف في أي معادلة داخلية بدون دعم الحزب.

لذا، من المتوقع أن تكون هذه التجربة الأخيرة حافزاً للطرفين لمصارحة أكبر ومقاربات تأخذ بعين الاعتبار هواجس الطرفين، وما هو ممكن وما هو مقبول وما هو غير مقبول، بدون ابتزاز أو تهميش من طرف لآخر. 

2022/12/12

خيارات لبنان محدودة: التسوية أكثر من ضرورة



منذ ما قبل دخول لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي، يزداد يوماً بعد يوم التشنج السياسي اللبناني، وتزداد معه الخطابات المذهبية والطائفية التي تحاول أن تجعل كل منطقة لبنانية وكأنها جزيرة منعزلة ومنفصلة بذاتها عن المناطق الاخرى. وتزداد مع الخطابات الطائفية، دعوات مختلفة منها ما يدعو الى تطبيق الطائف، ومنها ما يدعو الى تدويل القضية اللبنانية، وبعضها يدعو الى تطبيق اللامركزية التي أدرجت بالطائف واقعياً حتى لو لم يتم إقرارها عبر القوانين، وفي وقت سابق تمت الدعوة الى تطبيق الحياد.

وبكل الأحوال، وبغض النظر عن الأسباب والاهداف التي تدفع الأطراف المعنية الى تلك الدعوات، يجب لفت النظر الى أن لبنان كدولة – حاجز لا يختلف كثيراً عن دول- الحاجز في العالم وعن التحديات التي تواجهها في سياساتها الخارجية، لذا هو محكوم بخيارات محدودة.

الدولة – الحاجز هي دولة صغيرة جغرافياً تقع بين محورين يتجاذبان حول ممارسة النفوذ والسيطرة عليها، وعادة ما تكون تلك الدول محكومة بأربع خيارات في سياساتها الخارجية:

1- الخيار الأول: الحياد. لكن يجب أن يتفق المحورين على حياد الدولة الحاجز، فتنعم بالاستقرار، وإلا فإن رفض أحدهما أو كليهما القبول بحيادها يعني أن مبدأ الحياد ساقط وغير قادر على التحقق.

2- الخيار الثاني: أن تصبح تابعة كلياً ومحمية من قبل محور من المحاور، وهنا يمكن أن تتمتع أيضاً بالاستقرار النسبي على أساس أن حمايتها واستقرارها لا يتأتى من سياساتها الخارجية بل من قدرة الدولة – الراعية لها.

3- الخيار الثالث: أن تتحول تلك الدولة الى ساحة صراع بين المحورين، وهو ما يحصل في لبنان اليوم، وما حصل خلال فترة الحرب الأهلية وقبلها حين أصبح لبنان ساحة اقتتال بالوكالة بين المحاور المتصارعة في المنطقة.

4- الخيار الرابع: ان يتم تقسيم تلك الدولة: وقد يتم ذلك عبر تقسيم فعلي فيسيطر كل محور على جزء من تلك الدولة أو على عبر تقاسم نفوذ بين المحورين في تلك الدولة وهو ما حصل في اتفاق الطائف، وهو ما حصل في الفترات التي عاش فيها لبنان هدنة أو استقراراً سياسياً لفترة قبل أن يتحوّل مجدداً الى ساحة صراع.

عملياً وواقعياً، يعيش اللبنانيون منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فترة تنازع بين محورين، جعلت لبنان ساحة صراع بينهما، بعد فترة ما يقارب 15 سنة من الاستقرار النسبي الذي حققه اتفاق الطائف، والذي نقل لبنان من الحالة الثالثة الى الحالة الرابعة، فتم تقسيم النفوذ بين المحاور، وتقاسمت السعودية وسوريا حكم لبنان برعاية أميركية سميت في لبنان اصطلاحاً "معادلة س-س". انهارت التسوية كلياً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وما زال لبنان يعاني من نتائج انهيارها لغاية الآن.

ما يجب السعي إليه الآن، هو تسوية مقبولة من المحورين، تعيد توازن النفوذ بينهما في الساحة اللبنانية، وتدخله في فترة من الاستقرار النسبي(الهدنة)، والى أن يحصل ذلك، فإن كل ما يحصل لا يعدو كونه محاولات من قبل الاطراف المختلفة لتحصيل أوراق قوة تعطيها مكاسب في التسوية القادمة.

