2021/12/31

طريق الحرير الصيني.. صراع الموانئ في شرقي المتوسط

منذ 4 آب/أغسطس 2020؛ أي تاريخ انفجار مرفأ بيروت، وبعده الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مرفأ اللاذقية، سُلِّطت الأضواء على موانئ شرقي المتوسط كمحور صراع جيوبوليتكي. قبل ذلك، كانت موانئ القرن الأفريقي مركزاً جاذباً للصراع الجيواستراتيجي في المنطقة، منذ ما بعد إعلان مبادرة "الطريق والحزام" الصينية، والتي تكرّس في شقّها البحري أهمية كبرى للموانئ التي ستكون قبلة التجارة الصينية مع العالم.

كان القرن الأفريقي ساحة لصراع السيطرة على الموانئ، والتي بدأت من جيبوتي، التي توصف بأنها المركز التجاري الرئيسي في شرقي أفريقيا. وقامت جيبوتي، عام 2013، بفسخ عقد تطوير مينائها - يصفه البنك الدولي بأنه من أكثر الموانئ تطوراً في العالم - مع شركة "موانئ دبي"، لتعقد اتفاقاً مع الصين، وترفض عروضاً فرنسية وكندية في هذا المجال

وتكريساً للاستراتيجية الصينية التوسعية، عبر الاستثمار والتنمية، لم تكتفِ الصين بتطوير البنية التحتية لميناء جيبوتي، بل أنشأت فيه أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، من أجل "محاربة الإرهاب"، كما جاء في "الأوراق البيضاء" الصينية. وكما جيبوتي، شهدت كل من إريتريا والصومال واليمن منافسة، دولياً وإقليمياً، من أجل الاستحواذ على الموانئ. وتزايدت حدّة المنافسة بعد أن أعلنت الصين تطوير ميناء "جوادر" الباكستاني، المطل على بحر العرب.

وكما هي الحال في شمالي أفريقيا وشرقيّها، كذلك في شرقي المتوسط، الذي يبدو أنه بات رقعة شطرنج جيواستراتيجية، ازدادت أهميتها بعد مبادرة الطريق والحزام الصينية، وذلك من خلال ما يلي:

- الطريق البرّي الذي يُعيد الحياة إلى طريق الحرير البري القديم، من خلال عبور آسيا الوسطى والمشرق العربي وتركيا، وصولاً إلى أوروبا، وربط المناطق بعضها ببعض، عبر شبكة معقَّدة من السكك الحديدية والطرق السريعة والموانئ الجوية والبحرية وشبكات الكهرباء والنفط وخطوط أنابيب الغاز الطبيعي المَسِيل وشبكات الاتصالات.

- طريق الحرير البحري، الذي يعيد إنتاج طريق الحرير البحري التاريخي القديم. يمتد من بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، ويمرّ عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، مع فارق رئيسي مفاده أنه يصل إلى وجهته النهائية (أوروبا) عبر خليج عدن وقناة السويس، بدلاً من الالتفاف حول القارة الأفريقية، كما كان الطريق القديم.

ولأن الصين تعتمد تنويع الخطوط وعدم الاعتماد على خط رئيسي واحد، يمكن للولايات المتحدة أو للمنافستين الاقتصادية والجيوبوليتيكية، أو لعدم الاستقرار، سياسياً وأمنياً، أن يعرقله، فإن دمج تركيا ودول شرقي المتوسط في "مبادرة الحزام والطريق" يعطي الصين مَنْفَذاً موازياً إلى البحر الأبيض المتوسط، يمكّنها من تخطّي قناة السويس كطريق تجاري دولي مع جنوبي أوروبا وشمالي إفريقيا

انطلاقاً من هذه الرؤية، استثمرت الصين في ميناء حيفا، وأبدت رغبتها في الاستثمار في ميناءي اللاذقية وطرطوس في سوريا، ووقعّت اتفاقيات لتطوير مرفأ طرابلس في لبنان واستخدامه:

1- تطمح "إسرائيل" إلى أن يشكّل ميناء حيفا مركزاً تجارياً إقليمياً، يجعل "إسرائيل" مركزاً للملاحة البحرية في المنطقة، مستفيدة من عمق المياه التي تسمح باستقبال السفن الضخمة. وكانت بلدية مدينة حيفا وقّعت اتفاقاً مع الصين في حزيران/يونيو 2019، مدته 25 عاماً، لبناء ميناء بحري كبير على البحر الأبيض المتوسط وتشغيله، وبدأ تشغيله في أيلول/سبتمبر 2021

2- أبدت الصين اهتمامها بتوسيع قدرة ميناء اللاذقية وتطوير ميناء طرطوس، آخذة في الاعتبار المصالح الروسية في طرطوس، والإيرانية في اللاذقية

3- تسلّط الصين نظرَها على موانئ لبنان، وخصوصاً ميناء طرابلس، من أجل استخدامه مِحْوَراً مركزياً لإعادة الشحن إلى شرق البحر الأبيض المتوسط. إن قرب طرابلس من سوريا يجعلها مركزاً محتملاً لمشاركة بكين في إعادة الإعمار في سوريا بعد الحرب. كما أبدت الصين رغبتها في إنشاء سكك حديدية تربط بيروت بطرابلس، كما تربط لبنان بسوريا.

 بناءً على كل ما تقدَّم، يبدو أن هناك حربَ موانئ حقيقية تجري في شرقي المتوسط. إن الهدف من استراتيجية السيطرة على الموانئ هو التموضع على خط المسالك البحرية التي ستعتمدها طريق الحرير الجديدة، في شقّها البحري، والاستفادة من التبادل التجاري الدولي والتحكّم في المضائق المهمة، من خلال تسهيل تحركات القطعات البحرية للدول أو إعاقتها خلال أوقات الحرب

وهكذا، إذا كانت "إسرائيل" تضع نصب عينيها تحويل مرفأ حيفا إلى مركز تجاري إقليمي يسيطر على كل التجارة البحرية في المنطقة ويستقطبها، فإن من مصلحتها خروج الموانئ المحيطة في كل من لبنان وسوريا من الخدمة، وتحويل السفن التجارية إلى حيفا، حتى لو اضطرها الأمر إلى إخراج المرافئ الأخرى من الخدمة عبر العدوان.

