2023/11/27

كيف أدخلت اسرائيل نفسها في مآزق عدّة؟


كشفت الهدنة المؤقتة في غزة، حجم الدمار الهائل الذي تسبب به القصف الاسرائيلي على غزة، وبات يتكشف يوماً بعد يوم، حجم الكارثة الانسانية التي تسبب بها الانتقام الاسرائيلي غير المسبوق عبر قتل المدنيين والاطفال وتدمير المستشفيات والبنى التحتية، علماً أن هذه الاهداف لا تضيف أي قيمة عسكرية لأي جيش في العالم، بل إنها مجرد انتقام قامت به اسرائيل في ظل عجز عسكري وسياسي عن تحقيق الردع المطلوب تجاه المقاومة الفلسطينية.

وبالاضافة الى الدمار، كشفت هذه الحرب منذ 7 اكتوبر ولغاية تحقيق الهدنة، أن "اسرائيل" تعيش مأزقاً كبيراً، يتمثل في عدم قدرتها على الاستمرار في الحرب وعدم التراجع عنها في آن، بالاضافة الى العديد من المآزق التي يمكن تفصيلها في ما يأتي:

-        المأزق العسكري – السياسي:

بعد تدمير واسع وقصف متواصل غير مسبوق في تاريخ الحروب، بدأت اسرائيل حربها البرية على قطاع غزة بعد مرور 3 أسابيع على عملية 7 اكتوبر، وبعد ما يقارب الشهر من الأعمال القتالية ظهرت حماس في مدينة غزة بكامل عتادها العسكري وقامت بتسليم الدفعة الاخيرة من الرهائن في شارع فلسطين، وفي منطقة ادّعت القوات الاسرائيلية أنها سيطرت عليها.

وبالاضافة الى ظهور زيف الادعاءات الاسرائيلية بسيطرتهم على شمال غزة، وتهجير سكانه والقضاء على قدرات حماس فيه، فإن ما كشفته الصحف الإسرائيلية عن انشقاقات وإقالات في صفوف الجيش الاسرائيلي وهروب من الخدمة، واخفاقات كبرى في المعركة، تشير بما لا يقبل الشك أن هناك إخفاقات عسكرية كبرى سوف تكشف بشكل أكبر بعد هدوء المعارك وبدء التحقيقات الاسرائيلية.

واليوم، يجد المستوى السياسي الاسرائيلي نفسه محرجاً فهو وضع أهدافاً عالية جداً لهذه الحرب، ولم يستطع تحقيقها بعد ما يقارب خمسين يوماً من القتال، ولا يبدو أن الامكانيات مناسبة لتحقيق هذه الأهداف، وخاصة أن لا قدرة ل"الجيش الاسرائيلي" على تحقيق انتصارات عسكرية تسمح بتحقيق تلك الأهداف.

لذا فإن المأزق الاسرائيلي يتجلى في تناسب القدرات مع الأهداف الموضوعة مع القدرات والإمكانات المتوافرة. وبات على اسرائيل لتجنّب المأزق أما أن تزيد قدراتها وهذا صعب جداً (بعد أن استخدمت كل ما تستطيع من قدرات) أو أن تخفض سقف أهدافها وهذه خسارة محققة.

-        مأزق "الثقة" المجتمعية:

عاش المجتمع الاسرائيلي منذ بداية تأسيس الكيان على الثقة بالجيش – الدرع الحامي، والذي كان المؤسسة الوحيدة التي كانت ما زالت تتمتع بثقة الاسرائيليين في الاستطلاعات التي سبقت الحرب. 

ففي استطلاعات الرأي التي أقيمت في اسرائيل قبل الحرب وخلال فترة الصيف الماضي، بينت النتائج أن ثقة الجمهور بالكنيست كانت متدنية جداً، وكذلك الثقة بالحكومة الإسرائيلية التي قال 70 % من مجمل المشاركين إن ثقتهم بالحكومة معدومة تماماً أو قليلة جداً. وبقي "الجيش" المؤسسة الوحيدة الاسرائيلية التي كانت تتمتع بثقة الجمهور الاسرائيلي، وبنسبة كبيرة.

لكن ما حصل في 7 أكتوبر وما بعده من اخفاقات حربية كما تشير الصحف الاسرائيلية، وكما ظهر من تبادل الاتهامات بالاخفاق بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية، إن هذه الثقة تراجعت الى حد كبير خاصة في ما يتعلق بقدرة "الجيش" على حماية "الدولة" والمواطنين.

-        مأزق "قيمة الانسان- الفرد"

منذ زمن بعيد، عاش الاسرائيلي على ثقة بأنه "مواطن ذو قيمة"، فهو ناخب يقرر شكل المؤسسات في انتخابات حرّة، وصوته مسموع، وحتى حياته لها قيمة كبرى لدى دولته، بدليل القيام بمقايضة الآلاف من الأسرى الفلسطينيين مقابل جندي (شاليط نموذجاً)، أو حتى بذل كل ما يمكن من أجل معرفة مكانه، أو إعادة رفاته في حال قتل في المعارك (رون أراد مثالاً).

لكن خلال هذه الحرب، أعلن نتنياهو وأركان الحرب والكثير من المسؤولين الاسرائيليين أن "هدف القضاء على حماس أهم من استعادة الاسرى" وأن "هدف استعادة الرهائن ليس أولوية"،  بالاضافة الى تصريحات تصب في نفس السياق تقول أنه يجب شنّ حرب حتى لو مات جميع الرهائن.

