2013/12/29

اغتيال شطح لتخريب التسوية القادمة؟

د. ليلى نقولا الرحباني

عاشت بيروت ومعها لبنان بأكلمه،  خطرًا  هائلاً ضجّ في سمائه على وقع رسالة دموية قاتلة تجلت في اغتيال وزير المالية السابق ومستشار الرئيس رفيق الحريري محمد شطح. وقد يكون الخطر الأمني الذي هدد لبنان، مستمرًا منذ تفجيرات الضاحية الارهابية ودخول ظاهرة الانتحاريين الى الساحة اللبنانية واستهداف السفارة الايرانية والجيش اللبناني، ولكن الخطر الاكبر والقلق الهائل، الذي شهدته الساحة اللبنانية لم يكن في الجريمة بحد ذاتها بل من التحريض المذهبي الذي ساقته قوى 14 آذار والتي حاولت المساهمة بشكل أو بآخر بتحقيق أهداف القتلة من التفجير.
لقد أفادت التحقيقات التي قام بها الجيش اللبناني أن السيارة المفخخة التي انفجرت كانت قد سرقت في وقت سابق من منطقة ساحل الشوف وأدخلت الى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين، وأشارت المصادر الى وجود موقوف حاليًا في سجن روميه المركزي في قضية سيارتين مسروقتين استخدمتا في أعمال ارهابية، ويدعى مرشد عبد الرحمن (سعودي الجنسية) ويتم إخضاعه للتحقيق حاليًا من قبل الأجهزة المعنية وقد اعترف أمام المحققين أن سارقي السيارة المفخخة موسى م. و"محمد السريع" أدخلاها فعلاً الى مخيم عين الحلوة وأنهما ينتميان الى "فتح الاسلام".
وهكذا، يكون التساؤل المشروع: لماذا اغتيال وزير المال السابق محمد شطح، وهو شخص معروف باتزانه بالرغم من وجوده بين مجموعة تتقن التوتير السياسي، وتدفع اليه؟ ولماذا تقوم جماعة فتح الاسلام باغتياله، وماذا الهدف الذي يبغيه من يحرك هذه المجموعات، علمًا أن فتح الاسلام لا يمكن أن تقوم بعملية اغتيال من هذا النوع إلا بأمر عمليات من جهة كبرى تمولها وتحرّكها؟
في الاجابة على هذه التساؤلات، لا يمكن لأي محلل ان يتبنى فرضية بدون الأخرى، والفرضيات قد تقول انها قد تكون رسالة ترهيب اقليمية الى تيار المستقبل، أو عملية تصفية حسابات بين أجنحة، أو أنها لتوفير مادة لترهيب خصومه على أبواب المحاكمات في المحكمة الدولية، او محاولة لتفجير الساحة اللبنانية بفتنة سنية شيعية، وقد تكون رسالة الى الأميركيين ذاتهم، بسبب قرب شطح من السياسة الاميركية، وهو معروف بأنه "محسوب على الأميركيين" في لبنان.
وبكل الاحوال، ومهما كان الهدف من الاغتيال، وقد يكون لأسباب أخرى غير معلومة، فإن اغتيال شطح الشخصية السنّية الأكاديمية المتزنة، تعني أن التسوية ما زالت بعيدة، وأن هناك بعض الأطراف الاقليمية يريدون إدخال لبنان في أتون حرب أهلية وتشنج مذهبي، وإنهم سيسعون بكل ما اوتوا من قدرة على توتير الاجواء في لبنان قبل الوصول الى تسوية مقبولة في المنطقة.
إن الحديث عن التسوية القادمة والتي قد تتبلور بإعلان تحالف دولي واقليمي عريض ضد الارهاب، يدفع بعض الخاسرين الى محاولة استباق تلك التسوية المرتقبة بتوتير الأوضاع في الساحات المترابطة أي سوريا ولبنان والعراق، واستعمال كل ما يمكن استعماله من أوراق وأدوات للدفع نحو التشنج والاقتتال.
 وهكذا، وفي زمن الدفع نحو التشنج:
- يتم اقصاء كل صوت معتدل، والتضحية بكل ما من شأنه أن يضعف الجبهة بمواقفه المعتدلة، وقد يكون ذلك بالاغتيال على أن تستثمر الدماء في تصعيد التوتر المذهبي، والاستفادة منها لتحقيق أهداف سياسية لم يكن من الممكن تحقيقها بدون ذلك الاغتيال.
- استثمار الدماء والدفع نحو التصعيد ومحاولة توجيه الاتهام للخصم السياسي لاحراجه ووضعه في موضع الدفاع عن النفس، ومحاولة الكسب في المجال السياسي وهذا ما يؤدي الى تأزيم الوضع، وزيادة الاحتقان السياسي والمذهبي، ويحقق ما يصبو اليه الخاسر من التسوية، بجعلها مستحيلة.

وبكل الأحوال، وبغض النظر عن توقيت التسوية المنتظر، بات على اللبنانيين الإدراك بأن التلّهي واللعب بمصير الوطن الذي يقومون به، لم يعد مقبولاً وبات يهدد الجميع بدون استثناء. علمًا أنه في علم السياسة، أمور يبدو أن اللبنانيين ما زالوا عاجزين عن فهمها أما لقصورهم الفكري أو لعدم نضوجهم السياسي، وهي:
إن التسوية حين تحصل، فهي لا تطيح بالمهزوم وحده فقط، الذي يدفع الثمن الأكبر بأن يجعله أسياده كبش محرقة فيبيعونه ويقبضون ثمنه، ولكنها تطيح أيضًا بـ "رأس الحربة" في هذا المحور أو ذاك، فحتى المحور الرابح، الداخل في تسوية مع الخصم أو العدو، ينظر الى رأس الحربة بأنها أدّت ظيفتها المطلوبة، وما يصحّ في وقت الحرب، لا يصحّ في وقت التسوية والتفاوض، فالحرب لها ناسها وأدواتها، وما بعد التسوية له ناسه وأدواته وهكذا سيتمّ حرق "المتطرفين" لصالح حلفاء أكثر اعتدالاً مقبولين في زمن الصلح المفترض.
فهل يدرك اللبنانيون من السياسيين والأمنيين هذه المعادلة، وما النفع الآتي لهم ولوطنهم بأن يكون رأس حربة في مشاريع الآخرين في المنطقة، التي تحاول حرق لبنان، وجعله ساحة للارهابيين الذين لا يوفرون منطقة ولا مذهبًا ولا دينًا؟.

2013/12/19

مَن يحاول توريط اسرائيل في الحرب؟

د. ليلى نقولا الرحباني

تتوالى الأحداث الأمنية في لبنان، وبالرغم من أن الهدوء عمّ الجبهة الطرابلسية، إلا أن لا شيء ينبئ فعليًا باستمرار هذا الهدوء، طالما لم تنجلِ الغيوم المحيطة بالمنطقة. ويومًا بعد يوم، يدخل الجيش اللبناني في دائرة الاستهداف، فبعد عرسال وعكار وطرابلس، ها هو الجنوب يعود الى الواجهة مجددًا من خلال حادثين خطيرين- التفجيران في صيدا وحادثة الناقورة- لم تكشف قيادة الجيش لغاية الآن إن كانا منفصلين أو مترابطين.

ولمعرفة مدى ترابط هذين الحادثين أو أن الصدفة لعبت دورها، يجب بداية معرفة تفاصيل ما حدث ليل الأحد على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، وفي هذا ترجيحات عدّة، ستكشف حقيقتها التحقيقات التي يقوم بها الجيش اللبناني، ومن هذه الفرضيات:

- أن يكون العمل انتقامًا لمقتل القيادي في حزب الله حسان اللقيس، كما روّجت بعض الصحف. هذه الفرضية تزيل مبدأ التزامن المقصود بين العمليتين، وتُدخل عامل الصدفة. ولكن، هذه الفرضية لا تبدو واقعية، فحزب الله لا يحتاج الى استخدام جندي في الجيش اللبناني إن أراد قنص أحد الجنود الاسرائيليين وراء الحدود، كما إن حزب الله - في هذا الظرف بالذات- لا يبدو أنه بحاجة لفتح معركة مع العدو، كما إنه لن يقدم على توريط الجيش اللبناني في معركة مع اسرائيل خاصة وأن الجيش يقود معركة كبرى ضد الارهاب في الداخل.

