2015/06/25

ويكيليكس ورومية: الأوهام والدسائس لصالح التكفيريين

الخميس 25/ حزيران/ 2015
الدّكتورة ليلى نقولا الرحباني

تغلي الساحة الداخلية اللبنانية على وقع التسريبات المزدوجة لكل من ويكليكس حول وثائق الخارجية السعودية، والفيديو المسرَّب حول تعذيب المساجين في سجن روميه، والذي أثار إدانات واسعة على الصعيد الداخلي.
وأياً يكن من سرّب شريط سجن رومية، فإنه - من حيث يدري أو لا يدري - أصاب "تيار المستقبل" برصاصة قاتلة، إذ إن المزايدات الطائفية والمذهبية التي امتهنها بعض نواب "تيار المستقبل" سابقاً، وادعاءات المظلومية التي تمّت تغذيتها منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وجدت متنفساً لها في الشارع السُّني موالاة لـ"داعش" و"النصرة" والحركات التكفيرية، على اعتبار أن "تيار المستقبل" واعتداله و"شعبة معلوماته" لم يعد "يحمي السُّنة" كما يجب.
وبنفس الإطار، فإن التصويب على الوزير نهاد المشنوق بالذات يصبّ في صالح الحركات التكفيرية التي قام وزير الداخلية سابقاً بحرمانها من غرفة عمليات مركزية في سجن رومية، كانت تستخدمها لزرع الرعب والتفجيرات، وتشغيل الانتحاريين في لبنان وخارجه. ولعل التصويب المباشر على وزير الداخلية من باب مسؤوليته عن الحادث، يأتي لأنه طهّر السجن من "إمارة رومية"، وليس من باب نظرية مسؤولية الرئيس عن الأفعال التي يقوم بها مرؤوسوه، والمعروفة في القانون الدولي وفي معظم دول العالم، حيث يستقيل الوزير الذي تحصل كارثة أو فضيحة في نطاق مسؤوليته، إذ إن لبنان لم يشهد هذه الظاهرة (أي مسؤولية الرئيس عن أخطاء مرؤوسيه)، فالعديد من الفضائح حصلت في وزارات عدّة، والعديد من الأخطاء حصلت سابقاً في نطاق الأشغال والطرقات والمالية وغيرها، ولم يحصل أن تمّ الحديث عن ضرورة استقالة الوزير المعني بهذه الفضيحة، ولو أن كل وزير كان مطالباً بالاستقالة بعد فضيحة بهذا الحجم، لكان من الأولى أن يستقيل وزير الدفاع اللبناني ومعه وزير الداخلية منذ زمن، حين تمّ التنكيل بالعسكريين من الجيش اللبناني وقطع أعضائهم في مبنى البلدية في عرسال، وغيرها من الجرائم التي ارتُكبت ظلماً بحق الجيش، والتي لم تهز ضمير أي مسؤول من المسؤولين المعنيين مباشرة عن الموضوع، ولم يتبرعوا حتى بتقديم اعتذار أو توضيح أو إدانة جدية.
هذا في ما خصّ التعذيب المدان لسجناء سجن رومية، أما بخصوص وثائق الخارجية السعودية، فيستوقفنا فيها أمران:
الأمر الأول، وهو أمر معروف ولا يشكّل سوى تأكيد لما هو متداول في الأوساط اللبنانية، وهو أن ذمم مسؤولين وصحافيين لبنانيين معروضة للبيع، والجديد أن عروض بيع أنفسهم ومواقفهم في السفارة السعودية تنتشر على صفحات الجرائد.
أما الأمر الثاني والأهم، فهو تقارير الاستخبارات السعودية؛ فاللافت للنظر في تلك التقارير أن تقارير مقرن بن عبد العزيز الاستخباراتية، مليئة بالأوهام والإشاعات التي لا صحة لها، واختراع أخطار غير منطقية، كمثل التقرير الذي يشير إلى تكليف عنصر من حزب الله بإنشاء قواعد للحزب والحرس الثوري الإيراني في منطقة بشري، وهي منطقة مسيحية صرف، معروفة تاريخياً بأنها تميل سياسياً لـ"القوات اللبنانية"، زد إلى ذلك أنها مسقط رأس سمير جعجع، ولا يكتفي المصدر الاستخباري بهذه الفضيحة، بل يضيف إليها أن هذا العنصر كلّف وجهاء عكار في فنيدق وعكار العتيقة بتأمين الحماية لتلك القواعد، علماً أنه لا تواصل جغرافي بين المنطقتين، واختيار فنيدق بالذات يعكس جهلاً مطبقاً، فالبلدة معروفة بميلها إلى "تيار المستقبل"، وتورّط العديد من أبنائها مع الإرهابيين في سورية، كما اعتُقل العديد منهم لحيازته أحزمة ناسفة.
كل ما تقدم يدفع إلى التساؤل عن مدى قدرة القيادة السعودية على اتخاذ قرارات صائبة، في ظل معطيات استخبارية مغلوطة ومختلقة، ومن هنا يمكن معرفة كيفية تورّط السعوديين في اليمن، والتي بدت منذ البداية بأنها قد تكون رمالاً متحركة تُغرق المملكة بكاملها، ويمكن معرفة كيف أشاد السعوديون بـ"داعش" خلال غزوتها للموصل، وكيف اكتشفوا فيما بعد أنها تهديد لهم قبل أن تكون تهديداً لإيران وحلفائها، ولا شكّ أن ما حصل في الأيام المنصرمة، ومهما كانت أسبابه ومن قام به، يؤشر إلى مأزق جدّي لحلفاء السعودية في لبنان، ومن الأفضل أن يتم الاعتراف بالخطأ والتصحيح بدل الهروب إلى الأمام وطمس الفضيحة بفضيحة أخرى.