بناءً عليه، إن انفجار مرفأ بيروت وخروجه عن الخدمة بعد آب/أغسطس 2020، بالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي على مرفأ اللاذقية في الـ 28 من كانون الأول/ديسمبر 2021، والأضرار الهائلة التي لحقت به، تجعل الأنظار تتجه إلى ميناء طرطوس في سوريا وميناء طرابلس في لبنان:

- مرفأ طرطوس: إن وجود القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس، وخشية الإسرائيليين من إثارة الغضب الروسي، قد يحيّدان مرفأ طرطوس من استهداف إسرائيلي - أقلّه - في المدى القصير.

- بالنسبة إلى مرفأ طرابلس: منذ تكريس توازن الردع بين لبنان و"إسرائيل" بعد حرب عام 2006 وما تلاها، هناك خشية إسرائيلية دائمة من ردّ لبناني صارم عسكرياً في حال تمّ استهداف مناطق أو موانئ لبنانية. لذا، فإن العدوان العسكري الإسرائيلي المباشِر قد يكون مستبعَداً. فهل يشهد مرفأ طرابلس عملاً تخريبياً مفتعَلاً يسجَّل ضد مجهول، أو يتَّسم بالغموض، بحيث يندرج تحت بند الفساد وتقصير المسؤولين وإهمالهم؟ 

2021/12/27

الاصلاح في لبنان ... التعليم الديني


أثارت تصريحات البطريرك الراعي في عيد الميلاد العديد من الملاحظات في لبنان، خاصة ما قاله أمام رئيس الجمهورية وأمام وفد القوات اللبنانية الذي زاره. وكان موقف الراعي حول الحياد الايجابي بمعرض الدعوة الى الانتخابات النيابية والرئاسية ودعوة العالم الى التدخل لمواجهة الهيمنة على لبنان (كما أسماها)، موقفاً سياسيًا لطالما كرره الراعي في أوقات سابقة، لكن الصفات التي أطلقها البطريرك على سمير جعجع كانت خارج السياق، لا بل متناقضة مع آراء كان الراعي قد أبداها في وقت سابق في طلات إعلامية وعبّر فيها عن رأيه بسمير جعجع.

 

وبغض النظر عن مواقف الراعي السابقة والحالية والمتكررة، لقد أظهر الاستقطاب السياسي الذي ولّدته حركة 17 تشرين الأول وما بعدها، إن انخراط  "بعض" رجال الدين من مسيحيين ومسلمين في السياسة وترك الرعايا لمصيرها وبدون مدّ اليد لها لانتشالها من العوز والفقر أو لمساعدتها في تدبّر أمور الأقساط المدرسية وسواها، يساهم في ابتعاد الناس عن المؤسسات الدينية أكثر فأكثر. إن إنخراط بعض هؤلاء ببث الفرقة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، وتسلطهم على حياة الناس الشخصية، وخلط "المقدس" بالآراء السياسية، بات أمراً يُخشى معه أن يبتعد الناس عن الإيمان كنتيجة لموقفهم من رجال الدين، كما حصل في أوروبا في القرون الوسطى.

 

وهكذا، نجد أن الأزمات الكبيرة تفترض خيارات اصلاحية شاملة، لذا فإن اي إصلاح في لبنان في المرحلة المقبلة لا يجب أن يبقى ضمن الاستدانة من صندوق النقد الدولي وبعض الاصلاحات الاقتصادية، بل يجب أن يطال الاصلاح كافة جوانب الاقتصاد والسياسة والقضاء والتربية والتعليم بكافة مندرجاته ومنها التعليم الديني في المدارس.

 

لن يخرج اللبنانيون من قوقعة التعضب الطائفي الذي يستولد الأزمات تلو الأزمات ويسبب الفتن والتشنج والتقوقع، إلا من خلال التربية والتعليم، حيث بات من الضروري أن نتحوّل من "التعليم الديني" في المدارس إلى "التثقيف الديني" ضمن حرية الاعتقاد للجميع، والذي يمكن أن يتضمّن فئات ثلاث، هي:

 

1- ثقافة عن الأديان: المقصود بهذه الثقافة تعليم الطالب عن دين معيّن (عادةً ما يكون دينه الخاص)، بهدف إكسابه القيم الروحيّة والأخلاقيّة والشّخصيّة، وبناء هويته الدينية، وتعليمه كيفيّة ممارسة طقوس الدّين الَّذي ينتمي إليه.


2- ثقافة حول الأديان: هي الإطار الَّذي يمكن أن يمنح الطالب معرفةً واطلاعاً على أفكار ومبادئ أديان عدّة، فيكتسب ثقافة قبول الآخر، انطلاقاً من المبدأ القائل إنَّ "الإنسان هو عدوّ ما يجهل".

 

3- ثقافة من الأديان نفسها: تأخذ بعين الاعتبار التجارب الشخصيَّة للطلاب، بأن تترك هامشاً للطالب لتكوين فكره الخاصّ المستند إلى التعليم والتجربة، فيختار ما يناسبه وما يتلاءم مع تطلّعاته من أفكار ومُثل أخلاقية مستمدة من كل ما تعلمه وخبره.