- أن يكون الجندي، قد قام بالعملية بمبادرة فردية لأسباب شخصية خاصة، وهذه فرضية غريبة نوعًا ما، ولا تبدو منطقية مع العلم أن العسكريين بشكل عام، وفي جميع الجيوش في العالم لا يُسمح لهم بالمبادرات الفردية، ويعتادون على مبدأ القيادة والأمرة بشكل صارم ودقيق.

- أن يكون ما حصل ليس صدفة على الاطلاق، وإن المخطِط أراد أن يزجّ اسرائيل في حرب مع لبنان وبالتحديد مع الجيش اللبناني وحزب الله، لارباكهما معًا في الداخل، فتخفّ سيطرة الجيش الأمنية في المناطق التي ينتشر فيها الارهابيون وحيث يجدون بيئة حاضنة، ويسحب حزب الله جنوده من سوريا لقتال اسرائيل. ويمكن أن يكون للمكان الذي حصل فيه الاعتداء على الجيش، أهمية من ناحية إشراك المخيمات الفلسطينية بالقتال ضد الجيش وحزب الله، أو استخدامها لتأمين التحشيد والدعم للارهابيين.
إن السيناريو التزامني، ومحاولة جرّ اسرائيل الى الحرب، يعيد الى الأذهان محاولة استدراج الولايات المتحدة الأميركية الى التدخل العسكري المباشر في سوريا، والذي أدّى الى ما أدّى اليه من تسوية كيمائية ارتدّت سلبًا على مستدرجي التدخل العسكري.
إن صحّت هذه الفرضية، فعندها يكون بندر بن سلطان هو المحرّك الفعلي لكل هذه التوترات المتنقلة في لبنان، منها إدخال ظاهرة الانتحاريين الى البيئة السنيّة اللبنانية لأول مرة، ويكون التحالف السعودي الاسرائيلي الذي تحدّثت عنه العديد من التقارير، وما أعلنه الوليد بن طلال قد ارتدّ على اسرائيل، بمحاولات التفافية من قبل المخابرات السعودية في محاولة لتوريط اسرائيل في حرب مع لبنان أي حزب الله والجيش اللبناني بالوكالة عن السعوديين.

منطقيًا، لا يمكن لأي محلل أو مراقب موضوعي ترجيح كفّة أي من الفرضيات، بدون معلومات كافية من الجيش اللبناني الذي يقوم بالتحقيقات، ولا يجب استباقها بالتأكيد. ولكن، بكل الظروف والفرضيات، من المؤكد أن الشعب اللبناني مستهدف من قبل الارهابيين وتنظيم القاعدة، وأمن اللبنانيين مهدد ولقمة عيشهم أيضًا، وهذا ليس في منطقة واحدة بل في جميع المناطق اللبنانية وخاصة في صيدا وطرابلس وعرسال وعكار التي يئن أهلها من الجوع وقلة فرص العمل بسبب التوترات الأمنية ومنافسة السوريين لهم. ومع التأكيد أن الجيش اللبناني مستهدف، لوقوفه في وجه الارهاب ولحمايته اللبنانيين، علمًا أن المخططين ينوون ضرب وحدة الجيش وضرب المؤسسة العسكرية كمؤسسة جامعة في هذا الوطن بعد انفراط المؤسسات جميعها. أما حزب الله فليس خافيًا على أحد الاستهداف المزدوج الذي يتعرض له من قبل الاسرائيليين والارهابيين على حد سواء.

وهكذا، وبناءً على ماسبق، يبدو أن المخطط قد حقق من حيث لا يدري، عودة ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"، في وجه الارهاب كما في وجه اسرائيل... فهل انتبه خصوم حزب الله في الداخل لهذا الأمر؟ وهل أدركوا أن سياستهم التي تتراوح بين التغاضي أو التستّر أو الايواء أو منح الغطاء السياسي للارهابيين، قد أعاد الثلاثية التي لطالما أرادوا التخلص منها وإزالتها من البيان الوزراي؟!!.

2013/12/15

هل يعود الاتهام الى سوريا باغتيال الحريري؟

د. ليلى نقولا الرحباني
تعود المحكمة الدولية الخاصة بلبنان الى الواجهة في لبنان، وذلك عبر اعلان المحكمة عن موعد بدء محاكماتها في 16كانون الثاني، وعبر المقابلة الاعلامية للمحقق السويدي بو استروم، التي أعاد فيها الى الضوء قضية غياب اللواء وسام الحسن عن موكب الرئيس رفيق الحريري، التي كانت قد أثارتها أحد قنوات التلفزة الكندية في وقت سابق.
وبما أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتحقيقاتها قد استعملت في أوقات سابقة، للقيام بما يشبه الانقلاب السياسي في لبنان، كما استعملت للضغط على النظام السوري من خلال توجيه الاتهام الاتهام له بقتل الحريري في تقارير لجنة التحقيق المستقلة بقيادة ديتليف ميليس، فإن تزامن بعض المؤشرات، تدفع الى الشكّ في أن يكون هناك إعادة اتهام للنظام السوري في القضية، وفي المؤشرات ما يلي:
أولاً: ورود تقارير صحفية عن ان أحد أبرز الأدلة لدى مكتب المدعي العام قد فقد أخيراً في إحدى مختبرات دولة أوروبية، وهي من الأدلة المرتبطة بهوية أحد المنفذين. وهذا إن دلّ على شيء، فهو يدلّ إما على رغبة من المحكمة في تغطية ضعف الادلة الاتهامية بالادعاء بفقدانها، أو أن يكون فعلاً قد فقد وهذا يدل على استهتار المحكمة بالادلة، وهذا يستدعي محاسبة المسؤولين فيها على تقصيرهم أو فسادهم.
ثانيًا: الإشارات التي أطلقها بو استروم، وإعادة التلميح الى مسؤولية النظام السوري مجددًا، بعد سقوط هذه الفرضية في بداية عام 2009، واطلاق سراح الضباط الأربعة، والتركيز على اتهام حزب الله كبديل عن النظام السوري.