2015/06/18

رسائل "جنيف اليمنيّ" للعرب

الخميس 18/ حزيران/ 2015
الدّكتورة ليلى نقولا الرّحباني 

مع الإعلان عن "انعقاد مؤتمر جنيف اليمني"، عاشت السعودية وحلفاؤها تخبّطاً وإحراجاً عبر السماح ثم الرفض، ثم السماح بعد ضغوط دولية، للوفد الممثل للقوى السياسية اليمنية بالسفر عبر طائرة الأمم المتحدة إلى جنيف، ويعكس هذا التخبّط وما فعلته القاهرة بعدم السماح لطائرة الوفد اليمني بالتزوّد بالوقود، الرغبة الحقيقية للسعودية بعدم انعقاد المؤتمر، وعدم الرغبة في التوصّل إلى أي حل سلمي أو إلى مجرد إطار عام لتفاهم مشترك بين اليمنيين.
وفي سيناريو مكرّر لمؤتمر "جنيف 2" السوري، يختلف الأطراف اليمنيون على أجندة المؤتمر، وعلى جدول أعماله، بينما يئنّ اليمنيون - كما السوريون - تحت ضغط القصف والدماء والحديد والنار.
وفي مشهد يذكّر بـ"الائتلاف السوري" الذي حاول الأميركيون تكريسه "ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب السوري"، والذي أصرّ أعضاؤه، بدعم من السعودية وقطر وتركيا، على عدم الدخول في أي حوار إلا بعد البحث أولاً في مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، يصرّ وفد الرياض اليمني على أن تقتصر المحادثات على مناقشة تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2216، الذي يدعو الحوثيين إلى الانسحاب من المدن اليمنية الرئيسية، والاعتراف بسلطة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي المقيم في الرياض، وهو أمر معروف سلفاً أنه لن يتم القبول به مطلقاً. وفي الضفة المقابلة، وبينما حاول الوفد الحكومي المفاوض في "جنيف 2" السوري البحث في "مكافحة الإرهاب"، يحاول الوفد اليمني اليوم الممثل لكافة الأطرف السياسية اليمنية أن يبحث في هدنة رمضانية للتخفيف عن كاهل الشعب اليمني، وإيقاف الآلة العسكرية، أقلّه في هذا الشهر الفضيل.
وهكذا، ومن خلال المشهد اليمني المتفجّر في جنيف، يمكن لنا أن نحاول رسم معالم السياسة السعودية الخارجية في المنطقة على أبواب توقيع التفاهم النووي مع إيران نهاية الشهر الحالي، وفيها:
1- لا تبدو السعودية في هذا الوقت بالذات مستعدة لأي حلول سلمية تنهي الأزمات المتفجرة في جميع أرجاء المنطقة، إذ تعتبر المملكة أن الحلول والتفاهمات في أي جبهة ستؤدي إلى إراحة إيران وحلفائها، وتفرّغهم للقتال على جبهات أخرى، لذا ستعمد إلى الاستمرار في تفجير كل الساحات، ومحاولة استنزاف الطرف المقابل، مهما كان الثمن.
2- بالرغم من التصريحات التي أعلنتها المملكة بأن أمنها القومي مهدَّد من الإرهاب كأي دولة أخرى، لكن على ما يبدو لا ينتاب السعودية أي قلق من أن الحروب التي تقوم بها، سواء مباشرة كاليمن أو بالوكالة في الساحات الأخرى، ستؤدي إلى ازدياد قوة الإرهابيين، وأي إضعاف للجبهة المقابلة سيكون لصالح "القاعدة"، ويؤشر إلى هذا الأمر، اليقين من أن الطلب من الحوثيين الانسحاب من المناطق اليمنية سيؤدي إلى تمدد "القاعدة" فيها، بالإضافة إلى وجود أمين عام حزب "الرشاد" السلفي عبد الوهاب الحميقاني، الذي أدرجت الولايات المتحدة اسمه على قائمة داعمي الإرهاب في شبه الجزيرة العربية، كأحد المفاوضين الذين تمّ اختيارهم من قبل الرئيس هادي.
3- بالرغم من الضرر الاقتصادي الذي سيلحق بها، لن تتوانى السعودية عن إغراق الأسواق العالمية بالنفط، لتعطّل على إيران إمكانية الاستفادة من أسعار النفط والغاز المرتفعة، والتي تعطيها فائضاً مالياً تستخدمه في دعم حلفائها في المنطقة.
وهكذا، ومع ابتعاد أي إمكانية للحل اليمني في جنيف، يمكن إسقاط السيناريو اليمني على المشهد العربي بأكمله، وهو مشهد يذكّرنا بما قاله المبعوث الأممي السابق؛ جمال بن عمر، والذي كان قد أعلن في ملاحظاته أن اليمنيين كانوا قد توصّلوا إلى اتفاق، وأن التدخل السعودي العسكري هو من عطّل الحل السياسي في اليمن، وهذا يعني أن مشهد جنيف اليمني سينسحب على كافة المناطق، والرسائل الواضحة تفيد بأن الحلول ممنوعة في المنطقة في هذه الفترة، وأن المعركة طويلة ومعقّدة ومتشعبة، ومن يصمد ينتصر، والرهان على من يصرخ أولاً، ومن هنا يمكن فهم الاستراتيجية الجديدة التي يقوم بها النظام السوري وحلفاؤه: تجميع الطاقات وتوفيرها تمهيداً لمعركة طويلة، ومنع الاستنزاف، والصمود بانتظار تغيّرات دولية أو داخلية في داخل كل من تركيا والسعودية لقلب المعادلات.

