2018/09/27

الأميركيون بعد إدلب: نحتاج للأتراك

يوماً بعد يوم، يثبت الأتراك قدرتهم على تحقيق مصالح متعدّدة للغرب وحلف الناتو، وإمساكهم بأوراقٍ عدّةٍ تجعلهم رقماً صعباً بالنسبة للأميركيين والأوروبيين على حدٍ سواء.

لقد كشفت أزمة إدلب حجم القلق الذي رافق الأوروبيين والأميركيين من هجومٍ عسكري للجيش السوري على المحافظة لتحريرها، ما أدَّى إلى تهديدٍ أميركي - غربي بالتدخّل العسكري لمنع تفاقم الوضع وهزيمة المسلحين أو هجرتهم إلى أوروبا. كما كشفت الأزمة وما تلاها، أن تركيا ما زالت قادرة على لعبِ دورٍ وظيفي يحتاجه الغرب بشدّة في سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط، وهو ما يجعل "الطلاق" بين حلف الناتو والأتراك يُقارب المستحيل.

وتُضاف إلى الدور والامتداد التركي في الشرق الأوسط، أوراقٌ هامّة تمتلكها تركيا في أوراسيا، عبر امتداداتها وفضائها الطبيعي المُتمثّل بالشعوب الناطقة باللغة التركية، بالإضافة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وسيطرتها على جغرافيّة إمدادات الطاقة... والتي تمثّل بالنسبة للأميركيين مصلحة استراتيجية هامّة.

كان مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى"، أكثر المنظّرين الأميركيين وضوحاً في إدراك أهمية أوراسيا، التي اعتبرها الجائزة الجيوبوليتيكيّة الرّئيسيّة بالنسبة للأميركيين، مُعتبراً أن مَن يسيطر على أوراسيا يسيطر على إفريقيا وعلى حوض البحر الأبيض المتوسّط بأغلبهما بشكلٍ تلقائيّ.

ونبّه بريجنسكي من ظهور منافسين مُحتمَلين للولايات المتحدة في تلك المنطقة، واعتبر أن على الأميركيين منع أية قوّة كبرى أو اقليمية من التشكّل في أيّ وقتٍ في "القارة الأوراسية"، خاصة إذا كانت تلك القوى الصاعِدة نفسها من جذورٍ أوراسية. ولمنع تلك القوى من الصعود وتحدّي الهيمنة الأميركية، يجب على الولايات المتحدة أن تستخدم جميع الوسائل الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتكنولوجية... فبامتلاكها مقدَّرات عسكريّة مُميَّزة تحسم بها السّيطرة على السواحل برمائيّاً، يمكن للولايات المتحدة فرض نفوذها على الداخل بطُرُقٍ سياسيّةِ الأبعادِ والأهمّيّةِ، خاصة وأنها تسيطر على كافّة محيطات وبحار العالم، وأنّ الطّرفين الشّرقيّ والغربيّ لأوراسيا، والخليج الفارسيّ محكومان بوجود فيالق عسكريّة أميركيّة، بحسب بريجنسكي.

ويؤكّد بريجنسكي أنّ أوراسيا هي "رقعة الشّطرنج" التّي يتواصل الصراع والتّجاذب فيها من أجل إحراز السّيادة العالميّة، ويعتبر أنّ السيطرة العالميّة للولايات المتّحدة الأميركيّة تبقى دائرة غير مكتملة ما لم تتعزَّز بالسيطرة على قارّة أوراسيا التّي تشابه إلى حدٍّ بعيد الفراغ الجيوستراتيجيّ الذي ينتظر تعبئته.

وهكذا، بامتداد تركيا الجغرافي المُترامي، والأوراق الاستراتيجية التي تمتلكها في أوراسيا، تكون الأفكار التي تراود الكرد بالقدرة على الاستناد إلى الدعم الأميركي لتأسيسِ كيانٍ انفصالي تعارضه تركيا، نوعاً من الأحلام أو الأوهام، لأن ما تحقّقه تركيا للأميركيين ولحلف شمالي الأطلسي، من الصعب تخطيه.