ثالثًا: إعلان نافي بيلاي، مفوضة الأمم المتحدة العليا لحقوق الإنسان، للمرة الأولى أن هناك أدلة "تشير" إلى مسؤولية للرئيس السوري بشار الأسد في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا. وأضافت أن الأدلة تشير إلى مسؤولية أعلى مستويات الحكومة، بما يشمل رئيس الدولة.
وكانت بيلاي قد عمدت في وقت سابق الى الطلب من الأمم المتحدة بتحويل قضية سوريا الى المحكمة الجنائية الدولية، ولكن بما أن سوريا دولة غير طرف في اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية، وبما أنه يتعذر على مجلس الأمن الاتفاق على تحويل القضية الى المحكمة بسبب الفيتو الروسي، فإن توقيت تصريح بيلاي وتزامنه مع المؤشرات السابقة يطرح شكوكًا مشروعة في أن تكون المحكمة الجنائية الخاصة بلبنان هي الإطار الذي يتكّل عليه الغرب، لتحويل بشار الأسد وأركان حكمه الى المحاكمة والتخلص من النظام السوري،د بعدما تعذر التخلص منه بواسطة الميدان السوري.
فعليًا، إن استعمال المحاكم الدولية كأداة للتدخل الدولي كبديل عن تدخل عسكري فاعل ومكلف، ليس أمرًا جديدًا على صعيد تجارب المحاكم الدولية، فالاتحاد الاوروبي والغرب، كان استخدم محكمة يوغسلافيا - على سبيل المثال لا الحصر- في هذا المجال. قبل هجوم الناتو على كوسوفو عام 1999، لم تكن المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا تحظى بدعم الاوروبيين، ولم تأخذ حيزًا كبيرًا من اهتمام الدول الغربية أو الدعوة لتمويلها. ولكن فقط مع  التبدل في الجو السياسي، وإزاحة ميلوسوفيتش من الحكم ومحاكمته في لاهاي، بدأ الأوروبيون والأميركيون ينظرون إلى المحكمة كعامل مساعد لاستخدامه في محاولة القيام بتغيير سياسي لصالحهم في البلقان، وكصمام أمان لصربيا وكرواتيا للتخلص من القوميين المعروفين بقربهم من الروس، وإحلال الحكام الموالين للغرب مكان هؤلاء.  وكان الاتحاد الاوروبي قد استعمل مبدأ الشرطية في التعاون مع المحكمة للضغط على دول البلقان، وأعلن عن إمكانية قبول عضوية دول البلقان في الاتحاد الأوروبي في حال تخلوا عن "الروح القومية" والحكم السلطوي (الموالي للروس)، وحدد خريطة طريق مستقبلية لهذه الدول ومستلزمات وشروط لتطبيقها أملاً في الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي يومًا ما.
إذًا، المحاكم الدولية هي آليات قضائية استخدمت في وقت سابق، لمحاولة فرض تغيير سياسي كبديل عن تدخل عسكري مكلف عسكريًا وماديًا، ومثير للرفض من قبل المجتمع الدولي والرأي العام العالمي، فهل يمكن أن تؤدي محكمة لبنان نفس المهمة، فتكون وسيلة لاتهام النظام السوري والتخلص منه، بعدما عجز أعداؤه عن اسقاطه بواسطة التدخل العسكري، وتعذر اسقاطه من قبل المعارضة في الداخل؟. قد يكون هذا الاحتمال وارد في ذهن الغربيين، ولكن حتى لو أدرك هؤلاء عدم قدرة المحكمة على إسقاطه، فقد يكون هدف هذه الحركة مجرد احراج النظام وحلفائه، لمنع بشار الأسد كـ"متهم" من إدارة المرحلة الانتقالية القادمة.
الأسابيع القادمة ستكشف النوايا بالتأكيد.

2013/12/12

ماذا ستقدم ايران للخليجيين؟


د. ليلى نقولا الرحباني
جددت المملكة العربية السعودية دعوتها لانتقال دول مجلس التعاون الخليجي إلى مرحلة الاتحاد، بعد أن كانت قد أطلقت هذه الدعوة في وقت سابق عام 2011، ولم تلقَ التجاوب المطلوب من قبل دول الخليج، وكانت السعودية قد بررت بأن هذه الدعوة باتت ضرورة مُلحّة الآن، تفرضها التغيرات الأمنية والسياسية والاقتصادية.

ولعل مسارعة سلطنة عُمان إلى معارضتها رسمياً لفكرة الاتحاد، وتهديدها بالانسحاب من المجلس في حال نجاح جهود إنشاء اتحاد بين الدول الست، يعكس عمق الأزمة التي تعيشها منطقة الخليج بشكل عام، خصوصاً بعد التفاهم بين إيران والدول الست حول برنامج إيران النووي، والمسار الذي ستسلكه تلك المفاوضات في رفع العقوبات عن طهران.

ويمكن القول إن ما حصل في المنامة، وما شهدته قمة الكويت من تباين في السياسات الخليجية، ورفض بعض الدول السير بمشروع الاتحاد، ما أدى إلى تأجيل طرح الموضوع بذريعة حاجته إلى مزيد من البحث والدراسة، كل ذلك يعكس مراكز القوى التي تتنافس على منطقة الخليج بشكل عام، وهي كما يلي:

1- المملكة العربية السعودية والتيار "الوهابي" بشكل عام، فالمملكة تحاول بما لها من قوة جغرافية وديمغرافية أن تسيطر على دول الخليج الأخرى، وتدخلها تحت جناحيها، وقد تكون الممكلة أرادت في هذه الفترة بالذات خلق توازن جديد بين ضفتي الخليج، وتأسيس اتحاد ينافس إيران ويتصدى لدورها الإقليمي بدور إقليمي مواز، ويمنعها من أن تتحول إلى "شرطي المنطقة" كما يخشى بعض  الخليجيين، لكن الرغبة السعودية تلك يقابلها قلق من بعض الدول الخليجية من أن يؤدي الاتحاد إلى انتهاك أو زوال سيادتها الإقليمية على أراضيها، أو ربما يدخلها في أتون صراعات ونزاعات هي غير مستعدة لها ولا ترغب فيها، خصوصاً مع إيران.

2- الولايات المتحدة الأميركية بما لها من نفوذ تاريخي وتقليدي على المشيخات الخليجية، وولاء هؤلاء لها واتكالهم على الأميركيين في حماية أمنهم ووجودهم في الحكم، تُضاف إلى ذلك القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الخليج، والتي تعطي للأميركيين نفوذاً عسكرياً يضاف إلى النفوذ السياسي والاقتصادي الذي تتمتع به واشنطن.

ولعل ترحيب العديد من دول الخليج بالاتفاق الإيراني مع الدول الست، وخروجهم بموقف مغاير لـ"الشقيقة الأكبر"، وما تمّ تسريبه عن أن سلطنة عمان لعبت دوراً هاماً ورئيسياً في المفاوضات السرية التي دارت بين الأميركيين والإيرانيين، يعكس مدى النفوذ الأميركي في هذه الدول، وأن بعض تلك الدول تختار الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة فيما لو تمّ تخييرهم بينها وبين السعودية.

وقد تكون "اللاءات الثلاث" التي أطلقتها عُمان قبيل انعقاد قمة القادة في الكويت: (لا للاتحاد، لا للعملة الخليجية الموحدة، لا لتوسعة قوات "درع الجزيرة") هي لاءات أميركية قبل أن تكون خليجية أو عُمانية.

3- تيار "الإخوان المسلمين"، وهو تيار إسلامي مدعوم من قطر، ويحاول أن يتغلغل في النسيج الخليجي، ويعتقد السعوديون أن مجرد التضييق على زعماء هذا التيار ومشايخه، ومراقبة خطب الجمعة سيمنع تغلغل "الإخوان" في الخليج، وهو ما يبدو صعباً، بسبب براغماتية "الإخوان"، مقابل الصلابة والدوغمائية التي يتحلى بها التيار "الوهابي" السعودي، وإن كانت قطر لم تعارض مشروع الاتحاد علناً، إلا أنها - وحتى لو لم تصرّح بذلك - لا تؤيد سيطرة السعودية والتيار "الوهابي" على دول الخليج برمتّه.

4- الجمهورية الإسلامية في إيران، ولها نفوذ على مجموعات لا بأس بها في الخليج، وهي كانت قد طرحت إنشاء نظام إقليمي أمني جديد يضم دول مجلس التعاون الخليجي وإيران والعراق، رغم إدراك الإيرانيين أن الخليجيين سيرفضون العرض.
إيران الآن تتّبع سياسة اليد الممدودة للخليجيين، وتعلن أنها لا تمانع في الجلوس لبحث الملفات العالقة، كمسألة الجزر الإماراتية على سبيل المثال، وقد يكون من مصلحة الإيرانيين الانفتاح على الخليج لأسباب اقتصادية واستراتيجية وأمنية عدّة، لذا قد يكون التقارب الإيراني - الخليجي المرتقب على حساب الملفات الخاصّة بمنطقة الخليج كموضوع المعارضة في البحرين، وموضوع الحوثيين في اليمن، مقابل خطوط حمراء لا يمكن المسّ بها بالنسبة إلى الإيرانيين، وهي المقاومة في لبنان والنظام السوري.

