2024/02/23

ما الهدف من ورقة نتنياهو التي استعادت طروحات شامير؟

بعد الانتقادات الداخلية والاميركية بأن الحكومة الاسرائيلية لا تملك استراتيجية واضحة لمسار الحرب في غزة وأهدافها وتصوراتها، وفي محاولة لتقديم إطار عام يعد بمثابة "استراتيجية خروج" من الحرب، أو ما يسمى خطة "اليوم التالي" قدم بنيامين نتنياهو لمجلس الوزراء الأمني وثيقة مبادئ من صفحة واحدة، تتعلق بتصوره لمستقبل القطاع في مرحلة ما بعد الحرب.

ويمكن تعريف استراتيجية الخروج بأنها "الخطة التي تعدّها القوة المتدخلة لسحب قواتها العسكرية من البلد المتدخل فيه". وكانت النقاشات الاكاديمية في الولايات المتحدة الاميركية بدأت حول استراتيجيات الخروج وكيفيتها بشكل مكثف، منذ تسعينيات القرن الماضي.

ولعل ما دفع الى تكثيف هذه الدراسات هو السياسة التدخلية التي بدأتها الولايات المتحدة الاميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي بدأت تباشيرها في العراق عام 1990 ومن ثم في البلقان. وما أن وجد الأميركيون أنفسهم في مأزق كبير في الصومال، دفعهم الى الانسحاب بسرعة قياسية، حتى بدأ بعض الاستراتيجيين الأميركيين يعتقدون أنه على الولايات المتحدة قبل البدء بأي تدخل عسكري مفترض، أن تضع معه وبصورة مسبقة “استراتيجية خروج” ممكنة وفعّالة تحفظ لها هيبة جنودها وموقعها والتزاماتها الدولية.

وتتضمن خطة نتنياهو المقترحة للخروج من الحرب، تعيين "مسؤولين محليين فلسطينيين غير مرتبطين بدول أو كيانات تدعم الإرهاب لإدارة الخدمات في القطاع بدلاً من حماس" كما تقول الوثيقة، وإلغاء الاونروا، والسيطرة عسكرياً على القطاع لفترة غير محددة.

ويحدد نتنياهو مستويات من الاهداف الأمنية والعسكرية، فعلى المدى القصير ستتواصل الحرب حتى تحقيق هدف "تدمير القدرات العسكرية والبنية التحتية الحكومية لحماس والجهاد الإسلامي، وإعادة الرهائن الذين اختطفوا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر (على المدى القصير)، وعلى المدى المتوسط يحتفظ الاسرائيليون بحرية غير محدودة للعمل الامني والعسكري، وعلى المدى الطويل إزالة أي تهديد أمني من القطاع.

وتقول الخطة بإقامة مناطق عازلة على الجانب الفلسطيني من قطاع غزة وتجريد القطاع من السلاح،  والاحتفاظ بسيطرة أمنية على كامل "منطقة غرب الاردن" (كما تحدد الوثيقة). كما تفرض اسرائيل اغلاقاً أمنياً على الحدود مع مصر، وسيتم دعم الإغلاق بمساعدة الولايات المتحدة وبالتعاون مع مصر "قدر الإمكان"، كما جاء في الوثيقة. ولن تسمح اسرائيل بإعادة اعمار غزة إلا بعد تحقيق "اجتثاث التطرف... في جميع المؤسسات الدينية والتعليمية والرعاية الاجتماعية في غزة بمشاركة ومساعدة الدول العربية التي لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرف".

وعليه، ولا بد من الاشارة الى بعض الملاحظات على هذه الورقة:

1-  فكرة تشكيل حكومة مدنية محلية، هي فكرة اسرائيلية قديمة كان قد تقدم بها اسحاق شامير سابقاً الذي قال انه يوافق على حكم ذاتي للبشر لا للارض. بمعنى أن الاراضي العربية التي هي أراضٍ اسرائيلية من ضمن اسرائيل الكبرى يمكن للبشر الذين يقطنون عليها ان يحصلوا على حكم ذاتي، ويمكن توكيل بشر غير اسرائيليين بادارتها، بدون أن يكون لهؤلاء سيادة على الارض التي تبقى لإسرائيل.

