2023/04/24

المسيحيون في لبنان.. وصدمات التحالف مع الغرب

 لطالما نظر بعض المسيحيين في لبنان (الموارنة) إلى التحالف مع فرنسا خصوصاً والغرب عموماً، بأنه الضامن لوجودهم ونفوذهم. لكن البحث في مسار السياسة الفرنسية في لبنان بعد توسع النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، يشير إلى أن الفرنسيين لا يملكون تصوراً مبدئياً ثابتاً لسياستهم في لبنان، بل يعمدون إلى تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية والثقافية بدعمهم للطرف الأقوى في المعادلة السياسية القائمة (بغض النظر عن طائفته)، مع الأخذ في الاعتبار الهامش المتاح لهم من قِبل الولايات المتحدة، ضمن سياسة توزيع الأدوار، إذ يُعطى الحليف دوراً لا يستطيع الأميركيون القيام به بأنفسهم.

 

وهكذا، يمكن تقسيم السياسة الفرنسية في لبنان إلى مراحل ثلاث:

 

- المرحلة الأولى: "المارونية السياسية" و "الأم الحنون"

 

عام 1535، منح العثمانيون فرنسا امتيازات في بلاد الشام، ومنها حق حماية الكاثوليك في لبنان، توسعت بعد تعهد لويس الرابع عشر عام 1649 بحماية الكنيسة الكاثوليكية وجميع طوائفها (الموارنة). وبعد التدخل الفرنسي لحماية المسيحيين في جبل لبنان في أعقاب مذابح عام 1860، بات المسيحيون اللبنانيون الموارنة ينظرون إلى فرنسا إلى أنها "الأم الحنون".

 

استمر الدعم الفرنسي للموارنة خلال فترة الانتداب، وكانت مساهمة فرنسا واضحة في تكريس حكم ما يسمى "المارونية السياسية"، إذ أقرّ الفرنسيون للبنان نظاماً رئاسياً -طائفياً أعطوا فيه الموارنة الصلاحيات الأوسع والأكبر.

 

وبعد الاستقلال، استمر المسيحيون الموارنة بالنظر إلى فرنسا باعتبارها الحامي الأكبر لهم. مع ذلك، لم يكن للفرنسيين دور كبير في حمايتهم خلال الحرب الأهلية، ولم ينفع الدعم المعنوي الفرنسي لقائد الجيش ميشال عون في نهاية الحرب في منع اجتياح عسكري سوري للمناطق التي يسيطر عليها الجيش اللبناني، في تشرين الأول/ أكتوبر 1990، تنفيذاً لتسوية كان قد رعاها الأميركيون لإنهاء الحرب في لبنان، أدّت إلى تغيير النظام في الطائف.

 

- المرحلة الثانية: معادلة الطائف والتخلي عن المسيحيين

 

خلال التسعينيات من القرن العشرين، تغيّرت التوازنات السياسية في لبنان، وتقلصت الصلاحيات التي يتمتع بها الموارنة، لصالح مجلس الوزراء بحسب التعديلات الدستورية لعام 1990. ولعبت شخصية الرئيس الراحل رفيق الحريري وعلاقاته العربية والدولية دوراً هاماً في تكريسه لاعباً أساسياً على الساحة اللبنانية يتشارك النفوذ مع السوريين في لبنان آنذاك.

 

وهكذا، بأفول "المارونية السياسية" وبروز "السنية السياسية المتحالفة مع السوريين"، تحوّل الدعم الفرنسي السابق للمسيحيين إلى دعم واضح للقوى السياسية القائمة في لبنان (الحريري، السوريين)، على حساب المسيحيين الذين كانوا قد قاطعوا انتخابات عام 1992، وساد إحباط عارم بينهم بعدما أيقنوا أن التسوية أتت على حساب صلاحياتهم في الطائف.

 

ويقول الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في مذكراته إن علاقته بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كانت متينة جداً، إذ يذكر شيراك في مذكراته أن الرئيس حافظ الأسد قال له في لقاء بينهما "بشار مثل ابنك". وكان التنسيق على قدم وساق بينهما في أمور لبنان، وأنه (أي شيراك) هو من اختار الرئيس اللبناني السابق إميل لحود لرئاسة لبنان، وذلك بالتنسيق مع الرئيس الأسد "الذي حرص على استشارته في موضوع تعيين الرئيس اللبناني المقبل في كانون الأول/ديسمبر 1998." (انظر مذكرات جاك شيراك، الزمن الرئاسي، 2011).

 

وكان شيراك مخلصاً لذلك التحالف حتى بعد موت الرئيس حافظ الأسد، فبعد خروج "الجيش" الإسرائيلي من لبنان عام 2000، علت أصوات في الداخل اللبناني (أبرزها مسيحية) وأصدر مجلس المطارنة الموارنة بيانات تدعو إلى خروج الجيش السوري من لبنان تنفيذاً للقرارات الدولية ذات الصلة.

 

حينها، وفي موقف محبط للمسيحيين (ظهر كأنه موجّه ضدهم)، قدم الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى لبنان عام 2002، وألقى خطاباً في مجلس النواب اللبناني ربط خلاله "انسحاب القوات السورية من لبنان بالتوصل إلى اتفاق سلام شامل في المنطقة وحلّ قضية الشرق الأوسط".