 الأكيد، إن أنطلاقة أي إصلاح لبناني حقيقي لبناء لبنان المستقبل الذي يفتخر به موطنوه، يجب ان تنطلق من مصدرين: حكم القانون الذي لا يسمح بالتمييز، والذي تعلو سلطته كل السلطات الأخرى، والتعليم الذي يهدف الى بناء الإنسان- المواطن، فيُبعد "المقدس" عن الوظائف والمناصب في الدولة وعن الاستقطاب السياسي، ويجعل من الإنسان قيمة بذاته بغض النظر عن انتمائه الطائفي أو المذهبي.

  

2021/12/26

ماذا ينتظر إدارة بايدن عام 2022؟

لا شكّ أن عام 2021 لم يكن عاماً سهلاً على إدارة الرئيس بايدن، الذي بدأ عامه الأول في البيت الأبيض وارثاً تركة كبيرة ومتعبة من إدارة سلفه دونالد ترامب، أبرز معالمها علاقات متوترة بين ضفتي الأطلسي، وانقسام داخلي غير مسبوق، وفشل في مواجهة جائحة كورونا، وحرب تجارية مع الصين وسواها.

وفتح مجيء بايدن الى البيت الأبيض أملاً في إعادة إحياء التحالف المتين مع أوروبا، وإعطاء دور أكبر لحلف الناتو، ومحاولة مواجهة الصين عبر وسائل أخرى منها الاستثمار في التنمية ومحاولة حشد الحلفاء  الأوروبيين لحرب باردة جديدة. لكن العلاقات الأميركية الأوروبية، سرعان ما عادت الى التوتر بعدما قام الأميركيون بإقناع استراليا بإلغاء صفقة غواصات فرنسية، لصالح شراء غواصات نووية في إطار تحالف دفاعي جديد لمواجهة صعود الصين، انخرطت فيه بريطانيا واستراليا، بعدما أعلن العديد من الدول الفاعلة في الاتحاد الاوروبي أنهم غير معنيين بحرب باردة مع الصين تستعيد الصراع الايديولوجي مع الاتحاد السوفييتي السابق.

واليوم، وبعد مرور سنة تقريباً على وصول بايدن الى البيت الأبيض، تعاني إدارته من تحديات عدّة سوف ترافقها عام 2022، حيث يبدو ان الاهتمام بالداخل سوف يطغى على الاهتمامات الاستراتيجية، أو – على الأقل- أن تكون القرارات الاستراتيجية للإدارة مرتبطة بعوامل داخلية، بشكل أساسي.

وفي استكشاف لما ستكون عليه تحديات عام 2022 على الإدارة الأميركية، نجد ما يلي:

1-  في الداخل: انتخابات نصفية في ظل تراجع شعبية بايدن

يعاني جو بايدن من تراجع شعبيته بشكل كبير، وتشير شبكة "سي أن أن" الى أن ترتيب بايدن الاقتصادي ورضى الجمهور عن أدائه قد يكون الأدنى منذ جيمي كارتر عام 1977. في استطلاع حديث للرأي قامت به المحطة مع شركة إحصاءات أخرى، اعتبر 44 % من المستطلعين عن رضى عن آداء بايدن الاقتصادي مقابل 55 % أبدوا عدم رضاهم[1].

وفي استطلاع آخر قامت به شركة أيبسوس مع محطةABC [2]،  اعتبر أكثر من ثلثي الأميركيين (69٪)  أنهم لا يوافقون على كيفية تعامل بايدن مع التضخم (28٪ فقط يوافقون) بينما أكثر من النصف (57٪) لا يوافقون على طريقة تعامله مع التعافي الاقتصادي. هذه الأرقام وغيرها تشير الى ان المؤشرات الاقتصادية والتضخم وجائحة كورونا، سوف تكون أبرز شعارات الحملات الانتخابية للانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني 2022، خاصة أن الاستطلاع أظهر أن 71٪  من  الناخبين المستقلين أعترضوا على آداء بايدن وأسلوبه في التعامل مع التضخم.

إن إقناع الأميركيين في الداخل بأن الامور تسير بالشكل الصحيح، والتعامل مع جائحة كورونا وموجاتها الجديدة بشكّل فعّال، قد يكون أفضل ما يمكن أن تفعله الإدارة الأميركية في السنة القادمة، وذلك لتشكيل رافعة للحزب الديمقراطي خلال الانتخابات النصفية القادمة.

2-  بالنسبة للتحديات في الخارج:

بحسب ما تمّ الاعلان عنه سابقاً، كانت الإدارة الأميركية تتطلع في العام 2021 أن "تحقق علاقة مستقرة ويمكن التنبؤ بها مع روسيا"  وأن يكون لديهم القدرة على "تركيز أكبر على الصين، والتعاون حيثما أمكن، والتنافس وإظهار أن الديمقراطيات تستطيع أن تتقدم على الصين وتواجهها عند الضرورة".

أ‌-     روسيا:

لا تبدو العلاقة مستقرة مع موسكو في ظل التهديدات المتزايدة التي تشكّلها موسكو، والشروط الواضحة التي وضعها بوتين في اتصاله مع بايدن، بأن الروس لن يتهاونوا في توسع حلف الناتو الى حدودهم، وإن الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل أوكرانيا أو جورجيا لا يمكن أن تكون جزءًا من الناتو.

بالنسبة للأميركيين، يبدو أن النظرة الى روسيا ما زالت محكومة بأفكار الحرب الباردة، لذا فإن تغيير الرئيس في البيت الأبيض وتقاربه مع روسيا أو عدمه، لا يبدو أنه عامل مساعد لتغيير النظرة الى موسكو في الداخل الأميركي.

قد تعمد إدارة بايدن الى محاولة تقليل المواجهة مع الروس عام 2022 لكي تتمكن من التركيز على الصين، لكن الأمر مرتبط بالتهديدات الاستراتيجية التي تواجه أوروبا، وما يطالب به بوتين - بشكل واضح- وهو خفض مستويات تواجد قوات الناتو قرب حدوده إلى حيث كانت قبل توسيعها إلى أوروبا الشرقية في أواخر التسعينيات.