2022/12/06

فشل زيارة ماكرون الأميركية: أوروبا في أزمة

اختتم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية التي قصدها لبحث العديد من القضايا التي تهمّ الأوروبيين واقتصادهم والصعوبات التي يواجهونها، بالإضافة إلى العلاقة بين ضفتَي الأطلسي بشكل عام.

 

وكان الإعلام قد ركّز على الجانب الإيجابي من زيارة ماكرون، أي البيانات بشأن الحرب الجارية في أوكرانيا، والإعلان الفرنسي-الأميركي المشترك مواصلة دعم أوكرانيا، والتعهد بالاستمرار بتقديم مزيد من المساعدات الإنسانية والسياسية والأمنية والاقتصادية، ومحاسبة روسيا بسبب "الفظائع وجرائم الحرب الموثقة على نطاق واسع" في أوكرانيا، لكن الواقع الفعلي والأهداف التي رمى إليها ماكرون كانت في مجالات أخرى.

 

وبالرغم من كل البيانات والأحاديث التي شدّدت على وحدة ضفتَي الأطلسي، فإن القلق الحقيقي الذي يعتري الضفة الأوروبية للأطلسي يتجلى في ما يعدّه الأوروبيون "أنانية أميركية" في تطبيق "سياسات عدوانية" سوف تؤدي إلى هجرة صناعية واستثمارية من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأميركية؛ بسبب تكلفة الطاقة المرتفعة في الاتحاد الأوروبي، وبتأثير قانون خفض التضخم الذي أقرّه الكونغرس الأميركي والذي يعدّه الأوروبيون نوعاً من الحمائية المضرّة بصناعاتهم والمحفزة للشركات على الهجرة من أوروبا إلى أميركا.

 

ويبدو أن نتائج زيارة ماكرون لم تكن على قدر الآمال المعقودة عليها أوروبياً، وهو أمر كان متوقعاً بالنظر إلى السياسة المستمرة التي ينتهجها الساسة الأوروبيون والمضرّة أحياناً بمصالحهم الحيوية في وقت يتصرف الأميركيون بوحي مصالحهم القومية فقط ولو كانت على حساب حلفائهم، ونذكر منها على سبيل المثال القضايا التالية:

 

1-بريكست:

بعد التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي عام 2016، وخلال المفاوضات بين كلٍ من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي حول اتفاقية التجارة الحرّة، شجّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي حتى بدون اتفاق، معلناً رغبته في إقامة علاقات تجارية وثيقة مع بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد، ومشيراً إلى اتفاق "رائع" يجري تحضيره كبديل يزيد النشاط التجاري بين الطرفين. وكان من المتوقع أن يصل الطرفان إلى اتفاق لتشكيل اتحاد جمركي، بالرغم من الضرر الاقتصادي على الأوروبيين.

 

2-تحالف أوكوس

في أيلول/سبتمبر من عام 2021، أعلنت الولايات المتحدة عن تحالف عسكري جديد (أوكوس) لاحتواء الصين، يضمّ كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، وبنتيجة هذا التحالف، انسحبت أستراليا من عقد تجاري حربي لشراء الغواصات من فرنسا، وقامت بشراء غواصات من الولايات المتحدة الأميركية بدلاً منه، ما فوّت على الفرنسيين صفقة تاريخية بمئات مليارات من الدولارات.

 

3-الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة

كان من الواضح منذ ما قبل إعلان العملية العسكرية الخاصة أن الاتحاد الأوروبي سيكون المتضرر الأكبر من الحرب الأوكرانية، وحزمات العقوبات التي أطلقها مباشرة بعد إعلان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اعترافه باستقلال جمهوريات الدونباس، وتوقف أنابيب "نورد ستريم 2".

 

وبالفعل، فرض الأوروبيون العديد من الإجراءات العقابية على موسكو ارتدت سلباً على سوق الغاز والطاقة الأوروبيين، فارتفعت أسعار الكهرباء وزادت معدلات التضخم، واضطرت دول الاتحاد إلى شراء الغاز من الولايات المتحدة الأميركية بما يعادل أربعة أضعاف سعر الغاز الروسي (الرخيص) الذي ساهم في النهضة الاقتصادية الأوروبية في وقت سابق.

 

4-قانون التضخم الأميركي

عدّ الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، القرارات الأميركية، وخاصة قانون التضخم الأميركي، "شديدة العدوانية" تجاه الشركات الأوروبية.