 

لاحقاً، بدأ التغيير في موقف جاك شيراك تجاه السوريين حتى قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ووجد شيراك في دخول الأميركيين إلى العراق عام 2003 فرصة سانحة للتغيير في لبنان، فحاول إقناع الرئيس الأميركي جورج بوش بإخراج السوريين من لبنان خلال اجتماعه معه عام 2004، كما ذكر بوش في مذكراته (انظر: كتاب بوش، قرارات مصيرية، 2011).

 

وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، حلّ العداء الشديد بين السوريين والرئيس جاك شيراك الذي راهن على المحكمة الدولية لـ "إسقاط بشار الأسد" (انظر كتاب "سر الرؤساء"، فنسان نوزي، 2010).

 

بعدها، لم تخرج السياسة الفرنسية في لبنان وسوريا خلال فترة "الربيع العربي" عن إطار السياسة الأميركية، واستمر الفرنسيون يتحركون في الهامش الممنوح لهم أميركياً في لبنان وملفات المنطقة.

 

- المرحلة الثالثة: طموحات ماكرون بعودة النفوذ الفرنسي

 

في آب / أغسطس 2020، مباشرة بعد انفجار مرفأ بيروت، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بزيارتين إلى لبنان، وطرح مبادرة تقوم على تنفيذ سلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وتشكيل حكومة جديدة، تُخرج لبنان من الأزمة المستمرة منذ ثورة 17 تشرين الأول / أكتوبر 2019، لكنها فشلت.

 

تتباين نظرة اللبنانيين حول فشل مبادرة ماكرون الإنقاذية، فمنهم من يعيد الفشل إلى عدم قبول الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتخفيف الضغوط القصوى على لبنان، ومنهم من يتهم الطبقة السياسية اللبنانية بإفشال المبادرة تهرباً من الإصلاحات. عملياً، يعود فشل مبادرة ماكرون إلى كل ما سبق، بالإضافة إلى عدم امتلاكه أي وسائل ضغط لفرض وجهة النظر الفرنسية، بالرغم من كل التهديد بالعقوبات على الطبقة السياسية.

 

واليوم، ينظر العديد من المسيحيين بسلبية إلى الدور الفرنسي في لبنان، مشيرين إلى دعم ماكرون المطلق للرئيس نجيب ميقاتي، ويتهمونه بالتحالف مع "الشيعية السياسية". وقد تعالت أصوات بعض الزعماء الموارنة ضد "التسوية الرئاسية" التي تحاول فرنسا تسويقها، والتي تسير عكس توجهات الأحزاب المسيحية حول هوية رئيس الجمهورية القادم.

 

التسوية الرئاسية المطروحة من جانب الفرنسيين، جعلت بعض الزعماء الموارنة ممن ينادون دائماً بالتحالف الوثيق مع الغرب، وبعض مَن تمنوا سابقاً عودة فرنسا إلى لبنان (عام 2020) إلى اتهام فرنسا بأنها "لا أم ولا حنون"، وأنها تحوّلت إلى "زوجة الأب" أو "الخالة الظالمة"!.

 

بالنتيجة، تعلّمنا الدروس التاريخية في لبنان، أن محاولة أي جهة الاتكال على الخارج لفرض وجهة نظرها السياسية ستمنى بالفشل. وبالرغم من أن الأميركيين يُتهمون في لبنان (خاصة من جانب المسيحيين) بأنهم يعتمدون سياسة براغماتية تركّز على مصالحهم الخاصة من دون الأخذ في الاعتبار مصالح حلفائهم وأنهم لا يلتزمون بحليف بشكل دائم، فإن البحث يشير إلى أن السياسة الفرنسية لا تقلّ براغماتية عن تلك الأميركية.

 

وعليه، يبقى الأفضل أن تعتمد القوى السياسية اللبنانية على نفسها، وعلى التفاهمات الداخلية والحوار وعدم محاولة الاستقواء بالخارج ضد خصومها في الداخل.

الأوروبيون يتعاملون بذهنية القرن التاسع عشر

شكّلت قارتي آسيا وأفريقيا خلال فترات ما قبل القرن العشرين، مجالاً للتنافس الاستعماري بين الدول الأوروبية الاستعمارية، التي استخدمت نفوذها وجيوشها لفرض سيطرتها على تلك الدول، فقامت بنهب ثرواتها، واستغلالها، واستخدامها أسواق لتصريف الإنتاج.

وخلال القرن العشرين، أدّى التنافس الاستعماري ورغبة ألمانيا في  دخول نادي الأقطاب العالميين (بعد توحيدها) الى حربين عالميتين بين القوى الأوروبية نفسها، انخرطت فيها  لاحقاً الولايات المتحدة الأميركية. كانت نتيجة تلك الحروب أن الدول الاوروبية الاستعمارية فقدت هيمنتها على المستعمرات رويداً رويداً، وحلّ النفوذ الأميركي والسوفييتي مكان النفوذ الاوروبي السابق.

اليوم، نجد أن الذهنية الاستعمارية الأوروبية القديمة عادت لتبرز من جديد ويمكن أن نشير الى اتجاهين على سبيل المثال لا الحصر:

-        الاتجاه الأول: التعامل مع الحرب الأوكرانية

اعترف العديد من القادة الأوروبيين بأنهم كانوا – منذ عام 2014- يعدّون العدّة لحرب مع روسيا في أوكرانيا. وأثبتت الوثائق المنشورة أن الأميركيين والأوروبيين كانوا بالفعل قد أعطوا تعهدات لغورباتشوف والمسؤولين السوفييت بعدم توسع الناتو والاقتراب من الأراضي الروسية وذلك خلال فترة التفاوض على توحيد ألمانيا   (انظر صفحة أرشيف الأمن القومي، جامعة جورج واشنطن الأميركية).