بالاتفاق المُنجَز حول إدلب، استطاع الأتراك أن يقيموا توازناً بين منطقة شرق الفرات ومحافظة إدلب، فما سيطرحه الأميركيون من حلولٍ للمسألة الكردية في الشمال الشرقي السوري، سيطالب له أردوغان لمنطقة إدلب وجوارها التي يسيطر عليها الجيش التركي. وعليه، ستكون مهمة مُسلّحي "الجبهة الوطنية لتحرير سوريا" في المستقبل، مواجهة التهديد الكردي الانفصالي وليس الجيش السوري.

لقد بيّنت الأزمة في إدلب، والإخراج الذي تمّ التوافق عليه بين الرئيسين بوتين وأردوغان، قدرة أردوغان مُجدّداً على اللعب على التناقضات، والاستفادة من الصراع الدولي على الأرض السورية وفي مساحة أوراسيا بأكملها، للاستفادة والإمساك بأوراقٍ جديدة بشكلٍ دائم. من هنا، فإن تهديدات ترامب المُتتالية والمتصاعِدة ضدّ الأتراك لن تجد صدى لها، فالأميركيون يدركون جيداً أن سياستهم مع تركيا يجب أن تبقى ضمن سقفين صارمين، "لا يرتاح أدروغان ولا يقف على أرض ثابتة فيتمرّد، ولا يُحرَج إلى درجة يتخلّى معها عن حلف الناتو بشكلٍ نهائي".

2018/09/20

المحكمة الخاصة بلبنان: التوسع لمحاكمة "النظام السوري"؟


تختتم المحكمة الخاصة بلبنان جلسات المُرافعة النهائية تمهيداً لاستصدار قرارها النهائي الذي بات معروفاً للجميع، والذي راهن عليه الكثير داخلياً وخارجياً لإحراج كل من النظام السوري وحزب الله.

وكانت لافتة عودة الادّعاء في المحكمة في مرافعاته الختامية للإشارة إلى أن "النظام السوري في صلب مؤامرة اغتيال الحريري"، عِلماً أن هذا الاتّهام كان قد سقط منذ عام 2009، ولم يتم ذكره منذ عام 2011 حين صدر القرار الاتّهامي لدانيال بلمار واتّهم فيه صراحةً عناصر من حزب الله بالقيام بذلك الاغتيال، مستنداً إلى دليل "داتا الاتصالات" الضعيف، والذي أثبتت لجنة الاتصالات البرلمانية في مجلس النواب اللبناني أن الاتصالات في لبنان مُخترّقة من العدو الإسرائيلي.

وقعت حادثة اغتيال الرئيس الحريري في مرحلة بالغة التوتّر، عربياً ودولياً على أثر احتلال الأميركيين للعراق. وما أن حصل الاغتيال، حتى تقاطعت مصالح فرنسية -أميركية- عربية بالتنسيق مع أطرافٍ داخليةٍ لبنانيةٍ، فأنشئت لجنة تحقيق دولية في اغتيال الحريري وبعدها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ومهمتها الأساسية "غير المُعلَنة" كما حددها لها الرئيس الفرنسي جاك شيراك "قتل النظام السوري" (عبارة حرفية أوردها فرنسوا نوزيل في كتابه "سر الرؤساء"، ولم يتم نفيها من قِبَل شيراك).