2015/06/04

هل بات تقسيم الوطن العربيّ قضاءً وقدرًأ؟

مقال الخميس 4/ حزيران / 2015 

الدّكتورة ليلى نقولا الرّحبانيّ


كما كان متوقعاً، لم يتمخّض لقاء باريس الذي عقدته "دول التحالف ضد داعش" إلا عن بعض الإنشائيات وتهرّب الغرب من مسؤوليته في الاعتراف بإيجاد "داعش" أولاً، ومسؤوليته في كبحها والتخلص منها ثانياً، ومسؤوليته في تجفيف منابعها ثالثاً.
ولعل المراقبة لسياسة الغرب في المنطقة تشي بأن "داعش" كوسيلة لنشر الفوضى والقتل والدمار تمهيداً لتقسيم المنطقة لم تنتهِ صلاحيتها بعد، فلأول مرة منذ احتلال الأميركيين للعراق ومنذ الحرب على سورية، يكون حديث علني وصريح عن ضرورة تقسيم سورية والعراق، وأن الخرائط السابقة لتلك الدول لم تعد تفي بالغرض، وأنها سبب الاضطرابات!
المؤسف أن بعض السياسيين العرب، ومعهم بعض الأكاديميين، يعتبرون التقسيم حاصل لا محالة مادام الغرب طرحه، وطالما لوّح به الأميركيون وسوّق له وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، وحال العرب في هذا كحال المسلّم لقدره، والمؤمن بأن ما يخططه الغرب إنما هو قضاء وقدر لا يمكن ردّه، ولعلنا إن دخلنا الى أعماق نفوسهم، لوجدناهم يرددون "اللهم إني لا أسألك ردّ القضاء، إنما أسألك اللطف فيه"!
أمام هذا الحديث الغربي المتواصل عن تقسيم المنطقة، يمكن لفت النظر إلى ما يلي:
أولاً: قول بعض السُّنة العراقيين إن تقسيم العراق يفيدهم ويعطيهم دولة ويرفع عنهم التهميش والغبن الذي لحق بهم بعد احتلال العراق والإطاحة بصدام حسين، يبدو نوعاً من الأوهام. كل مشاريع التقسيم الأميركية تتحدث عن نسب مئوية لأعداد العراقيين بحسب طوائفهم، أي إن نسبة الأكراد 17%، والسنّة 20%، والشيعة 60%، وهذا يعني - منطقياً - أن التقسيم العادل لثروات العراق سيكون بحسب نسب السكان المقدّرة من قبَل الأميركيين، مع العلم أن السُّنة العراقيون يقولون إنه تمّ التلاعب بالارقام، وإن أعدادهم أكبر من ذلك بكثير.
ثانياً: لكسب دعم السُّنة العراقيين للتقسيم، تسري أنباء أن الأنبار ليست صحراء قاحلة كما يشار إليها، بل فيها "ما يُعتبر أكبر من احتياطي روسيا للغاز الطبيعي"، وفيها من احتياطي النفط "ما يُعتبر أكبر من احتياطي فنزويلا والسعودية"، بالإضافة إلى احتياطي فوسفات "يوازي احتياطي مصر"، ناهيك عن كميات هائلة من المعادن الطبيعية الأخرى.