المحاكم الجنائية الدولية : انجازات واخفاقات

يبحث هذا الكتاب البحثي والعلمي في موضوع المحاكم الجنائية ويدرس بالتفصيل تجاربها ومدى تأثيرها على السلام والاستقرار في المجتمعات التي تخدمها.
إن ما دفع الباحثة لدراسة المحاكم الدولية هو المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بالتحديد، ففي آذار من العام 2009، باشرت المحكمة أعمالها، وكان الانقسام على أشدّه بين اللبنانيين حول المحكمة، فمنهم من يراها أداة ستمنع الإفلات من العقاب، ويعتبر أن إطلاق الضباط الأربعة هو دليل على عدم تسييسها، بينما يرى الآخرون أنها أداة لتجهيل الفاعل من خلال مؤامرة دولية تريد أن تلصق التهمة بـ"حزب الله"، بعد أن اتهمت النظام السوري. ويكشف الكتاب نقلاً عن وثائق فرنسية تفضح أن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك حدد للمحكمة مهمتها الأساسية بـ"قتل النظام السوري" وأنه قال لوزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أن "بشار الأسد سيسقط كثمرة ناضجة، يكفي الانتظار فقط.. سيتحوّل ديتليف ميليس إلى تجسيد للعدالة والديمقراطية في المنطقة".
أمام هذا الواقع اللبناني المنقسم، كان لا بد من دراسة تستطيع أن تعطي الرأي العام اللبناني والعربي رأياً موضوعياً علمياً، حول عمل وآلية تلك المحاكم، فلا تؤدي التوجهات السياسية إلى السير في ركاب التصفيق أو التأييد الأعمى لهذا الرأي أو ذاك.
يختلف هذا الكتاب عن سواه من الكتب الأخرى حول المحاكم الدولية المتوافرة باللغة العربية، فمعظم ما تحتويه المكتبة العربية من كتب حول المحاكم الجنائية يتحدث عن نظام أساسي، وشرح الآليات القانونية المعتمدة بطريقة قانونية جافّة، لكن يأتي هذا الكتاب الفريد من نوعه ليدرس مدى تأثير المحاكم على المجتمع من ناحية بناء السلام فيه.
يبدأ الكتاب بسرد التطور التاريخي للمحاكم الجنائية الدولية الذي بدأت مسيرته الفعلية مع محاكم نورمبرغ التي كرّست مفهوم المسؤولية الجنائية الفردية كبديل عن مسؤولية الدولة حول الجرائم المرتكبة من قِبل العاملين باسمها، ولكن البحث قاد إلى الاطلاع على مفهوم جديد طوّرته المحاكم الجنائية التي أنشئت بعد التسعينات، وهو المشروع الجنائي المشترك الذي توسّع إلى درجة كبيرة حتى بات بالإمكان اتهام أي كان، بجرم لم يعلم به، ولم يشارك فيه، بل بمجرد انتمائه إلى مجموعة ما لديها هدف مشترك، وحتى لو لم يكن هذا الهدف جرمياً بالأساس، وهو ما أوردته محكمة لبنان في فقرتها الثالثة، والتي يُخشى أن يكون وصفة لاتهام السيد حسن نصرالله وجميع الأفراد المنتمين إلى "حزب الله" بالمشاركة في جريمة اغتيال رفيق الحريري.
ثم ينتقل الكتاب إلى دراسة النتائج التي حققتها جميع أصناف المحاكم الدولية في بناء السلام في المجتمعات، فيبدأ بالمحكمة الجنائية الدولية الدائمة، ثم ينتقل لنموذجي المحاكم الخاصة والمختلطة.
اللافت في الكتاب، الإحصاءات الميدانية التي يستند إليها، والتي تورد بالأرقام حقيقة ثقة الناس بالمحاكم، ومدى تأثير عملها على المصالحة، وشرعية المحاكم في نظر المجتمعات التي تتعامل معها.
وقد يكون الفصل الثالث هو من الفصول المميزة في الكتاب، الذي تكشف فيه الباحثة بالوثائق كيف تمّ استغلال هذه المحاكم من قبل الدول الكبرى، ومن قبل الأطراف الداخليين الذين استعملوا آلية المحاكمات الجنائية الدولية كأداة سياسية للقضاء على خصومهم المهزومين، وتستفيض في نشر وثائق وتقارير عن التسويات والصفقات التي قام بها المدّعون العامون في المحاكم، وكيف فبركوا شهود الزور، ومارسوا الترهيب والترغيب على الشهود، لإثبات التهم على الأشخاص الذين وردت أسماؤهم في القرار الاتهامي، وتقيم تصوراً لما ستكون عليه نتائج محكمة لبنان على صعيد تحقيق العدالة وبناء السلام في المجتمع اللبناني.
أما الفقرة الأخيرة في هذا الفصل، فتخصصها الكاتبة لشرح مستقبل محكمة لبنان والمحاكم الأخرى قياساً على التطورات الدولية الراهنة وتبدّل موازين القوى العالمية، خصوصاً الحرب الدائرة في سورية التي سينبثق على إثرها نظام دولي جديد، سيبدّل التحالفات ويغيّر في القواعد الدولية المعتمدة.
ومن جملة النتائج التي توصلت إليها الدراسة، أن المحاكم الدولية بمجملها بدت وكأنها أداة فوقية فرضها المجتمع الدولي على المجتمعات، وأنها أقرب إلى محاكم المنتصرين التي باتت تحتاج - فعلياً- إلى مَن يحاكمها، وإن أي مراهنة على دور إيجابي لهذه الآليات القضائية تفرض على المجتمع الدولي استخدام الكثير من الضوابط والآليات المرافقة وإلى الحيادية وعدم التحيّز والتسييس، ويجب أن تتوافر فيها كل سبل الإنصاف والشفافية ومعايير العدالة الحقيقية لكي يستجيب المجتمع إلى تحقيق العدالة الجنائية بطريقة إيجابية.
إنه كتاب قيّم وعلمي ومتقدم ويأتي تلبية لتطلعات الكثيرين من المثقفين ومن الذين لديهم شغف بمتابعة التطورات، وذلك لقراءة المستقبل الذي ينتظر المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بلبنان انطلاقًا من تجربة وسجل المحاكم الدولية التي سبقتها.