هذه القناعات لدى المسؤولين الاسرائيليين، هي التي أدّت الى تأخير المفاوضات حول تبادل الرهائن، وهي التي ضربت بعرض الحائط حياة الرهائن الاسرائيليين، وهي التي صمت آذان المسؤولين الاسرائيليين عن صرخات الاهالي المطالبين تحرير أبناءهم وبناتهم، وخاصة بعدما أدى القصف الاسرائيلي على القطاع الى موت بعضهم.

هذه التجربة ونسبة تبادل الرهائن مع الاسرى الفلسطينيين بعد 7 اكتوبر، تشير الى تبدّل في الفكر الصهيوني – الاسرائيلي بحيث باتت "الدولة وأمنها" أهم من حياة الفرد في اسرائيل، وهذا سيؤدي الى تعميق الهوّة بين الدولة والفرد، وبين الفرد ومؤسساته، تضاف الى أزمة الثقة في الدرع الحامي – وهو الجيش.

في النتيجة، لا شكّ أن السابع من اكتوبر وما بعده، سيكون نقطة تاريخية مفصلية في حياة الاسرائيليين، فالأمن والبحبوحة التي لطالما أغرتهم للقدوم من أقاصي الأرض للاستيطان في اسرائيل، سيكونان من الماضي فلا ثقة بأي أمن بعد مشهد المقاومين يقتحمون الاسوار التكنولوجية، ولن تغري البحبوحة أناساً معرضين بأمنهم وأمن أولادهم، والحرب التي قال لهم نتنياهو أنها ستعيد الامن وهيبة الردع لا يبدو أنها ستحقق شيئاً.

وأمام هذا المشهد من المآزق السياسية والعسكرية والاجتماعية، ستكون الحكومة اليمينية في اسرائيل أمام مأزق جديد، فإما أن تقدم اسرائيل تنازلات للفلسطينيين ولتحقيق بعض الامن عبر سلام "عادل"، وإلا تسريع الخراب.

 

الهدنة في غزة... هل ربحت اسرائيل؟

تنتهي اليوم المرحلة الاولى من الهدنة التي تمّ الاتفاق عليها بين "اسرائيل" و"حماس" في قطاع غزة، والتي استمرت أياماً ساد خلالها هدوء حذر على جبهات متعددة، وحصل تبادل للأسرى الفلسطينيين مقابل افراج "حماس" عن جزء من الرهائن الموجودين لديها.

 ويبقى احتمال تمديد الهدنة قائماً ومتوقعاً بشدة، خاصة بعدما تحدثت الصحف الاسرائيلية يوم الاثنين في 27 نوفمبر، عن تهرب اسرائيلي من الخدمة ورفض العودة الى قطاع غزة للقتال بعد الهدنة، واشكالات داخل الجيش، ما يشير الى حاجة اسرائيل لتمديد الهدنة والسير بحل سياسي.

 

ولا شك أن الهدنة الاولى التي حصلت تتيح المجال لتقييم الرد الانتقامي الاسرائيلي منذ 7 اكتوبر وبعده من اعمال قتالية، وما حصل خلال الهدنة، وذلك كما يلي:

-        في الوضع العسكري:

بالرغم من الادعاءات الاسرائيلية بانتصارات كبرى في الميدان، وأنها احتلت الجزء الشمالي بالكامل من قطاع غزة، ودمرت 400 نفق، إلا أن الخرائط والصور الواردة من غزة تشير الى عدم صحة هذه الادعاءات.

بحسب الخرائط المنشورة عن السيطرة الاسرائيلية على القطاع والمنشورة في مراكز الابحاث الاميركية المهتمة بدراسات الحرب – وهي مقربة من اسرائيل- ما تزال اسرائيل تحاصر الحدود الخارجية لشمال غزة، ولم تدخل الى المناطق المأهولة فيها.

لكن، بالرغم من تلك الخرائط، فإن قيام حماس بتسليم الدفعة الاخيرة من الرهائن في قلب مدينة غزة (الشمال) وفي شارع فلسطين بالذات، وقيامها باستعراض قوة داخله وخروج الاهالي لتحية المقاتلين، يشير الى أن تلك الخرائط أيضاً غير دقيقة حالياً، وان اسرائيل، على ما يبدو، كانت تتوغل ثم تنسحب مجدداً، وأن ما اعلنته عن تهجير كامل وتصفية المقاومة في شمال غزة غير صحيح.

وهنا، يمكن القول، أن لا انجاز عسكرياً كبيراً يُحسب لاسرائيل، وذلك بالرغم من أنها قصفت غزة بكميات هائلة  "غير مسبوقة" من القنابل، لمدة 3 اسابيع قبل الدخول البري، ثم استمر التوغل شهراً، ليحقق نتائج أقل من متواضعة.

-        في الوضع السياسي:

لقد أعلن نتنياهو وأركان مجلس الحرب، أهدافاً لهذه الحرب تتجلى في: القضاء على حماس، عدم التفاوض لتحرير الرهائن بل تحريرهم بالقوة، وتهجير كامل لأهل غزة من القطاع، واعادة احتلاله.

بعد حوالى 50 يوماً من القتال، لم يستطع الاسرائيليون القضاء على حماس، ورضخوا للمطالب بالتفاوض لتحرير الرهائن، ولم يحققوا هدف اقامة "نكبة جديدة"، وما زال أمامهم الكثير من الأشهر الطويلة ليحتلوا القطاع (هذا اذا استطاعوا بالأساس).