إن الأمر معقّد بالنسبة لبايدن، فهو يحتاج الى أوروبا لمواجهة الصين وروسيا، ويهمه إظهار الولايات المتحدة كحليف موثوق له لدول أوروبا الشرقية ودول البلقان، بعدما أظهر الانسحاب الفوضوي من أفعانستان صورة سيئة عن حليف يهرول مسرعاً للنجاة بنفسه وترك حلفائه لمصيرهم.

وعليه، يمكن أن يكون اجتماع القمة الذي سيعقده بوتين وبايدن بشكل شخصي في بداية عام 2022، بعد لقائهما الافتراضي السابق، مناسبة لفتح باب التعاون مع موسكو في العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكن الآمال بتعاون وثيق مع الروس يتيح لإدارة بايدن بالتركيز على المنافسة الاستراتيجية مع الصين، لا يبدو متاحاً في الوقت الحالي.

ب - الصين

يدرك الصينيون أن أولوية الإدارات الأميركية منذ أوباما ولغاية الآن، هو احتواء الصين ومنعها من تحقيق التنمية، ومن الوصول الى تحقيق أهدافها وتطلعاتها القومية.

يتطلع الصينيون ويعملون – حيثما استطاعوا لذلك سبيلاً- الى إشغال الولايات المتحدة الأميركية في مناطق حيوية أخرى، وذلك لكسب الوقت للوصول الى أهدافهم أو على الأقل لاقتناص فرص للتمكين بحيث لا تعود معها تنفع الجهود الأميركية في الاحتواء.

لقد أدّى التعاون الروسي الصيني في سوريا الى إشغال إدارة أوباما في الشرق الأوسط، ومنعها من تحقيق الاهداف المرجوة من استراتيجية الاستنزاف التي كانت تحاول تطبيقها، ما ساهم في تأخير تطبيق استراتيجية " التوجه نحو آسيا" pivot to Asia

ثم أعاقت جائحة كورونا قدرة ترامب على الاستفادة من الحرب التجارية التي أقامها ضد الصين، وإجبار الصين على توقيع اتفاقية هامّة سميّت "اتفاقية المرحلة الأولى" في كانون الثاني / يناير 2020، تعهدت الصين بموجبها بشراء بضائع أميركية بقيمة 200 مليار دولار سنوياً.

سوف تحاول إدارة بايدن عام 2022 الاستفادة من الضغوط التي أقامها ترامب على الصين، وقد تطالب بأن تقوم الصين بتنفيذ ما عليها بموجب "اتفاقية المرحلة الأولى". إن المراقب لسياق تعامل إدارة بايدن مع الصين، ومقارنته بسلفه دونالد ترامب، لا يجد تغييراً كبيراً بين الاثنين.

بالرغم من محاولة بايدن تشكيل أحلاف أمنية لمواجهة الصين AUKUS، وبالرغم من إعلان الأميركيين مقاطعة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2022، وبالرغم من التصريحات الأميركية المستفزة للصين حول تايوان، إلا أن خيار المواجهة العسكرية لا يبدو محتملاً هام 2022، لأن البلدين محكومان بالتعاون.

هناك ترابط عميق بين الاقتصادين والمجتمعات الصينية والأميركية، فلا تزال الصين أكبر مستورد للبضائع من الولايات المتحدة وثالث أكبر سوق لصادرات البضائع الأميركية. كما أنه، وبالرغم من القيود والضرائب التي تفرضها الحكومة الأميركية على الصين والمستمرة منذ ترامب ولغاية اليوم، تبقى الولايات المتحدة وجهة مهمة للغاية للاستثمار الصيني في الخارج، مما يساعد الشركات الصينية على اكتساب التكنولوجيا والمعرفة والعلامات التجارية واختراق الأسواق الأميركية.

ج - الشرق الأوسط:

انطلاقاً من المبدأ الاستراتيجي الأهم للإدارة الأميركية بالتركيز على الصين، إن سعي بايدن لتخفيف الانخراط في الشرق الأوسط يبدو سياسة ثابتة. تعاني الإدارة الأميركية في خطتها لتخفيف الانخراط في منطقة الشرق الأوسط، من شروط ايران وعدم تهاونها  في المفاوضات الجارية، والقلق الجنوني الاسرائيلي من توجّه الادارة الى إعادة العمل بالاتفاق الموّقع مع إيران عام 2015، والذي جعل الرحلات السياسية المكوكية بين اسرائيل وأميركا لا تتوقف.

يتوقع أن تسير المفاوضات بشكل جيد بين إيران والدول الست عام 2022، وقد يكون من مصلحة الأطراف جميعها أن يتم توقيع نوع من الاتفاق المرضي للطرفين (إيران والولايات المتحدة) قبل الانتخابات النصفية الأميركية، والتي يتوقع أن يحصد الجمهوريون فيها أغلبية واضحة إذا ما استمرت الظروف الاقتصادية والداخلية في أميركا كما هي عليه الآن. 

2021/12/21

إنقسام الجيش الأميركي: مدى واقعية التحذيرات

في مقال لافت ومثير للاهتمام، نشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في 17 كانون الأول / ديسمبر الحالي، مقالاً كتبه ثلاثة جنرالات متقاعدين في الجيش الأميركي بعنوان "على الجيش الاستعداد الآن لانتفاضة 2024".[1]

ويشير الجنرالات في مقالهم، الى القلق الشديد من فكرة "نجاح الانقلاب في المرة القادمة"، معتبرين ان القلق يتأتى من أنه "في السادس من كانون الثاني/ يناير 2020 شارك عدد مثير للقلق من المحاربين القدامى وأفراد الخدمة الفعلية في الجيش في الهجوم على مبنى الكابيتول"، وتشير الاحصاءات ان أكثر من 1 من كل 10 من المتهمين في الهجمات على الكابيتول لديه سجل خدمة في الجيش.

