2017/09/18

مخرجات استانة: المقايضة الكبرى بين ادلب والحسكة؟

د. ليلى نقولا
تزامنت الجولة السادسة من مفاوضات أستانة، مع إصرار أكراد العراق على إجراء استفتاء حول مصير الاقليم والانفصال عن الدولة المركزية في 25 أيلول الجاري، وذلك بالرغم من الضغوط الداخلية والاقليمية والدولية التي دعت القادة الأكراد الى تأجيل الاستفتاء محذرين من أنه سيكون "محفوفًا بمخاطر جسيمة"، ولقد عبّر بريت مكجورك المبعوث الأميركي الخاص للتحالف ضد "داعش"، عن هذه المخاطر بدعوة رئيس الاقليم مسعود البرزاني الى التخلي عن الفكرة معتبرًا أنه "لا توجد فرصة لأن يحظى هذا الاستفتاء بشرعية دولية".
وبالتزامن مع القلق الذي أثاره هذا التعنت الكردي - العراقي، ومع وصول الجيش السوري وحلفائه الى دير الزور لتحريرها من داعش، أعلن ما يسمى "مجلس دير الزور العسكري"، وهو جزء من قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، عن بدء حملة سمّاها "عاصفة الجزيرة"، لتحرير ما تبقى من "أراضٍ في الجزيرة السورية، وشرق الفرات، والمناطق الشرقية بريف دير الزور من سيطرة "داعش"، ما يعني توجّه الأكراد للسيطرة على مناطق الجزيرة العربية التي سيتم تحريرها شمال نهر الفرات.
وفي ظل هذا الحراك الكردي على مسار كل من سوريا والعراق، تمّ التوصل في استانة الى اتفاق ضمّ ادلب الى مناطق خفض التوتر، ما يعني الاتفاق على عزل "جبهة النصرة" والتمهيد للقضاء عليها، وهي مهمة يبدو أنها أنيطت بالأتراك والمجموعات المسلحة التابعة لها في سوريا.
وبالفعل، بدأت تركيا بمسار الانتهاء من "جبهة النصرة"، حيث شهدت "هيئة تحرير الشام- جبهة النصرة" سلسلة من الانشقاقات من قادة عسكريين وشرعيين أبرزهم المحيسني والعلياني، وكيانات عسكرية أبرزها حركة "نور الدين الزنكي". ويعتبر البعض أن ما يحصل من انشقاقات سوف يؤدي الى إضعاف "الهيئة" من الداخل، فترغمها في النهاية إما على حلّ نفسها والالتزام بالهدنة مع النظام السوري، أو دفعها الى "قتال الأخوة" ما يؤدي في النهاية الى التخلص منها بشكل نهائي وانضواء مقاتليها في فصائل غير تكفيرية، تقبل بالانضمام الى الحل الذي أفرزته مفاوضات أستانة أي خفض مناطق التوتر والتخلي عن قتال الجيش السوري لقتال المجموعات الارهابية.
وهكذا فإن انضمام ادلب الى مناطق "خفض التوتر" سيشكّل نوعًا من المقايضة الميدانية العسكرية؛ إذ أن القلق التركي من النزعات الانفصالية الكردية المتزايدة، ساهم بقبول تركيا بانضمام ادلب الى خفض مناطق التوتر، وهذا يعني أن تقوم المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا بالانتهاء من ظاهرة النصرة في ادلب، على أن يتوجه الجيش السوري وحلفاؤه - بعد الانتهاء من ظاهرة داعش في سوريا- الى الحسكة لقطع الطريق على الكونتون الكردي المحتمل، لتعذر قدرة أنقرة على شنّ حرب على الأكراد بنفسها بسبب الحماية الأميركية لهم.
وهكذا، يعود انضمام ادلب الى التسوية بالفائدة على جميع الفاعلين في مسار استانة، فالروس يهمهم التخلص من العناصر الاسلامية التكفيرية ذات التوجهات ما فوق الوطنية، لما تشكّله من قلق لهم في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، وتريد تركيا التخلص من الخطر الكردي الانفصالي الذي يعتبر مسألة أمن قومي، ويشكّل الكونتون الكردي هاجسًا مزدوجًا للايرانيين، فهو قد يغري أكراد الداخل على الانفصال كما أن الكونتون الكردي يقطع على الايرانيين امكانية تنفيذ مشروع أنابيب الطاقة الذي يصل النفط والغاز الايراني الى المتوسط، أما الحكومة السورية فتريد استعادة كامل التراب السوري وأي توفير للجهد العسكري المبذول على أي جبهة ستستفيد منه في الجبهات الاخرى المفتوحة.
وبكل الحالات، إن التنفيذ النهائي لانضمام ادلب الى منطقة "خفض التوتر" والتخلص من جبهة النصرة بشكل نهائي، يحتاج الى إرادة سياسية دولية - أميركية بالتحديد، فهل يعطي الأميركيون الضوء الأخضر لهذه المقايضة، علمًا أنهم من أكثر المستفيدين من السيطرة الكردية على مناطق الشمال السوري، لما لذلك من فوائد استراتيجية إن على صعيد بقاء القواعد العسكرية الأميركية في الشمال والشمال الشرقي السوري، أو تهديد أنقرة في حال رغبة أردوغان بممارسة الاستفزاز في التوجه الى الحضن الروسي، أو على صعيد قطع الطريق على ايران لمدّ أنابيب الطاقة الى المتوسط، أو قطع التواصل بين طهران ولبنان مرورًا عبر العراق وسوريا.