في المقابل، تغيّر الرأي العام العالمي بعد مشاهد القتل والدمار غير المسبوق في غزة، وخرجت الاصوات تلك التي دعمت اسرائيل بدون قيد أو شرط، لتشير الى أن ما حصل من قتل غير مقبول، وسقطت السرديات الاعلامية الاسرائيلية بعد كشف زيفها.

في النتيجة، لا شك أن الكلفة البشرية التي تكبّدها الفلسطينيون هائلة وكبيرة جداً، والدمار الواسع واخراج المستشفيات عن العمل وتدمير البنى التحتية الذي حصل للقطاع غير مسبوق، لكن اسرائيل لم تربح شيئاً من هذا التدمير الانتقامي، بل قد يكون انعكس سلباً عليها في تقديم صورة "الضحية" التي لطالما استخدمتها في الخارج. 

ما دور الإعلام في تأسيس "إسرائيل" ونهايتها؟

كان لافتاً ما أوردته صحيفة بوليتيكو الأميركية يوم 22 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حول اتفاق الهدنة بين حماس و"إسرائيل"، فذكرت "أن هناك بعض القلق في الإدارة الأميركية بشأن العواقب غير المقصودة للهدنة، إذ إنها ستسمح للصحافيين بوصول أوسع إلى غزة، وتتيح الفرصة لهم لمزيد من تسليط الضوء على الدمار هناك، وتحويل الرأي العام ضد إسرائيل".

 

هذه الكلمات القليلة تكشف عميقاً لماذا تقوم "إسرائيل" باستهداف متعمّد للصحافيّين في كل من غزة ولبنان، وآخرهم شهداء الميادين الصحافية فرح عمر، وزميلها المصوّر ربيع معماري، إذ إنّ "إسرائيل" وعت مبكراً أهمية الإعلام ودوره في تكريس الدعاية الصهيونية، وتدرك تماماً الدور الذي يؤديه الإعلام في كشف زيف تلك الدعاية والمجازر التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة.

 

دور الإعلام في تأسيس الصهيونية

كان ثيودور هرتزل صحافياً نمساوياً يهودياً، هو من نظّم المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في آب/أغسطس عام 1897. وقبل المؤتمر، تفرّغ هرتزل للكتابة والترويج لمشروع "إقامة دولة لليهود" عبر وسائل الإعلام، وأصدر كتاباً بعنوان "دولة اليهود: محاولة لحل عصري للمسألة اليهودية"، وتمّ تأسيس صحيفة أسبوعية للحركة الصهيونية "دي وولت". كتب هرتزل في افتتاحية العدد الأول منها في 3  حزيران/يونيو من عام 1897 بأن "على هذه الصحيفة أن تتحوّل درعاً حامية للشعب اليهودي، وتكون سلاحاً ضد أعدائه".

 

بسبب قدرته الإعلامية والصحافية، استطاع هرتزل أن يجمع الجاليات اليهودية من عدة دول لعقد المؤتمر الصهيوني الأول، وأن يتوصّل إلى إقرار الهدف الصهيوني في "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين" وذلك عبر: تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية، محاولة كسب شرعية دولية للكيان، تشكيل الوكالة اليهودية لجمع الأموال لإقامة المستعمرات في فلسطين، وتشكيل المنظّمة الصهيونية بقيادة هرتزل نفسه.

 

دور الإعلام في تأسيس "إسرائيل"

إدراكاً منها بدور الإعلام وتأثيره، سخّرت الحركة الصهيونية المال في تأسيس مؤسسات إعلامية للترويج للفكرة الصهيونية لكسب الرأي العام اليهودي والعالمي لتحقيق أهدافها، فأسست الإذاعات والصحف الناطقة باللغة العبرية، ومنها ما زال مستمراً لغاية اليوم وهي صحيفة هآرتس (التي صدرت عام 1919) ويديعوت أحرنوت (صدرت عام 1939) وصحيفة معاريف (التي صدرت عام 1948).

 

إضافة إلى ذلك، قام بن غوريون بعد عام 1948، بتأسيس "هيئة رؤساء تحرير الصحف"، وذلك للتحكّم بشكل كبير بما ينشر من قبل الصحف ووسائل الإعلام في "إسرائيل" وهي التي مهّدت لما عرف في وقت لاحق باسم "الرقابة العسكرية" والتي تراقب وتوجّه وتحدّد ما ينبغي وما لا ينبغي نشره خلال الحروب، وبشكل أقل في أوقات السلم.

 

وبالرغم من أن الإعلام الإسرائيلي يؤدي جزءاً من المعارك ضد الفلسطينيين والعرب، ولا ينشر ما يمكن أن يمسّ الأمن القومي الإسرائيلي، لكنه في الإطار الداخلي استطاع أن يشكّل ضابطاً لأداء السلطة السياسية، وكاشفاً للفساد بما يخدم المجتمع الإسرائيلي و"الدولة"، ونذكر منها على سبيل المثال، قضايا الفساد التي تمّ كشف تورّط نتنياهو فيها.

 

وكما دونالد ترامب، قام بنيامين نتنياهو باستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الحديثة لدعم أجندته الخاصة، ومقارعة خصومه ومهاجمتهم، ودعم أجندة اليمين الإسرائيلي. واستخدم الإسرائيليون – خاصة اليمين- تلك الوسائل لبثّ الكراهية والحضّ على العنف ضد العرب بالدرجة الأولى وضد المعارضين من الإسرائيليين.