 

وكان البرنامج الذي أقرّه الكونغرس الأميركي كجزء من خطة بايدن "إعادة البناء بشكل أفضل" يهدف إلى تنشيط وجذب الاستثمارات في الصناعات في الداخل الأميركي، عبر تقديم معونات حكومية وتخفيضات ضريبية للشركات التي تعمل في الطاقة النظيفة وقطاع السيارات الكهربائية، وصناعات الطاقة البديلة، وأشباه الموصلات وغيرها، وذلك بهدف خلق الوظائف وتنشيط الصناعة والتجارة وإحراز تقدم في المنافسة مع الصين.

 

وكان ماكرون توقع أن تكون تداعيات برنامج المعونات الحكومية للشركات في الولايات المتّحدة كارثية على الاستثمارات في أوروبا ما يهدد "بتفتيت الغرب"، مؤكداً أنّ هذا البرنامج "يخلق فروقات بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لدرجة أنّ أولئك الذين يعملون في العديد من الشركات سيقولون لأنفسهم سنتوقف عن القيام باستثمارات على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي." وفي كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية في سفارة بلاده بواشنطن، حذّر ماكرون أيضاً من خطر أن تذهب أوروبا عموماً، وفرنسا تحديداً، ضحية التنافس التجاري الراهن بين واشنطن وبكين؛ أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.

 

واقعياً، غادر ماكرون الولايات المتحدة خالي الوفاض، بعدما وعده بايدن بمحاولة إدراج أوروبا في المعونات الاقتصادية التحفيزية، لكن بدون خطة تطبيقية واضحة حول كيف سيقوم الأميركيون بذلك...

 

وعليه، تجد أوروبا نفسها اليوم أمام معضلات كبرى، وخيارات أحلاها مرٌ؛ فلا هي قادرة على الاستقلال عن الولايات المتحدة كما كان يطمح ماكرون سابقاً خلال ولاية ترامب، ولا هي قادرة على العودة عن نظام العقوبات الذي فرضته على روسيا وأضرّ بالاقتصاد الأوروبي بشكل فادح، ولا هي قادرة على إنهاء الحرب الأوكرانية ودفع أوكرانيا إلى مفاوضات سلام مع موسكو، ولا هي قادرة على جعل الولايات المتحدة تأخذ بعين الاعتبار مصالح الأوروبيين خلال سعيها لتحقيق مصالحها الخاصة.

2022/12/05

إثارة التشنج الطائفي: لا مصلحة لأحد


من المرجح أن لا تعقد جلسة مجلس الوزراء التي دعا اليها الرئيس نجيب الميقاتي، بعدما أعلن تسعة وزراء مقاطعتها، وبعدما أحرجت كل من البطريرك الراعي والمطران عودة اللذان اعتبرا أن الأولوية هي لإنتخاب رئيس جمهورية وليس لعقد جلسة لمجلس وزراء في فترة تصريف الأعمال.

وكانت القوات اللبنانية، وبعد صمت، قد استدركت فأعلنت على لسان أحد نوابها أنهم ضد عقد جلسة فضفاضة كما دعا إليها الرئيس ميقاتي، وأن قيامه بحذف 40 بند من جدول الأعمال يخفف الخطأ المرتكب ولكنه لا يلغيه.

ومن جهة التيار الوطني الحر المعني بالدرجة الأولى بالموضوع، ينظر جمهور التيار الوطني الحر الى جلسة مجلس الوزراء وما دار حولها (بغض النظر إن عقدت أو لا) على الشكل التالي:

1-  لطالما ردد الرئيس ميشال عون وبعده النائب جبران باسيل أنهم ضد محاولات "عزل حزب الله"، وكان العماد ميشال عون وقبل تفاهم مار مخايل وبعده، قد نبّه دائماً من خطورة محاولات عزل أي طرف لبناني، مستشهداً بمحاولات عزل الكتائب عشية الحرب الأهلية والتي أدّت ما أدّت اليه في لبنان وكلّفت لبنان الكثير.

وعلى هذا الأساس، فإن مشاركة وزراء حزب الله في جلسة مجلس الوزراء ينظر اليها جمهور التيار الوطني الحر باستياء كبير، ليس بسبب الجلسة بحدّ ذاتها، بل لأنه يراد لها أن تكون مقدمة وجزء من معركة عزل التيار، فكيف يكون الحزب مشاركاً بها؟.

 

2-  لا شكّ أن ما يحصل اليوم من محاولات عزل التيار سياسياً بعد انتهاء ولاية الرئيس عون، هو جزء لا يتجزأ من معركة رئاسة الجمهورية القادمة، ومحاولة كل من الرئيسين نبيه برّي ونجيب ميقاتي تعطيل قدرة جبران باسيل على وضع فيتوات أو عرقلة وصول سليمان فرنجية الى الرئاسة.

