2017/12/20

أفق المبادرة الفرنسية: الحديث مع الأسد وتحويله للمحاكمة؟


ليلى نقولا
كما كان متوقعًا، انتهت مفاوضات "جنيف 8" الى فشل يضاف الى جولات من الفشل انتهت اليها مؤتمرات جنيف السابقة. وقد تكون الأسباب التي أدت الى فشل الجولات السابقة مشابهة لهذه الجولة وهي؛ عدم اقتناع الأطراف المتحاورة بانتهاء وظيفة الميدان، بالإضافة الى أن رعاة المعارضة من القوى الدولية لم يخسروا الرهان على قدرتهم على الكسب بالسياسة ما خسروه في الميدان، أي الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، كما قيام الروس بفتح مسارات موازية لجنيف ما يعني أنهم لم يعودوا معنيين بانجاح مسار جنيف طالما أثبتت المسارات الموازية قدرتها على تحقيق نجاحات لم تستطع جنيف أن تقدمها.

وكان لافتًا الحديث الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عبر قناة "فرانس 2" وتحدث فيه عن ما أسماه "المبادرة الفرنسية" لدعم مسار الحل المدعوم من الأمم المتحدة، والتي تهدف الى جمع الأطراف السورية مجددًا ضمن طاولة حوار جديدة في مطلع العام المقبل، وقد يكون الأبرز في حديثه أن أولوية فرنسا هي "إنهاء داعش وليس بشار الأسد"، الذي وصفه بأنه "عدو للشعب السوري"، وكشف عن رؤيته لمرحلة ما بعد داعش بالقول: "سيكون بشار الأسد موجوداً... سيكون هناك لأنه محميّ من الذين فازوا بالحرب على الأرض، سواء إيران أو روسيا... لكن سيتعيّن عليه الرد على جرائمه أمام شعبه، وأمام العدالة الدولية".

وانطلاقًا من العبارة الأخيرة لماكرون والتي تبدو نوعًا من التهديد بتحويل الرئيس السوري الى العدالة الدولية، ما هي أفق المبادرة الفرنسية؟

لمناقشة أفق المبادرة الفرنسية؛ يجب أن نعود الى الأسس التي يمكن من خلالها محاكمة رؤساء الدول أمام المحاكم الدولية وذلك لارتكابهم جرائم دولية كبرى؛ كالإبادة أو جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أو الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الانساني الخ، ولهذه المحاكم أنواع ثلاث: الخاصة، والمختلطة، والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة في لاهاي.

- بالنسبة للمحاكم الخاصة Ad hoc، والتي تنشئ بقرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، فإن قدرة فرنسا على إنشائها مرتبطة بتجاوز الفيتو الروسي والصيني.

- بالنسبة للمحاكم المختلطة Hybrid ، والتي تنشئ باتفاقية بين الدولة المعنية والأمم المتحدة، فأمرها مستحيل لأن الحكومة السورية التي سيبقى على رأسها الرئيس السوري بشار الأسد ( كما اعترف ماكرون) هي التي ستعقدها، إلا إذا كان ماكرون يراهن على مفاوضة الرئيس بشار الأسد لتسليم السلطة للمعارضة وهذا توقّع ساذج في ظل الانتصارات التي يحققها الجيش السوري على الأرض، وبعد قدرة النظام على الصمود والانتصار.

- بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية ICC ، فإن قدرتها على النظر في النزاع السوري، مرتبطة بأحد أمرين: أن تكون سوريا طرفًا في اتفاقية المحكمة (نظام روما الأساسي) وهي ليست كذلك الآن، ولا يمكن أن تنضم في ظل حكم الرئيس السوري بشار الأسد،  أو بقرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، وهذا صعب أيضًا بسبب الفيتو.

في النتيجة، إن كانت المبادرة الفرنسية كما طرحها ماكرون تبدو سلة متكاملة، فهي وُلدت ميتة، لأنها متناقضة، لأسباب عدة أهمها:

أولاً: إن تجارب العدالة الانتقالية في العالم، أثبتت أنه لا يمكن إقامة المحاكمات كجزء من الانتقال التفاوضي، وذلك لأن الأطراف المتفاوضة، تشترط ضمانات بالحصانة القضائية. كما أن التجارب دلّت أن المحاكمات لا تحصل إلا في حالة انهيار النظام السابق وانتقال السلطة الى نظام جديد يقيم المحاكمات للنظام السابق المنهار سواء عبر الحرب أو الانقلاب أو المظاهرات أو سواها. وهذا عكس ما هو حاصل في سوريا.

ثانيًا: إن الأحلام التي تراود الفرنسيين باقناع الروس بعدم استخدام الفيتو لاستصدار قرار في مجلس الأمن بتحويل قضية النزاع السوري الى المحكمة الجنائية الدولية، يبدو نوعًا من الأوهام، لأن الروس ليس سذجًا وأي محكمة دولية ستنشأ قد تمتد لتحاكم الضباط والقادة الروس على ما يسميه الغرب "ارتكاب الطيران الروسي مجازر في سوريا"، كما ليس من مصلحة دول "التحالف الدولي" أن يُفتح ملف الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا أمام محكمة دولية، لأن الناشطين الحقوقيين كانوا قد وثقوا العديد من المجازر التي ارتكبها التحالف خلال قصفه الرقة وغيرها.

ثالثًا: إن تاريخ المحاكم الدولية أثبت أنها محاكم المنتصر، أي أن المنتصرين في الحروب هم الذين يقيمون المحاكمات للمهزومين، وهذا ما تدل عليه جميع المحاكم منذ نورمبرغ و امتدادًا الى يوغسلافيا ورواندا الخ... وهذا - بحسب موازين القوى الميدانية الحالية-  يجعل النظام السوري يقيم المحاكمات للمجموعات المسلحة وليس العكس.

2017/12/13

المسيحيون والقدس: هلموا الى المقاومة


يعيش العالم اليوم على وقع التصعيد الذي افتعله دونالد ترامب بتوقيع القرار القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الاسرائيلية، مما لفت الأنظار الى ما يحاك في الخفاء للقضية الفلسطينية وخاصة الضغوط التي تمارس على الفلسطينيين لقبول بما يسمى "صفقة القرن" والتي انخرط فيها بعض العرب، للضغط على الفلسطينيين للتنازل التام عن الحقوق.
وقد يكون الموقف اللبناني بشكل عام، والمواقف الرسمية للدولة اللبنانية من النوادر حيث لم يشهد اللبنانيون وحدة تجاه أي قضية خارجية أو داخلية، كما توحدوا في مواجهة تهويد القدس، وضد قرار ترامب.

وانطلاقًا من أهمية المقاومة اليوم، يبدو من المفيد اليوم، ومن ضمن خطة المواجهة والمقاومة أن تنضم كل الكنائس الشرقية كما المؤسسات الدينية الاسلامية الى الأصوات السياسية الداعية الى المواجهة وعدم السماح باغتصاب القدس وإنهاء القضية الفلسطينية.
ننطلق من القدس، لما لها من أهمية دينية تاريخية، تشكّل مصدر إلهام روحي لجميع الديانات التوحيدية الثلاث، وتدخل في معادلة تكوينهم الثقافي وهويتهم الحضارية والتاريخية، لذا باستطاعتها أن تكون الجامع والإطار الذي تنطلق منه القوى العربية لرفض هدر الحقوق التاريخية للفلسطينيين في أرضهم ومقدساتهم، وهذا مطلوب من المسيحيين والمسلمين على حد سواء.