وبالرغم من الأسئلة والشكوك المطروحة حول مسؤولية الناتو والاوروبيين والأميركيين في دفع روسيا دفعاً الى تلك الحرب من خلال الاعلان عن ضمّ أوكرانيا الى الناتو مرات عديدة، يحاول الاوروبيون التعامل مع روسيا كما تعاملوا مع ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى وخاصة في مؤتمر فرساي. 

عام 1919، حمّل الأوروبيون ألمانيا مسؤولية الحرب كاملة بصورة منفردة (وهو ما كان يعارضه الأميركيون)، وفرضوا عليها تعويضات هائلة لإعادة إعمار ما تهدم والخسائر التي لحقت بالدول الأخرى المشاركة في الحرب. وهذا بالضبط ما يبدو أن الاتحاد الاوروبي يريد أن يفعله، وذلك عبر التصريحات التي تلقي المسؤولية كاملة على روسيا في تلك الحرب، وعبر مصادرة الأموال الروسية والبحث عن وسائل قانونية للتصرف بها واستخدامها في إعادة اعمار أوكرانيا (كما يقولون).

-        الاتجاه الثاني: التعامل مع الشرق الأوسط وأفريقيا

كما بات واضحاً، يحاول الاوروبيون الهرولة الى الشرق الأوسط للتسابق على النفوذ وتثبيت ما يمكن الحصول عليه من مكاسب، بعدما أعلنت الولايات المتحدة أنها بصدد الاتجاه نحو آسيا لإحتواء الصعود الصيني، ما يعني انتقال منطقة الشرق الأوسط الى درجة اقل أهمية في الاستراتيجية الأميركية مما كانت عليه خلال العقدين الماضيين.

وهكذا، تحاول كل من فرنسا وبريطانيا لعب أدوار في المستعمرات السابقة في المشرق العربي وأفريقيا ومنع الروس والصينيين من توسيع نفوذهم في تلك الدول، بينما تحاول ألمانيا الاستفادة من قوتها الأوروبية المتصاعدة للمنافسة الاستعمارية حيث نجد تدخّل السفراء الألمان في العديد من الدول، كتشاد مثلاً التي طردت السفير الألماني، مشيرة الى أنه يتصرف بشكل فظّ، ولا يحترم القواعد الدبلوماسية ويتدخل بشكل مفرط في الشؤون الداخلية للبلاد.

وبالمثل، وفي حنين الى ماضٍ استعماري "مجيد"، يهرع الفرنسيون الى لبنان للتدخل وفرض تسويات سياسية من هنا، وفرض حاكم مركزي من هناك، ودخول الشركات الفرنسية الى سوق الطاقة ومحاولة احتكار المشاريع الاستثمارية الأخرى، تماماً كما فعلوا خلال فترات متعددة منذ الاستقلال ولغاية اليوم.

تدرك فرنسا وغيرها من الدول الاستعمارية السابقة، أن المفتاح الأساسي للنفوذ هو الطبقة السياسية الحاكمة في تلك البلاد التي تستخدم النفوذ الأجنبي لتثبيت نفسها وسلطانها على المواطنين وللاستقواء على خصومها، بينما يعمل السياسيون المحليون كسماسرة أو وكلاء لذلك النفوذ الأجنبي في البلاد، فيسهّلون له مصالحه، عبر منحه الاستثمارات وفتح الأبواب لشركاته وإغلاقها على المنافسين....

وبهذا الإطار، نفهم الاندفاعة الفرنسية لتعويم الطبقة السياسية اللبنانية تحت ستار التسوية وتجنّب الفراغ، بعدما أتت التطورات المتلاحقة خلال الاعوام التي تلت 17 تشرين الاول 2019، والانهيار الذي تبعها، لتكشف ارتكاباتها المالية والاقتصادية وفسادها.

تطمح فرنسا اليوم الى تحقيق استفادة متبادلة في لبنان،عبر تعويم الطبقة السياسية نفسها التي حكمت لبنان في التسعينات، بينما ستستغل تلك الطبقة الدعم الخارجي لمنح نفسها عفواً عاماً مالياً يشبه العفو العام الجنائي الذي منحوه لأنفسهم بعد تسوية الطائف. وهكذا، تبدأ مرحلة جديدة لطبقة سياسية لبنانية تدوم وتدوم.

  

2023/04/17

لبنان: التقسيم والاستقواء مشروع واحد لا مشروعين

 

منذ ما قبل إشكال "التوقيت" في لبنان، ترتفع أصوات العديد من اللبنانيين على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الاعلام والحيّز العام، بخطابات طائفية ومذهبية،  منها مَن يطالب بالفيدرالية، ومنها من يستقوي على الآخرين بخطابات "دقوا راسكم بالحيط"، ومنها من يعود الى نغمة "تعداد المسيحيين" الخ.... كما تنتعش مشاريع وأفكار عفا عنها الزمن، وأثبتت فشلها خلال الحرب الأهلية اللبنانية.

