2024/04/15

بعد الردّ الإيراني.. الحذر وإلا حرب كبرى

كما كان متوقعاً، قامت ايران بتنفيذ عملية انتقامية بهجوم واسع النطاق على "اسرائيل" عبر مسيّرات وصواريخ باليستية، قام الاميركيون والبريطانيون والفرنسيون والأردن بمساعدة اسرائيل على اسقاط معظمها، قبل أن تصل أهدافها.

وتعدّ هذه هي المرة الأولى التي يتواجه فيها الطرفان مباشرة خلال الصراع الطويل بينهما، والذي اتخذ شكل "الحروب بالوكالة" وحرب "المناطق الرمادية" التي تعرّف بأنها أنشطة تستهدف العدو من خلال أنشطة غامضة قابلة للانكار، لا يمكن اسنادها الى فاعل محدد، ويتمّ تنفيذها عبر هجمات مختلطة من قبل مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة.

ومن الواضح من خلال ما كشفه وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان من أن ايران أرادت أن تنفذ ضربة محدودة وأن الايرانيين أبلغوا دول الجوار بالضربة قبل 72 ساعة من الهجوم. وهذا يتطابق مع ما كشفه الاتراك من أن وزير الخارجية التركية حقان فيدان كان وسيطاً بين طهران وواشنطن خلال الأيام التي سبقت العملية الإيرانية. وذكر مصدر دبلوماسي تركي أن الولايات المتحدة "نقلت إلى إيران من خلالنا أن رد الفعل هذا يجب أن يكون ضمن حدود معينة"، وأن ايران ردّت بأن "تحركها سيكون رداً على هجوم إسرائيل على سفارتها في دمشق وإنها لن تتجاوز ذلك".

عملياً، بعد قصف القنصلية الايرانية في دمشق، تنبهت ايران الى أن الوسائل السابقة للصراع مع "اسرائيل" لم تعد تتميز بنفس قوة الردع التي كانت عليه في السابق، وبالتالي إن سياسة "الصبر الاستراتيجي" الايراني باتت تغري اسرائيل لتوسيع اعتداءاتها على الايرانيين.

ولا شكّ أن عوامل عدة باتت تغري الاسرائيليين بالتوسع في عدوانهم في المنطقة، أبرزها:

1-  تداعيات السابع من أكتوبر التي باتت "اسرائيل" تظهر فيها ضعيفة مشرذمة غير قادرة على تحقيق انتصار عسكري على مجموعات مقاتلة محاصرة في قطاع غزة منذ عقود. لذا هي تحتاج الى شيء دراماتيكي لإظهار القوة والهيبة.

2-  اعتقاد اسرائيلي بأن إيران لن ترد.

الصمت الايراني السابق والردّ على الاعتداءات الاسرائيلية عبر آليات غير مباشرة، والرد بالوكالة، أغرى بالفعل إسرائيل على توسيع استهدافاتها، معتمدة على تاريخ من الصبر الاستراتيجي الإيراني الذي بات يُفهم خطأ أنه ضعف وتردد في خوض غمار الحرب.

3-  تراجع قدرة الاميركيين على تشكيل عامل ضغط على الاسرائيليين حيث تبدو الادارة الاميركية الحالية ضعيفة مترددة أمام نتنياهو.

4-   الصمت الغربي والدعم والتأييد الذي يقدمه الغرب الى اسرائيل في ظل ارتكابها الابادة في غزة، ما أغرى الاسرائيليين بأنهم يستطيعون أن يقوموا بما يشاؤون بدون محاسبة أو إدانة، وانهم مهما فعلوا سيستمر بالغرب في تأييدهم. وهذا ما كان واضحاً بالفعل من خلال عدم إدانة الدول الغربية لضرب القنصلية الايرانية في دمشق، والمواقف الاوروبية التي أدانت ردّ الفعل الايراني والتي اعتبرته "هجوماً غير مبرر".

 

عملياً، لقد دخلت منطقة الشرق الاوسط مرحلة جديدة كلياً بعد الهجوم الايراني المباشر على اسرائيل، وبات على جميع الاطراف أن تحتسب أفعالها وخطواتها بدقة متناهية، فإن أي خطوة غير محسوبة قد تؤدي بالمنطقة الى حرب اقليمية لا أحد يريدها ولا أحد يستطيع ضبطها.