وعليه، إن مساهمة الحزب الضمنية في الحملة، يُنظر اليه بأنه موافقة على إخراج قرار رئاسة الجمهورية من يد الأحزاب المسيحية الفاعلة، بعكس ما كان عليه الموقف عام 2016، حين اشترط الرئيس برّي موافقة القوات اللبنانية وحصول العماد عون على تأييد القوى المسيحية الفاعلة للقبول بتسوية وصول عون الى الرئاسة.

3-  ما انفك قادة حزب الله يرددون يومياً أنهم يريدون رئيس جمهورية "قوي، لا يخاف من الأميركيين... لا يخاف ولا يتنازل ويقدّم المصلحة الوطنية على خوفه، ويحافظ على المقاومة".

وهنا يطرح الجمهور التساؤل التالي: لماذا يضع حزب الله هذه الشروط على رئيس الجمهورية الذي لا يملك بعد الطائف أي صلاحيات فعلية، بينما يصوّت لرئيس حكومة "يخاف على أمواله، ويخضع للأميركيين ..." (بدليل ما حصل في موضوع الهبة الايرانية للكهرباء وغيرها) في وقت يتمتع رئيس الحكومة بصلاحيات كبيرة بموجب الدستور اللبناني بعد الطائف.

فلماذا ما يصح على رئيس الجمهورية لا يصح على رئيس الحكومة؟

 

4-  يعود التيار بالذكرى الى جلسة مناقشة البرلمان لرسالة الرئيس عون بعد انتهاء ولايته، وما قيل أن حزب الله قد أخذ ضمانات من الميقاتي بعدم عقد جلسة لمجلس الوزراء، فأي ضمانات يمكن أن يقدمها الحزب بموضوع  سليمان فرنجية على مدى سنوات ست، بينما القوى السياسية المعنية الاخرى لم تلتزم بما وعدت به في فترة لا تتعدى الشهرين؟.

 

في النتيجة، يبدو الحراك السياسي الداخلي مجرد مرحلة تقطيع وقت في فترة الفراغ الرئاسي وبانتظار تسوية خارجية ما تخرج لبنان من التعطيل، وفي هذا الوقت الصعب جداً على اللبنانيين، يبدو من الأجدى على الاطراف اللبنانية تخفيف التشنج السياسي والسعي لتأمين حاجات الناس بدون إثارة الغرائز المذهبي والطائفي.

  

2022/11/28

الأمن في الشرق الأوسط: المقاربة الأميركية

اختتم حوار المنامة  أعماله في البحرين الأسبوع الماضي، بحضور العشرات من المسؤولين الرسميين ورجال الأعمال والشخصيات الدولية والاقتصاديين والسياسيين والمفكرين الاستراتيجيين الولايات المتحدة وأوروبا بالاضافة الى آسيا وأفريقيا ودول الخليج.

وكان المؤتمر مناسبة لعرض المقاربات الأمنية للدول المشاركة، وتبدو كما يلي:

1-   الاستراتيجية الأمنية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط  تقوم على ركائز ثلاث:

أ‌-     ردع التهديدات في المناطق الغنية بالطاقة، عبر بناء بنية تحتية "متكاملة" للدفاع الجوي والبحري في الشرق الأوسط وعبر بناء بنية دفاعية جوية وبحرية متكاملة مع الحلفاء من خلال الشراكات الأمنية والدفاعية المبتكرة والتقنيات الجديدة، وصولاً إلى تبادل الخبرات والمعلومات والتدريبات العسكرية المشتركة.

ب‌-  دعم الجيوش في الدول التي لا ترتبط بمعاهدات أمنية دفاعية مع الولايات المتحدة، ومنها لبنان والعراق، وذلك غبر تقديم الدعم اللازم لتلك الجيوش لتأمين الاستقرار ومحاربة الارهاب.

ت‌-  العمل على تقليل التوترات وتخفيف التصعيد وإنهاء النزاعات حيثما كان ذلك ممكناً من خلال الدبلوماسية.