في الأساس، تنظر المسيحية بمختلف مذاهبها إلى القدس على أنها "مدينة الرب" لأنها المدينة التي شهدت الاحداث الاكثر أهمية في حياة السيد المسيح وقيامته؛ فقد ارتبط اسم القدس في الانجيل بمحطات أساسية في حياة يسوع المسيح، فقد أخذ والدا يسوع - الطفل إلى المعبد المقدسي "ليقدّماه إلى الرب"، وتحادث الطفل ذو الاثني عشر عاماً مع علماء الدين في المعبد... وارتبطت في هذه المدينة بمحطات آلامه الكبرى ودرب جلجلته، وقيامته. إذاً، في الفكر المسيحي ما عادت القدس مدينة أرضية، بل سماوية، فيها تكوّنت أول كنيسة مسيحية، وكانت مكاناً برزت فيه أولى دعوات الرسل للتبشير بالله واستشهاد أول مسيحي.

وبالرغم من هذه الأهمية الدينية، يختلف مسيحيو المشرق عن المسيحيين الغربيين في النظرة الى القدس ليس من منطلق ديني بل من منطلق سياسي قومي، فالقدس أو "أم الكنائس المسيحية" هي مدينة عربية بامتياز بالنسبة للكنائس الشرقية، أهلها عرب وجذورها عربية بالرغم من كل الإدعاءات التي حاولت تشويه صورة المدينة منذ أقدم العصور.
وقد تكون الضربة التي تلقتها الكنائس العربية، كانت حين تمّ تنصيب بطريرك يوناني وتسلّمه مقدرات الكنيسة الأرثوذكسية، فعلى أثر الفتح العثماني للقسطنطينية بات البطريرك القسطنطيني رئيس "الملّة الأرثوذكسية" في السلطنة، ونظر إليه العثمانيون على أنه ممثل جميع الأرثوذكس في السلطنة، مما أدى الى سيطرة البطريركية القسطنطينية ومن خلالها الإكليروس اليوناني على جميع البطريركيات الأرثوذكسية الخاضعة للأستانة. فتمت "يَوْنَنَة" البطريركية الأورشليمية في القرن السادس عشر، وحلّ البطاركة اليونان مكان العرب في الأبرشية، وهو ما أدى الى ضياع الكثير من الاماكن المقدسة، فقد قام البطاركة اليونانيون ببيع الأراضي المقدسة وأوقاف الكنيسة وفرطوا بالمقدسات، كونهم لا ينتمون الى هذه الارض العربية، ولا يتجذرون فيها.

أما بالنسبة للكنائس الغربية، فنجد أنهم، بشكل عام، لم يهتموا يوماً للقضية العادلة والمحقة في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً الا من منطلق قدرتهم للوصول الى الاماكن المقدسة للحجّ. وبالفعل اتخذ الفاتيكان موقفا دينياً أضعف الموقف السياسي للمسيحيين الفلسطينيين بتوقيعه اتفاقاً مع إسرائيل في 30/12/1993 للاعتراف المتبادل وإشارته فقط إلى تسهيل حجّ المسيحيين إلى الأماكن المقدسة المسيحية، وهو ما ردّ عليه المطران اللبناني جورج خضر بالقول:
"...ان المدينة المقدسة أقدس شيء فيها حق سكانها عليها. فالانسان دائماً خير من المكان مهما عظم وسما. ولهذا يبدو لي تدويل القدس موقفاً فاسداً من أساسه لانه مشتق من قدسية الاثار ومحجّر لهذه القدسية على حساب حق الناس وتالياً حق الله...."

ويبقى هناك بعض الكنائس البروتستانية في أميركا، وهم الذين رحبوا بقرار ترامب نقل السفارة الأميركية الى القد، التي تذهب الى أكثر من ذلك، حيث يقرأون في نفس الكتاب الذي يقرأ به اليهود ويعتقدون بأن ما فعله ترامب اليوم سوف يؤجج النزاعات والصراعات وبالتالي سوف يسرّع في تحقق نبوءة "هرمجدون" وبالتالي مجيء المسيح الثاني.

وهكذا، نستطيع القول أن اليهود استطاعوا - على مرّ الزمن- اختراق موقف الكنائس لتأمين سيطرتهم الآحادية على القدس وإدعاء ملكيتها التاريخية، لكن مسيحيو المشرق ومسيحيو فلسطين خاصة ما زالوا يرفضون ويقاومون كل مخططات التهويد. لكن ما هو مطلوب اليوم أبعد من ذلك، مطلوب موقف مسيحيي عارم، ينطلق من الكنائس والمدراس والرهبانيات والبطاركة الخ...
في ظل الخطر الذي يحيط بالقضية الفلسطينية والمواجهة التي فرضت نفسها على الجميع ضد سمي "صفقة القرن"، إن السكوت جريمة، والحياد خيانة، ويصحّ اليوم قول المسيح: "مرثا مرثا، تهتمين بأمور كثيرة والمطلوب واحد"... المطلوب من الجميع اليوم وقفة مع الذات ومع الحق انتصارًا للعدل والسلام، وإلا علينا وعلى الدنيا السلام.


Attachments 

2017/11/30

التسوية السورية: هل يسلّم الأميركيون لثلاثي أستانة؟

ليلى نقولا
تقترب نهاية "داعش" في سورية والعراق، وباتت المعركة على الكيلومترات المتبقية من مساحة الجغرافية السورية والعراقية، خصوصاً في المناطق الممتدّة على الحدود الموازية للمنطقة التي يسيطر عليها الأكراد.

وتشير التقارير من الشمال الشرقي السوري أن قوات سورية الديمقراطية  "قسد" تقدّمت بسرعة نحو الحدود العراقية- السورية قرب البوكمال، وشكّلت نوعاً من الحزام العسكري الذي يقطع بين الجيش السوري و"داعش" في الصحراء الممتدة قرب الحدود العراقية، فيما يبدو أنه نتيجة تفاهمات أدّت إلى انسحاب"داعش"وتسليم مناطقها للقوات الكردية.

وبعد انتهاء "داعش"، هل فعلاً ستسلك التسوية مسارها الطبيعي في سورية؟ وهل سيستطيع لقاء القمة في سوتشي (روسيا وإيران وتركيا) فرض تصوُّرهم للحل على الولايات المتحدة؟

يبدو أن الولايات المتحدة ليست بوارد التسليم بسهولة في سورية، بل يبدو من مسار المعارك في البوكمال والتشويش الأميركي على اتصالات الجيش السوري وحلفائه المقاتلة على جبهة البوكمال ضد"داعش"، كما التحشيد الذي يقوم به الأميركيون وتوسيع قواعدهم العسكرية مؤخراً في الشمال السوري، وزيادة أعداد الجنود الأميركيين في المناطق السورية .. كل ذلك يشير إلى أن الاستراتيجية الأميركية المستقبلية في سورية ستكون سياسة وضع خطوط حمراء أمام تقدُّم الجيش السوري لتحرير المناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية.

منذ بداية الهجوم السوري والزحف نحو البوكمال، تحسّست الولايات المتحدة الأميركية خطورة إعادة فتح معبر القائم –البوكمال على استراتيجتها لاحتواء نفوذ إيران الإقليمي، وقطع التواصل الجغرافي بين العراق وسورية، وتتابُعاً قطع الخط الذي يصل طهران ببيروت.

وفعلياً تسيطر الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على    الحصة الأكبر من معابر الحدود بين سورية والعراق؛ فمعبر اليعربية (سورية) - الربيعة (العراق) يسيطر عليه المقاتلون الأكراد، كذلك معبر سيملكا – فيشخابور الاستراتيجي، والذي يقع على مثلّث بين سورية والعراق وتركيا، وقد حاولت القوات العراقية السيطرة عليه بعد الاستفتاء الكردي واستردادها للمناطق التي كان الأكراد قد استغلوا انفلات الوضع الأمني للتوسع فيها، لكنّ الأميركيين دعموا موقف الأكراد في منع القوات العراقية من استعادة السيطرة عليه، وهذا ماحصل، فبقي الأكراد يسيطرون على هذا المعبر من الجهتين العراقية والسورية.