 

وتزامناً مع ما يحصل في فلسطين المحتلة من تضييق على المصّلين من مسلمين ومسيحيين، ومحاولة رئيس الوزراء "الاسرائيلي" بنيامين نتنياهو خنق صوت المعارضة والاتجاه لتأسيس دولة طائفية ديكتاتورية لا تسمح لأي فكر مختلف بحق التواجد في الحيّز العام، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام واقع لطالما تأثروا به، وأثروا فيه في الشرق الأوسط، وهو خيارهم بين مشروعين لم ينتهيا في المنطقة، وهما:

 

1-  المشروع الأول: يقوم على التجزئة والتقسيم والتشرذم المجتمعي، هدفه خلق كيانات طائفية متناحرة تتخذ من رقع الجغرافيا ملجأ وموطناً للمجموعات تعيش فيه بانعزال وتقوقع على الذات.

هذا المشروع، يحاول خلق كيانات طائفية تجعل من "دولة يهودية" في فلسطين المحتلة أمراً طبيعياً وعادياً حين يصبح بجانبها في لبنان "كونتون مسيحي" و"كونتون شيعي" و"كونتون سنّي" وهكذا دواليك..

 

في هذا المشروع أكثر من طرف لبناني يفيد أصحابه بعضهم البعض، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتغذى أصحاب مقولة "ما بينعاش معهم"، إعلامياً وعملياً وواقعياً بقوة، من أصحاب مقولات "نحنا هيك بدنا وروحوا بلطوا البحر" الذين ينزعون الى لغة استقواء طائفية لا تحترم أي آخر لم يشهد لبنان مثلها من قبل.

 

علماً ان خطورة هذا المشروع (إن تحقق) أن "مجموعة صغيرة" ضمن "المجموعة الطائفية الكبرى" تتمتع بالقدرات والتمويل تستطيع أن تختطف تلك المجموعات وتتكلم باسمها وتفرض سيطرتها ورؤيتها الخاصة للتاريخ والمستقبل والخيارات السياسية على الاغلبية "الصامتة" في بيئتها، وهو ما شهدناه خلال الحرب الأهلية حين نصّبت الميليشيات نفسها متكلمة باسم "الناس" الذين يقطنون في مناطق نفوذها.

 عمليًا، هذا المشروع هو في الحقيقة كارثي للبنان، ووصفة لحرب الكل ضد الكل التي ستفني الجميع معاً.

 

2-  المشروع الثاني وهو مشروع مشرقي يعيش أبناؤه من مختلف الطوائف جنباً الى جنب، يؤمنون بتاريخ مشترك، وبأن مصيرهم وهمّهم واحد.

 

أصحاب هذا المشروع الثاني يؤمنون بالتكامل والتشارك والتعاضد بهدف تطوير المجتمعات والدول، مسلمين ومسيحيين جنباً الى جنب، كما عاشوا دائماً في هذا المشرق منذ قرون طويلة.

 

يجد مؤيدو هذا الخيار، أن أصواتهم باتت أقل صدى في وقتنا الراهن، بعدما ارتفع ضجيج أصحاب المشروع الأول وكتاباتهم الحربية والعنصرية والاستعلائية النافرة. وهذا أمر طبيعي، إذ ترتفع أصوات المتطرفين خلال الازمات الكبرى والجوع و"القلة" وذلك لتحميل الآخر المسؤولية عما آلت اليه الأمور من انهيار تمهيداً للانفصال و"الطلاق" والتهرب من مسؤولية الانقاذ.

 

من هنا نجد أن اصحاب المشروع الأول، من طائفيين سواء عنصريين أو أصحاب لغة الاستقواء وفائض القوة، من مسيحيين ومسلمين، معنيين باستهداف الوجود المسيحي المشرقي عبر برامج تهدف سواء الى تجميعهم في "مناطق صافية"، أو تهجيرهم واقتلاعهم ودفعهم مرغمين الى الهجرة، لأنهم عنصر أساسي وعضوي من مكوّنات بناء واستمرار هذا المجتمعات وتقويتها، ولتحقيق المشروع التاريخي بتهجير الأقليات من المشرق.  

 

بالنتيجة، لقد مارس اللبنانيون ضد بعضهم العنصرية والاستقواء في وقت سابق، وأثبتت الحرب الأهلية ونتائجها أن أصحاب تلك الطروحات لم ينجحوا.

واليوم، برأيي، ستفشل مشاريع التقسيم والعزل والاستقواء في لبنان، وذلك للأسباب التالية:

-        صعوبة القيام بحرب داخلية ينتصر فيها أحد فيفرض تصوّره على الجميع.

 

-        الاتجاه التسووي في المنطقة سيجعل من الصعب تلقي دعم خارجي لأي من هؤلاء المشاريع.

 

-        الاتجاه الحاسم اقليمياً ودولياً أنه من غير المسموح للبنانيين القيام بمراجعة النظام وعقد مؤتمر تأسيسي لصياغة نظام جديد، حيث يمنّي البعض النفس بالانفصال الى كونتونات طائفية، ويتصور البعض قدرته على فرض إرادته على الآخرين بالعنتريات وفائض القوة.

الأكيد أن لا وجود لهذه الإرادة عملياً وواقعياً، لذا على اللبنانيين التعايش مع بعضهم، والسعي الى محاولة انقاذ ما تبقى بدل التلهي بالضجيج والسعار الطائفي الذي يدمر بدل أن يبني. 