ويلاحظ مما قالته مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى السفيرة باربرا ليف حول لبنان في محاضرة سابقة في مركز ويلسون في بداية الشهر الحالي، وما تمّ إعلانه من مؤتمر المنامة خلال لقاءات مع وزير الخارجية العراقي، أن المقاربة الأميركية لكل من لبنان والعراق تتشابه حيث يتم التركيز على دعم الجيوش، والمطالبة بإجراء إصلاحات جوهرية، والضغط على المسؤولين في البلدين لإجراء ما هو مطلوب في هذا المجال، وتهديدهم بعودة التظاهرات من جديد في حال لم يقوموا بما هو كافٍ لضبط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

 

2-   تركيز غربي على "التهديد" الايراني مقابل صمت خليجي

 تركزت مناقشات معظم الدول المشاركة في المنتدى االحالي في الدورة رقم 18 وخاصة دول الخليج على التغيّر المناخي وتأثيره على مستقبل الحروب في العالم، ومدى مدى تأثير الازدهار الاقتصادي لبعض القوى الأقتصادية الصاعدة، والتحديات الاقتصادية التي تواجه بعض دول العالم خاصة بعد الحرب الأوكرانية.

وبالرغم من أن الدول الخليجية تبدو معنية أكثر بالموضوع الإيراني إلا أن الحديث عما يسمى "التهديد الايراني" كان غربياً واسرائيلياً حصراً، حيث ركّزت خطابات كل من رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين  والمسؤولين البريطانيين والأميركيين والاسرائيليين على "التهديد الإيراني" للمنطقة وكيفية مواجهته.

والبارز قيام ممثل اسرائيل في حوار المنامة (إيال هولانا- مستشار الامن القومي) بسرد لأبرز الاتفاقيات التي عقدتها اسرائيل مع دول المنطقة مركزًا على ما سماه "دور اسرائيل في الاستقرار والسلام في المنطقة" في مقابل ما اعتبره "تقويضاً إيرانياً للسلام" وتحدث عن التهديدات التي تشكّلها إيران للمنطقة، ومن بينها "زيادة أنشطتها (بالوكالة) لزعزعة استقرار كل من اليمن والعراق وسوريا" .. ولم يذكر لبنان من ضمنها.

في النتيجة، يبدو أن الأميركيين مستمرون في توجههم لدعم الاستقرار في المنطقة وتقليل الصراعات والسعي نحو الحلول الدبلوماسية، أما التركيز الغربي على إيران  فيبدو جزءًا من استراتيجية "إثارة المخاوف الأمنية" للحصول على مكاسب مادية وأمنية وبناء شراكات في منطقة الخليج والاستفادة من صفقات التسليح، والسيطرة على إمدادات الطاقة في العالم.

  