كما يسيطر الأميركيون على معبر التنف-الوليد، ويقيمون قاعدة عسكرية هامة، ويبقى المعبر الرسمي الوحيد الذي يسيطر عليه الجيش السوري هو معبر القائم –البوكمال الذي تمّ تحريره من "داعش"مؤخراً.

وهكذا، يبدو أن الأميركيين ليسوا بوارد الانسحاب، بل هم بصدد التحضير للقتال ومنع الجيش السوري وحلفائه من الاقتراب وتحقيق مزيد من المكاسب الميدانية، وقدي تجلى الهدف الأميركي في أحدأمرين: إما إبقاء الوجود العسكري الأميركي إلى مالا نهاية في سورية، أو استعمال المناطق الكردية كورقة تفاوضية تستطيع من خلالها الولايات المتحدة فرض مسار تسوية سياسية سورية ترضيها وتحقق لها مصالحها على المدنيين المتوسط والطويل.

لتحقيق الهدف الأول، يحتاج الأميركيون إلى إبقاء جزء من الجغرافية السورية خارج سيادة الدولة السورية أي إنشاء كونتون كردي مستقل يوقّع معه  اتفاقية عسكرية تسمح ببقاء قواتهم وقواعدهم فيه، وهذا أمر يصعب تحقيقه، خصوصاً في ظل الرفض التركي والإيراني والعراقي والسوري لهذا الخيار، وعدم استعداد الأميركيين للتضحية بالحليف التركي ودفعه إلى أحضان روسيا،لما في ذلك من إضرار بمصالح الولايات المتحدة في كل من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

ويبقى الهدف الثاني الأقرب للواقع،إذ يمكن للأميركيين منع أي جهة عسكرية من الاقتراب من الحدود التي يسيطرعليها حلفاؤها،من خلال التهديد باستعمال القوة،وتحقيق الردع من خلال استعراض يومي للقوة، خصوصاً بعدما كان الإيرانيون قد أعلنوا أن المعركة المقبلة بعد الانتهاء من "داعش" ستكون التوجُّه لتحرير الرقة، وهكذا فإن إبقاء جزء من الجغرافية السورية بيد الأميركيين – أقلّه في الوقت الراهن – سيعرقل قدرة الدول الراعية لأستانة (روسيا وتركيا وإيران) من الانفراد بصياغة الحل السياسي، وسيعطي الأميركيين قوة تفاوضية هامة للمشاركة في رسم مستقبل سورية والمنطقة.

وما يعزز الخيار الثاني، أن الأكراد السوريين يُدركون أنهم محكومون بالجغرافيا؛ تماماً كما أكراد العراق، الذين دفعوا غالياً ثمن الاستفتاء ومحاولة الانفصال، كما هم محكومون بعدم قدرة الولايات المتحدة على إغضاب الحليف التركي، مايعني عدم قدرتهم على استعداء الروس، إذ جلّ مايمكنهم الوصول له بعد انبلاج الأزمة في سورية هوالحصول على بعض الاستقلالية عبر اللامركزية الإدارية الموسَّعة التي يطرحها الروس في الدستور السوري الجديد.

2017/11/29

مقابلة حول نجاح أو فشل التسوية السورية في جنيف

التعامل مع اسرائيل: كيف سقطت المحرمات؟



ليلى نقولا
جاء اعتقال القوى الأمنية اللبنانية لناشطة فلسطينية وممثل لبناني بتهمة التعامل مع اسرائيل، لتلقي الضوء والتساؤلات على مدى وحجم الاختراق الاسرائيلي للمجتمعات العربية خاصة تلك المحيطة بها أو ما يسمى دول الطوق، ولعل التفاعل مع قضيتهما وقبلهما المخرج زياد الدويري الذي عاش في اسائيل وتواصل مع السلطات الاسرائيلية لتصوير فيلمه؛ لتكشف عمق انقسام مجتمعاتنا على ذاتها ومدى كره الذات الذي نعيشه في موضوع التعامل مع اسرائيل بدليل خروج بعض الشخصيات السياسية والاعلامية للدفاع والتشكيك، واعتبار الأمر يستحق جائزة كما في حالة زياد الدويري.
الأكيد أن التجسس وتجنيد العملاء ظاهرة قديمة جدًا لطالما استخدمتها الدول لاختراق أسرار الدول والمجتمعات الأخرى، فلا يقتصر عمل الجواسيس على اختراق الأسرار العسكرية والأمنية بل أيضًا يطال المجالات الدبلوماسية وكافة مجالات العلوم والتكنولوجيا والاختراعات وغيرها من دعائم اقتصاديات الدول. وهذا يعني أن مهمة الجاسوسية لا تقتصر على أوقات الحرب فقط بل تكتسب أهميتها أيضًا في أوقات السلم، ولا تكون موجهة الى الإعداء فحسب بل تطال الأصدقاء أيضًا، وهذا ما كشفته قضية الجاسوس الاسرائيلي جوناثان بولارد الذي كان عاملاً في البحرية الأميركية وتمّ اتهامه بتسريب المعلومات لإسرائيل عام 1985، وصدر بحقه حكم بالسجن لمدى الحياة عام 1987، كما فضيحة التنصت الأميركي على المستشارة الالمانية أنغيلا ميركل خلال عهد أوباما وغيرها.
أما بالنسبة لاسرائيل، فتشير الدراسات أن نشأة الإستخبارات الإسرائيليّة سبقت نشوء الكيان الإسرائيلي بكثير، ففي عام 1914، أنشئت أول منظمة استخبارية اسرائيلية باسم "يلي" لجمع المعلومات عن القوات التركيّة والألمانية، وقد نجحت في سرقة أسرار غـاز "الخردل" وبعض الأسلحة الألمانيَّة الحديثة ونقلها إلى بريطانيا.
ومع تأسيس الدولة، أنشأت اسرائيل مجموعة من الأجهزة الاستخبارية كان أشهرها عالميًا جهاز الموساد الذي أنشئ عام 1951 بقرار من دايفد بن غوريون.

إذًا لقد حاولت دائمًا اسرائيل اختراق الدول العربية وتجنيد العملاء، وتطورت وسائلها بعد اجتياح لبنان الى تأسيس جيش من العملاء (جيش لحد) يعمل لصالحها وينفذ الاعمال القذرة والتعذيب وملاحقة الوطنيين والمقاومين.
لطالما إعتُبر التعامل مع اسرائيل عملاً مشينًا ملاصقًا للخيانة العظمى، وكانت النظرة الاجتماعية تنظر للعلاقة مع اسرائيل باعتبارها عملاً منبوذًا ومدانًا حتى لو لم تكن علاقة تجسسية الطابع، الى أن بدأت الحرب في سوريا، وتوالى سقوط المحرمات وباتت المجاهرة بالصداقة مع الاسرائيليين وطلب ودّهم لا تثير أي نوعٍ من عقدة الذنب أو الشعور بالخطيئة.
ويمكن لنا أن نذكر في هذا الإطار العديد من الشواهد على سبيل المثال لا الحصر:

- مجاهرة العديد من رموز المعارضة السورية بزيارة اسرائيل والمشاركة في مؤتمر هرتسيليا، والظهور على وسائل الاعلام الاسرائيلية، ومحاولات إغراء الاسرائيليين بمبادرات تُسقط حق السوريين في الجولان المحتل، كمبادرة "الجولان المحتل" التي أطلقها بعض المعارضين في المانيا، أو الدعوات التي أطلقت من البعض الآخر لإقامة  "منطقة آمنة في الجنوب السوري" تسيطر عليها اسرائيل وتحظّر الطيران فيها.