 

دور الإعلام في كشف حقيقة "إسرائيل"

انتشر في الغرب منذ عام 2016، مفهوم جديد، عنوانه "ما بعد الحقيقة". ويعرّف قاموس أكسفورد هذا التعبير بأنه مفهوم يشير إلى السياق أو وصف الظروف "التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقلّ تأثيراً في تشكيل الرأي العام من الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية".

 

لقد كشفت حرب غزة هذا العام الكمّ الهائل من التزييف والادعاءات والمزاعم خاصة في الخطاب الإسرائيلي، الذي يحاول ترويج قصص لا أساس لها من الصحة، والتي عاد الإسرائيلي ليتراجع عنها بعد فضحها من قبل الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلاميين والإعلاميات الموجودين في أرض المعركة، ينقلون الخبر والصورة إلى العالم.

 

شكّلت الصورة والخبر المنقول من أرض المعركة، المستند الذي يدين "إسرائيل" ويكشف زيف ادعاءات "الدفاع عن النفس"، وتمّ كسر الاحتكار الغربي والإسرائيلي للسردية ومخاطبة الرأي العام العالمي الذي ظهر منفتحاً على تنوّع الآراء، فكذّبت الدلائل المباشرة من الميدان صورة "الضحية" الإسرائيلية.

 

لهذا، تحوّلت آلة القتل الإسرائيلية لاغتيال الصحافيين والصحافيات من دون تمييز، لقتل الشهود وترويع الآخرين منهم، والقول بأن ثمن الحقيقة سيكون كبيراً جداً. وبات السؤال الكبير: مَن يستمرّ بالتمسك بنقل الحقيقة؟ الاجابة على هذا السؤال، هي المقياس الحقيقي للصحافة المقاوِمة.

  

2023/11/20

الخلاف يتوسع بين الأميركيين ونتنياهو

بالرغم من الدعم الكامل والشامل الذي تقدمه الادارة الأميركية الى "اسرائيل"، وتزويدها بالسلاح والمال والدعم الدبلوماسي والسياسي، وممارسة الضغوط على الحلفاء والاعداء لدعم "اسرائيل" وتخفيف الضغوط عنها، لكن الهوّة بين تصوّر إدارة بايدن لمستقبل الصراع في غزة، ولتصورات ما بعد العملية العسكرية يبدو أنها تتسع، وذلك في أمرين: مستقبل غزة بعد انتهاء العمليات القتالية، ومستقبل نتنياهو.

في المجال الاول: مستقبل غزة بعد الحرب

في هذا الإطار، إن ما يطرحه "الاسرائيليون" من تصورات لما بعد الحرب في غزة، كلها لا تأخذ بعين الاعتبار الواقع الميداني على الارض، فهناك طروحات:

- أن تحتل "اسرائيل" القطاع وتبقى فيه، وتسيطر بالطبع على الغاز في البحر المقابل لغزة.

- أن تتولى قوى من دول عربية واسلامية وغربية مسؤولية القطاع بعد الحرب، وتتحول هذه القوى الى حرس حدود لإسرائيل.

- أن يتم تسليمه القطاع الى السلطة الفلسطينية، أي أن تأتي السلطة على ظهر الدبابة "الاسرائيلية".

- أن تقوم "اسرائيل" بإقامة حزام أمني في القسم الشمالي من غزة بعد تهجير أهله، علماً أن ما يظهر من النوايا "الاسرائيلية" أن "اسرائيل" لن تكتفي بتهجير أهل غزة من الشمال، بل ستقوم بقصف الجنوب بعد الانتهاء من الشمال، لتهجير الفلسطينيين الى سيناء.

 

وكان الرئيس الأميركي جو بايدن كتب مقالاً في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، حدد فيه أربع لاءات: لا تهجير قسري للفلسطينيين من غزة، ولا إعادة احتلال، ولا حصار، ولا تقليص في الأراضي. وطالب بتوحيد قطاع غزة والضفة الغربية تحت حكم سلطة فلسطينية "متجددة"، وتحدث عن ضرورة انهاء الصراع الى الابد وإقامة حل الدولتين.

وفي تطور إيجابي لم يكن متوقعاً، طالب بوقف العنف من قبل المستوطنين ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وقال ان مرتكبيه يجب ان يحاسبوا، وهدد بحظر تأشيرات الدخول ضد المتطرفين الذين يهاجمون المدنيين بالضفة (وهي المرة الأولى التي تهدد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على مستوطنين اسرائيليين).

 

ردّ نتنياهو على الرئيس الاميركي، رافضاً وقف إطلاق النار، وقال: "بعد أن فعلنا كل هذا، هل سنسلمها لهم؟

السلطة الفلسطينية في شكلها الحالي لا تستطيع إدارة غزة"، وأكد ثقته بقدرة "اسرائيل" على التوصل الى "اتفاق مع الولايات المتحدة يقضي بأنه لا يمكننا أن نضع غزة في يد إدارة مدنية تعلّم الأطفال الإرهاب." بحسب تعبيره.

2- في مستقبل نتنياهو

لأول مرة، تقوم وسائل إعلام عالمية وأميركية داعمة لإسرائيل بتفنيد الرواية "الاسرائيلية" حول مستشفى الشفاء، وتكذيبها.

 

كذلك ركزت العديد من وسائل الاعلام الأميركية تقاريرها على الحملات المتطرفة التي يقودها وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، تقوم على "توجيه تهم الانتماء إلى منظمات إرهابية والتحريض على الإرهاب لمجرد نشر محتوى قد لا يتوافق مع الرواية الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي"، حتى إن التعاطف مع الفلسطينيين في بعض الحالات يعتبر كافياً للتجريم والسجن.