2022/11/27

مونديال قطر: فشل "الهيمنة الثقافية" الغربية

ليلى نقولا
لقد أظهرت الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها الإعلام الإسرائيلي من قطر أخيراً نظرة الشعوب العربية الحقيقية إلى احتلال فلسطين، وعدم قبولها بالرواية السائدة التي تقول إن الإسرائيليين باتوا مقبولين في دول الخليج بعد توقيع اتفاقيات "التطبيع"، وأَسقطت إعلامياً كل الروايات التي تتحدث عن أن "العرب لم يعودوا يجدون في إسرائيل عدواً بل يجدونهم حليفاً لهم ضد إيران".
إن هذه المشاهد، إضافة إلى عدد من استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن اتفاقيات التطبيع وكل الجهد الإعلامي والإعلاني وصرف الأموال الطائلة، لم تستطع أن تربح حرب الأفكار الدائرة اليوم على مستوى العالم ككل وعلى مستوى الشرق الأوسط.
يشار إلى حرب الأفكار والأيديولوجيات السائدة اليوم، باسم "القوة الناعمة" ويفسرها المنظرون الأميركيون بـ"إغراء القلوب والعقول"، أي السعي إلى "الهيمنة الثقافية" التي كان المفكر اليساري، أنطونيو غرامشي، قد تحدث عنها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إذ رأى أن كل طبقة حاكمة لا تعتمد فقط على السيطرة المادية والقهرية والسياسية للمجتمع المحكوم، بل على الهيمنة الفكرية أيضاً، أي على اختراق المجتمع والتأثير فيه فكرياً من خلال فرض نظام القيم الخاص بها وإطارها الفكري ومُثلها ومعاييرها للصح والخطأ، وهو ما يساعد على جعل سيطرتها أطول عمراً وأكثر فعالية.
وتوصل غرامشي إلى خلاصة مهمة مفادها أن الهيمنة الثقافية ضرورية من أجل نجاح سلطة ما، وعلى أي طبقة اجتماعية تريد السيطرة وضمان السلطة والقيادة تكوين هيمنة ثقافية على الآخرين، إذ إن التجارب تثبت أن تفوق مجموعة اجتماعية معينة يَظهر بطريقتين اثنتين: من خلال السيطرة والإخضاع بالقوة، ومن خلال قيادة فكرية ووجدانية وقيمية.
وتتنوع وسائل حروب القوة الناعمة، وفيها:
-المناظرات الفكرية، وهي نزاعات تقدّم فيها الأطراف المتعارضة حججها، وتدعمها بالأدلة وتسعى لدحض استدلال واستنتاجات الطرف الآخر.
- الحروب الأيديولوجية، وهي صراع رؤىً واسعة تُنظّم عادة حول عقيدة معينة.
أما المثال الأكثر شيوعاً للصراع الأيديولوجي فهو الحرب الباردة التي تضمّنت منافسة سياسية واقتصادية وعسكرية بين الولايات المتحدة (الليبرالية) والاتحاد السوفياتي (الشيوعية)، والتي انتصرت فيها الليبرالية، إذ عُد هذا الانتصار نهاية تاريخ الصراع بين الأيديولوجيات.
- الحملات الإعلامية وقد تكون مباشرة أو غير مباشرة، والهدف منها إقناع الجماهير بوجهة نظر معينة، يليها اتخاذهم إجراءات معينة مطلوبة بنفسها، كالتصويت لمرشح معين، أو المشاركة في تظاهرة أو غير ذلك.
وانطلاقاً مما سبق، نجد أن الغرب كان دائماً متفوقاً في الحرب الإعلامية وحروب الأفكار المتعددة، لكن التطور التقني والتكنولوجي وانتشار وسائل التواصل التي كان من المفترض أن يستخدمها الغرب لتسويق أفكاره وترسيخ هيمنته قد انقلبت وبات الغرب يتراجع في حرب الأفكار في عدد من المجالات، ونضرب بعض الأمثلة:
1- الحرب الأوكرانية: مع أن الحرب الإعلامية بين روسيا والغرب كانت لمصلحة الأخير على نحو كبير، وسيطرت الرواية الغربية على نظرة الرأي العام العالمي إلى الحرب الروسية في أوكرانيا، لم تضعف روسيا من الداخل، ولم يؤلّب الرأي العام الروسي أو حتى الأوليغارشية على بوتين لإطاحته، وفق ما سعى له الأوروبيون من خلال قدرتهم الإعلامية وحزمات العقوبات الاقتصادية المتعددة.
2- النظرة إلى "إسرائيل" في الشرق الأوسط: إضافة إلى العداء الذي أظهره المشجعون العرب للإعلام الإسرائيلي في مونديال قطر، وقيام سائق التاكسي بإنزال الإعلاميين بعد معرفته بجنسيتهم، وإصرار العرب من جميع الجنسيات على أن "ليس هناك إسرائيل بل فلسطين".. إضافة إلى تلك المشاهد، أظهرت استطلاعات الرأي التي نشرها "معهد واشنطن" الأميركي أن غالبية المستطلعين في البلدان السبعة المشمولة بالاستطلاع (البحرين ومصر والأردن والكويت ولبنان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة) عارضوا عبارة "السماح للذين يرغبون في إقامة علاقات تجارية أو رياضية مع الإسرائيليين بالقيام بذلك".
وفي الاستطلاع نفسه، قالت أغلبيات ساحقة إنها تَعُد اتفاقيات التطبيع "سلبية إلى حدٍ ما" أو "سلبية جداً".
وحتى في البلدان الموقعة على الاتفاقيات، وتحديداً البحرين والإمارات، تضاءل الدعم من الأقليات الكبيرة في الفترة التي أعقبت توقيع الاتفاقيات.
وهكذا إذاً، وسواء سميناها "القوة الناعمة التي تهدف إلى السيطرة على القلوب والعقول، أو سمّيناها هيمنة ثقافية، فإن الهدف المطلوب هو السيطرة على العالم بفرض قيم معينة تجعل صاحب تلك القيم مرغوباً فيه وهيمنته مطلوبة ليست باعتبارها هيمنة بل باعتبارها "إلهاماً وقيماً عالمية حميدة"، لكن التطبيع الذي جرى التسويق له بعنوان ديني برّاق "اتفاقيات أبراهام" سقط، وفشلت معه كل وسائل الترويج والإعلام والإعلان الغربي لجعل "إسرائيل" دولة "مقبولة" لدى شعوب المنطقة.