- الاختراق الذي حصل في حاسوب مدير في مكتب نتنياهو، والذي كشف عن علاقات واسعة مع سوريين ولبنانيين قدموا معلومات سرية في الملف السوري وغيره.

- بعد انقلاب موازين القوى الميدانية لصالح الجيش السوري، أطلقت بعض المجموعات المعارضة على الانترنت وبكل جرأة، دعوات لاسرائيل "لمساعدتهم في إسقاط النظام" وانقاذ المعارضة من الهزيمة.

- اللقاءات الاسرائيلية مع السعوديين في واشنطن والتي جاهر بها الطرف السعودي واعتبرها أمرًا طبيعيًا في ظل عداء الطرفان لايران. ثم زيارة أنور عشقي لإسرائيل على رأس وفد من الأكاديميين ورجال الأعمال السعوديين والذي اعتبرت من قبل الصحافة الاسرائيلية "إنجازًا كبيرًا” لنتنياهو.

- أثبتت قضية المخرج اللبناني زياد الدويري - والذي زار تل أبيب لتصوير فيلم - أن هناك جمهورًا لبنانيًا وشخصيات سياسية وعامة - من خارج فئة المتعاملين السابقين مع اسرائيل خلال الحرب الاهلية - لم يعد يعتبر التواصل مع اسرائيل أو إقامة علاقات مع الاسرائيليين أمرًا مثيرًا للاستغراب أو الاستهجان بل أمرًا طبيعيًا بحجة الانفتاح والثقافة علمًا أن القانون اللبناني كان واضحًا في تجريم "أي اتصال بالعدو أو دخول أراضيه".

وهكذا، سقطت المحرمات في الوعي العربي، واستطاعت اسرائيل التسلل من بوابة الخراب الذي حلّ في العالم العربي بعد العام 2011 لكيّ الوعي العربي، والتأسيس لخلق قناعات جديدة تنحرف عن الهدف الأصلي باسترداد الحقوق المسلوبة وتقزّيم القضية المركزية لتصبح كل مطالبة بعدم التطبيع نوعًا من اللغة الخشبية المنبوذة، وقد بدأ ذلك بعدما نجح الاسرائيليون بتحويل وجهة الصراع من عربي اسرائيلي الى صراع عربي فارسي  وسنّي شيعي، حتى اختلطت في وعي بعض الفئات مفاهيم العدو والصديق والمقاومة والارهاب.



2017/11/20

تركيا والناتو: هل حان أوان الطلاق؟


ليلى نقولا
في سابقة هي الأولى من نوعها مع دولة حليفة وعضو في حلف الناتو، وجّه الحلف إهانة الى تركيا بوضع صورة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك من ضمن لوائح التصويب الناري، بالاضافة الى خلق حساب وهمي باسم اردوغان في برنامج محادثة ضمن دروس المحاكاة، وذلك للتدريب على "إقامة علاقات مع قادة دول عدوة والتعاون معها". وبالرغم من إعتذار الناتو عن الحادثتين، قرر أردوغان سحب مشاركة الاتراك في تلك المناورات التي عقدت في النرويج.
لطالما اعتبرت تركيا من الركائز الهامة في استراتيجيات حلف الناتو منذ تأسيسه، فقد انضمت تركيا الى الحلف في 18 شباط 1952 ولعبت خلال الحرب الباردة دورًا هامًا في سياسة "الإحتواء" التي قررتها الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتي. وبعد أحداث 11 أيلول 2001، ساعدت الجغرافية التركية المشرفة على آسيا الوسطى، والروابط التي تربط تركيا مع مجموعة الناطقين باللغة التركية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، بزيادة أهمية تركيا في ميزان استراتيجيات الحلف الاطلسي، واستمر الحال على ما هو عليه الى أن حصلت الحرب في سوريا، فاعتمد الأميركيون والاوروبيون على تركيا في بادئ الأمر لتطبيق سياساتهم الرامية الى الاطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، الى أن تبدلت الظروف الميدانية بدخول الروس الى الساحة السورية وفشل الأتراك في إسقاط الأسد، وظهور التباينات في الاستراتيجيات الأميركية والتركية في المنطقة.
يومًا بعد يوم، تكبر الفجوة في علاقات حلف الناتو وتركيا، ولعل أبرز الأمور التي تجعل العلاقات بين الطرفين في أسوأ ظروفها اليوم هي ما يلي:
- اعلان تركيا نيتها شراء منظومة دفاع "أس 400" من الروس، ولقد برر الأتراك هذا الأمر بحاجتهم الى سدّ "الفجوة العسكرية" وتعزيز قدراتهم الدفاعية في ظل تقاعس الناتو عن منحهم منظومة دفاع جوي، وخاصة بعد إقدام كل من ألمانيا وواشنطن على سحب بطاريات صواريخ الباتريوت من الأراضي التركية في ظل أزمة إسقاط الطائرة الروسية في الأراضي السورية. ولقد أعلنت تركيا عن هدف استراتيجي عسكري يتجلى في تصنيع منظومة خاصة للدفاع الصاروخي بحلول عام 2025.
وتشير التقارير تراجع استخدام دول حلف الناتو لقاعدة إنجرليك في تركيا إلى ما يتجاوز 75 في المائة، بالمقارنة بفترات سابقة، سواء في العمليات القتالية أو فيما يخص عمليات الإمداد والتموين للمقاتلات الغربية العاملة ضمن التحالف الدولي ضد داعش.
-  إعلان الأتراك رغبتهم بالانضمام الى منظمة شنغهاي للتعاون، مع العلم أنه من الصعب على أي دولة توفق في سياساتها السياسية والعسكرية بين "الناتو" و"شنغهاي" في الوقت نفسه، كون "شنغهاي" تمثل نظاماً أمنياً بديلاً للدول الأعضاء يتضمن توثيق التعاون الأمني والعسكري بين دول المنظمة في مواجهة التهديدات المشتركة.
- الموقف من أكراد سوريا، فقد أعلن الرئيس التركي بعد مباحثاته مع الرئيس بوتين في سوتشي مؤخرًا "أن الروس باتوا يتبنون الموقف التركي بخصوص الشمال السوري"، وذلك يعني أن لدى هامشًا أكبر من الأميركيين يسمح لهم بتقديم التنازلات في الموضوع الكردي وتفهّم هواجس الأتراك في هذا الإطار، في حين يدرك الجميع أنه لم يعد ياستطاعة الأميركيين التخلي عن أكراد سوريا بسهولة في ظل ندرة الخيارات المتوافرة لديهم للتعويل على حليف مقاتل يحفظ لهم نفوذهم في سوريا.
ولعل ما يقلق الأتراك هو التسابق الروسي الأميركي على حفظ موقع الأكراد في مستقبل سوريا، فروسيا كانت قد أعلنت نيتها اشراك الأكراد في مؤتمرات الحل السلمي المرتقبة، قبل ان تتراجع نزولاً عند رغبة أنقرة، ولقد أظهرت مسودة الدستور المسربة سابقًا والتي أعدتها موسكو للنقاش، أن الروس يتصورون إعطاء حكم ذاتي لامركزي للأكراد ضمن سوريا الموحدة. وإن كان على تركيا الاختيار بين أهون الشرّين، فقد يكون الموقف الروسي من الأكراد قابلاً للتفاوض بعكس الموقف الأميركي الذي أعلنه نائب الرئيس الأميركي صراحة عقب لقائه رئيس الوزراء التركي، بأن الأميركيين سيستمرون بالعمل مع أكراد سوريا ودعمهم حتى بعد انتهاء ظاهرة داعش.
وهكذا، تبدو كل المؤشرات متجهة الى زيادة التوتر بين الناتو وتركيا، ولكن لا يمكن التصور ان أردوغان سيعمد الى الانسحاب من حلف الناتو بنفسه، فاستمرار وجوده في الناتو يمنحه قدرة تفاوضية أكبر مع الروس، كما أن تأرجحه بين المحورين يكسبه هامشًا من المناورة والقدرة على استجلاب التنازلات من كلا الطرفين. أما بالنسبة لدول حلف شمالي الأطلسي، فلن يتخلوا بسهولة عن دولة محورية كتركيا بالرغم من كل الابتزاز والتوتر الذي يخلقه اردوغان، إذ لا يمكن أن يدفعوا الأتراك الى الارتماء في أحضان الروس وتحوّل البحر الأسود الى بحيرة روسية. لذا يبدو من المبكر الحديث عن قطيعة أو طلاق بين الناتو وتركيا، أقلّه في المدى المنظور.