ومنذ لحظة اغتيال الحريري في شباط 2005 حتى عام 2009، لم تُشر التقارير التي أصدرتها "لجنة التحقيق الدولية المستقلّة" المُكلّفة بالتحقيق مُطلقاً إلى حزب الله أو أحد عناصره، بل خلصت التقارير إلى أن "خيوطاً كثيرة تشير إشارة مباشرة إلى تورّط مسؤولي أمن سوريين في حادث الاغتيال". وفي أيار 2009، نشرت مجلة "دير شبيغل"، مقالاً ذكرت فيه بقدرٍ كبيرٍ من التفصيل كيف شاركت عناصر من حزب الله في جريمة القتل، وكيف اكتشفت "لجنة التحقيق الدولية" ارتباط أولئك العناصر في حادث الاغتيال. وتتحدّث أن أحد عناصر الحزب "ارتكب طيشاً لا يُصدَّق" حيث اتصل بصديقته بواسطة هاتف خليوي تمّ استخدامه في عملية الإغتيال، ما أتاح للمُحقّقين فرصة تحديد الرجل. وتوالت التسريبات، وتوالت السيناريوهات التي تربط حزب الله باغتيال الحريري، وصولاً إلى القرار الاتّهامي الذي اتّهم أربعة عناصر من حزب الله، ثم أُضيف إليهم شخص خامس.

واللافت اليوم الغبطة التي سادت أوساط المعارضة السورية وبعض اللبنانيين من قوى 14 آذار، حول إعادة ربط الاتّهام للنظام السوري، مُعتبرين أن هذا قد يكون تمهيداً لفتح ملفات "النظام" واتّهامه بارتكاب جرائم أخرى في الحرب السورية، ولنا على هذا الأمر ملاحظات عدّة:

أولاً: إن اختصاص محكمة لبنان هو اختصاص ضيِّق جداً وصلاحياتها أضيق من أيّة محكمة دوليّة مرّت في تاريخ المحاكم الدولية. فلا يدخل ضمن اختصاصها النظر في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتُكبت حتى في لبنان في السنوات أو العقود الأخيرة، ولا حتى تلك الاغتيالات وأعمال التفجير التي جرت في لبنان بالتزامُن مع اغتيال الحريري، إلا في حال كانت مُرتبطة ومُتلازِمة، ومُماثلة في طبيعتها وخطورتها لجريمة الحريري، وقد وجدت المحكمة أن القضايا المُترابِطة مع قضية اغتيال الحريري هي حصراً: محاولة اغتيال مروان حمادة، ومحاولة اغتيال إلياس المرّ، وقضية اغتيال جورج حاوي.

وهذا يعني عدم إمكانية ضم أية قضية أخرى إلى اختصاص المحكمة، ولا توسيع إطار صلاحيتها للنظر في الجرائم المُرتكَبة على الأراضي السورية.

ثانياً: إن عبارة "النظام السوري" هي عبارة فضفاضة، فالمسؤولية الجنائية في القضاء الجنائي الدولي هي مسؤولية فردية، أي أن اتّهاماً لمسؤولين سوريين يجب أن يتم ذكره بالإسم، وليس ضمن عبارة فضفاضة لا يمكن الاستناد إليها في أيّ اتهام جنائي.

ثالثاً: لقد أثبتت التجارب أن المحاكم الجنائية الدولية هي فعلياً وواقعياً "عدالة المُنتصرين"، إذ لم تستطع أي منها في كل مسارها منذ محاكمات نورمبرغ على أثر الحرب العالمية الثانية ولغاية اليوم، أن تقدّم مُنتصراً للعدالة، فلم يُحاكَم في نورمبرغ سوى الألمان المهزومين، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتشار ثقافة تأسيس المحاكم لم يُحاكَم قادة الناتو ولا مَن يدعمونهم في المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة على قتل المدنيين في كوسوفو، ولم يتم التحقيق معهم في المحكمة على الاتهامات المُساقة للجنود بالتجارة بالأعضاء البشرية، ولم يُحاكَم أحد من قبائل التوتسي المُنتصِرة في رواندا، ولم يُحاكَم سوى المهزومين في كمبوديا إلخ..

وهكذا نجد، أن المُنتَصر هو مَن يسنّ القانون، ويكتب التاريخ، ويُقيم المحاكمات للمهزومين ليُضيف إلى انتصاره الميداني انتصاراً تاريخياً وبراءة أخلاقية... وعليه، طالما لم تتم هزيمة "النظام السوري"، فمن الصعب جداً تأسيس محكمة دولية لمُحاكمة أركانه أو مسؤولية، بزعم ارتكاب جرائم حرب خلال النزاع.