لذا يعتبر كتّاب المقال أن التاريخ قد يتكرر مرة أخرى، وأنه "في انتخابات متنازع عليها، مع انقسام الولاءات الحاصل في الولايات المتحدة، سوف ينقسم الجيش الأميركي حيث يتبع البعض أوامر القائد الأعلى للقوات المسلحة " الشرعي" بينما يتبع البعض الآخر أوامر المرشح الخاسر. ويشير كتّاب المقال الى  "سابقة" رفض الجنرال توماس مانشينو، القائد العام لحرس أوكلاهوما الوطني، أمرًا من الرئيس بايدن يقضي بتلقيح جميع أفراد الحرس الوطني ضد فيروس كورونا. ادّعى مانشينو أن قائده العام هو الحاكم الجمهوري للولاية، وليس الرئيس بايدن.

كاتبو المقال، أي الجنرالات الثلاثة المتقاعدون، ليسوا وحدهم في التحذير من إمكانية أن يقوم ترامب والحزب الجمهوري بانقلاب في حال خسروا الانتخابات عام 2024. في وقت سابق، كانت مجلة  The Atlantic قد حذرت من أن "انقلاب ترامب القادم قد بدأ بالفعل"[2] مؤكدة أن "6  كانون الثاني / يناير كان مجرد تمرين، وأن الحزب الجمهوري بقيادة دونالد ترامب بات في وضع أفضل بكثير لتخريب الانتخابات المقبلة". ويشير كاتب المقال في الاتلانتيك الى أنه لأكثر من عام حتى الآن، وبدعم ضمني وصريح من قادة الحزب، يبني الجمهوريون أجهزة لسرقة الانتخابات. ويضيف "لقد درس المسؤولون المنتخبون في أريزونا وتكساس وجورجيا وبنسلفانيا وويسكونسن وميتشيغان وولايات أخرى حملة دونالد ترامب الشاملة لإلغاء انتخابات 2020، ولقد  درسوا نقاط الفشل واتخذوا خطوات ملموسة لتجنب الفشل في المرة القادمة".

الى أي مدى تبدو هذه الهواجس محقّة؟

-        واقعياً ، وبالرغم من أن الانقسام والتنوع هو سمة الولايات المتحدة الأميركية اللافت، إلا أنه ومنذ مجيء ترامب الى الحكم في الولايات المتحدة، ارتفع منسوب الشعبوية وبث الكراهية بين المجتمعات المتعددة في الولايات، وترسخ الانقسام العامودي بشكل لم يسبق له مثيل.

-        يضاف الى ما سبق، أن التطورات التي حصلت بعد غزوة الكابيتول، وعدم قيام المؤسسات الأميركية بمحاسبة أي مسؤول قام بتحريض المتظاهرين على العنف والشغب، يدفع الى التساؤل حول الرسالة التي يمكن استخلاصها من الافلات من العقاب الذي حصل سابقاً، ومدى امكانية تكراره في المستقبل.

-        إن الانسحاب الفوضوي من افغانستان اعطى إنطباعاً عن فشل قيادة المؤسسة العسكرية الأميركية واستخباراتها في التخطيط والتنفيذ والأهم: التنبؤ.

-         إن الأزمات الاقتصادية عادةّ ما توّلد إمكانية لتجذر الشعبوية ونجاحها وتوسّعها. هذا ما حصل على أثر الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، حيث ارتفع منسوب الحنق الشعبي الأميركي على المؤسسة السياسية الأميركية، بشكل غير مسبوق، خاصة بعدما قام البنك الفيدرالي وبدعم من الكونغرس والحزبين الجمهوري والديمقراطي، بتعويم البنوك ومؤسسات "وال ستريت"، وتمّ ترك الطبقات الفقيرة والمتوسطة لمصيرها بعدما انهارت الاسهم وفقدت المواطنون بيوتهم ومدخراتهم.

اليوم، وبموازاة ارتفاع الشعبوية، وتجذّر الانقسام المجتمعي نتيجة عوامل عدّة، تعاني الولايات المتحدة الأميركية ارتفع معدل التضخم إلى 6.8٪ في عام 2021، وهو أعلى مستوى منذ عام 1982. منذ إعلان إنهاء حالات الاغلاق بسبب كورونا في الصيف الماضي، ارتفعت الأسعار بشكل كبير في العديد من القطاعات، بما في ذلك الغاز والغذاء والسكن.

يعيد العديد من الخبراء الاقتصاديين أسباب التضخم الكبير هذا الى السياسات التي يتبعها المركزي الفيدرالي، بينما يقول آخرون أن سياسة توزيع الأموال الهائلة التي قامت بها إدارة الرئيس بايدن بعد إجراءات كورونا، هي السبب في ذلك التضخم، وأنها أدّت الى بطالة مقنّعة لم يسبق لها مثيل.

وعليه، وبما أن الاخطار التي تواجهها الولايات المتحدة الأميركية نتيجة الانقسام الحزبي والمجتمعي وارتفاع العنصرية وهي أخطار حقيقية، وقد تدفع الى إنقسام الجيش الذي يبدو اليوم مرآة للمجتمع المنقسم، بعدما كانت المؤسسة التي لا تتأثر بالخلافات الحزبية، والتي نأت بنفسها دائماً عن الصراع الحزبي الأميركي... نتيجة لتلك الأخطار الداخلية، والخوف من إنقسام الجيش، قد تحتاج المؤسسات الأميركية الى تصدير أزماتها الى الخارج. وهكذا، تغدو الحاجة الى خلق عدو في الخارج أكثر إلحاحاً، وذلك لإعادة اللحمة الى الداخل ولتخطي الانقسامات الداخلية في المجتمع والجيش. وعليه، وفي ظل حاجة المؤسسة  الأميركية الحاكمة الى عدو لتصدير أزماتها، يُخشى أن تتورط الولايات المتحدة الأميركية، ومعها حلف الناتو، بتوترات عسكرية مع كل من الصين وروسيا.