Attachments area

2017/11/15

الاميركيون في سوريا: تراجع أو تثبيت انتصار؟

ليلى نقولا
يشير البيان المشترك حول سوريا الذي أعلنه الرئيسان ترامب وبوتين على هامش منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي "إبيك" في فيتنام، إلى اقتناع دولي بأن الخيار العسكري لم يعد يجدي في سوريا، وأن الحلّ السياسي هو الأنسب لسوريا وللمنطقة.

وكانت لافتة العبارة التي تضمنها البيان والتي أشارت إلى أن "الأطراف أخذوا علماً بالالتزام الحديث للرئيس الأسد بإجراء الإصلاحات الدستورية وإقامة الانتخابات..."، وهذه العبارة إن دلّت على شيء فهي تدل على اعتراف أميركي وواضح بشرعية الرئيس السوري، والتعويل الدولي عليه للقيام بمسار الإصلاحات الدستورية وإجراء الانتخابات، وهو يدحض كل ما قاله وزير الخارجية الأميركي تيلرسون منذ مدة وجيزة إن الأميركيين لا يرون مستقبلاً للرئيس السوري بشّار الأسد في مستقبل سوريا وإنه سيضطر إلى التخلّي عن منصبه في إطار عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة.

بالتأكيد، إن الانتصارات العسكرية التي حقّقها الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان السوري هي التي فرضت نوعاً من التراجع الأميركي المُتدرّج حول رؤيتهم لمستقبل سوريا والآليات التي ستحكم هذا المستقبل، ولكن عوامل القلق من المستقبل لا تزال تحوم فوق سوريا، خاصة في ظلّ الإنجازات التي حقّقها الأميركيون من خلال حلفائهم في سوريا.

وتتجلّى عوامل القلق من الاستراتيجية الأميركية على مستقبل سوريا، مما يظهر في الميدان السوري من سباق محموم للقوات المدعومة أميركياً لاقتطاع أراضٍ قبل وصول القوات السورية إليها، فقد قامت "قوات سوريا الديمقراطية" بالسيطرة على جغرافية سورية شاسعة، ورتّب الأميركيون انسحاب داعش لصالح تلك القوات في حقل عمر النفطي ما سمح للمقاتلين الأكراد بالسيطرة عليه والتوجّه نحو دير الزور والسيطرة على أكبر مساحة جغرافية ممكنة قبل وصول النظام إليها لتحريرها.

وفي الطريق إلى البوكمال، حاول الأميركيون استباق وصول الجيش السوري وحلفائه إلى المعبر الاستراتيجي الذي يربط العراق بسوريا، إلا أنهم لم يستطيعوا تجنيد مقاتلين من المعارضة المسلحة أو العشائر للقيام بهذه المهمة، وإلا لكانوا أقاموا الترتيبات اللازمة لمقايضة تلك الجغرافيا بين داعش والعشائر السورية.

وقد يكون ما تقوم به حركة "نور الدين الزنكي" المدعومة أميركياً من قتال مع "هيئة تحرير الشام - النصرة سابقاً" في ريف حلب الغربي، هو استباق للمعركة التي سيقوم بها الجيش السوري ضد جبهة النصرة بعد الانتهاء من داعش على الحدود السورية العراقية والتفرغ لقتالها.

ما سبق، يشير إلى رغبة أميركية واضحة بإبقاء السيطرة على مناطق سورية، وتثبيتها بوجود 11 أو 12 قاعدة عسكرية أميركية ( تتضارب التقارير حول عددها)، وهو ما أشار إليه بعض المسؤولين العسكريين الذين قالوا إن الأميركيين لا يمتلكون استراتيجية للخروج من سوريا بعد الانتهاء من داعش.

والمشكلة التي ستبرز في المستقبل حول مستقبل هذه المناطق هي الموقف الروسي، خاصة في ظل توجّه الروس في مسارهم الدولي الحديث بعد أوكرانيا، لتشجيع اللامركزيات وإعطاء هامش من الحرية الموسّعة للأقليات في الدول السيّدة.

وفي هذا الإطار بالذات، نجد أن الموقف الروسي من الاستفتاء الكردي في العراق بقي غامضاً، وقد يُفهم موقفهم هذا بالرغبة بعدم إعطاء فرصة لاتهامهم بازدواجية المعايير كون إية إدانة أو رفض للاستفتاء الكردي باعتباره عملاً غير قانوني، سيضعف موقفهم من قضية ضمّ القرم حيث يتذرّع الروس بأن الاستفتاء الذي أجريَ هناك وضمّ القرم إلى روسيا الاتحادية هو قانوني وشرعي، مستندين بذلك إلى السابقة التي أرساها الأوروبيون في كوسوفو، والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول استفتاء كوسوفو، والذي اعتبرت فيه المحكمة أن الاستفتاء لا يخلّ بمبادئ القانون الدولي.

وبالرغم من أن الوضع الكردي في سوريا يبقى مختلفاً عن وضع أكراد العراق، ولكن التسريبات التي تحدّثت عن تفاهمات أميركية روسية غير معلنة حول تقاسم مناطق النفوذ حول الفرات، تؤكّد أنه ما زال أمام السوريين مسار طويل من المعارك لاستعادة كامل التراب السوري، وقد تكون المعارك في إدلب والجنوب السوري سهلة نسبياً مقارنة بتحرير مناطق الشرق والشمال السوري من سيطرة الأميركيين الذين لن يتخلّوا بسهولة عما كسبوه من الجغرافيا السورية.

2017/11/13

الخيارات المتاحة أمام لبنان في قضية الحريري


د. ليلى نقولا

شكّلت استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من السعودية والظروف التي رافقتها والتهديدات السعودية للبنان، سابقة في تاريخ العلاقات الدولية. وتلقى لبنان الرسمي تقارير ومعلومات أفاد بها مرافقوه العائدون الى بيروت بدونه، تؤكد أن الرئيس الحريري وعائلته قيد الاقامة الجبرية في السعودية، وأنه غير حرّ في قراراته، الأمر الذي دعا الرئاسة اللبنانية الى طلب توضيحات من السعودية حول مصيره وظروف تواجده، ودعوة للسعودية لإطلاق سراحه.

وبالرغم من اللهجة الهادئة عدم التصعيدية التي أظهرها خلال مقابلته التلفزيونية من السعودية، والتي بدت الكلمة السحرية فيها "النأي بالنفس" وتبرير الاستقالة بأنها بهدف إحداث "صدمة ايجابية"، ووعد بالعودة الى لبنان، إلا أن المعركة لاستعادته ما زالت قائمة، ولا يُعرف إن كانت السعودية ستسمح له بالعودة في وقت قريب.