نحن لا نقول إن الأنبار قد لا تحتوي ثروات نفطية ومعدنية، لكن تسريب هذه الإحصاءات في هذا الوقت بالذات، وبالتزامن مع طرح خرائط تقسيم المنطقة، قد لا يكون صدفة، بل قد يكون هدفه طمأنة السُّنة بأن دويلتهم المفترضة لن تكون صحراء قاحلة، بل ستحتوي على النفط والغاز؛ تماماً كدويلتي الأكراد والشيعة في العراق.
ثالثاً: الحرب النفسية التي تشنّها بعض وسائل الإعلام المعادية للنظام السوري، والحديث عن أن الرئيس السوري بشار الأسد "قًبِل بالتقسيم مقابل الحفاظ على نظامه"، وها هو ينسحب لـ"داعش" في مناطق تدمر وغيرها لتُكمل "الدويلة" السُّنية اقتطاع مجالها الحيوي ولتصبح أمراً واقعاً، بالإضافة إلى نشر الإعلام الغربي نقلاً عن "نشطاء" أن النظام السوري ساعد "داعش" في قتالها ضد الفصائل المسلحة الأخرى، ومهّد لها الطريق للسيطرة على ريف حلب، علماً أن هذه الأخبار تتناقض مع ما يعلنه هذا الإعلام نفسه عن سقوط وشيك للنظام السوري، وأن إيران وروسيا تخلتا عنه، ولذلك بات يسجّل تراجعاً كبيراً في سيطرته على المناطق السورية.
رابعاً: تقسيم العراق وسورية لن يبقي حدود المملكة العربية السعودية كما هي عليه، بل إن خرائط التقسيم تشملها بشكل واضح، ولن يُبقي تركيا أيضاً، فقيام دولة كردية لن يكون بدون استرجاع أراضي كردستان التاريخية، والتي يشكّل القسم التركي منها الجزء الأكبر، ثم ما الذي يمنع العلويين في تركيا من المطالبة بالانضمام الى الدويلة العلوية في سورية، للشعور بمزيد من الاطمئنان على وجودهم، في ظل منطقة تفصل بين دويلاتها خطوط مذهبية ملتهبة بالحديد والنار؟
في المحصلة، يبدو أن العرب لم يتعلموا شيئاً من تاريخهم، بالرغم من أنهم من أكثر الشعوب حديثاً عنه واسترجاعاً له في كل خطاب ومقال وحديث.. لهذا قد يأتي يوم يتباكى هؤلاء الساعين إلى التقسيم والواثقين بنوايا الغرب، لأن الغرب خذلهم ومرّر صفقات "ومؤامرات" على حسابهم؛ تماماً كما فعل البريطانيون بالشريف حسين في بداية القرن العشرين، بعدما وعدوه بالاستقلال وأخفوا عنه خريطة "سايكس - بيكو"، ووعد بلفور الشهير.. لكن، بالتأكيد، التقسيم ليس قدر المنطقة، والمعركة لم تنتهِ بعد.