 

2021/12/20

غوتيرش في بيروت...بين الواقع والأوهام اللبنانية

يزور الأمين العام للأمم المتحدة بيروت، ويعقد اجتماعات مع المسؤولين اللبنانيين، وأفراد من المجتمع المدني وبعض الشخصيات الدينية وغير الدينية، ويقوم بزيارة المرفأ وغيرها.

 

 وكما في كل مناسبة حيث يطرح موضوع الامم المتحدة، يتوهم بعض اللبنانيين أن هذه الزيارة ستكون عاملاً تغييرياً كبيراً في التوازن الداخلي، حيث يشير بعض المحللين الى أن الأمين العام يأتي ليفرض تطبيق القرارات الدولية وعلى رأسها الـ1701 والـ1559، ويطالب بضرورة حصر السلاح في يد القوى الشرعية اللبنانية، وضرورة منع أي نشاط عسكري جنوبي الليطاني الا للجيش اللبناني وقوات اليونيفيل، وأنه لم يعد مقبولاً السكوت عما يفعله ح ز ب الله في الجنوب.

 

بينما يتوهم البعض الآخر، أن الأزمة الاقتصادية والانهيار المؤسساتي سيجعل من الأمين العام للأمم المتحدة قابلاً للطرح الذي يشير الى اعتبار "لبنان دولة فاشلة"، وبالتالي من "واجبه" أن يعرض وصاية دولية على لبنان على هذا الأساس.

 

إن اوهام اللبنانيين هؤلاء، لا يمكن صرفها في أي مجال ولا مع أي مسؤول أممي سواء غوتيرش أو سواه. إن تطبيق القرارات الأممية، منوط بقدرة الدول نفسها على تطبيقها، وإن عجزت عن ذلك يتحول الأمر الى مجلس الأمن، الذي تغلب عليه التوازنات ومصالح الدول الخمس الكبرى.

 

أولاً، بالنسبة لنزع سلاح الميليشيات الذي يتحدث هؤلاء عن تطبيقه، إن عدم قيام لبنان بتنفيذ هذا البند، لا يعني أن الدول الكبرى في مجلس الأمن مستعدة لزج جنودها في ساحات القتال لتنفيذ بند من بنود القرارات وخاصة نزع سلاح قوة داخلية بقوة الحزب وحيث فشلت اسرائيل في ذلك. هذا إذا سلمنا أن هناك توافقاً شاملاً بين أعضاء مجلس الأمن، وقبولاً من جميع الأعضاء الذين يملكون حق الفيتو بضرورة "التدخل" أو "الضغط" لتطبيق هذا البند.

 

ثانياً، إن دعوة بعض اللبنانيين الى وصاية دولية على لبنان، تشير الى أن بعض اللبنانيين مستعدين للتعامل مع احتلال لبلدهم في حال أدّى ذلك الاحتلال الى كسب شخصي لهم على حساب الآخرين في الوطن، هذا في التقييم القيمي الاخلاقي.

 

أما في التقييم القانوني الدولي، فإن فرض وصاية على لبنان بوصفه دولة فاشلة لا وجود له في القانون، ولم يحصل في تاريخ الأزمات والانهيارات الاقتصادية التي عاشتها العديد من الدول. أما قضية الصومال، التي انهارت فيها كل مقومات الدولة والقدرة على "السيطرة الفعّالة" على البلاد، فإن الاجراءات الأممية فيها حصلت بموجب قرارات من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، وهو ما نجزم بعدم القدرة على حصوله في الحالة اللبنانية.

 

في كل الحالات، إن استدعاء الخارج ضد الآخرين في الوطن، هي ميزة لبنانية مستمرة منذ زمن، وهي تشي بأن اللبناني لم يخرج من عقلية الغالب والمغلوب، بالرغم من أنه لم يستطع أن يحققها يوماً، وقد أجبر دائماً على الذهاب الى تسويات في النهاية بعد فشل التدخلات الخارجية، فحبذا لو يوفر اللبنانيون على انفسهم والشعب اللبناني الأزمات، فيختصرون المسافات ويذهبون الى تسوية مباشرة بدون تضييع وقت. 

2021/12/16

صفقة السلاح الأميركية الإماراتية: الاحتمالات الحقيقية للتجميد

قامت دولة الإمارات العربية المتحدة يوم الثلاثاء الموافق 14 ديسمبر / كانون الأول، وقبيل وصول وفد عسكري إماراتي رفيع المستوى لعقد محادثات في واشنطن وزيارة البنتاعون، بإعلان تعليق المناقشات بشأن صفقة أسلحة بقيمة 23 مليار دولار مع الولايات المتحدة والتي تتضمن شراء 50 طائرة مقاتلة من طراز F-35 و 18 طائرة بدون طيار مسلحة وأسلحة متطورة أخرى.

وكانت تلك الصفقة قد تمّ التوقيع عليها في اليوم الأخير من ولاية الرئيس الأسبق دونالد ترامب، وقد أشير إليها يومها بأنها مكافأة للإمارات على اعترافها باسرائيل وإفتتاح مسار التطبيع معها، وتوقيع إتفاقيات أبراهام.

وكانت إدارة بايدن، قد علّقت الصفقة لبعض الوقت فقط بهدف مراجعتها، وبعد قيام العديد من من أعضاء مجلس الشيوخ بإثارة موضوع الحرب اليمنية لإيقاف الصفقة، وأثير في الولايات المتحدة أيضاً موضوع التفوق العسكري الاسرائيلي في المنطقة وهو المبدأ الذي تلتزم به الولايات المتحدة، في مبيعات الأسلحة في الشرق الأوسط.