ولقد رفض رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون استقالة رئيس الوزراء وأقرنها بشرط عودته الى بيروت وتقديمها بشكل شخصي كما ينص عليه الدستور اللبناني، وهذا يعني أن الحريري ما زال - لغاية اليوم- رئيسًا للحكومة اللبنانية، وهو يتمتع بكافة الحقوق والحصانات التي يمنحها له القانون الدولي في هذا الإطار.

والحصانة هي نظام دولي تقليدي، يتم من خلاله تحصين أشخاص عاملين باسم الدولة من المقاضاة أمام محاكم أجنبية، كما تعني الحصانة الشخصية عدم جواز التعرض لشخصه أو محل إقامته أو مواكبه أثناء وجوده في الخارج، كما لا يجوز بأي شكل من الاشكال إلقاء القبض عليه، أو تفتيشه، أو حجز حريته أو فرض الاقامة الجبرية عليه.

على صعيد القانون الدولي قامت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بتحديد الأطر القانونية لحصانة البعثات الدبلوماسية حصرًا، ولغاية تاريخه ليس هناك أي اتفاقية دولية تنظّم موضوع الحصانة الممنوحة لحكام الدولة بشكل مفصّل، بل ما زالت الحصانة الى اليوم تعتبر ثابتة من ثوابت القانون الدولي العرفي.

ولقد تطورت الحصانة الممنوحة للدولة ذات السيادة بتطور مضامين العلاقات الدولية، إذ أن تلك الحصانة تستمد تاريخها من القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كان الملك والدولة واحد. وكان دخول ملك الى اقليم ملك آخر بمعرفته وإذنه يعني - وإن لم يتضمن نصًا صريحًا- منع القبض عليه أو المساس بكرامته أو خضوعه لولاية الدولة الاخرى عليه. وإنطلاقًا من هذا العرف الممتد عبر الزمن، دخلت الحصانة لرؤساء الدول ومن يمثلون الدولة الى القانون الدولي، باعتبارها قواعد مجاملة وصداقة في العلاقات الدولية.

قانونيًا، يتمتع رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية والمسؤولون الرفيعو المستوى، بحصانات قضائية جنائية في القانون الدولي؛ أي أنهم يتمتعون بالحصانة الشخصية من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية خلال توليهم لمناصبهم. وقد استقر القانون الدولي على أن هذه الحصانات الممنوحة لرؤساء الدول تبقى سارية إلا في حال اتهامهم بارتكاب جرائم دولية؛ كالجرائم ضد الانسانية، جرائم حرب، الابادة أو انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، حيث يمكن إحالتهم الى محاكم دولية. وقد حدّ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (2002) من قدرة الدول على ممارسة ولاية قضائية جنائية على مسؤول في الحكم  ما زال متمتعًا بحصانة دولته حتى لو تمّ ارتهامه بارتكاب جرائم دولية، وذلك في قضية الكونغو ضد بلجيكا، حيث اعتبرت المحكمة أن مذكرة الاعتقال التي أصدرتها بلجيكا بحق وزير خارجية الكونغو لاتهامه بجرائم دولية هو غير قانوني باعتباره متمتعًا بالحصانة.

انطلاقًا مما سبق، ومهما كانت الحجة التي يتذرع بها السعوديون للحدّ من حركة رئيس الوزراء اللبناني، سواء كانت لمقاضاته جنائيًا داخل السعودية أو لاستيائهم من التصرفات التي قام بها بمعرض ممارسته لوظيفته العامة بصفته رئيسًا لوزراء لبنان، فإن ما قاموا به يعدّ تعديًا واضحًا على السيادة اللبنانية وخرقًا لكل المواثيق والأعراف الدولية.

و عليه، هل هناك من وسائل قانونية يستطيع لبنان أن يتصرف من خلالها لإستعادة الحريري؟

- محكمة العدل الدولية: بموجب القانون الدولي، لا تستطيع الدول التقاضي في هذه الامور إلا أمام محكمة العدل الدولية التي يحتاج التقاضي أمامها الى موافقة الدولتين السيدتين، وهذا لن يكون متوفرًا لأن السعودية لن تقبل بمبدأ التقاضي. مع العلم أن القضايا المرفوعة امام تلك المحكمة تحتاج الى سنوات طويلة لصدور الحكم، ولا يملك اللبنانيون ترف الانتظار باعتبار أن حياة الرجل وعائلته ستكون على المحك.

- مجلس الأمن: يستطيع لبنان أن يتقدم بشكوى لمجلس الأمن الدولي ويتهم السعودية باحتجاز رئيس الوزراء، ولكن أمام هذا الأمر صعوبات تتعلق بموازين القوى في مجلس الامن، ومدى رغبة الدول الكبرى في تحدي السعودية كدولة غنية مقابل لبنان الصغير. كما قد لا يستطيع لبنان أن يقدم الاثباتات القانونية التي تؤكد الاحتجاز القهري للحريري.
كل ما يمكن للبنان أن يحصّله في مجلس الأمن هو بيان يشدد على أهمية دور الحريري وضرورة احترام سيادة لبنان وعمل المؤسسات اللبنانية، أي بيان سياسي قد لا يجبر السعودية على اطلاق سراح الحريري، ولكنه يشكّل نوعًا من الضغط السياسي عليها.

إذًا، تبدو الوسائل القانونية غير قادرة على حلّ معضلة الحريري، لذا فإن الضغوط السياسية الدولية وحدها هي التي يمكن لها أن تدفع السعوديين الى الامتثال واحترام سيادة لبنان، واحترام حصانة رئيس وزرائه، ولا أحد سوى الولايات المتحدة الأميركية ستكون القادرة على ممارسة هذا الضغوط بفعالية، لما لها من نفوذ على الحكام السعوديين، فهل تفعلها؟.

2017/11/08

لماذا حزب الله بالتحديد؟


ليلى نقولا
أتت استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية، والبيان التصعيدي الذي تلاه من المملكة العربية السعودية، والذي اتهم فيه حزب الله بمحاولة اغتياله، وتوعد "ببتر أيدي ايران في المنطقة"، لتعيد الأنظار الى الساحة اللبنانية وتسلط الضوء على حزب الله ونفوذه، خاصة بعد الترحيب الإسرائيلي بالاستقالة ودعوة نتنياهو العالم إلى احتواء قوة هذا الحزب.

بالتأكيد، وكما يشير العارفين والمحللين على حد سواء، كان البيان الذي قرأه الحريري بيانًا سعوديًا، صيغ بيد سعودية ومفردات خليجية غير لبنانية، وحتى لغة جسد رئيس وزراء لبنان وتصرفاته في اليومين السابقين للبيان لم تكن تشير إلى أي من الهواجس التي طرحها حول اغتياله، ولا إلى الاستياء العارم الذي سيق في البيان من نفوذ حزب الله، ما يعني أن البيان عكس استياءً سعوديًا وتحريضًا واضحًا ضد حزب الله، وهو ما انعكس في تصريحات المسؤولين السعوديين قبل وبعد البيان ومنهم وزير الدولة السعودي ثامر السبهان.

وقبل التصعيد السعودي ضد حزب الله، كان الكونغرس الأميركي قد فرض عقوبات قاسية على حزب الله ودعا الأوروبيون إلى إدراجه على لائحة الارهاب، فلماذا حزب الله بالتحديد؟

بالتأكيد يرتبط التصعيد ضد حزب الله بعلاقة الحزب الموضوعية والعضوية بإيران، وباعتبار البعض بأنه ذراع إيرانية في المنطقة، كما يرتبط بالصراع مع إسرائيل والنتائج التي حققها حزب الله في المعارك العسكرية ضد الاحتلال، كما الردع الذي حققه ضد إسرائيل في معادلات فرض القوة في المنطقة، وبكونه بات مصدرًا للإلهام للمقاومات في الشرق الأوسط وفي العديد من مناطق العالم التي تحاول تحدي الهيمنة والإمبريالية.