2023/04/14

حديث ماكرون في الصين: تمرّد أم تنبؤات؟

لم يَسْلَم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الانتقادات الأميركية والأوروبية، ومن تعليقات الصحف الأميركية بسبب تصريحاته، التي أدلى بها خلال زيارته الصين، وذلك في مقابلة مع "بوليتيكو" وصحيفة Les Echos الفرنسية اليومية، وفي البيان المشترك بينه وبين الرئيس الصيني، شي جين بينغ، بحيث عبّرا عن طموحهما إلى نسج "شراكة استراتيجية عالمية" وترحيبهما بـتشكّل "عالم متعدد الأقطاب".

 

وكان ماكرون قال، في المقابلة، إن "السؤال الذي نطرحه نحن الأوروبيين على أنفسنا هو ما يلي: هل من مصلحتنا الإسراع عندما يتعلق الأمر بتايوان؟ الجواب هو لا". وأضاف "أسوأ شيء هو الاعتقاد أننا، نحن الأوروبيين، يجب أن نصبح أتباعاً بشأن هذا الموضوع، وأن نأخذ إشارتنا من أجندة الولايات المتحدة ورد الفعل الصيني المبالغ فيه".

 

وأكد ماكرون أنه يتعين على أوروبا عدم التورط في الصراع في تايوان، وأن عليها أن تصبح "قطباً ثالثاً" مستقلاً عن واشنطن وبكين، وإلّا فإن أوروبا تواجه الآن خطر "الوقوع في أزمات ليست لها، الأمر الذي يمنعها من بناء استقلالية استراتيجية".

 

في التدقيق في كلام ماكرون، يمكن ملاحظة أنه يتضمن شقيّن مهمَّين:

 

- الأول تحذيري من أن أوروبا ستجد نفسها غارقة في صراعات ليست لها، وستدفع فيها أثماناً كبيرة.

 

- والثاني استراتيجي، يتضمّن دعوة إلى استقلال أوروبا عن الصراع القطبي المقبل.

 

عملياً، هي ليست المرة الأولى التي يُطلق فيها ماكرون تنبؤات تحذيرية، أو يعبّر فيها عن رغبته في أن تتخذ أوروبا موقفاً استراتيجياً استقلالياً عن الولايات المتحدة.

 

1- بالنسبة إلى التنبؤ التحذيري

لطالما أطلق ماكرون تنبؤات تحذيرية للأوروبيين، فلقد حذّر، في عام 2018، من أخطار ستواجهها أوروبا مستقبلاً.

 

حينها، تخوّف ماكرون من أن تجد أوروبا نفسها في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، في وضع مشابه لحقبة الثلاثينيات من القرن العشرين. وقال إن أوروبا تواجه أخطاراً متعدّدة، أهمها: خطر أن تتفكك بسبب آفة القومية، وأن تثير قوى خارجية البلبلة فيها، وأن تخسر بالتالي سيادتها؛ أي أنه يتوقف أمنها على الخيارات الأميركية وتبدلاتها، وأن يكون للصين حضور متزايد في البنى التحتية الأساسية، وأن تميل روسيا أحياناً إلى التدخل، وأن تتخطى المصالح المالية ومصالح الأسواق الكبرى أحياناً مكانة الدول.

 

2- الدعوة إلى استقلال أوروبا

خلال ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، استغل ماكرون طريقة ترامب الاستعلائية والعدائية تجاه أوروبا، وإعلانه (أي ترامب) أن حلف الناتو بلا فائدة، ليدعو المستشارة الألمانية (حينها) أنجيلا ميركل إلى تحقيق نوعٍ من الاستقلال عن الولايات المتحدة، سياسياً وأمنياً.

 

وأعرب ماكرون حينها عن طموحه إلى "حكم أوروبيّ ذاتي استراتيجي"، يتلخّص في الاستقلالية الأوروبية الدفاعية؛ أي القدرة على الدفاع عن القارة من دون الاعتماد على الولايات المتحدة، وتفعيل "السيادة على المستوى الأوروبي"، وذلك عبر إنشاء "جيش أوروبي" مستقل.

 

وكان ماكرون، في شباط/فبراير 2020، دعا ميركل إلى "حوار استراتيجي" من أجل رسم سياسة مستقبلية للاتحاد الأوروبي، تأخذ في الاعتبار المستجدات في الساحة الدولية والتراجع الأميركي، لكنّ الألمان لم يرسلوا جواباً عن الطرح الفرنسي، كما أعلن ماكرون نفسه.

 

وردّت ميركل على ذلك الطرح بالقول إن الأوروبيين نشأوا على فكرة أنَّ الولايات المتحدة هي قوة عالمية، فإذا رغبت الولايات المتحدة في الانسحاب من هذا الدور، بإرادتها الحرّة، فحينها يمكن أن يفكر الأوروبيون في الأمر.

 

هذا كان موقف ميركل، المستشارة الصلبة والقوية، فكيف سيكون عليه موقف المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتز، بشأن دعوات ماكرون الحالية، وهو الذي وافق على التخلي عن "نورد ستريم 2"، بعد أن عارضت ميركل التخلي عنه طوال أعوام، وتحملت تنمُّر ترامب وتهديداته المستمرة.