2013/12/08

أين نيلسون مانديلا العربي؟


د. ليلى نقولا الرحباني

في وقت يمرّ العالم العربي بتطورات متسارعة لا يدرك أحد ما ستتكشف عنه، وما سيكون مصيرها، وهل ستقود هذه التغيرات، دول المنطقة الى عالم أكثر انفتاحًا وديمقراطية، أم ستغرقه في جهل وتكفير ودماء لا تنضب، أما ستعبث باستقراره بشكل دموي قاتل كما يحصل في العراق؟
وفي خضمّ هذه التطورات، وفي جو من الحزن يلف العالم على انطفاء نور داعية سلام أفريقي، نيلسون مانديلا، تضجّ فكرة الاستفادة من تجربة جنوب افريقيا التصالحية، في رؤوسنا ونسأل: هل يمكن للعراق ومصر وسوريا على سبيل المثال، أن تستفيدا من تلك التجربة؟.
قام نيلسون مانديلا، عقب انهيار نظام الفصل العنصري فى جنوب أفريقيا- متأثرًا بتجارب أميركا اللاتينية التي سبقته، وخاصة التجربة التشيلية- بتعيين لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية رقم 34 للعام 1995. وجاء تأسيسها طبقًا للقانون الذي عكس التوازن السياسي والعرقي الدقيق الذي كان قائمًا في مرحلة انتقال البلاد من حكم الأقلية البيضاء العنصري إلى حكم الأغلبية السوداء فى عام 1994.
وكانت "لجنة الحقيقة والمصالحة" الجنوب افريقية عبارة عن هيئة على شكل محكمة يتم دعوة الشهود الذين كانوا ضحايا لانتهاكات سافرة لحقوق الإنسان للادلاء بشهاداتهم أمامها. وقد أعطيت هذه اللجنة صلاحيات واسعة واستثنائية قياسًا إلى "لجان الحقيقة" التي تشكلت قبلها للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان فى الدول الأخرى فكان من ضمن صلاحياتها منح عفو للمتهمين الذين يثبت عدم ارتكابهم جنايات وتحديد موعد منح الأهلية السياسية التي تتيح للمتهم مزاولة حقوقه السياسية، ومنح التعويضات للضحايا أو ورثتهم، كما اعتمدت تصوّر العفو المشروط أو الجزئي كسبيل لتحقيق العدالة بدلاً عن العدالة العقابية، فعوضًا عن تقديم المنتهكين لحقوق الإنسان إلى المحاكم اعتمدت اللجنة جلبهم للاعتراف بأخطائهم وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى .
تلقت اللجنة حوالى سبعة آلاف طلباً للعفو، أغلبيتها من سجناء كانوا يعملون فى الأجهزة الأمنية والقمعية الحكومية وكانت لجنة أخرى من اللجان الفرعية التابعة للجنة الحقيقة والمصالحة - وهى لجنة العفو المستقلة ذاتياً، والتى ترأسها قاضٍ فى المحكمة العليا- مسؤولة عن النظر فى هذه الطلبات والبت فيها. وجرى البت فى العديد منها على أساس الأوراق المقدمة، من دون عقد جلسات، لكن في ألف حالة على الأقل، تمّ التوصل إلى قرارات حول الطلبات عقب عقد جلسات علنية أمام لجنة العفو.
حقق عمل اللجنة نجاحًا واسعًا لأنه أعاد اللحمة للشعب الجنوب أفريقي ويسّر له سبل التقدم مما جعل جنوب أفريقيا تتربع على العرش الاقتصادي والسياسي للقارة الافريقية، وذلك بعكس أول لجنة للحقيقة والمصالحة عرفها العالم والتى تأسست فى أوغندا عام 1974 على أيدي الرئيس الأوغندي الراحل عيدي أمين بايعاز وضغوط من مجموعات حقوق الإنسان ولكنها فشلت فى تحقيق أي من أهدافها لأن النظام الأوغندي رفض نشر نص التقرير الذى توصلت إليه اللجنة أو تنفيذ أي من توصياته. ومنذ ذلك التاريخ حذت بلدان عدة حذو أوغندا فى تكوين لجان للحقيقة والمصالحة كسبيل لتحقيق العدالة الانتقالية فى بلدان مزقتها الحروب والصراعات فكانت التجربة الأرجنتينية (1983-ـ1985)، وتجربة تشيلي (1990ـ 1991)، وغيرها إلى أن أصبحت واحدة من الأساليب المعروفة عالميًا كسبيل للتعامل مع خروقات سابقة لحقوق الإنسان. ورغم أن تجربتي الأرجنتين وشيلي فشلتا مثلما فشلت تجربة أوغندا ولنفس الأسباب تقريبًا، لكن النجاح الكبير الذى حققته لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا جعلها النموذج الذي يحتذى به فى العالم وتكررت بعدها فى أرجاء أخرى من العالم.
إذًا، ما الذي يمنع العراق على سبيل المثال من أن ينتهج نهجًا مماثلاً لجنوب افريقيا، وماذا لو فتحت حكومة العراق المجال واسعًا أمام المصالحة الوطنية بالدعوة الى التخلي عن السلاح ودعم الارهاب مقابل العفو؟ ألا يؤدي هذا الى عزل الارهابيين المنتشرين في الداخل، وتفكيك البيئة الحاضنة التي تدعمهم؟
"بغياب الحقيقة والاعتراف بها، تغدو المصالحة مستحيلة"، عبارة لطالما ترددت على ألسنة كثيرين من المفكرين، بالرغم من أن تعريف المصالحة يختلف عن تعريف كشف الحقيقة، فالمصالحة هي عمل براغماتي لتغيير السلوك والتصورات بين الأعداء السابقين، بينما كشف الحقيقة هو عمل يهدف إلى شيء آخر قد يكون المصالحة من ضمنه، ولعله يبدو من أحد أهم المقومات الرئيسية في عملية المصالحة.
لكن بلا شكّ، أن السير نحو المصالحة الحقيقية في دول العالم العربي التي تمرّ بفترات انتقال، يتطلب شجاعة استثنائية، ويتطلب الكثير من التعالي عن الجراح من أجل السير بالأوطان الى السلام والاستقرار، وقبل كل شيء يتطلب دعمًا - أو على الاقل - اقتناعًا من قبل دول الجوار أن المسار الجديد في المنطقة يتطلب تغييرًا في السياسات السابقة الداعمة للارهاب، فها هي الدول الاوروبية ترفع الصوت عاليًا معربة عن قلقها من عودة الارهابيين اليها، وروسيا بدأت بتدريب فرق خاصة لمحاربة هؤلاء، فهل يستغل العرب هذا التوجه الحقيقي نحو مكافحة ارلاهاب، فيجتثونه من فكرهم ومجتمعاتهم، أم يفوتون الفرصة تلو الأخرى ويغرقون في الجهل والدماء والتكفير؟... نريد بلا شكّ نيلسون مانديلا عربي.