لكن، قد يكون هناك ما هو أبعد من هذا أيضاً، وهو مرتبط بدور حزب الله في سوريا وصولاً إلى العراق، والحدود بين البلدين بالتحديد.

أطلق الفكر الاستراتيجي في القرن العشرين على المنطقة الممتدة من إيران إلى لبنان، اسم "قوس الأزمات". ونظرية قوس الأزمات تعني المنطقة الجغرافية المحكومة دائمًا بالأزمات بسبب وقوعها في منطقة تنازع نفوذ قوى كبرى، ولعل الأصعب حين تكون تلك المنطقة واقعة في منطقة تجاذب نفوذ بين قوى بحرية كبرى وقوى برية كبرى. وتختلف منطقة قوس الأزمات عن المناطق الاستراتيجية الأخرى، بأن الدول الصغيرة في هذا القوس لها أهميتها، فانتقال دولة - مهما كان حجمها وأهميتها- من محور نفوذ إلى محور آخر، يستطيع أن يعدّل في موازين القوى القائمة، لذا تكون كل الدول في هذا القوس محورية في الصراع ولا تعتبر هامشية مهما صغرت جغرافيتها.

وتؤكد النظريات الاستراتيجية التاريخية الأقدم، أن مركز الثقل في منطقة الشرق الأوسط هما بغداد ودمشق، اللتان تنازعتا قيادة الشرق الأوسط لقرون خلت، وإن القوة التي تستطيع السيطرة على العاصمتين تحكم الشرق الأوسط بلا منازع. وهذا هو السبب الذي جعل كل من الدولتين الاستعمارتين بريطانيا وفرنسا، تتقاسمان العاصمتين بعد سقوط الامبراطورية ولم تعطَ السيطرة لأي منهما.

من هنا، يبدو واضحًا أن الهجمة على حزب الله، قد تكون مرتبطة بدور جديد يقوم به في المنطقة، وهو وصل العراق بسوريا وقتاله للسيطرة على الحدود العراقية السورية، وخاصة بعد ما أدرجته التقارير الميدانية الواردة من البادية السورية بأن حزب الله استطاع - ومن خلال استراتيجيته للذهاب للقتال في البادية بعدما قام بتأمين الحدود اللبنانية السورية-  تأمين وصل الحدود العراقية السورية بعمق خمسين كيلومتراً عرضاً خارج المعابر الرسمية بين البلدين، التي يتمّ السباق للسيطرة عليها اليوم.

من هنا، يمكن فهم التزامن بين الخطاب الذي قرأه الحريري وتحرير معبر القائم العراقي بواسطة الحشد الشعبي وتحرير مدينة البوكمال السورية، وقبله سيطرة القوات العراقية على معبر فيشخابور الاستراتيجي الواقع على مثلث العراق - تركيا - سوريا، وهو المعبر الوحيد لأكراد سوريا إلى الخارج، ومدى تأثير ذلك على قدرة حلفاء أميركا في سوريا على الصمود في حال قرر الجيش السوري تحرير الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بعد التفرغ من قتال داعش.

إذًا، تحوّل حزب الله إلى قوة إقليمية مقاتلة، ضمن محور إقليمي في عواصم ثلاث من منطقة قوس الأزمات الشرق أوسطي، ومدى تأثير ذلك على الصراع الدولي والإقليمي في الشرق الأوسط هو ما يخشاه تحالف واشنطن، لكن محورية الحزب هذه في الصراع هو ما يمنع استفراده أيضًا، وهو ما يمنع أي حرب إسرائيلية على لبنان في هذه المرحلة.

2017/11/02

سقوط مشروع البرزاني.. هل يُفشل التقسيم في سوريا؟


فرضت التطورات في الشمال السوري نفسها على كل التحاليل السياسية والأكاديمية، وتخوّف البعض من أن تكون الترتيبات التي حصلت ومسار التسوية في آستانة ستؤدي إلى التقسيم في سورية. لعل هواجس التقسيم تتبدى في الهجوم الذي شنّه الأكراد صوب دير الزور مسابقين الجيش السوري للوصول إلى الحدود العراقية - السورية، كما الترتيبات والتسوية التي عقدوها مع "داعش" للسيطرة على حقل عمر النفطي، وهو من أكبر الحقول النفطية في سورية، بالإضافة إلى تحرير الرقة وإطلاق اسم كردي عليها؛ "مدينة اوجلان". كما يشار إلى التقسيم باعتباره واقعاً انطلاقاً من دخول الجيش التركي إلى إدلب، ومحاولة توسيع مناطق نفوذه إلى أقصى حد ممكن.

بالتأكيد، يمكن استشعار الخطر على وحدة سورية وأراضيها من التوسُّع الكردي والتركي واحتلال الأراضي السورية، بالإضافة إلى الدعم الذي يتلقاه الأكراد من الأميركيين، خصوصاً القواعد العسكرية الأميركية التي تنتشر في مناطق الأكراد، لكن التطورات التي حصلت في العراق بعد حصول الاستفتاء ومبالغة أكراد العراق في وهم فائض القوة لتحدي الحكومة المركزية في بغداد، في ظل نظام إقليمي معادٍ، ستدفع أكراد سورية إلى الاتعاظ من تجربة إخوانهم أكراد العراق.

لعل وضع الأكراد في العراق كان الأفضل على الإطلاق في المنطقة، إذ إنهم يتمتعون بالحكم الذاتي منذ عام 1991، وقد حظوا بحماية أممية من خلال قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688، والذي حظّر على الطيران العراقي (خلال عهد صدام حسين) التحليق فوقها، كما تمّ تحديد ما سمي "الخط الأزرق" على الحدود بين كردستان والمناطق العراقية، وقد مُنع الجيش العراقي من تجاوزه، وبعد احتلال الأميركيين للعراق عام 2003، بدأ الأكراد بقضم المناطق العراقية، وكانت اللحظة المؤاتية لهم هي انخراطهم في الحرب على "داعش"، فتوسّعوا وسيطروا على محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، بالإضافة إلى سيطرتهم على الحدود والمنافذ الدولية، كالمطارات والمعابر البرية مع تركيا وإيران، وقاموا ببيع النفط العراقي والاستفادة المادية من تصديره بدون العودة إلى الحكومة المركزية في بغداد.

ومؤخراً، مع بدء العمليات العسكرية العراقية ضد الأكراد، كردٍّ على الاستفتاء الذي أجراه مسعود البرزاني بدون موافقة السلطة المركزية العراقية، بدأت تتهاوى مكاسب الأكراد التي حصلّوها على مدى 14 عاماً، أي منذ قدوم الأميركيين في العام 2003 ولغاية اليوم؛ فقد طردت القوات العراقية البشمركة من معظم المناطق المتنازع عليها، خصوصاً من كركوك الغنية بالنفط، والتي تشكّل ما يقارب 85% من الطاقة الإنتاجية النفطية في إقليم كردستان العراق، كما سيطرت القوات العراقية على المعابر التي تربط الإقليم بالخارج، ومنها معبر فيشخابور (سيمالكا من الجهة السورية)، والذي يقع على مثلث هام بين العراق وسورية وتركيا، وهو المعبر الذي يربط أكراد العراق بأكراد سورية، والممر الوحيد لأكراد سورية إلى الخارج (من خلاله كان يتم تزويدهم بالسلاح منذ 2011).