 

غزة ومعركة إصلاح الديمقراطية الأميركية


كأن ما يعانيه الرئيس الأميركي جو بايدن من إحراج انتخابي وسياسي في الولايات المتحدة الأميركية ليس كافياً، ليخرج منافسه الرئيس السابق دونالد ترامب، فيتهمه بالتخلي عن "إسرائيل"، ويقول: "بايدن فقد السيطرة تماماً على الوضع في إسرائيل. لقد تخلى عن إسرائيل… أي شخص يهودي يصوت لديمقراطي أو يصوت لبايدن، يجب أن يتم فحص رأسه".

 

عملياً، فرضت حرب غزة إيقاعها على الانتخابات الأميركية في سابقة لم تعهدها الانتخابات الأميركية من قبل، إذ إنّ الاقتصاد والأمور الداخلية غالباً ما تكون هي المعيار الحاسم في المنافسة الانتخابية، ولا تشكّل السياسة الخارجية الأميركية عاملاً أساسياً في الانتخابات إلا إذا كانت تعني الناخبين الأميركيين مباشرة.

 

في العصر الحديث، شكّلت حرب العراق مادة للتجاذب الانتخابي عام 2008، بسبب رغبة الجمهور الأميركي في عودة الجنود الأميركيين إلى منازلهم، وخصوصاً بعد مقتل الآلاف منهم. وهكذا، طرح المرشح الديمقراطي باراك أوباما برنامج "الأمل" لإعادة الجنود إلى منازلهم وإنهاء الحرب. وبالفعل، قام عام 2011 بإعلان انتهاء العمليات العسكرية في العراق وسحب الجيش الأميركي بعد فشل التوصل إلى اتفاق مع العراقيين على تمديد مهمة القوات.

 

أما اليوم، فتشكّل حرب غزة عاملاً أساسياً في الانتخابات الأميركية، ليس في برامج المرشحين المتنافسين، بل داخل الحزب الديمقراطي نفسه، وتهدد بخسارة محققة لجو بايدن ضد غريمه دونالد ترامب الذي تبدو حظوظه أوفر في ظل تماسك قاعدته الشعبية، وتوافق آراء الجمهوريين بشكل عام مع طروحاته، سواء في القضايا الداخلية أو في دعم "إسرائيل".

 

لا شكّ في أن الديمقراطية الأميركية والنظام الانتخابي الأميركي فريد من نوعه من ناحية قدرة اللوبيات على دعم المرشحين والتأثير في النتائج الانتخابية، كما يتأثر بالمال، إذ تعتبر قدرة المرشحين على جمع المال جزءًا أساسياً من نجاح حملاتهم الانتخابية.

 

وبناءعليه، ما تأثير حرب غزة؟ وكيف ستؤثر في الديمقراطية الأميركية بشكل عام؟

 

تأثير المال واللوبيات

لطالما عُرف النظام الأميركي بسيطرة اللوبيات والمال، إذ يشير العديد من الباحثين والسياسيين الأميركيين إلى أن المال قوّض الديمقراطية الأميركية الحقيقية، وأن اللوبيات باتت تسيطر على القرار الخارجي الأميركي، وخصوصاً اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة (أيباك)، الذي يستطيع أن يقتصّ من معارضيه من النواب بمنع انتخابهم أو التجديد لهم، إضافة إلى قدرته على تحقيق شبه إجماع على تأييد "إسرائيل" في الكونغرس والسياسة والإعلام والجامعات وغيرها.

 

وربما تكون الإبادة التي حصلت في غزة قد أعادت تسليط الضوء وبقوة على تأثير اللوبي اليهودي، وعلت الأصوات المعترضة على تأثيره وقدرته على منع الاعتراض الشعبي من تحقيق أي اختراق على مستوى النواب الذين يخشون على مستقبلهم السياسي، وكشفت كيف يتمّ تقويض الديمقراطية عبر منع الاعتراض على سياسات "إسرائيل"، وخصوصاً بعد طرد مسؤولي الجامعات في بلد هو رمز الحريات والديمقراطية وحرية التعبير.

 

- انفصال النخب عن القواعد الشعبية

كانت انتخابات عام 2016 تاريخية في الولايات المتحدة، إذ يتم اللجوء إليها كمثال عن انفصال النخب عن القواعد الشعبية وعدم الأخذ بما تريده بعين الاعتبار. في ذلك الوقت، أصرّت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيح هيلاري كلينتون، التي كان معظم ناخبي الحزب الديمقراطي لا يؤيدونها ويحمّلونها مسؤولية مقتل السفير الأميركي في ليبيا، وبعضهم يعتبرها "داعية حرب".