2013/12/05

السعودية بين خياري التكيّف أو الانتحار

د. ليلى نقولا الرحباني
لا شكّ في أن ما يقوم به بعض الأمراء السعوديين من تصرفات وتصريحات أقل ما يقال فيها إنها تدلّ على اليأس، وباتت تشكّل مصدر قلق للكثيرين في العالم العربي، خصوصاً في ظل حديث بعضهم عن تحالف سُنّي - "إسرائيلي"، وهو ما يناقض الحس العروبي التقليدي الرافض للتعامل مع "إسرائيل" التي اغتصبت فلسطين وشرّدت أهلها ونكّلت وأجرمت بحق العديد من شعوب المنطقة.
لكن هل يستوجب الانفتاح الأميركي على إيران بالضرورة الهلع والقلق من قبل المملكة العربية السعودية؟ وهل من الطبيعي أن يقارب بعض الأمراء السعوديين الجنون في تصدّيهم لهذا القلق؟
نعم، هناك ملامح تسوية كبرى في المنطقة، أبطالها الدوليون الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، وهناك دول إقليمية تتنافس للدخول محاور أساسية في هذه التسوية.
ونعم، استطاعت إيران بدهائها وحنكة سياسييها، وسياسة النفس الطويل المستمدة من دبلوماسية حياكة السجاد، أن تصبح حجر أساس في الترتيبات الإقليمية الجديدة، لامتلاكها أوراقاً هامة في قضايا "الشرق الأوسط" وآسيا الوسطى، خصوصاً في العراق وأفغانستان.
لكن سياسة الغضب والجنون المتبعة ليست سياسة منطقية، ولن تؤدي إلى نتائج إيجابية، بل إن العقلانية توجب على السعودية فهم ما يلي:
أولاً: بعد التطورات المتسارعة منذ احتلال العراق ولغاية الآن، تراجعت قدرات دول عربية كبرى، وباتت عاجزة عن أن تؤدي أدواراً إقليمية هامة، فالعراق خرج بالاحتلال، وسورية بالحرب الكونية فيها وعليها، ومصر أرهقتها سياسات "الإخوان المسلمين" والعنف الذي يمارسونه، أما قطر التي مارست دوراً إقليمياً أكبر من حجمها في وقت من الأوقات، فقد أعادتها التطورات السورية إلى حجمها الطبيعي، وهكذا لم يبقَ من الدول العربية المؤهّلة للعب دور إقليمي سوى المملكة العربية السعودية.
من هنا، بات على السعودية الانتباه إلى أمر خطير جداً، فإما أن تقوم بلعب هذا الدور الإقليمي المحوري، أو تتصدى تركيا له وتعلن نفسها قائدة لواقع إسلامي سُنّي يمتد على مساحة شاسعة تصل إلى حدود الشرق الأقصى.
ثانياً: إن إدراك المملكة لهذا الواقع ومراهنتها على لعب دور إقليمي فاعل وبارز بات يحتّم عليها إعادة تصويب سياستها الخارجية، وفهم الواقع الدولي والإقليمي المتحرك باتجاه تسوية المشاكل القديمة العالقة، وبدء مرحلة مكافحة الإرهاب، لذا من الخطأ أن تبقى السعودية على سياساتها السابقة بدعم المجموعات المتطرفة، بل إن المصلحة القومية للدول تحتّم أن تتخلى الدول عن بعض أوراقها لتأمين مصالحها الاستراتيجية.
ثالثاً: سياسة التحالف مع "إسرائيل" لم تكن يوماً سياسة عربية مرغوبة، بل إن التوهّم بأن "إسرائيل" ستكون صديقاً وفياً يساعد السعودية في التصدي لإيران هو نوع من الجنون القاتل، وإن كانت المملكة تشعر بالقلق على أمنها وأمن الخليج بعد التفاهم الأميركي - الإيراني، فهذا يعني أنه آن الأوان لتغيير السياسات الأمنية التقليدية بالاتكال على الآخرين، ويحتم على السعودية البدء بسياسة عدم التبعية، وتعزيز قدراتها الذاتية.
رابعاً: إن السير بخيار سباق التسلح والاتكال على القوة العسكرية أثبت عدم جدواه على الصعيد العالمي والإقليمي، فها هي الولايات المتحدة الأميركية بكل قواها العسكرية والاستراتيجية لم تستطع أن تفرض الاستقرار في العراق أو في افغانستان.
إذاً، بات من المفيد تفعيل العلاقات الإقليمية بين طرفي الخليج، والتركيز على التعاون الاقتصادي والتفاعل التجاري وتبادل الخبرات، لاسيما في ظل التوجّه لرفع العقوبات عن إيران.
خامساً: حان الوقت لكي تتخلص دول الخليج من المخاوف الأمنية وتمويل السياسات الدفاعية التي تستنزف موارد الخزائن الخليجية، وتمنع الإصلاح الداخلي المطلوب وتطوير البنى التحتية، فها هي الأمطار كشفت هشاشة البنى التحتية في السعودية، التي تصرف المليارات على التسلح وعلى المجموعات المسلحة في سورية، وتحرم مواطنيها من أبسط حقوقهم في بنى تحتية حديثة.
سادساً: لا بد للسعودية من استيعاب التحوّلات الجذرية الحاصلة في السياسة الأميركية في المنطقة، وعليها قبل كل شيء أن تكون مستعدة للتكيّف مع تلك التحولات، وتقوم بسياسات إصلاح داخلية، تشمل مكافحة الفساد، وإصلاح النظام التربوي، وتقليص دور المتشددين، والسعي إلى الاستفادة من الطاقات الاجتماعية، ومنها النساء، بما تشكّله من نصف المجتمع.
في المحصلة، تبقى سياسة التعاون الإقليمي الخيار الأنسب لجميع الدول العقلانية في المنطقة، والأهم أن على السعودية - كما دول الخليج الأخرى - ملاقاة اليد الإيرانية الممدودة للسلام، وفي هذا خير لجميع شعوب المنطقة ودولها بدون استثناء، لكن ما يصدر عن بعض الأمراء السعوديين يؤشّر بوضوح إلى أنهم عاجزين عن التأقلم مع المتغيرات، وهنا لا بد لهؤلاء من الاتعاظ من حركة الكون الطبيعية، من خلال مبدأين: الأول، أن الطبيعة تكره الفراغ، ومن يترك فراغاً سيأتي آخرون لسدّه، والثاني أن الكائنات التي لا تستطيع أن تتأقلم مع التغيرات يكون مصيرها الانقراض؛ تماماً كالدينصورات.

2013/12/04

توقيع كتاب المحاكم الجنائية الدولية


الأصدقاء الأعزاء
يشرفني دعوتكم الى حفل توقيع كتابي، بعنوان "المحاكم الجنائية الدولية: انجازات واخفاقات"، في معرض الكتاب الدولي - بيال، وذلك يوم الخميس 12 كانون الأول 2013، بين الساعة 4- 6 مساء.....
د. ليلى نقولا الرحباني


من مقدمة الكتاب: 

لقد أرادت هذه الدراسة أن تكشف حقيقة تأثير المحاكم الدولية على بناء السلام في المجتمعات، لتعرف الى أي مدى يمكن لمحكمة لبنان أن تؤدي بالفعل - كما يتمّ الترويج لها- الى سلام دائم ومستدام في المجتمع اللبناني المنقسم على نفسه، والذي يعيش توازنًا هشًا منذ تأسيس دولة لبنان الكبير.
ولقياس مدى قدرة المحكمة على تحقيق العدالة أو السلام وقدرتها على الموازنة بينهما من خلال تحقيق أحدهما ولو على حساب الأخرى، كان لا بد من دراسة التجارب للاتعاظ منها، لذا قامت هذه الدراسة بدراسة تأثير المحاكم الجنائية الدولية بنماذجها المتعددة على السلام في المجتمعات التي ادّعت أنها تخدمها.