2017/09/11

بعد الهزيمة: داعش الى طريق الحرير؟

د. ليلى نقولا
منذ بداية هزيمة داعش في العراق، ومباشرة بعد تحرير الموصل، بدأت مراكز الأبحاث والمحللين السياسيين، يبحثون في مصير داعش ما بعد هزيمته في العراق وسوريا، ويتساءلون الى أين يمكن أن يكون توجّه مقاتلي داعش المهزومين وقادته الأساسيين.
لا شكّ بأن داعش حقق أهدافًا عدة في منطقة المشرق العربي، منها الفوضى وتهجير الأقليات، واستنزاف الجيشين السوري والعراقي وحلفائهم بالاضافة الى أهداف عدّة قد تكون منظورة أو غير منظورة.
ومنذ بروز مؤشر نهاية التنظيم في المشرق العربي، بدأت عمليات داعش تظهر في العديد من الدول الاوروبية والعالم وأبرزها اعلانه عن عمليات متعددة أو تهديدات في آسيا الوسطى، والتي قد تكون مؤشرًا على دور وظيفي جديد لداعش يتجلى في استنزاف كل من ايران وروسيا، والأهم المساهمة في نشر عدم الاستقرار على خط "طريق الحرير الجديد" الصيني.
عمليًا، لطالما خشيت الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها وأبرزهم الهند، من الطموحات التوسعية للصين في محيطها الاقليمي وامتداده الى كل من قارتي أفريقيا وأميركا اللاتينية.
وكان الحذر الأميركي قد برز بشكل واضح عام 2005، عبر طرح نظرية "سلسلة من اللؤلو"، في تقرير بعنوان "مستقبل الطاقة في آسيا"، تم تقديمه الى وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد. وهذه النظرية الجيوبوليتكية، تدعو الولايات المتحدة الى التنبه للمخاطر التي يحدثها تبني الصين لاستراتيجية "سلسلة من اللؤلؤ"، والتي تقوم على بناء قواعد عسكرية تبدأ من جنوب الصين، وصولاً حتى أفريقيا، ويتم من خلالها تطويق الهند عسكريًا والسيطرة على المحيط الهادئ.
وفي العام 2013، وخلال زيارته الى أندونيسيا، أعلن الرئيس الصيني عن خطته لإنشاء "طريق الحرير البحري" - بعدما كان قد أعلن في وقت سابق طريق الحرير الجديد البرّي- والذي سيزيد آفاق التعاون والازدهار في منطقة شرق آسيا، وجنوب شرق آسيا.
وسواء تمت تسميته "طريق الحرير البحري" حسب التسمية الصينية، أو "سلسلة من اللؤلؤ" كما سماه الأميركيون، فإن المرافئ التي تعد في أساس استراتيجية الصين البحرية، والتي - وللمفارقة- بمعظمها تقع ضمن استراتيجية داعش التوسعية الحاضرة، هي على الشكل التالي:
1- باكستان؛ محافظة بلوشتان: وقد منحت السلطات الباكستانية عقودًا للصين لبناء مرفأ جوادر Gwadar، ولقد استغلت داعش الأزمة التاريخية القديمة في محافظة بلوشتان الباكستانية، لتظهر في تلك المنطقة ابتداء من آب 2016، وتقوم بعدة هجمات انتحارية وقتال مع الشرطة الباكستانية وعمليات خطف وقتل لصينين وباكستانيين في تلك المنطقة. مع العلم أن بلوشستان تقع ضمن خريطة أنابيب نفطية تمتد من ايران عبر باكستان الى الصين (التي حلّت محل الهند في الخطة الرئيسية).
2- بنغلادش؛ انضمت بنغلادش الى مشروع طريق الحرير الجديد رسميًا في تشرين الأول 2016، وبعد أسبوع فقط من هجمات باريس في حزيران 2016، أعلن تنظيم داعش في (مجلة دابق) مسؤوليته عن أعمال القتل في بنغلادش، مؤكدًا “إحياء الجهاد في أرض البنغال” وإكمال طريق “الجهاد” ليمتد إلى كامل جنوب آسيا. وما زالت أعمال داعش الارهابية مستمرة في بنغلادش، مستغلاً الجماعات الاسلامية المتطرفة التي كانت نائمة لفترة من الوقت.
3- ميانمار أو بورما - محافظة راكان، وهي المحافظة نفسها التي تشهد أعمال عنف غير مسبوق وصور تنتشر عبر الانترنت عن مجازر بحق الاقلية من الروهينغا المسلمة. وقد استغل داعش، المشاكل التاريخية بين كل من حكومة بورما وأقلية الروهينغا المسلمة المتواجدة في محافظة راكان والتي تطالب بالانفصال، ليعلن عن وجود فرع له في بورما في آب 2016 متوعدًا بتنفيذ عمليات إرهابية هناك انتقامًا لما يحدث مع الأقلية الإسلامية هناك.
ومؤخرًا، وبالتزامن مع العمليات الارهابية التي ضربت اسبانيا في آب 2017، أعلن داعش عن تنفيذ عملية إرهابية في بورما ضد الجيش البورمي، أسفرت عن مقتل 100 قتيل، وإصابة عشرات آخرين، وهي الشرارة التي أشعلت الأحداث الأخيرة، وساهمت بتهجير مئات الآلاف من الروهينغا الى بنغلادش والدول المجاورة.
وتبقى المالديف وسريلانكا، اللتان تعدان جزءًا من استراتيجية الصين البحرية والدولتان حذرتا من أن داعش ناشط جدًا ويقوم بتجنيد مواطنين لاستخدمهم في القتال في سوريا والعراق، ويتخوفان من عمليات ارهابية مستقبلية .
إذًا، يبدو أن لداعش مهمة جديدة، تتجلى في زرع القلاقل والفوضى على طريق الحرير الجديد الصيني، سواء البحري أو البرّي، فهل ينجح في زرع الفوضى في ما تبقى من آسيا، بعدما انهزم في اقاليمها الغربية؟.