 

وبالرغم من الاعتراضات الشعبية داخل الحزب، وقيام مجموعات كبيرة بالدعوة إلى ترشيح بيرني ساندرز مكانها، أصرت النخب في الحزب الديمقراطي على ترشيحها متحدية الأصوات الشعبية الاعتراضية، ما دفع الكثير من ناخبي الحزب إلى الامتناع عن التصويت، وفاز دونالد ترامب.

 

واليوم، تحاول نخب الحزب الديمقراطي تكرار الخطيئة السابقة بالإصرار على ترشيح جو بايدن الذي أظهرت الانتخابات التمهيدية أن نسب "غير الملتزمين" بالتصويت له كبيرة جداً، وأن حظوظه بالفوز ضئيلة.

 

وهكذا، ومع تزايد حجم الاعتراض داخل الحزب الديمقراطي على ترشيح بايدن، لما يعتبرونه مساهمته ودعمه للإبادة في غزة، تحاول الإدارة الأميركية، ومعها النخب في الحزب الديمقراطي، ابتزاز الناخبين الديمقراطيين، عبر دعوتهم إلى التصويت لجو بايدن، والتهويل عليهم بأن امتناعهم سوف يكرر نتائج عام 2016، ويجعل دونالد ترامب يفوز بالانتخابات.

 

ولعل اللافت في هذه الحركة الشعبية الاعتراضية داخل الحزب الديمقراطي أن العديد من هؤلاء يعتبرون أن فوز دونالد ترامب هو أحد أهون الشرور، وأنه ضروري لإعادة الديمقراطية إلى داخل حزبهم، إذ تكون درساً للنخب الحاكمة للعودة للاستماع إلى صوت الناخبين، وهو الأساس في الديمقراطية، حيث يكون الشعب مصدر السلطة، ويتم الأخذ برأيه في نوابه وممثليه في السلطات.

 

في المحصلة، لقد حرّكت حرب غزة المياه الراكدة في الغرب، وجعلت تأييد "إسرائيل" مكلفاً بدل أن يكون ورقة رابحة صافية يلجأ إليها المسؤولون في الغرب لكسب النفوذ والحصول على الدعم المادي وتأييد اللوبيات التي تسيطر على الإعلام والشركات الكبرى الممولة للحملات الانتخابية..

 

وما الإحراج والكلام المزدوج الذي يقوم به الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته حول دعم "إسرائيل" والادعاءات الكلامية بالغضب من نتنياهو وضرورة حماية المدنيين سوى دليل على أن حرب غزة استطاعت فرض نفسها وبقوة في مواجهة سطوة المال واللوبيات.

 

2024/04/06

اسرائيل تتهرب من المسؤولية: الآلة أبادت الفلسطينيين


كشفت عدة تقارير إعلامية تحقيقات استقصائية أدّت إلى كشف جديد، وهو أن "إسرائيل" استخدمت تطبيقاً للذكاء الاصطناعي، مزوَّداً بقاعدة بيانات عن مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وأن ذلك التطبيق، الذي يُطلَق عليه اسم "لافندر"، أنشأ قاعدة بيانات من آلاف الأسماء، يعتقد أنهم من مقاتلين في مختلف المراتب من السلم العسكري، وحدد 37 ألف هدفاً محتملاً للقتل.

 

ويقول التقرير إن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تلك كانت تحدد الهدف، وتتبعه، وتختار الوقت الذي يتم فيه قتل "عنصر من حماس، بغضّ النظر عن رتبته"، وهو الوقت الذي يوجد فيه في المنزل مع عائلته، أو عبر برنامج يُطلَق عليه عنوان "أين أبي"، إذ لم يكن الجيش الإسرائيلي مهتماً بقتل عناصر حماس والجهاد في المنشآت العسكرية أو في أثناء العمليات، بل كان من الأسهل استهدافهم في منازلهم، وكان هذا النظام مصمّماً لذلك.

 

ويضيف التقرير، الذي نُشر بناءً على شهادات مسؤولين إسرائيليين، أن هذه البرامج سمحت بقتل مئات المدنيين الفلسطينيين كأضرار جانبية لقتل عنصر واحد من حماس، بغض النظر عن رتبته، وأنه في كثير من الاحيان تمّ تدمير بيوت وقتل عائلات بأكملها من دون أن يكون هذا العنصر موجوداً في المنزل.

 

وكشف التقرير أن الهجوم كان يتم عبر استخدام ما يطلق عليه "القنابل الغبية"، أي قنابل غير موجَّهة، تدمر المبنى بكامله على مَن فيه.