منذ ما قبل حرب غزة، وجه الأميركيون انتقادات لنتنياهو وأركان حكومته، بسبب الأعمال التي يقومون بها، والخلاف على التعديلات القضائية في "اسرائيل"، والتي تسببت بانقسامات عميقة داخل المجتمع "الاسرائيلي"، وقال بايدن إن هذه الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ "اسرائيل" منذ غولدا مائير.

لا شكّ، أن الانقسامات داخل "اسرائيل" ستتوسع حالما تضع الحرب اوزارها، وسيحمّل "الاسرائيليون" نتنياهو المسؤولية، ويطالبونه بالرحيل كما يحصل الآن، وعندها سيعتبر الاميركيون أن عليهم مسؤولية انقاذ "اسرائيل" من التطرف، ومن نتنياهو.

2023/11/16

القرار 2712: كيف أعطى مجلس الأمن "إستراحة لإسرائيل"؟

اعتمد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2712 الذي يدعو إلى هدنٍ إنسانية وممرات عاجلة وممتدة في جميع أنحاء قطاع غزة "لعدد كافٍ من الأيام"، لتمكين الوصول الكامل والعاجل والآمن ومن دون عوائق للمساعدات الإنسانية، ودعا إلى الإفراج الفوري وغير المشروط عن كل الرهائن الذين تحتجزهم حماس والمجموعات الأخرى.

 

ولقد نجح مجلس الأمن الدولي في محاولته الخامسة لاعتماد مشروع قرار منذ الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر، إذ لم تستطع الدول الأعضاء التوافق سابقاً على صيغة مناسبة لصدور قرار يؤدي إلى وقف إطلاق النار، بسبب تباين المواقف.

 

 وكانت كلّ من روسيا والولايات المتحدة الأميركية، قد تباينتا على الهدف والصيغة التي يجب أن يصدر بهما القرار، حيث طالب الروس بهدنة دائمة تؤدي إلى وقف إطلاق النار، بينما طالبت الولايات المتحدة الأميركية بـ "هدن إنسانية محدودة"، مشروطة بـ "إدانة حماس" وإدراج بند يتضمّن "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" والذي يعتبر مسّاً بقواعد القانون الدولي بشكل صارخ.

 

وندرج في ما يلي بعض الملاحظات الأساسية على القرار والتصريحات الدولية التي سبقته:

 

دعا إلى "استراحة" إسرائيلية

يشترط القانون الدولي الإنساني، وبحسب اتفاقيات جنيف، بأنه "حيثما تسمح الظروف بذلك، يتمّ الترتيب لهدنة أو تعليق لإطلاق النار، أو اتخاذ ترتيبات محلية، للسماح بنقل وتبادل الجرحى أو المرضى نتيجة القتال".

 

وفي هذا الإطار، تتباين توصيفات وقف الأعمال الحربية وتتدرّج عملياً، فهناك الهدنة في المرتبة الأدنى، ثم وقف الأعمال العدائية، وأعلاها يأتي وقف إطلاق النار، التي يمكن أن يأتي بعده توقيع اتفاقيات سلام في حال توصّل الأطراف لذلك.

 

بالرغم من أن موقع الأمم المتحدة باللغة العربية، أدرج أن القرار 2712 دعا إلى " إقامة هُدنٍ وممرات إنسانية عاجلة ممتدة في جميع أنحاء قطاع غزة"، لكن عملياً هناك خلط في التوصيف القانوني لكلمة "هدنة" باللغة العربية. علماً أن القرار باللغة الإنكليزية تحدّث عن "pauses" وليس "armistice" والتي يتمّ تعريفها بأنها هدنة أيضاً.

 

آخذين بعين الاعتبار أن التعبير الثاني يشير إلى اتفاقية عسكرية، الغرض الأساسي منها هو تعليق الأعمال العدائية على مسرح الحرب بأكمله، عادة لفترة غير محدّدة من الزمن، فإن القرار استخدم مصطلح الهدنة بمعناه الأول والذي تفرضه المتطلبات الإنسانية. وهكذا، يكون ما دعا إليه مجلس الأمن في القرار 2712، أقرب إلى "استراحة" إسرائيلية pauses، أكثر مما هي "هدنة" حقيقية.

 

أعطى "إسرائيل" ما تطلبه

على الرغم من اعتراض ممثّلة الولايات المتحدة وممثّل "إسرائيل" على نص القرار وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت، إلا أن القرار يعطي "إسرائيل" كلّ ما تطلبه عملياً.

 

- ذكر "حماس" بالاسم، ودعا إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن الذين تحتجزهم حماس وغيرها من الجماعات والمجموعات الفلسطينية الأخرى"، وهو ما تطلبه "إسرائيل" حرفياً.

 

- قام القرار بتجهيل الفاعل حين ذكّر "بضرورة احترام جميع الأطراف الالتزامات بالقانون الدولي الإنساني وحماية المدنيين"، فهو لم يذكر "إسرائيل" بالاسم، بل إن عبارة "جميع الأطراف" ساوت عملياً بين الضحية والجلّاد، وساوت بين ما تقوم به "إسرائيل" من قصف منهجي وقتل متعمّد في قطاع غزة، وأعمال المقاومة التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية.

 

- في عبارته "يهيب القرار بجميع الأطراف الامتناع عن حرمان السكان المدنيين في غزة من الخدمات الأساسية والمساعدة الإنسانية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة بما يتفق مع القانون الدولي الإنساني".