2017/09/01

التحرير الثاني: هزيمة اسرائيلية ثالثة

د. ليلى نقولا
بانتهاء عملية "فجر الجرود" التي أطلقها الجيش اللبناني لتحرير الجرود اللبنانية من تنظيم داعش الارهابي، وعملية "إن عدتم عدنا" التي أطلقتها المقاومة اللبنانية والجيش السوري لتحرير الأراضي السورية المحاذية للحدود اللبنانية، يعلن لبنان انتصاره على الارهاب التكفيري، بعد سلسلة من الانتصارات حققتها المقاومة في لبنان ضد جبهة النصرة وسائر الفصائل السورية التي كانت تحتل جرود عرسال في وقت سابق.
وتشكّل هزيمة المجموعات السورية المسلحة في الجرود اللبنانية، خسارة للمشروع الاسرائيلي في المنطقة، ليس فقط لاكتساب عناصر حزب الله خبرة قتالية إضافية قد يستخدمونها في أي حربٍ قادمة مع اسرائيل، بل لأن تلك الجماعات كانت جزءًا لا يتجزأ من ذلك المشروع. فلقد استثمر الاسرائيليون كل من داعش والنصرة في حربهم المفتوحة ضد محور المقاومة في المنطقة، الى أن باتت الدولة العبرية تعيش اليوم أفضل حالاتها الأمنية منذ تأسيسها، بحسب تعبير عاموس جلعاد.
ولعل إدراك القادة الاسرائيليين أن "داعش الى زوال" كما قال جلعاد، هو الذي دفعهم الى الاستثمار في دعم جبهة النصرة بشكل استثنائي، وتقديم الدعم اللوجستي والعسكري لها منذ بداية آذار 2014، حيث قدم الجيش الاسرائيلي الدعم العسكري والطبي واللوجستي لمقاتلي النصرة خلال معاركهم في الجنوب السوري خاصة خلال السيطرة على القنيطرة في أيلول 2015 (بحسب وثائق الاوندوف).
ويركّز الاسرائيليون على التعاون مع جبهة النصرة اذ أن "لديها قيادة عسكرية مركزية تؤمن التوجيه الاستراتيجي للوحدات العاملة بنوع من الاستقلالية في إطارها المناطقي"، ولأنها "تعطي الأولوية لقتال الأسد على أهدافها الخاصة الطويلة الأجل"، ولقدرتها "على التجنيد والتعبئة في مخيمات اللاجئين في لبنان، وفي المناطق السنّية في طرابلس والبقاع، كما قامت بشنّ هجمات رائعة spectacular على كل من حزب الله والدولة اللبنانية"  كما ورد حرفيًا في وثائق مؤتمر هرتسيليا 2016.... ويعتبر الاسرائيليون أن تركيز الاميركيين على القضاء على داعش يمنح النصرة هامشًا أكبر من الحركة بالاضافة الى أنه يمكن استخدامها "كمقوّض لأي حل سياسي في سوريا"... (وثائق مؤتمر هرتسيليا 2016).
وإذا أخذنا بعين الاعتبار، أن المجموعات المسلحة المتواجدة على الحدود اللبنانية السورية، ومنها جبهة النصرة، كانت قد فقدت العمق الاستراتيجي من الناحية السورية، ولم تعد قادرة على التأثير على مجريات المعارك في سوريا بعد سلسلة هزائم تلقتها من الجيش السوري وحزب الله، فهذا يعني أن بقاء تلك المجموعات كان مرهون بالدور الوظيفي الذي يمكن لها أن تؤديه في الداخل اللبناني، لجهة استخدامها لتقويض الاستقرار اللبناني لاشغال حزب الله في ساحته الداخلية، أو المساهمة في إشعال حرب أهلية لبنانية؛ يكون وقودها المسلحين السوريين المتواجدين في مخيمات اللجوء في لبنان، أو على الأقل استخدامها كمصدر تهديد للجبهة الداخلية والخلفية لحزب الله، بحسب تعبير رئيس اركان الجيش الاسرائيلي بني غانتس.
إذًا، خسارة النصرة وانهزامها أمام حزب الله في الجرود اللبنانية وفي وقت قياسي لم يتوقعه أكثر المتفائلين، تعني في ما تعنيه انهزام فصيل مدعوم اسرائيليًا، ينفذ مشروعًا اسرائيليًا في المنطقة وليس مجرد فصيل سوري مسلح يمتلك فكرًا تكفيريًا.
وعليه، فإن انتصار لبنان على كل من النصرة وداعش وباقي المجموعات الارهابية المتواجدة على أرضه، واعلانه التحرير الثاني في آب 2017، بعد التحرير الأول في أيار 2000، وانتصار تموز 2006 ، يأتي بمثابة ضربة ثالثة قاسية للمشروع الاسرائيلي العدواني على لبنان، وهو ما أجج الحملات الاعلامية والسياسية على المقاومة والجيش اللبناني، والتي بدأت في لبنان ووجدت صداها في أرجاء المنطقة وصولاً الى العراق.