إذًا، بالرغم من كل القوة التي تمتع بها أكراد العراق، لم يستطيعوا الصمود في وجه السلطة المركزية في بغداد، خصوصاً في ظل خط أحمر إيراني - تركي يمنع تشجيع أي نزعة انفصالية كردية في المنطقة، فكيف بأكراد سورية الذين يسيطرون على أراضٍ عربية سورية، ويطالبون بدولة في الشمال السوري (يسمونها كردستان الغربية)، والتي ليس لها أي ذكر في مستندات ووثائق القومية الكردية.

ثم من المعروف أن البرزاني كان حليفًا لرجب طيب أردوغان، وبالرغم من ذلك وقف الأتراك سداً منيعاً أمام الاستقلال الكردي العراقي، فكيف بالأكراد السوريين الموالين لأوجلان، والذين يُعتبرون من الأجنحة الكردية المعادية للدولة التركية، ناهيك عن أن الكرد السوريين لا يملكون رؤية سياسية واحدة، فمنهم من هو حليف النظام ومنهم من يؤيد المعارضة، وبمعظمهم يسيرون في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، والتي لن تضحي بحليفها التركي لتعزيز حلم دويلة كردية غير قابلة للحياة أصلاً، لانها دولة داخلية ومحاطة بأعداء من كل حدب وصوب.

في النتيجة، لن يكون أمام الكرد السوريين سوى المطالبة بنوع من اللامركزية ضمن سورية الموحَّدة، وهو الحل الذي يدعمه الروس، لكن الخطورة تبقى في نوايا أردوغان في الشمال السوري، والتي لا تبشّر بالخير انطلاقاً من تاريخ أردوغان نفسه، ومن تاريخ الأتراك مع سورية، فتجربة الاسكندرون ما زالت ماثلة للعيان، والخوف كل الخوف أن تتحول المناطق التي سيطر عليها الجيش التركي في الجغرافيا السورية إلى جزء من الجغرافيا التركية بحكم الأمر الواقع.

د. ليلى نقولا

2017/10/18

هل تقع سوريا في الفخّ التركي مجدّداً؟



حسناً فعلت الخارجية السورية في بيانها الذي دعا القوات التركية إلى الخروج من الأراضي السورية فوراً، بعد دخول الجيش التركي إلى محافظة إدلب، بتنسيق وتعاون تام مع مجموعات المعارضة المسلحة السورية و"هيئة تحرير الشام" أو ما كان يُسمّى بـ "جبهة النصرة الإرهابية" سابقاً.

 يبدو الهدف التركي واضحاً من العملية العسكرية في إدلب هو وضع اليد على المنطقة السورية المحاذية للحدود
يبدو الهدف التركي واضحاً من العملية العسكرية في إدلب هو وضع اليد على المنطقة السورية المحاذية للحدود
وكانت محافظة إدلب المحاذية للحدود التركية، من أولى المحافظات التي سيطرت عليها المعارضة المسلحة وخرجت عن سيطرة الحكومة السورية، وهي المحافظة التي تمّ على مدى سنوات تجميع المسلحين فيها، من مجمل التوجّهات "المعتدلة" والإرهابية التكفيرية، ونُقل إليها عشرات آلاف السوريين المعارضين بموجب اتفاقات الهدنة والمصالحة، حتى باتت تعيش على صفيح ساخن يُنبئ بالانفجار في أيّ وقت.

ومؤخراً، انضمت إدلب إلى مناطق "خفض التوتر" خلال مؤتمر آستانة ، وكُلّف الجيش التركي بالانتشار ومواجهة المعترضين من المسلحين، وخاصة "جبهة النصرة" التي رفضت ظاهرياً دخول "الجيش الحر" إلى إدلب بدعم تركي، لكن سرعان ما تبيّن أن الجيش التركي قد دخل إلى المحافظة بالتنسيق والتعاون مع جبهة النصرة وأن المجموعة المصنّفة إرهابية قد سلّمت الأتراك مواقعها بشكل سلس.

من هنا، تبيّن للحكومة السورية والقوى الضامنة لاتفاقات خفض التوتر أي إيران وروسيا، أن أردوغان قد يكون قد نصب لهم فخاً في آستانة، وأن دخوله في عملية التسوية في آستانة لا يعود فقط لتحقيق مصالحه في منع تشكّل كانتون كردي على حدوده فحسب، وليس لرغبة صادقة منه بإنهاء ظاهرة الإرهاب في إدلب، بل يكون لهدف أكبر من ذلك بكثير.

تشي التطوّرات المُتسارعة على الأرض السورية، أن أردوغان بصدد إقامة المنطقة العازلة التي لطالما طالب حلفاءه في الناتو بدعمه لتحقيقها وفشل، فالتعاون والتنسيق جارِيان بين الجيش التركي والمجموعات المسلحة، ويقوم الأتراك بتسليم المقار الحكومية إلى ما يُسمّى "الحكومة السورية المؤقتة"، بالإضافة إلى عملية التتريك الممنهجة، والتي تذكّر بمحاولات الدولة العثمانية تتريك بلاد الشام. ناهيك عن وضع صوَر أردوغان في المرافق والمؤسسات الرسمية في المناطق التي سيطرت عليها تركيا ضمن عملية "درع الفرات"، بالإضافة إلى تعليم اللغة التركية في المدارس وغيرها.

إذاً، يبدو الهدف التركي واضحاً من العملية العسكرية في إدلب هو وضع اليد على المنطقة السورية المحاذية للحدود بعمق يتراوح بين 75 و100 كلم، وإقامة منطقة عازلة فيها يسيطر عليها الأتراك والمجموعات المسلحة المدعومة من قِبلهم، تمتد من باب الهوى إلى مدينة جرابلس غرب نهر الفرات، حتى مدينة الباب السورية الاستراتيجية، لتصبح في النهاية، وبحكم الواقع، جزءاً من الجغرافيا التركية، تماماً كما لواء الإسكندرون.

ولعلّ الخطورة الإضافية التي قد تعيشها سوريا مستقبلاً، هي إمكانية اقتطاع بعض الأقاليم والمحافظات بشكل دائم، فيحتفظ الأكراد - بدعم أميركي- على منطقة كبيرة من الشمال والشمال الشرقي السوري والذي يحتوي على كميات هائلة من النفط والغاز، وأن يتذرّع أردوغان بالكانتون الكردي للبقاء في المساحة الممتدة من الحدود التركية وصولاً الى إدلب، خاصة وأنه كان قد صرّح في وقت سابق بأن جيشه لن يخرج من الأراضي قبل القضاء على الإرهاب (الكردي) بشكل كامل.

والنتيجة، أن حلفاء الحكومة السورية قد يكونوا قد وقعوا بفخ الوثوق بأردوغان في آستانة، وحققوا له بالسياسة ما عجز عن تحقيقه بالحرب خلال سنوات ستّ من عمر الحرب السورية، وبات على الحكومة السورية الانتباه لئلا يتحوّل الانتشار التركي إلى احتلال دائم لجزء من الأراضي السورية، كما حصل مع قبرص التي يمنع التواجد التركي فيها إمكانية توحيد الجزيرة.

وعليه، بات على الحكومة السورية، التوجّه إلى حفظ حقّها في السيادة على كامل ترابها الاقليمي، وذلك عبر التوجّه إلى الأمم المتحدة لرفض العدوان التركي على سيادتها بالطرق القانونية وتثيبت حقها فيه، كما عليها التوجه بالتحذير لحلفائها، من مغبّة الوثوق بالنوايا التركية تجاه سوريا، فالمؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين، والسوريون الذين فتحوا أبواب المشرق لأردوغان عامي 2009- 2010، عادوا ودفعوا الثمن ابتداءً من العام 2011، وتعلّموا الدرس الأهم في العلاقات الدولية: لا تُبنى الدول وتُحفظ السيادة بالنوايا الطيّبة بل باكتساب القوة ولا شيء غير القوة.