وعليه، انطلاقاً مما سبق، إن أية محاكمة لجرائم الحرب المُرتكَبة في النزاع السوري، سيكون من المُتعذّر دولياً النظر فيها، وسيكون على الضحايا الطلب من الحكومة السورية لتقوم بنفسها بتأسيس غرف خاصة داخل محاكمها الوطنية لمُحاكمة مَن ارتكبوا جرائم حرب خلال النزاع المُسلّح في سوريا.

2018/09/13

ماذا وراء "افتعال" الأزمات في لبنان؟


تتشابه الأحداث بين لبنان والعراق، وتشتد الأزمات السياسية والإقتصادية والإجتماعية منذ الانتخابات البرلمانية التي حصلت في كلا البلدين، وفي وقت متزامن، لدرجة تخال أن المؤسسات انهارت فجأة دون سابق إنذار، وأن الانهيار الكبير بات قاب قوسين أو أدنى.
في لبنان على سبيل المثال، تستمر المديونية العامة في الارتفاع منذ تسعينيات القرن الماضي، والتقارير تشير الى أن السرقة والفساد والبيروقراطية والمحسوبية وتضخم القطاع العام وغياب الانتاجية، قد أدّت الى نهب البلد على مدى عقود، أي منذ بدء سياسات إعادة الأعمار على أثر انتهاء الحرب الأهلية ولغاية اليوم... وبالرغم من ذلك، يبدو أن هنالك حملة مبرمجة إعلامية وسياسية وإقتصادية - بالدرجة الأولى- تهدف الى تحميل عهد العماد ميشال عون المسؤولية عن الانهيار المتمادي للدولة والاقتصاد منذ ما بعد الطائف، وتعطي إنطباعًأ بأن البلد سينهار فجأة فوق رؤوس أبنائه، ما يدفعهم الى الإحباط واليأس مصحوبًا بركود اقتصادي، وكأن البلد لا يكفيه الركود الذي حصل بعد توقف القروض الإسكانية وارتفاع أسعار الفائدة التي جمّدت الأسواق.
بالطبع، لن يُسمح لأي من البلدين أن يحصل فيه الانهيار الكبير، بل المطلوب أن يستمر الإستنزاف عبر الأزمات، لأن المنطقة الجغرافية الممتدة من إيران الى لبنان، تعرف بأنها من ضمن "قوس الأزمات" الشهير، وتعني تلك المحكومة دائمًا بالأزمات بسبب وقوعها في منطقة تنازع نفوذ قوى كبرى.
وإذا كان لا بد من قراءة موضوعية لأزمات لبنان القديمة والجديدة- "المفتعلة"، نجد أنها قد تسعى لتحقيق لأهداف عدّة، يبدو أهمها:
- يدرك الأميركيون جيدًا أن اجتثاث النفوذ الايراني من لبنان بات من المستحيلات، لذا فهم يقاتلون عبر حليفهم السعودي وأصدقائهم في لبنان، ساعين الى إخراج لبنان من دائرة النفوذ الواقعي "الأميركي - الإيراني" المشترك، وجرّه الى مكان يتقلص النفوذ الايراني فيه الى أدنى مستوى وتوسيع نفوذ الأميركي - السعودي فيه الى أقصى حد.
- يؤمل من إضعاف قوى المقاومة وحلفائها في لبنان، أن يؤدي لبنان دورًا وظيفيًا هامًا في المستقبل؛ وهو تشكيل سدّ منيع للنفوذ الروسي المستجد في المنطقة، والتأسيس لمساحة نفوذ أميركية - غربية يمكن لها مراقبة التصرفات الروسية والتأثير على سياسات ما بعد الحرب في سوريا، والتعويض من خلال لبنان عما فقده الغرب من تأثير ونفوذ على سوريا، بسبب خسارته الحرب هناك.
- تهدف الحملة المبرمجة التي تسعى لاستهداف عهد الرئيس عون وإفشاله، وتحميله شخصيًا مسؤولية التآكل والانهيار المتمادي منذ ما بعد الطائف، الى معاقبته على دعمه للنظام السوري في بداية الحرب في سوريا وانتشار الارهاب والتكفير، ولارتباطه التحالفي مع حزب الله (الذي يجب أن يُمنع من استثمار انتصاره في الانتخابات النيابية). يضاف الى ذلك، إن إضعاف الرئيس "القوي" وحشره في دائرة الاتهام، يهدف الى منع لبنان - الدولة من استثمار الانتصار الذي يتحقق في سوريا ومن استقرار الدولة السورية، ليبقى لبنان - الساحة التي يتم الانطلاق منها لتكريس واقع سياسي جديد في سوريا فشل تحقيقه عبر الميدان.
وتبقى المشكلة الكبرى التي يعانيها لبنان الواقع اليوم ضمن نفوذ مزدوج أميركي- إيراني، أن الدول الصغيرة في منطقة "قوس الأزمات" يكون لها أهميتها، مهما كان حجمها ودورها، فإنتقال تلك الدولة الصغيرة - بغض النظر عن أهميتها وصغر جغرافيتها - من محور الى آخر، سيخلّ بتوازن القوى القائم على أسس هشّة في ذلك القوس، هذا يعني أن أيًا من طرفي الصراع الدولي والاقليمي على أرض لبنان لن يتنازل بسهولة عن نفوذه في لبنان، مهما انعكس ذلك على الداخل اللبناني.  وهذا يعني أن على اللبنانيين انتظار جلاء غبار المعارك الاقليمية الممتدة عبر القوس، وانتظار نتيجة  لعبة "عض الأصابع" الأميركية الايرانية، لينعموا ببعض من الهدوء والأمان والاستقرار.