 

ولا يُعرف المستشار الألماني الحالي بقوة الشخصية وصلابتها، فهو عارض إمداد أوكرانيا بدبابات ليوبارد الألمانية، ثم عاد ووافق بعد الضغوط. وهو مثال من أمثلة كثيرة يمكن تعدادها، للتأكيد أن دعوات ماكرون الاستقلالية لن تجد لها صدىً في الآذان الأوروبية بصورة عامة، والألمانية بصورة خاصة.

 

3- مشكلة ماكرون الحقيقية

قد تكون تصريحات ماكرون، التي عبّر عنها في زيارته الصين، أو اعتراضاته على السياسية الأميركية التي أعرب عنها خلال زيارته واشنطن، تنبؤات لما يمكن أن تصبح عليه حال أوروبا في حال لم تتخذ لها مساراً استقلالياً يحفظ مصالحها.

 

لكن، تكمن مشكلة ماكرون الحقيقية، ليس في وجود رغبة فرنسية استقلالية، لطالما عبّرت عن نفسها في تحدّي إرادة الولايات المتحدة، وليس في اقتناع النخب الفرنسية بما يقوله، لكن في قوة بلاده المتراجعة أوروبياً، وعدم قدرته على تسويق تصوراته داخل الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار يجد ماكرون نفسه مكبّلاً بعدة عوامل:

 

- أولاً: آليات التصويت واتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي، بحيث تتمتع جميع الدول بحق النقض.

 

-  ثانياً: شكلياً، تتشاطر فرنسا وألمانيا الهيمنة على الاتحاد الأوروبي، لكنّ ألمانيا، عملياً، هي الدولة الأقوى في الاتحاد الأوروبي، بعد خروج بريطانيا منه. لذلك، فإن أي توجّه استراتيجي فرنسي للعلاقات داخل الاتحاد، أو لعلاقات الاتحاد مع الخارج، يبقى محكوماً بالإرادة الألمانية.

 -  ثالثاً: النفوذ السياسي الأميركي الواسع داخل دول الاتحاد، والذي يُعَدّ الأقوى بلا منازع (أقوى من فرنسا وألمانيا مجتمعتين).

2023/04/10

بيع النفط السعودي والخطوط الحمراء الأميركية

أجرى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي أي أيه"، وليام بيرنز، زيارة غير معلنة إلى السعودية حيث التقى بنظرائه السعوديين. وقالت صحيفة "وال ستريت جورنال" إن بيرنز أعرب، خلال الزيارة، عن "انزعاج" واشنطن من التقارب بين الرياض وطهران بوساطة صينية، وانفتاح المملكة على العلاقات مع سوريا.

قد يكون صحيحاً أن الأميركيين منزعجين من أن السعودية اتخذت مسارات إقليمية متمايزة عن المواقف الأميركية، لكن قد يكون هناك ما يمكن أن يزعج الأميركيين أكثر، وهو إعلان السعودية انفتاحها على استخدام عملات غير الدولار الأميركي في التجارة الدولية (تصريح وزير المالية السعودي محمد الجدعان لوكالة بلومبرغ في 17 كانون الثاني/ يناير 2023).

و عليه، إن صحّ أن السعودية ستقوم باستخدام العملات المحلية في تجارة النفط العالمية خاصة مع الصين، فقد يكون هذا خط أحمر أميركي فعلي، لن يستطيعوا غضّ النظر به مع حليف قوي وهام كالسعودية. لماذا؟

أولاً: سيطرة الدولار على التجارة العالمية للنفط

تاريخياً، بدأت سيطرة الدولار الأميركي على التجارة والتعاملات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد مؤتمر بريتون وودز عام 1944 في واشنطن. حينها، وافق المجتمعون على ربط العملات بالدولار الأميركي بسبب حيازة الولايات المتحدة غالبية احتياطات الذهب في العالم، ووافقت الولايات المتحدة على استبدال عملتها بالذهب بسعر ثابت قدره 35 دولاراً للأونصة. كما تمّ إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير.

أدّى هذا الربط الى تحويل الولايات المتحدة الى قوة مالية عالمية، فأصبح الدولار أهم عملة احتياط وصرف في العالم، فتهافتت البنوك المركزية على الدولار من أجل تكوين احتياطياتها، وكذلك هيمنت الولايات المتحدة على كل من صندوق النقد والبنك الدولي.

عام 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريشارد نيكسون بصورة مفاجئة فكّ ارتباط الدولار بالذهب وترك العملة الأميركية للسعر الذي تستحقه. وفيما بعد، وخلال عام 1973، وبعد أزمة النفط العالمية الكبرى، ظهر ما يسمى "البترودولار" أي تسعير النفط ودفعه بالدولار الأميركي، ما ساهم ببقاء هيمنة الدولار الأميركي عالمياً.

وبالرغم من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 التي بدأت بانهيار البنوك الأميركية، بقي الدولار الأميركي مهيمناً على التعاملات الدولية بسبب ثقة العالم بقوة الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً. وهكذا، بقيت هيمنة الغرب وخاصة الأميركيين على الآليات المالية الدولية، الى أن دفعت التطورات العالمية الى رغبة الدول بتحدي تلك الآليات ومحاولة التخلص من هيمنتها.