وقد تباينت التصريحات الأميركية والإماراتية في أسباب تجميد الصفقة، مع تشديد الطرفين على الشراكة الاستراتيجية والسعي الى الاستمرار في تلك الصفقة في وقت لاحق، وفي تقييم للأسباب المعلنة وغير المعلنة، يمكن ملاحظة ما يلي:

-      التفوق العسكري الاسرائيلي في المنطقة

أشار وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن خلال زيارته لماليزيا إن الولايات المتحدة لا تزال مستعدة لبيع طائرات مقاتلة من طراز F-35 إلى الإمارات العربية المتحدة، معتبراً أن الشروط الموضوعة من قبل الولايات المتحدة هدفها "التأكد من أن إسرائيل تحافظ على تفوقها العسكري".

علماً أنه منذ توقيع اتفقيات أبراهام، يتطور التعاون العسكري الاسرائيلي الإماراتي، ووقعت كل الامارات واسرائيل في وقت سابق اتفاقية استراتيجية لتصميم مشترك لسفن غير مأهولة قادرة على شن حرب ضد الغواصات، كما أعلن تكتل الدفاع الإماراتي EDGE و Israel Aerospace Industries (IAI) عن الشراكة في تصنيع طائرات بدون طيار.

وكانت اسرائيل وفي معرض طرح ترامب الصفقة مع الإمارات، في آب/ أغسطس عام 2020 قد وافقت على مبيعات الاسلحة للإمارات، ولكنها اشترطت عدم بيع أف- 35، بما يخلّ بتفوقها العسكري في المنطقة. ولكن الخبراء العسكريين المحايدين  يؤكدون أن الولايات المتحدة يمكن لها أن تحافظ على التفوق الاسرائيلي النوعي في المنطقة حتى لو باعت تلك الطائرات الى الامارات، وذلك عبر بيع الإمارات نسخة من تلك الطائرات يمكن لها أن تكون مختلفة أو أقل تطوراً.

-      التنافس الفرنسي الأميركي التسليحي

يشير العديد من المراقبين الى أن الإمارات لم تعد بحاجة لتلك الصفقة، بعد أن بدأت بالفعل بتنويع مصادرها من الأسلحة، وقامت بشراء 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال وعشرات من طائرات الهليكوبتر العسكرية من فرنسا خلال زيارة ماكرون الأخيرة الى الخليج.

ولكن، إن الحديث عن سلاح فرنسي بديل عن شراء الطائرات الأميركية، ليس واقعياً، ولا يمكن لطائرات رافال أن تحلّ محل الطائرات الأميركية "الشبح" المتفوقة عسكرياً، كما يؤكد الخبراء العسكريون.

 

-      توسع النشاط الصيني في الامارات

بحسب العديد من التقارير الإخبارية، إن من بين أسباب تجميد الصفقة هو استياء الولايات المتحدة الأميركية من العلاقات الإماراتية الصينية الآخذة في النمو والتوسع.

على مدى العقد الماضي، أصبحت الصين الشريك الاقتصادي والتجاري المهيمن لدول الخليج، على غرار العديد من المناطق الأخرى في العالم. وتستثمر الصين في العديد من مشاريع البنية التحتية في الإمارات، والتي باتت – مع دول الخليج الاخرى- تشكل جزءًا من ``مبادرة الحزام والطريق'' الصيني والذي يهدف الى توسيع النفوذ الصيني في العديد من مناطق العالم.  

تستخدم الإمارات تقنية Huawei في بنيتها التحتية المحلية 5G، وقد دفع هذا بالولايات المتحدة للتعبير عن مخاوفها بشأن أن تقوم الصين بالتجسس على المعدات العسكرية الأميركية الموجودة في الامارات ومنها طائرات F- 35.

 

وعليه، وبحسب ما أثير من أسباب لتجميد الصفقة التي أرادتها الإمارات وعملت لها ودفعت الكثير من الأموال في واشنطن لتحييد الاعتراضات عليها، يبدو أن الإمارات تتعرض لضغوط أو شروط لا يمكن القبول بها، فماذا يمكن أن تكون؟

الاحتمال الأول: شروط اسرائيلية تطلب انخراط إماراتي في حرب على إيران

لا شكّ أن مصادفة زيارة نفتالي بينيت الى الامارات، وتزامنه مع تهديدات اسرائيلية بحرب على إيران، واعلان الامارات بعدها تجميد الصفقة التاريخية مع الولايات المتحدة، قد يشي بأن اسرائيل تريد من الامارات الانخراط أو المساهمة في حرب اسرائيلية مع إيران أو ضربات اسرائيلية للمفاعلات النووية الايرانية، مع ما يترتب على ذلك من خسائر كبرى للدول الخليجية كافة، وتعريض أمن الخليج برمته للخطر.

الاحتمال الثاني: شروط أميركية قاسية على مشاريع الاستثمار الصيني

وهو ما لم ينكره الأميركيون ولا الاماراتيون. وفي وقت سابق، تعرضت الإمارات المتحدة لضغوط أميركية أدّت الى وقف البناء الصيني لمشروع ميناء بالقرب من أبو ظبي بعد أن زعم الأميركيون أنه يمكن استخدامه لتعزيز المصالح العسكرية الصينية. وهكذا، يبدو أن تكلفة شراء الامارات لطائرات أف- 35 والشروط الموضوعة قد تكون أعلى من قدرة الإمارات على تحقيقها.