2018/09/05

سوريا: دور الحرية الدينية في بناء السلام


كان لافتًا تصريح وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان، الذي اعتبر بأن الرئيس السوري بشار الأسد فاز في الحرب الدائرة منذ سبع سنوات، ولكن ذلك لن يحقق السلام في سوريا، ولفت أن السلام مستحيل بدون تسوية يضمنها الوسطاء الدوليون.

نعم، قد يكون السلام، بالمعنى السلبي، أي غياب العنف ليس كافيًا لدولة مثل سوريا، خارجة من سنوات سبع من الحرب والدمار والتشظي الاجتماعي، بل إن السوريين بحاجة ماسّة لإحلال مفهوم السلام بمعناه الايجابي، أي المصالحة المجتمعية، والقيام بإجراءات تمنع تكرر العنف وتمكين المجتمع والسير به نحو حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تقوية المؤسسات السياسية والاقتصادية والقانونية لمنع اندلاع النزاع مجددًا، والأهم في الحالة السورية، وبعد سنوات عجاف من مشاهد التكفير والذبح، هو تكريس الحرية الدينية.

ما الذي يمكن أن تحققه الحرية الدينية في المجتمع السوري؟

أولاً- المساهمة في النمو الاقتصادي

لقد أظهرت الدراسات المختلفة أن تزايد مستوى العنف في العالم، وزيادة الاضطرابات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، يعود بشكل رئيسي الى أسباب إقتصادية إجتماعية، بالاضافة الى التضييق على الحريات ومنها الحرية الدينية حيث بات الدين اليوم مصدرًا من مصادر النزاعات وسببًا لتفاقم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

إن جو الحرية العام يساهم في خلق مناخ ايجابي للاستثمار في البلد والعكس صحيح، كما إن تفضيلات التاجر والمستهلك الذي يفضل أن يقوم بالمبادلات التجارية مع الشخص الذي ينتمي الى نفس الدين أو المذهب، قد تؤثر سلبًا على الاقتصاد والتبادلات الاقتصادية الداخلية وهو ما يرتد سلبًا على الانفاق الكلّي للمجتمع وتنمية المناطق. وقد أثبتت احصاءات صندوق النقد الدولي، أن المؤشرات تفيد عن علاقة طردية بين النمو الاقتصادي واحترام الحرية الدينية في العالم.