 

والسبب يعود، بحسب مصادر إسرائيلية تمت الاستعانة بها في التقرير، إلى أنه "لن نقوم باستخدام قنابل ذكية ضد مقاتل غير مهم، لأنها غالية جداً، ولدينا نقص فيها". وأضافت المصادر: "في مرحلة لاحقة، وسعت الأنظمة عملها، وأصبحت تضيف إلى الأهداف أيضاً أفراد الإغاثة، وضباط الشرطة، وهي أهداف لا يفضَّل قصفها، على رغم أن هؤلاء يساعدون حكومة حماس، لكنهم لا يمثلون خطراً على جنودنا".

 

بالطبع، في هذه التقارير مخالفات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وأهمها مخالفة مبدأي: التمييز بين المدنيين (والأعيان المدنية) والعسكريين، والمشاركة المباشرة في الأعمال العدائية.

 

أ‌- التمييز بين المدنيين والعسكريين

المبدأ الأساسي الذي يمثل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني هو مبدأ التمييز الذي يجب على جميع أطراف النزاع التزامه في جميع الأوقات، أي "التمييز بين السكان المدنيين والمقاتلين، وبين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية، ثم توجه عملياتها ضد الأهداف العسكرية من دون غيرها" (المادة الـ48 من البروتوكول الإضافي الأول).

 

وهذا يعني أنه يجب أن تكون هناك حدود تعريفية واضحة بين "السكان المدنيين" (الذين هم أشخاص محميون، ولا يمكن استهدافهم عمداً مطلقاً إلا إذا غيروا وضعهم إلى مقاتلين أو إذا حملوا السلاح، وذلك بحسب المادة الـ50 (1) البروتوكول الإضافي الأول من اتفاقيات جنيف، وبين "المقاتلين" (الذين يمكن استهدافهم عمداً).

 

ب‌ - المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية

ينص مبدأ التمييز في النزاعات المسلحة غير الدولية على أن كل الأشخاص من غير الأعضاء في القوات المسلحة التابعة للدول، أو من غير العناصر في جماعات مسلحة منظمة تابعة لأحد أطراف النزاع، هم أشخاص مدنيون، وبالتالي يتمتعون بالحماية من الهجمات المباشرة ما لم يقوموا بدور مباشر في العمليات العدائية، وعلى مدى الوقت الذي يقومون خلاله بهذه المشاركة.

 

وهذا يعني أنه حين يتوقف المدنيون عن المشاركة مباشرة في العمليات العدائية، أو حين يتوقف أعضاء في مجموعات مسلحة منظمة منتمية إلى طرف من غير الدول عن القيام بوظيفتهم القتالية، فإنهم عندها يستعيدون الحماية الكاملة الممنوحة للمدنيين ضد الهجمات المباشرة، الأمر الذي يعني أن قتلهم قد يُعَدّ جريمة حرب في حال لم يكن هذا القتل بدافع الضرورة العسكرية.

 

ج - ماذا يعني أن برامج الذكاء الاصطناعي أعطت الأوامر وقامت بتلك العمليات؟

 على الرغم من الضرر الأخلاقي المعنوي الذي يمكن أن تواجهه "إسرائيل"، لكن من الناحية القانونية فإن هذه الادعاءات تسمح بالإفلات من العقاب. وعليه، من مصلحة "إسرائيل" أن تدّعي أن "الآلة" هي من ارتكب الجرائم، فالمسؤولية الجنائية في المحاكم هي مسؤولية جنائية فردية، بحسب القانون الدولي الجنائي.

 

تُرتكب الجرائم الدولية "بواسطة أشخاص، وليس من جانب كيانات مجرّدة، وفقط من خلال معاقبة الأشخاص الذين يقومون بهذه الانتهاكات، يمكن فرض القانون الدولي".

 

هذا الاقتباس، من الحكم الصادر عن محاكم نورمبرغ، يُعَدّ الحجر الأساس للمسؤولية الجنائية الفردية عن الجرائم الدولية المرتكبة، كالإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي عادت فيما بعد وأكدتها المحاكم الدولية المتعددة، ومنها المحكمة الجنائية الدولية.

 

وعليه، دخل الذكاء الاصطناعي بقوة للحروب، وتطورت وسائل القتال، من دون أن يلحظ القانون الجنائي الدولي تطوراً موازياً يتعلق بآليات المساءلة القانونية بشأن ارتكاب جرائم في تلك الحروب. وبالتالي، تحاول "إسرائيل" أن تستفيد من هذه الفجوة كي يفلت مسؤولوها من العقاب والمساءلة، سواءٌ في الداخل أو الخارج.