ثانياً: العالم يريد التخلص من الهيمنة المالية

منذ عام 2014، حاولت دول بريكس BRICS أن تخلق آليات موازية للآليات الغربية المالية، فاتفقت على إنشاء بنك التنمية الجديد، وصندوق احتياطي الطوارئ (لتوفير الحماية  للعملات الوطنية ضد ضغوط المالية)، وهو آلية موازية لصندوق النقد الدولي.

عملياً، دقّ عام 2014 ناقوس الخطر بالنسبة لدول العالم لسببين:

1-     قيام الولايات المتحدة بفرض غرامة على بنك باريبا (BNP) الاوروبي قدرها 9 مليارات دولار إلى الولايات المتحدة بسبب قيامه بتمويل صادرات بالدولار الأميركي لدول خاضعة لعقوبات أميركية آحادية هي كوبا والسودان وإيران.

2-     فرض عقوبات مالية واقتصادية على روسيا بسبب ضمّها القرم،  ومنعها من التداول بالمراسلة المالية العالمية Swift . الأمر الذي دفع روسيا وبعدها الصين الى إنشاء نظام مراسلة مالي مستقل، وناقشت قمة بريكس عام 2015، إنشاء نظام للمراسلة المالية الدولية بديلاً لسويفت.

عام 2022، وعلى أثر الحرب الاوكرانية، اعتمد الغرب سلسلة من العقوبات الاقتصادية والمالية غير المسبوقة على الروس وصادروا الأصول المالية للدولة الروسية وقاموا بتجميد احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي الروسي بالدولار واليورو.

هذه الإجراءات وشعور الدول عامة والصين خاصة بأنها قد تكون الضحية التالية بعد روسيا، دفعتها الى محاولة استبدال الدولار في تعاملاتها الدولية بعملاتها المحلية، والسير بمشاريع إنشاء عملات وآليات مالية موازية للآليات الغربية.

ثالثاً: هل ينجح مشروع  إنزال الدولار عن عرش الهيمنة العالمية؟

بالمبدأ، ليس من شيء ثابت في العلاقات الدولية. في وقت من الأوقات، وفي خضم سيطرة بريطانيا على العالم (Pax Britannica) كان الجنيه الاسترليني هو العملة المهيمنة على التبادلات الدولية، ثم أتى الدولار الأميركي ليحلّ محله.

الاتجاه العام في العالم اليوم، هو الحدّ من السيطرة الغربية على الآليات المالية الدولية بخلق بدائل موازية، وهنا ستكون الصين الرابح الأكبر.

أما بالنسبة للدولار، فقد يكون من الصعب سيطرة عملة واحدة على العالم كما كان الدولار سابقاً (العملة الصينية تحتاج الى إجراءات داخلية اقتصادية للحلول مكان الدولار). لكن قد يكون التبادل التجاري بالعملات المحلية للدول بداية، ثم بروز عملات اقليمية موحدة للتعامل التجاري في الأنظمة الاقليمية المتعددة، بالاضافة الى بروز عملات رقمية.. وكلها ستؤدي الى تقليص السيطرة الدولية للدولار الأميركي، التي منحت الاميركيين إمكانيات سياسية واقتصادية هامة.

 

2023/04/08

العدوان على المسجد الاقصى: هل ينجح نتنياهو بتصدير أزماته الداخلية؟

  

طغت الاعتداءات على المصلين في المسجد الأقصى، ومحاولات المستوطنين اقتحامه لتقديم الذبائح، إضافة إلى الصواريخ التي انطلقت من كلٍ من لبنان وقطاع غزة، والردّ العدواني الإسرائيلي على أنباء التظاهرات والانقسامات غير المسبوقة في "إسرائيل" والتي كادت تطيح برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

 

وكان نتنياهو وأركان حكومته المحرجون بحجم التظاهرات والاعتراضات، يحتاجون لتصدير أزماتهم إلى الخارج سواء عبر العدوان على الفلسطينيين أو الاندفاع إلى أيام قتالية مع الخارج (لبنان، غزة). وبسبب صعوبة ضبط أي حرب مع الخارج وعدم موافقة الأميركيين عليها، فضّلوا تغطية فشلهم بمواجهات وعنف ضد المصلين المسلمين في المسجد الأقصى.

 

وعليه، هل يمكن لهذه التطوّرات أن تنهي الأزمة الاجتماعية-السياسية في "إسرائيل"؟

 

الإجابة المنطقية تقول بأنه من الصعب على "إسرائيل" (مهما حاول نتنياهو تصدير أزماته إلى الخارج) أن تتخلّص من أزمة اجتماعية–سياسية باتت تنبئ بانقسام عمودي من الصعب ترميمه، والذي تطوّر عبر مراحل طويلة من التحوّلات الاجتماعية، ونوجزها بما يلي:

 

1-مسار صعود اليمين الإسرائيلي

 

بدأ مسار صعود اليمين في "إسرائيل" منذ عام 1977، مع وصول حزب الليكود إلى السلطة. وكان لفشل المفاوضات مع الفلسطينيين وفشل اليسار الإسرائيلي في تطبيق اتفاقيات السلام في التسعينيات، واندلاع الانتفاضات الفلسطينية المتتالية، أثرٌ كبير على انزياح العديد من الفئات الاجتماعية اليمينية إلى أقصى التطرّف اليميني، وتراجع قوة المنظمات التي تدعو إلى السلام.