 

يوحي هذا النص وكأن هناك أطرافاً أخرى غير "إسرائيل"، تعمل على حرمان المدنيين من الخدمات الأساسية، وهذا يعني أن القرار تبنّى الادعاءات الإسرائيلية بأن "حماس تمنع المساعدة عن أهل القطاع، وأنها تصادر المساعدات الإنسانية".

 

أغفل "عدم مشروطية" أعمال الإغاثة

أتى القرار محدوداً في الزمان والمكان وحتى الأهداف المنشودة منه، ولم يدرج أيّ آلية تطبيقية واضحة، ولا ذكر من هي الجهة التي ستراقب تطبيق تلك الهدن وإدخال المساعدات، وما الذي يترتّب على خرقه.

 

ولقد تحسّب القانون الدولي الإنساني دائماً، من خطر أن يتم استخدام عمليات الإغاثة وتأمين المساعدات التي يتم التفاوض عليها في سياق الهدن أو وقف إطلاق النار "كورقة مساومة" من قبل أطراف النزاع، وذلك للحصول على تسويات سياسية أو عسكرية خاصة من الطرف الأقوى والذي يملك القدرة على السيطرة على منطقة معينة، ذلك أصرّ القانون على أنه "لا ينبغي أن تكون المساعدة الإنسانية مشروطة".

 

وعليه، وبما أن القرار أتى خالياً من أيّ آليات تطبيقية، ولم يذكر الجهات المنوط بها تنفيذه، ولا المترتّبات على "إسرائيل" في حال خرقه، فعلى المنظمات الإغاثية أن تعي خطر أن لا تلتزم "إسرائيل" بتلك الهدن، أو تخرقها أو تقصف المساعدات أو تغتال الفرق الإغاثية (بالخطأ أو للاشتباه-كما تدّعي دائماً). 

x

2023/11/13

القانون الدولي: لا حقّ لـ "إسرائيل" بالدفاع عن النفس في غزة

على الرغم من "فك الارتباط" الذي تتذرّع به "إسرائيل" لتنفي مسؤوليتها كقوة احتلال في غزة، فإن قواعد القانون الدولي تشير إلى أن "إسرائيل" بفرضها الحصار على قطاع غزة، وسيطرتها على كل من الضفة الغربية والقطاع، فإنها ما زالت، لغاية الآن، تُعتبر قوة احتلال بحسب المادة 42 من قواعد لاهاي لعام 1907، والتي تعتبِر أن "الأرض تُعتبر محتلة عندما توضع فعلياً تحت سلطة الجيش المعادي".

ووفقاً للمادة الثانية المشتركة، تنطبق اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 على أي إقليم تمّ احتلاله أثناء الأعمال العدائية الدولية. وفي هذا الإطار، لا فرق بين ما إذا كان يسمّى "غزواً" أو "تحريراً" أو "إدارة" أو "احتلالاً"، وبما أن قانون الاحتلال في الاتفاقيات الدولية مدفوع في المقام الأول باعتبارات إنسانية، فإن الحقائق على الأرض هي وحدها التي تحدّد تطبيقه.

وتعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن غزة تظلّ أرضاً محتلة على أساس أن "إسرائيل" لا تزال تمارس عناصر أساسية من سلطتها على القطاع، بما في ذلك على حدوده (المجال الجوي والبحري والبري – باستثناء الحدود مع مصر). وعلى الرغم من أن "إسرائيل" لم تعد تحتفظ بوجود دائم داخل قطاع غزة، إلا أنها لا تزال ملزمة ببعض الالتزامات بموجب قانون الاحتلال التي تتناسب مع درجة سيطرتها عليه.

ما هي أهم المبادئ التي تحكم الاحتلال؟

إن واجبات قوة الاحتلال منصوص عليها في أنظمة لاهاي لعام 1907 (المواد 42-56) واتفاقية جنيف الرابعة (المواد 27-34 و47-78)، وكذلك في بعض أحكام البروتوكولات الإضافية والقانون الدولي الإنساني العرفي.

وهناك الكثير من القواعد الأساسية للقانون المطبّق في حالة الاحتلال، وندرج منها ما يحظره القانون من الانتهاكات التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة حالياً، وهي على الشكل التالي:

- يحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للسكان من الأراضي المحتلة وداخلها.

- يُحظر نقل السكان المدنيين التابعين لسلطة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة، سواء كان ذلك قسرياً أو طوعياً.

- العقاب الجماعي محظور.

- تُحظر الأعمال الانتقامية ضد الأشخاص المحميين أو ممتلكاتهم.

- يحظر تدمير ممتلكات العدو أو الاستيلاء عليها، إلا إذا كانت الضرورة العسكرية تقتضي ذلك أثناء سير الأعمال العدائية.

وبحسب القانون الدولي الإنساني، على "إسرائيل" أن تضمن، إلى أقصى حد ممكن من الوسائل المتاحة لها، تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان غزة. وعلى وجه الخصوص، يجب عليها ضمان تزويد غزة بالغذاء والإمدادات الطبية والسلع الأساسية الأخرى اللازمة للسماح للسكان بالعيش في ظل ظروف مادية مناسبة (المادة 55 من اتفاقيات جنيف الرابعة).

وعليها أيضاً تقييم استخدام القوة أثناء عمليات إنفاذ القانون، في كل مرة، على أساس فردي، مع وجوب احترام المعايير القانونية للضرورة والتناسب والاحتياطات لتجنّب الخسائر في الأرواح البشرية ومنع المزيد من تصعيد العنف.