2013/12/01

اسرائيل وهستيريا الخاسرين

د. ليلى نقولا الرحباني
يبدو أن الجنون وهستيريا الخاسرين قد باتت سمة المرحلة المقبلة، والتي بدأت منذ الاعلان عن الاتفاق بين ايران والغرب. وإذا كانت اسرائيل قد أظهرت نوعًا من الغضب والقلق من الاتفاق التاريخي، وأظهرت رغبة بتعطيله، مدركة أن الخيارات الجنونية بقصف ايران أو القيام بعمل عسكري آحادي ضد المنشآت النووية الايرانية بات أمرًا مسستحيلاً، فإنها لا تخفي رغبتها بالعمل ضده، والعمل على تعطيله بما تيّسر لها من قوة في الغرب وفي الداخل الأميركي.
وإن كان الاسرائيلي حانقًا، لكنه - بالتأكيد- يعرف كيف يستفيد من التناقضات العربية، ويعرف من أين تؤكل الكتف، ويتقن سياسة تعلية السقوف للحصول على المغانم، لكن السياسة الخارجية التي تتبعها المملكة العربية السعودية اليوم، باتت خارج السياق المنطقي للتعامل بين الدول وخاصة السياسة التي اتبعتها المملكة طيلة تاريخها. بات تحريض اسرائيل على ضرب لبنان، وضرب ايران يتمّ بصورة مكشوفة وعلنية سياسيًا واعلاميًا، أضف الى ذلك، خروج بعض الأمراء عن طورهم، وممارسة التهديد والوعيد للولايات المتحدة الأميركية وللرئيس اوباما، واستجداء التعاون الاسرائيلي في هذا المجال، ما يؤشرّ الى وجود حالة من الهستيريا غير الطبيعية، تتباين مع أبسط قواعد العلاقات الدولية. والخطير أيضًا بما يخصّ لبنان، دعوة الجيش اللبناني الى قتال حزب الله، وهي دعوة إن دلّت على شيء فهي تدّل على رغبة بإحراق لبنان بحرب أهلية ستأكل الأخضر واليابس وتدمر ما تبقى من المؤسسات، وهو ما كان قد هدد به تركي الفيصل في وقت سابق، علمًا أن مطلقي الدعوة يدركون ان اسرائيل نفسها لم تستطع القضاء على من أسموهم "حفنة من المغامرين" عام 2006.
وما عبّرت عنه الاقلام والألسن الممولة من السعودية في الاعلام، من رغبة بالتعاون مع اسرائيل ضد العرب الآخرين، كشفته المعلومات الواردة من الميدان السوري، حيث تشير التقارير الى دخول اسرائيل وبقوة على خط المعارك في الغوطة، من خلال عملية نوعية قامت خلالها اسرائيل بتعطيل الاتصالات بين وحدات الجيش السوري وبينه وبين حلفائه، ما أسفر عن مقتل العديد واحداث خرق - ولو محدود- على الجبهة.
هذا الدخول الاسرائيلي المباشر، وتنسيق العمليات بين بندر بن سلطان والاسرائيليين،  قد يكون هو ما دفع وزير الدفاع الروسي أناتولي أنطونوف، الى اصدار تحذيرات على خطوط عدة:
- تحذير للاوروبيين من عودة المقاتلين الأوروبيين من سوريا إلى أوطانهم، ومدى تأثير ذلك على الأمن والاستقرار في اوروبا.
- والتحذير الأهم، للاسرائيليين والأميركيين، والى مَن يعنيهم الأمر، بأن "روسيا مستعدة لأي سيناريو لتطور الأحداث بعد قيام إسرائيل بإطلاق صاروخ في البحر الأبيض المتوسط مطلع أيلول الماضي". ووصف "منطقة شرق البحر المتوسط بأنها برميل من البارود"، محذرا من أن "أي عمل طائش يمكن أن يؤدي إلى تفجير الوضع وزعزعة الاستقرار الإقليمي والعالمي".
وبالرغم من أنها ليست المرة الاولى التي تدخل فيها اسرائيل على خط القتال الدائر في سوريا لصالح المعارضة، سواء بالقصف المباشر أو من خلال المساعدة التقنية واللوجستية، إلا أن التباهي بالعلاقة مع اسرائيل، وعدم الحرج من مطالبتها بالتدخل، يؤشّر الى الانهيار الذي باتت تعانيه جبهة الحرب على سوريا. يضاف الى ذلك، الهستيريا الأمنية داخل الاراضي السورية التي يسيطر عليها المسلحون، حيث يتمّ يوميًا اعتقال العشرات من المواطنين، والتنكيل بهم والتحقيق معهم، بذريعة وجود خلايا نائمة تابعة للنظام، ويطال هذا الأمر الكثير من المعارضين الذي شاركوا في القتال أو في التظاهر ضد النظام السوري.
وهكذا، خرج السوريون- أو جزء منهم- للمطالبة بالديمقراطية والتخلص من سيطرة المخابرات والفساد والقمع، فإذا بهم يصبحون تحت سيطرة مجموعات تكفيرية متحالفة مع الصهيونية، ووتعيش المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في ظل هيمنة المحاكم الميدانية الشرعية التي لا تكتفي بالسجن أو التعذيب، بل إن تنفيذ الاعدامات لديها بات كشربة ماء... فهل يكون جنيف 2 حلاً، أم بداية حل؟ وهل ستقتنع السعودية بترك السوريين واللبنانيين والعراقيين يقررون مصيرهم بأنفسهم؟. يبدو هذا الاقتناع لغاية الآن، بعيد المنال.

2013/11/28

هل يعود الحريري الى الحكم؟

د. ليلى نقولا الرحباني
وتنفّس العالم الصعداء بالتوصّل إلى اتفاق تاريخي بين طهران والدول الست، قد يُعدّ بحق أهم إنجاز في منطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية.

لكن على الجبهة المقابلة، شكّل الاتفاق النووي مصدر قلق للعديد من الدول الضالعة في الحرب السورية، ومنها السعودية، والتي تعيش على عداء تاريخي مع إيران، غذّته الولايات المتحدة الأميركية. ويعكس تباين الآراء والتصريحات التي انطلقت من قبل المسؤولين السعوديين، وجود أجنحة تتحكم بمفاصل السياسة السعودية، فقد أعلن الوزير خوجة باسم الحكومة بياناً منمقاً لا يشيد ولا يرفض ويربط الأمر بحسن النوايا، بعدما كان رئيس مجلس الشورى السعودي قد هاجم إيران، معتبراً أن "منطقة الشرق الأوسط  لن تستطيع النوم من الآن فصاعداً بسبب الاتفاق النووي".

وفي خضم التطورات المتلاحقة في المنطقة، وفي ظل مسيرة دولية حثيثة نحو الحلول السلمية، يبدو أن السعودية تمرّ بفترة تاريخية ستحدد دورها ومستقبلها، ومستقبل وكلائها في المنطقة، ولعل أهم ما في المستجدات ما يلي:

- وجود أجنحة متصارعة ضمن العائلة المالكة في السعودية، ويتصدر بندر بن سلطان وسعود الفيصل جناح الصقور الذي يطمح إلى أن يطيح بكل شيء ويعطّل على الأميركيين مشاريع التسوية، بينما يحاول الأميركيون تمييز الملك عبدالله وولي العهد، والتعامل مع الملك رسمياً، بصفته صاحب القرار الأول والأخير.

- علاقة متوترة مع الحليف التقليدي "الولايات المتحدة الأميركية"، خصوصاً بعد التطورات السورية والتفاهم النووي الإيراني، علماً أن السعودية كانت قد اختبرت نتائج التسويات الأميركية - الإيرانية في كل من العراق وأفغانستان. ففي العراق، وعشية الانسحاب الأميركي من بغداد، تمّ تسليم السلطة إلى حليف إيران الأول نوري المالكي، على حساب إياد علاوي، والمكونات السياسية المدعومة من السعودية، ما أدّى إلى غياب الأمن والاستقرار، وانتشار الإرهاب، وعدم الانخراط في العملية السياسية، أما في أفغانستان فأدّى التفاهم الأميركي - الإيراني إلى التجديد لكرزاي ولاية ثانية، من دون الأخذ بمصالح الخليجيين بعين الاعتبار.

- تفلّت كثير من المشيخات الخليجية من النفوذ السعودي، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال ما تمّ تسريبه عن جولات المفاوضات السريّة بين الأميركيين والإيرانيين، ودور بعض الإمارات الخليجية في هذا التقارب، من دون علم السعوديين ومباركتهم.

- سعي "الإخوان المسلمين" إلى تعويض خسارتهم في مصر، وخسارة مشروعهم في الشرق الأوسط، بالتغلغل بقوة في الخليج، وهو ما يدفع إلى حرب غير معلنة بينهما، وتتشدد السعودية والكويت مع المشايخ المنتمين إلى "الإخوان المسلمين"، وتراقب خطب الجمعة مسبقاً، ولقد تمّ فصل العشرات منهم من وظائفهم.

- خشية سعودية من قيام إيران باستغلال تفاهمها مع الغرب للتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج، ما يؤدي إلى قلب موازين القوى في كل من البحرين واليمن، ويعطي دفعاً للسعوديين الموجودين في المنطقة الشرقية.

- سعي تركي حثيث للانخراط في التسوية، والاستحصال من الغرب على تفويض بحكم "واقع سنّي"، يمتد من المحيط إلى الخليج، تصل ارتداداته إلى آسيا الوسطى، ولهذا يسعى الأتراك إلى ملاقاة الروس والإيرانيين في منتصف الطريق، والترحيب بالحل السياسي، بعدما أدركوا استحالة تحقيق حلمهم الإمبراطوري من خلال الحرب والتدخلات العسكرية. فقد سارع وزیر الخارجیة الترکي أحمد داود أوغلو للقيام بزيارة مباركة وتهاني إلى طهران، وللبحث مع الإيرانيين في سبل الانخراط التركي في التسوية المقبلة، و"كيفية إخراج أنقرة من المأزق السوري"، كما صرّح ظريف خلال لقائه مع الرئيس برّي.