2-  بشكل أساسي، ما تمّ نشره من الوثيقة يشي بأن لا شيء جديد فيها، بل وضع فيها نتنياهو ما كان قد أعلنه في تصريحات سابقة، ووثقها في ورقة مبادئ ليقدمها كاستراتيجية خروج لحرب غزة. من غير المعروف ان كان ما قدمه نتنياهو من تصورات لتعاون مع الولايات المتحدة ومع مصر ودول الخليج هو منسّق مع تلك الاطراف أو انها تصورات اسرائيلية للهروب الى الامام ولحشر تلك الاطراف، مع العلم أن السعودية كانت قد أعلنت أنها لن تساهم في إعادة إعمار غزة إلا بعد الاتفاق على مسار جدّي لتحقيق دولة فلسطينية.

3-  عادة، الحرب ليست هدف بحد ذاته بل لتحقيق أهداف سياسية. وعلى هذا الاساس، يريد نتنياهو اطالة أمد الحرب لتصفية القضية الفلسطينية نهائياً. وعليه، إن تقديم هذه الورقة ليس هدفه طرح افكار للنقاش أو الوصول الى حل سياسي، بل تتجلى أهدافه أما في المماطلة لما بعد شهر رمضان لعودة آلة القتل الاسرائيلية الى تهجير الفلسطينيين وإبادتهم في غزة، أو لإرضاء اليمين الاسرائيلي الذي يريد منع تحقيق أي خطة سلام مع الفلسطينيين ويريدون اعادة احتلال غزة ونشر المستوطنات فيها.

 

2024/02/17

بايدن ونتنياهو: هل هناك خلاف حقيقي؟

يتحدث عديدون عن أن الرئيس الاميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الاسرائيلي ليسا على وفاق، وأن الادارة الأميركية ممتعضة من الاداء الاسرائيلي في الحرب على غزة، وان العلاقة بين الطرفين متوترة.

لكن اللافت في الامر، أن المحادثة الهاتفية الاخيرة بين الرجلين والتي استمرت وقتاً طويلاً بحسب وسائل الاعلام، لم تعكس استياء بايدن ن نتنياهو، ولم ينتقد الاسرائيليين في حربهم الخارجة عن القانون الدولي الانساني وعن قواعد الحرب، بل منح الهجوم الاسرائيلي على رفح ضوءًا أخضر، بدليل محتوى البيان الذي أصدره البيت الابيض عن المحادثة.

قال بيان البيت الأبيض إن "بايدن أكد وجهة نظره بأن العملية العسكرية في رفح لا ينبغي أن تتمّ دون خطة موثوقة وقابلة للتنفيذ". وأضاف أن بايدن أكد لنتنياهو "ضرورة وجود خطة، لضمان سلامة ودعم أكثر من مليون شخص لجأوا إلى رفح". كما أكد بايدن "ضرورة الاستفادة من التقدم في المفاوضات لإطلاق جميع الرهائن بأقرب وقت"، وشدّد على أن "هزيمة حماس وضمان الأمن الطويل الأمد لإسرائيل هدف مشترك".

هذا النص يؤكد بما لا يقبل الشكّ أن بايدن داعم كلياً للعمليات العسكرية الاسرائيلية، وأن الادعاءات الاعلامية حول خلاف وغضب بايدن من نتنياهو ما هو إلا حملة إعلانية هدفها تبرئة بايدن من الدم المسفوك في غزة، وإظهاره أمام الجمهور الاميركي والعالمي بأنه غير موافق على ما يرتكب من مجازر.

ويحتاج بايدن الى حملة العلاقات العامة تلك لأسباب متعددة، أبرزها:

1-  التملص من مسؤولية الهزيمة:

بعد مرور ما يقارب الخمسة أشهر على بدء الحرب الاسرائيلية على غزة، لم يحقق الجيش الاسرائيلي انتصاراً عسكرياً يحسب له حساب في ميزان المقايضة السياسية التي ستلي الحرب في غزة. وينقسم الاسرائيليون على أنفسهم، ويتبادلون الاتهامات بالمسؤولية، ويتحدث الجيش الاسرائيلي أن هدف القضاء على حماس قد يحتاج سنة من القتال إن لم يكن أكثر.

وعلى هذا الاساس، يقوم بايدن بتغطية الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين لكنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية الهزيمة الاستراتيجية حين تحصل.

2- استطلاعات الرأي في الداخل الأميركي

تعكس استطلاعات الرأي المتعددة في الولايات المتحدة الاميركية، تحوّلاً في اتجاهات الرأي العام تجاه اسرائيل، خاصة ضمن قواعد الحزب الديمقراطي.