وإضافة الى التناسب، يؤكد القانون الدولي الإنساني مبدأ "عدم المعاملة بالمثل"، المتأصل في قوانين الحرب على جميع النزاعات، فإذا كانت حماس قد هاجمت "إسرائيل" فهذا لا يعني أن من حقّ "إسرائيل" أن تقتل المدنيين عشوائياً وجماعياً، وأن تمنع المساعدات الإنسانية وتحاصر غزة، وتعاقب المدنيين على أفعال ارتكبها أفراد آخرون (وكل هذه محظّرة في القانون الدولي الإنساني).

"إسرائيل" والتذرّع بحق الدفاع عن النفس

بحسب القانون الدولي، لا يجوز لدولة ما أن تمارس سيطرتها على الأراضي التي تحتلها وأن تهاجم تلك الأراضي عسكرياً في الوقت نفسه بدعوى أنها "أجنبية"، وتشكّل تهديداً خارجياً للأمن القومي.

بالطبع، تعطي المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، الحقّ للدول بالدفاع عن نفسها ضد دولة أخرى، في إطار الرد على هجوم مسلح أو تهديد وشيك به، لكن هذا الحق لا تتمتع به "دولة" الاحتلال التي يحق لها فقط "استخدام قوة الشرطة لاستعادة النظام"، ويحظّر عليها القانون الدولي استخدام القوة المسلحة ضد الأراضي المحتلة.

إن مجرد وجود احتلال عسكري إسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإن هجوماً مسلحاً إسرائيلياً قد وقع سابقاً، لذلك، فإنّ حقّ الدفاع عن النفس في القانون الدولي لا تتمتع به "إسرائيل" منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967. ولتحقيق أهدافها الأمنية، ومعاقبة حماس على ما فعلته في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لا يمكن لـ "إسرائيل" كـ "دولة" احتلال، أن تلجأ إلى أكثر من صلاحيات الشرطة، أو الاستخدام الاستثنائي للقوة العسكرية، التي يمنحها لها القانون الدولي الإنساني. هذا لا يعني أن "إسرائيل" لا تستطيع الدفاع عن نفسها بالمطلق، بل إن الإجراءات الدفاعية لا يمكن أن تأخذ شكل الحرب على الأراضي المحتلة، ولا يمكن تبريرها على أنها دفاع عن النفس في القانون الدولي.

بهذا المعنى، طالما تمارس "إسرائيل" الاحتلال، يحقّ لها أن تحمي نفسها ومواطنيها من هجمات الفلسطينيين الذين يقيمون في الأراضي المحتلة، لكن يعطيها القانون الدولي فقط حقّ استخدام صلاحيات الشرطة، واستخدام القوة اللازمة والمسموح بها لأغراض "إنفاذ القانون" واستعادة النظام العام، وليس لهجوم واسع وقتل السكان المدنيين في المناطق المحتلة كما تفعل "إسرائيل" حالياً في غزة.

في النتيجة، إن قواعد القانون الدولي تدحض ادعاء "إسرائيل" ومعها العديد من دول الغرب بأن "إسرائيل تستخدم حقّ الدفاع الشرعي عن النفس" عندما تهاجم غزة عسكرياً وتنفّذ إبادة جماعية بحقّ المدنيين الفلسطينيين، إذ لا يجوز لقوة الاحتلال أن تبرّر القوة العسكرية في الأراضي التي تكون مسؤولة عنها باعتبارها دفاعاً عن النفس، وهذا مبدأ ثابت وواضح في القانوني الدولي الإنساني، ويتطابق تماماً مع قاعدة آمرة في القانون الدولي وهي "حقّ الشعوب في تقرير مصيرها".

2023/11/09

تحذيرات هوكشتاين في بيروت: الحسابات الاسرائيلية واللبنانية


لم تكتفِ الإدارة الأميركية بالتهديدات التي تمّ توجيهها إلى لبنان لعدم دخول حزب الله الحرب لمساندة الفلسطينيين في غزة، والتي تمّ إيصالها سابقاً عبر السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، أو عبر التصريحات الرسمية التي صدرت من الرئيس جو بايدن في أعقاب وصول حاملات الطائرات الأميركية إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بل أرسلت الموفد الأميركي (الإسرائيلي) عاموس هوكشتاين إلى لبنان، لإيصال المزيد من رسائل التهديد الأميركية لحزب الله ومعه لكلّ لبنان.

 

وكان الجواب اللبناني على التهديدات الأميركية السابقة ضمن إطارين: رسميّ حكوميّ، وعبر السيد حسن نصر الله، الذي أعلن صراحة أن التهديدات لا تخيف لبنان، وأن حزب الله أعدّ العدة المناسبة للتعامل مع حاملات الطائرات في البحر الأبيض المتوسط.

 

ولا شكّ، أن كلّاً من الأميركيين، والإسرائيليين واللبنانيين، لديه حساباته في موضوع توسّع الصراع وامتداده إلى لبنان، وذلك على الشكل الآتي:

 

 الحسابات الأميركية-الإسرائيلية

يخشى الأميركيون والإسرائيليون فعلاً لا قولاً دخول حزب الله المعركة وتوسّع الحرب، بحيث تفتح جبهات متعدّدة على "إسرائيل"، وهي التي لم يستطع "جيشها" خلال أكثر من شهر الدخول برياً إلى غزة، أو تحقيق أي انتصار ميداني، باستثناء ارتكاب المجازر التي أخرجت العالم للتظاهر رفضاً للإبادة الجماعية في غزة.