        ثانيًا- التخفيف من غلواء التطرف الديني

تشكّل الحرية الدينية عاملاً مخففًا لغلواء التطرف الديني، فالسماح للمتدينين بالتعبير عن أفكارهم في المجتمع والتصرف بحرية بشكل يمنع استغلال شعورهم بالتهميش والضغط والقمع، ما يسهم في التخفيف من غلواء التطرف والنزعة لاستعمال وسائل عنفية للتعبير عن أنفسهم في المجتمع.

        ثالثًا- المساهمة في عمليات العدالة الانتقالية

        إن إنتشار أفكار الحرية الدينية والسياسية وتمكين المرأة واحترام الخصوصيات الثقافية، واستخدامها كأساس للتعليم وبناء المجتمع، سوف تسهم إسهامًا عمليًا في عمليات العدالة الإنتقالية التي تحتاجها سوريا كبلد خارج من إرث من الصراع الذي اتخذ الدين أحد وجوهه العميقة والنافرة.

وتفيد دراسة بعنوان God's century  أن 30 حالة من مجموع 78 دولة شهدت تحوّلاً ديمقراطيًا في العالم، كان للقادة الروحيين دور أساسي وفاعل في بناء السلام. وجدت تلك الدراسة أنه في 8 من بين 19 قضية مدروسة، ساهم القادة الروحيون الواعون الى أهمية بناء السلام، والمؤمنون بحرية الإيمان والعقيدة، في عملية بناء السلام من خلال المساهمة في تعامل مجتمعاتهم مع إرث الماضي من الانتهاكات، حيث قاموا  بتشجيع المواطنين على المسامحة والغفران، وعلى تأسيس لجان المصالحة والحقيقة، والتعويضات وغيرها.

        ولعل الأشهر في هذا المجال، هو المطران ادموند توتو الذي قاد لجنة المصالحة والحقيقة في جنوب أفريقيا، وكان نجاحها سببًا لشهرة لجان الحقيقة حول العالم. وبدرجة أقل من الشهرة، ولكن بشكل لا يقل عنها أهمية، كانت تجربة غواتيملا حيث قاد المطران جيراردي الكنيسة لتأسيس لجنة مصالحة وطنية، ساهمت الى حد بعيد في تخفيف المعاناة الانسانية وساعدت الضحايا نفسيًا وروحيًا.



إذًا، قد يكون في تصريح الوزير الفرنسي نوع من الإقرار بأن ما أسماه "الوسطاء الدوليون"، لن يقبلوا بالإقرار بالهزيمة وإن الدول الكبرى لن تسلّم بالهزيمة بسهولة، ولن تسمح بإحلال سلام متكامل في سوريا بدون أن تكون هي الضامن للحل السياسي الذي يحقق بها مصالحها.

وعليه، يجب على السوريين أن يأخذوا المبادرة بأنفسهم. إذ ليس من الصعب أبدًا على سوريا أن تدخل مرحلة بناء السلام المجتمعي بعد أن تنتهي العمليات العسكرية وتعود الأراضي السورية كافة الى حضن الدولة.

الأهم، أن تنطلق مقاربات ما بعد الحرب، من حلول تركّز على النتائج outcome-oriented ، إلى حلول تركّز على العلاقات في المجتمع  relationship-oriented  فتعتمد مبدأ "تحويل الصراع" الى سلام إيجابي مستدام، عبر التركيز على أولوية تحقيق التنمية وخلق ثقافة تُتيح مشاركة المجتمع المدني، للوصول إلى حلول سلمية وترميم العلاقات الإجتماعية، وتحويل جذور الصراع لعدم تكراره مجددًا .