 

ومنذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، بدأ المجتمع الإسرائيلي يشهد تحوّلات عميقة في بنيته الاجتماعية، حيث شهد تفكّكُ الاتحاد السوفياتي هجرة يهودية لأكثر من مليون يهودي من مواطني الاتحاد السوفياتي السابق، ما بدّل النسيج السكاني داخل "إسرائيل" وتركيبة النخب التي كانت تهيمن عليها مجموعات الأشكناز–الغربيين العلمانيين والتي كان يستند إليها اليسار الإسرائيلي.

 

ومع نهاية القرن العشرين، بدأت مجموعات يمينية جديدة تتشكّل من تجمّع أقليات إثنية ودينية واجتماعية، تتباين فيما بينها، لكن يجمعها العداء للعرب والرغبة في تأسيس "دولة يهودية صافية". هذا التحوّل السياسي نحو اليمين عزّزته مصالح عدد من المجموعات المختلفة، نذكر منها على سبيل المثال:

 

-مجموعات المستوطنين الذين يخشون خسارة امتيازاتهم غير القانونية عبر اتفاقيات السلام.

 

-اليهود الروس القادمون حديثاً إلى البلاد والذين يريدون إيجاد مساحة سياسية واجتماعية لهم في الدولة والجيش والحيّز العام.

 

-مجموعات السفارديم (اليهود الشرقيين) المستائين من المساعدات السخية التي قدّمها اليسار الحاكم للمهاجرين الروس، والتي اعتبروها نوعاً من التمييز.

 

وفي القرن الحادي والعشرين، تطوّر هذا الانقسام، وتمّ تعزيزه بقدرات إعلامية وانفتاح وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أدّت إلى تزايد وسائل الإعلام والصحافيين المرتبطين بالتيار المحافظ- اليميني-الديني والذي وفّر منبراً للمتطرفين الذين لم تكن تسمع أصواتهم علناً في الماضي بسبب سيطرة وسائل الإعلام التقليدي واحتكارها مساحات التعبير العلني.

 

2-تنامي قوة الأحزاب الدينية

 

ارتفعت أسهم التطرّف الديني في العالم خلال العقود الأخيرة لأسباب متعددة منها-على سبيل المثال-ظاهرة العولمة والخوف على الهويات الثقافية التي دفعت المواطنين في العالم أجمع للعودة إلى التديّن في ظل انتشار موجات نيوليبرالية ثقافية تحاول أن تفرض أنماطها على الآخرين، وهو ما يجد مقاومة ونفوراً لدى العديد من الشعوب التي تعتبر تلك الحركات موجّهة ضد العائلة والله والدين والقيم التقليدية في المجتمع.

 

ولأسباب أخرى مرتبطة بالمجتمع اليهودي في "إسرائيل" حصراً، وارتباط وجوده في فلسطين المحتلة بقصص "توراتية ووعود إلهية"، وازدياد الهوّة بين الأغنياء والفقراء إلخ... تزايدت قوة الأحزاب الدينية المتطرفة في "إسرائيل". ومن المفيد التذكير، أن الأحزاب الدينية في "إسرائيل" تعادي-منذ نشأتها-المحكمة العليا في البلاد، وتدّعي أنها لا تمثّل الشعب ولا يمكنها فرض نفسها على المتدينين، الذين يجب أن يخضعوا لأحكام الشريعة لا غير.

 

وبنظر هذه الأحزاب الصهيونية اليمينية المتطرفة، فإن الأرض تتمتع بقدسية كبرى يمنع التنازل عنها أو عن أي جزء منها (وذلك يعني استمرار قضم الأراضي الفلسطينية والتوسّع)، والعداء التام ومنع التعامل بالحسنى مع "الغريب" (الفلسطينيين)، والتعامل بقوة وصلابة مع العدو الخارجي، ومع العدو الداخلي (اليهودي الآخر المختلف فكرياً) وهذا الأخير يُعتبر خائناً وهو أسوأ–بالنسبة إليهم-من العدو الخارجي.

 

ولعل هذا المعيار الأخير هو ما يدفع الإسرائيليين إلى التخوّف من ميليشيات "الحرس الوطني" التي يتزعّمها وزير الأمن القومي الحالي بن غفير والتي قد تصل إلى وقت تعتدي فيه على اليهود أنفسهم مثلما تعتدي على العرب الفلسطينيين اليوم.

 

بالنتيجة، من الواضح أن تغيّرات مهمة ستشهدها "إسرائيل" وستؤدي إلى تطورات هامة في منطقة الشرق الأوسط في العقد المقبل. فإن ميزان القوى الاستراتيجي لم يعد يعتمد على تفوّق "إسرائيل" عسكرياً تكنولوجياً واقتصادياً على جيرانها أو أعدائها، بل إن ذلك الميزان بات مختلاً بمعادلة الردع التي استطاع لبنان أن يفرضها بعد حرب تموز عام 2006، ونهضة الشعب الفلسطيني في أنحاء فلسطين المحتلة كافة، واستمرار مقاومة غزة التي تعاني الحصار والقصف والدمار.

 

كل ذلك إضافة إلى عامل مهم جداً وهو فقدان مناعة المجتمع الإسرائيلي وعدم تماسكه والصراع الأيديولوجي داخله والذي بدأ يمتدّ إلى "الجيش" الإسرائيلي الذي تعود له– في النهاية-إمكانية بقاء "الدولة" أو انهيارها.