 

كذلك، لا يريد الأميركيون أن تتوسّع دائرة الصراع لتمتدّ إلى الإقليم، وذلك لأنّ تمدّدها سيكون كارثياً على المنطقة ككلّ، وعلى استراتيجية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي وضعت نصب عينيها، تحقيق الاستقرار في المنطقة، لتتفرّغ للتهديدات الاستراتيجية المتأتية من صعود قوى كبرى كالصين وروسيا.

 

ولا شكّ أن اشتعال حرب إقليمية كبرى سيرتّب انخراطاً عسكرياً أميركياً، سيؤدي إلى تعرّض المصالح الأميركية للخطر في المنطقة. وكان الرئيس بايدن يمنّي النفس بتحقيق اتفاقية تطبيع بين المملكة العربية السعودية، و"إسرائيل"، ليحقّق بذلك "صفقة العمر" فيستثمرها في الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس المقبلة عام 2024.

 

وحده نتنياهو وأركان الحرب الإسرائيلية يودّون توسّع الصراع إلى حرب إقليمية في المنطقة، لأنّ هذا سيستدعي تدخّلاً أميركياً وغربياً، ويحوّل الأنظار عن الفشل العسكري والاستراتيجي الذي منيت به "إسرائيل"، ويحوّل الصراع إلى دائرة أوسع. حينها، قد يستطيع أن يفلت نتنياهو من المسؤولية، خاصة في ظل اشتداد الضغوط السياسية الداخلية عليه للاستقالة، والضغوط على "الجيش" الإسرائيليّ لتحقيق "انتصار ما"، يتمّ استثماره لتحقيق مكاسب سياسية من هذه الحرب العدوانية على غزة.

 

الحسابات اللبنانية

لا شكّ أن حزب الله، وفي معرض تقييمه لردود الفعل وللانخراط العسكري في حرب واسعة مع "إسرائيل"، يأخذ بعين الاعتبار الوضع اللبناني الاقتصادي والاجتماعي والطبّي، وقدرة الصمود اللبنانية في أيّ حرب مقبلة بين لبنان و"إسرائيل"، ولكن الحسابات أيضاً تتوسّع لتشمل ما يلي:

 

أ‌-التطورات الميدانية في غزة، وقدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود وعلى تكبيد الإسرائيلي خسائر كبرى في الحرب البرّية التي يشنّها على القطاع، وهو ما أعلنه السيد حسن نصر الله، ووسّعه إلى هدف "انتصار حماس" وليس فقط عدم السماح بهزيمتها في غزة.

 

ب-توسّع العدوان الإسرائيلي على لبنان (وهو خط أحمر ذكره السيد حسن نصر الله أيضاً).

 

بالنسبة للبنان، لا ينبغي أن يمرّ أيّ عدوان إسرائيلي على لبنان مرور الكرام، فلبنان معنيّ بعدم التخلّي أو التنازل أو التراجع مطلقاً عن قواعد الاشتباك التي تمّ تكريسها عبر سنوات من المقاومة ضد "إسرائيل"، والتي أدّت إلى مراكمة قوة الردع التي حقّقها في وجه العدوان الإسرائيلي المستمر منذ منتصف القرن الماضي.

 

لقد دفع اللبنانيون أثماناً باهظة لتحقيق الردع مع "إسرائيل"، ولتحديد قواعد اشتباك واضحة ومحدّدة، تدفع الإسرائيلي إلى التفكير ملياً قبل شنّ أي هجوم على لبنان، وعليه، لبنان لن يقبل بالتنازل عنها، مهما ارتفعت حدّة التهديدات الإسرائيلية والأميركية.

 

ج-عدم إعطاء "منفذ" لنتنياهو ليخرج من المأزق السياسي والعسكري الذي وجد نفسه فيه. فبالتزامن مع زيارة هوكشتاين، ومع التهديدات الأميركية التي تحذّر من تصاعد النزاع وتوسّعه، قصفت "إسرائيل" سيارة مدنية لبنانية، راح ضحيتها 4 شهداء، من بينهم ثلاثة أطفال، في تصعيد مقصود ومتمادٍ، لجرّ حزب الله إلى ردّ فعل، يستهدف منه نتنياهو توسيع الصراع وتمدّده إلى لبنان.

 

د-يعرف حزب الله ومعه اللبنانيون، أن "إسرائيل" (وبدعم أميركي) تضع نصب عينيها، التخلّص من المقاومة الفلسطينية في غزة، لتنتقل إلى لبنان لـ "تنهي حزب الله" وتتخلّص من التهديد الذي يأتيها من الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة (بحسب التصريحات الرسمية الإسرائيلية).

 

ولعل ما قاله هوكشتاين خلال زيارته إلى بيروت، بضرورة العمل على منع توسّع الصراع، وضرورة الالتزام التام بتطبيق القرار 1701، يعكس رغبة أميركية واضحة بعدم الانخراط بالحرب، والتوصّل (في حال نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها) إلى فرض تطبيق البند المتعلق بخلو منطقة جنوب الليطاني من أيّ مسلّحين ومعدات حربية وأسلحة عدا تلك التابعة للجيش اللبناني واليونيفيل، أي إنهاء أي مقاومة تردع "إسرائيل" في الجنوب اللبناني.

 

بالنتيجة، مهما كان من أمر الأهداف التي يضعها الأميركيون والإسرائيليون للحرب العدوانية الإسرائيلية، تبقى الكلمة للميدان، الذي يحكم النتائج والأهداف السياسية التي يمكن تحقيقها على أي طاولة مفاوضات أو تسوية مفترضة لوقف إطلاق النار.