لكل هذه الأسباب وغيرها يبدو أن السعودية باتت أمام خيارات صعبة أحلاها مُر، فالخروج من التسوية يعني السير نحو الانتحار، والدخول فيها دونه تنازلات وخسائر جمّة في العديد من المناطق، وأهمها المناطق الملتهبة في العراق وسورية ولبنان، وقد يكون لبنان هو الساحة الأضعف، والتي تتميّز فيها السعودية بنفوذ تقليدي قوي، لذا قد تكون جائزة الترضية التي ستُمنح للسعودية هي عودة حلفائها إلى السلطة في لبنان، وتقاسم النفوذ مع حلفاء إيران التقليديين، والمحور الرابح في المعركة السورية... فهل ستؤدي الصفقات في المنطقة إلى عودة السنيورة أو الحريري إلى الحكم؟ هذا ما سيقرره أي من الأجنحة سيربح في السعودية، وقدرة المملكة في أن تنتصر على التركي - "الإخواني" الطامح إلى إزاحتها من مناطق نفوذها التقليدي في الشرق الأوسط والخليج معاً.

وهكذا تبقى الأجوبة رهن الحراك الدائر في المنطقة، ونتيجة السباق بين الأتراك والسعوديين، واقتناع الأميركيين بمن يستطيع أن يؤمّن الاستقرار المطلوب في السنوات المقبلة.

2013/11/24

هل ينتقل الصراع الى الداخل التركي والسعودي؟

د. ليلى نقولا الرحباني
يجول أردوغان في روسيا اليوم، ويحاول في حضرة فلاديمير بوتين أن يعلن كلامًا منمقًا حول مسؤولية الجماعات المتشددة عن العنف في سوريا. والواقع أن تركيا - أردوغان اليوم، تمرّ بلحظات مفصلية في تاريخها، وفي تاريخ الرجل بالذات. هو يعيش قلقًا مزدوجًا، قلقًا من أن تؤدي الخسارة التي مُني بها مشروعه في سوريا، الى الإطاحة به شخصيًا في الانتخابات المقبلة، والاطاحة بمشروعه للهيمنة على الشرق الأوسط واستعادة حلم السلطنة، والذي ما زال يأمل أن يتحقق.
بالرغم من كل الخسائر، ما زال أردوغان يعيش أوهام الحلم الامبراطوري التركي، لذا كان إعلانه في ديار بكر أن أي قوة لن تستطيع أن تواجه بلاده، معتبراً أن "القرن الواحد والعشرين سيكون قرن تركيا". وقد تكون السياسة الاردوغانية تقوم على المراهنة على العودة قطبًا مركزيًا فاعلاً في الشرق الأوسط في التسوية المرتقبة، كدولة سنّة مركزية، بعد انكفاء الدول السنيّة العربية، وخاصة السعودية، ورفضها الانخراط الايجابي في الحل في سوريا وفي التسوية الشاملة في المنطقة.
يدرك أردوغان أن أمامه فرصة تاريخية قد لا تتكرر، بالتعويض عن خسائره وخسائر مشروعه الامبراطوري الذي أدّى الى تطورات خطيرة مقلقة داخليًا وخارجيًا أهمها:
أولاً: سقوط مشروع الأخوان المسلمين الذي كان يعني هيمنة تركيا على منطقة استراتيجية كبرى تمتد الى ما يشبه حدود الدولة العثمانية المنهارة، بالاضافة الى الخسارة ميدانية في سوريا، وفشل المراهنة على إسقاط نظام بشار الأسد.
ثانيًا- التململ الداخلي من سياساته المتشددة والتي تحاول أن تهيمن على المجتمع التركي سياسيًا وثقافيًا، ما أدى الى الانتفاضة في "تكسيم"، وظهور أجنحة داخل حزب العدالة والتنمية، على أبواب انتخابات محلية ورئاسية ستجري في العام المقبل، وقد يدفع أردوغان شخصيًا فيها، ثمن دخوله في مغامرة الهيمنة على الشرق الأوسط وسقوط مشروع الأخوان الامبراطوري برمّته.
ثالثًا والأهم تركيًا على الاطلاق، هو الموضوع الكردي، الذي يحاول أردوغان أن يحتويه ويستوعبه بإقامة علاقات اقتصادية جيدة مع كردستان العراق، والذي يحلم بأن يتحوّل الى نوع من التحالف السياسي مع الأكراد في العراق ضد أكراد سوريا وتركيا، ما يوحي بأن دعوة البرزاني - رئيس اقليم كردستان العراق- للقيام بزيارة الى تركيا، هي مؤشر على دعم أكراد العراق لرجب طيب اردوغان ضد الزعيم الكردي المتمرد المسجون في تركيا عبدالله اوجلان.
 وكما أردوغان، يعيش الأتراك اليوم، قلقًا مزدوجًا أيضًا، فهم يقلقون أولاً من وجود "القاعدة" على حدودهم المباشرة مع سوريا، ومن معلومات عن وجود سيارات مفخخة، أدخلتها "داعش" الى تركيا، أما القلق الثاني والذي لا يقلّ أهمية عن القلق الأمني الذي تسببه داعش، فهو خطر قيام "دويلة" كردية ثانية على حدودهم مع سوريا، بعدما أعلن الاكراد السوريون قيام إدارة مدنية ذاتية في مناطقهم التي طهروها من القاعدة، علمًا أن الحدود السورية - التركية هي حدود كردية في الديموغرافيا وامتداد لنفوذ حزب العمال الكردستاني الذي يرأسه أوجلان.
لقد دعمت تركيا المجموعات المسلحة بالرغم من خطوة تمركز القاعدة على حدودها، خشية قيام كيان كردي، وها هو اليوم يصبح واقعًا فعليًا على الأض، ونتيجة لسياسة تركية "متهورة"، توهمت ربحًا مضمونًا في سوريا، فإذا به يرتد خسارة استراتيجية، قد تؤدي الى تحفيز الاتراك في الداخل التركي الى المطالبة بالانفصال، بعد بروز دويلتين كردتين، على الحدود مع تركيا، بما يغري بالمطالبة بالدويلة الثالثة.
وهكذا، يسود القلق الأجواء التركية، ولكن الحلم الامبراطوري لم ينتهِ، وها هي البراغماتية التركية تجد أن هناك وسيلة أخرى لتحقيقه، بالانخراط في التسوية المرتقبة، بعدما فشل تحقيقه من خلال الانخراط في الحرب. وهكذا، نجد أردوغان ووزير خارجيته، يرسلون الرسائل الحارّة الى كل من ايران والعراق، ويفتحون عهدًا جديدًا من الكلام المعسول، يصل الى حد  المشاركة في ممارسة "الشعائر الكربلائية" في النجف وقمّ.
يطمح الاتراك بوكالة غربية استراتيجية، لحكم واقع سنّي ديمغرافي هائل في منطقة الشرق الأوسط، ويعوّلون في ذلك على عدم قدرة العجائز السعوديين على التعامل بواقعية وبراغماتية،  ورفض الانحناء للريح، وعلى "جنون" بعض الأمراء السعوديين، الذي يتوهمون أنهم قادرين على تأنيب الدول الكبرى، وعرقلة مشاريعها الكبرى في المنطقة، ومحاسبتها على التخلي عنهم باستعمال الارهاب الدموي المتنقل...
وهكذا، نتوقع أن تشهد المنطقة في الأشهر القادمة، في ظل صراع نفوذ تركي سعودي، تغييرًا في ميادين الصراع وأساليبه، ومحيطه الجغرافية، الذي قد يمتد ليشمل الداخل التركي والسعودي معًا.