علماً أن التقييم الموضوعي والعقلاني للمصالح الإماراتية تكون في تنويع مصادر شراء السلاح، كما تنويع مصادر الاستثمار في السوق الاماراتي. يدرك الاماراتيون جيداً أن الولايات المتحدة الأميركية بصدد تخفيف انخراطها في المنطقة لذا لا بد من العمل على استراتيجية تؤسس للتعامل مع أقطاب عدّة في المنطقة.

 

وهكذا، وفي النتيجة، ومهما يكون من حقيقة الشروط التي أدت الى تجميد الإمارات صفقة السلاح الأميركية، يمكن القول أن حساب الأكلاف والأرباح لتلك الصفقة تقيسها الإمارات بدقة، فإذا كانت انخراطاً في حرب إقليمية ضد إيران، أو سحباً للاستثمارات الصينية وانسحاباً إماراتياً من "طريق الحرير الجديد" الذي تقيمه الصين، فهما كلفة باهظة للحصول على طائرات أميركية مقاتلة متطورة، قد لا تحتاجها الإمارات في ظل سعيها لتصفير مشكلاتها وإعتماد الدبلوماسية في المنطقة. 

2021/12/13

التجويع في خدمة التطبيع

 

 

منذ إعلان صفقة القرن وتوقيعها بين ترامب ونتنياهو، وبالرغم من أن الرجلين قد غادرا السلطة، وتحوّلت الإدارة الأميركية الى إدارة ديمقراطية تحاول أن تقطع مع إرث ترامب إلا أن مسار صفقة القرن والتطبيع الذي بدأه ترامب وخدم به الاسرائيليين، ما زال مستمراً ويبدو أنه نهج عميق ومتواصل ويسير بخطى متسارعة، ونجد فيه ما يلي:

 

-        استخدام الدين في خدمة مسار التطبيع

 

بالرغم من أن العرب واليهود تاريخياً وبحسب الأساطير القديمة يتحدرون من أصل "سام" إبن نوح، إلا أن استخدام الرابط "السامي" بين الطرفين لم يكن مفيداً للاسرائيليين، لأن شعارات وحملات "معاداة السامية" التي تحوّلت الى مضبطة اتهام لكل من يعادي اسرائيل من عرب وغير عرب، أفادت الاسرائيليين الى حدٍ بعيد وخدمتهم خاصة في أوروبا.

 

وبسبب عدم الاستفادة من الرابط "السامي" ذلك، تحوّل "النبي ابراهيم" الى رابط ديني بين العرب واليهود، لذلك أطلق على اتفاقيات التطبيع الموقعة بين اسرائيل والدول العربية اسم " الاتفاقيات الابراهيمية".

 

 يحاول الاسرائيليون والغربيون من خلال مفهوم "الدين الابراهيمي" الحث على السير بمسار التطبيع، وذلك انطلاقاً من فكرة مفادها أن اليهود والمسيحيين والمسلمين هم أبناء إبراهيم، وهم يؤمنون بالله الواحد، وبأن النبي ابراهيم "أبو الأنبياء" قد يكون إطاراً توحيدياً جامعاً لشعوب المنطقة التي يمكن لها أن تتعايش إنطلاقاً من مشتركاتها الدينية.

 

 

 

-        تحويل القضية الفلسطينية من قضية وجودية الى قضية اقتصادية مادية

 

كان واضحاً أن صفقة القرن استفادت من الضعف العربي العام، والصراع السني الشيعي، والصراع الجيوبوليتيكي بين الدول الفاعلة في المنطقة والذي استعر وتحوّل الى فوضى عارمة مع الربيع العربي.

 

لم تتحدث صفقة القرن عن حقوق شعب في تقرير مصيره، ولا عن حقوق مواطنين في العودة الى ديارهم، بل وأنكرت على الفلسطينيين الحق بالتعويض عن اللجوء عبر مساواة التهجير والاقتلاع الفلسطيني، بهجرة اليهود من الأراضي العربية بعد حربي 1948 و1967، والقول بحق اليهود بالتعويض عن هجرتهم من دولهم العربية أسوة بالفلسطينيين، الذين تمّ تدمير قراهم وارتكاب أفظع المجازر بهم لدفهم دفعاً الى الرحيل.

 

لقد حوّلت صفقة القرن القضية الفلسطينية الى مجرد قضية اقتصادية مادية، تهدف الى توفير سبل عيش مادي للفلسطينيين الموجودين في غزة حصراً، فالضفة الغربية (التي يطلق عليها الاسرائيليون اسم يهودا والسامرة) ستقضمها المستوطنات الى أن تصبح بأكملها تحت السيادة الاسرائيلية.

 

 

 

 

 

-        استخدام الاقتصاد في إخضاع الشعوب

 

تعاني جميع شعوب المنطقة منذ ما بعد الربيع العربي، من كوارث اقتصادية واجتماعية دفعت الشعوب الى التلهي عن القضايا الكبرى في المنطقة الى البحث عن لقمة العيش وسد الرمق.

 

لقد تحوّلت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الى عنصر ضاغط على الشعوب، ترافقت مع تسويق اعلامي وسياسي بأن السير بالسلام والتطبيع مع اسرائيل يؤدي الى بحبوحة اقتصادية والتخلص من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، علماً أن تجربتي مصر والأردن في توقيع اتفاقيات السلام لم تؤدِ الى ازدهار وبحبوحة كما يتم التسويق لها.

 

 

 

وهكذا، يمكن النظر الى الأزمات المتلاحقة التي تطارد شعوب المنطقة، إلى أنها جزء من مخطط يهدف الى إخضاع تلك الشعوب، للقبول بالسلام والتطبيع مع اسرائيل، والأدهى أن الأمر يتم باستخدام أدوات داخلية تمارس الخيانة الوطنية والفساد والإفساد ونهب المال العام، وتستمد نفوذها وقوتها من الخارج، بحيث يشعر المواطن باستعصاء قدرته على التغيير مهما فعل ومهما قاوم.