منذ عام 2014، بدأ الشباب الأميركي يعكس تحوّلاً في نظرته الى الصراع العربي الاسرائيلي، حيث بدأ هذا التحول يظهر في استطلاعات الرأي في مراكز مثل "بيو" Pew وغالوب Gallup، اللذان أظهرا اختلافاً في الرأي بين الفئات الشبابية والكبار في السن في موضوع الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، حيث يميل الشباب الى التعاطف أكثر مع الفلسطينيين.

وبعد حرب غزة عام 2023 وانتشار وصور المجازر الاسرائيلية، وتأثير وسائل التواصل التي كسرت هيمنة واحتكار الاعلام الاميركي التقليدي الموالي والداعم بصورة مطلقة لاسرائيل، ظهر أن  الغالبية من فئات الشباب والملونين والمسلمين والعرب المؤيدين للحزب الديمقراطي ترفض سياسة ادارة بايدن المؤيدة بشكل تام لاسرائيل.

3-  المنافسة الانتخابية

كشف استطلاع حديث للرأي في الولايات المتحدة الأميركية، أجراه مركز بيو، الى أن "41% من الاميركيين يدعمون سياسات الحزب الجمهوري، في مقابل 31% يدعمون سياسات الحزب الديموقراطي". وبالرغم من أن قضية فلسطين ليست هي المؤثر على هذه النتيجة، بل أمور داخلية تتعلق بالاقتصاد والهجرة غير الشرعية، لكن الاحتمال يكبر بعودة ترامب الى البيت الابيض وفوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة.

ومع هذه النتائج، يتزايد الحديث في الولايات المتحدة عن حالة الرئيس جو بايدن الذهنية والعقلية، ويدور جدل داخل قيادات الحزب الديموقراطي بشأن مصير الرئيس بايدن كمرشّح للحزب مع التيقن بأن استمراره قد يسبب هزيمة للحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة مقابل دونالد ترامب.

أمام هذه التحديات والتي ترتبط بأداء الادارة الحالية وشخص بايدن وحالته، يحتاج الحزب الديمقراطي الى كسب دعم وتأييد جميع فئات الحزب الديمقراطي، وإلا كان مصير بايدن في انتخابات الرئاسة هذا العام مشابهاً لمصير هيلاري كلينتون عام 2016، التي كانت مكروهة من شرائح واسعة من الحزب الديمقراطي والتي امتنعت عن التصويت لها، ففاز ترامب.

في النتيجة، لا يوجد أي خلاف اسرائيلي اميركي حول الحرب في غزة، وما زالت الادارة الأميركية داعمة للحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين، بل تريد أن تعطي نتنياهو الوقت الكافي لتحقيق أهداف الحرب التي أعلنها، وكل ما يحكى عن خلاف ما هو إلا مجرد حديث إعلامي يحتاجه بايدن في الداخل الأميركي، ولا يعوّل عليه.

 

2024/02/10

عودة الانخراط الاميركي في الشرق الاوسط: مَن المستفيد؟

 

في السنة الاولى لرئاسة جو بايدن، ناقش مسؤولو الادارة موضوع تخفيف الانخراط في الشرق الاوسط، وذلك لتحويل الاهتمام والموارد الى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لاحتواء التهديد المتزايد للصعود الصيني العالمي.

وبعد حرب أوكرانيا، وجد الاميركيون أن حلفاءهم في المنطقة، وخاصة الخليجيين، لم يلتزموا بالعقوبات على روسيا، وكانوا حذرين من الاستمرار في الاتكال على الولايات المتحدة في ضمان أمنهم، وكجزء من استراتيجية "التحوط الاستراتيجي"، كانوا منفتحين على البحث عن شراكات مع روسيا أو الصين. وعلى هذا الاساس، ردد الكثير من المسؤولين الاميركيين أن الولايات المتحدة لن تغادر المنطقة، وأكد العديد منهم، ومنهم الرئيس جو بايدن خلال زيارته للمنطقة، أن الولايات المتحدة باقية وهي ملتزمة بأمن حلفائها.

وفي ايلول/ سبتمبر من عام 2023، أوضح مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان الأهداف الإقليمية للإدارة؛ وهي خفض الضغط وتخفيف التصعيد ودمج دول المنطقة الحليفة للأميركيين في منطقة الشرق الأوسط في نهاية المطاف. وللقيام بذلك، ركزت الإدارة على ثلاثة مجالات سياسية: تعزيز التكامل الاقتصادي، احتواء إيران، وتشجيع التطبيع العربي الإسرائيلي.

وعلى هذا الأساس، اعتقدت الادارة الأميركية أن السلام والاستقرار يمكن أن يتحقق في المنطقة، عبر دمج اسرائيل والدول العربية في مشاريع اقتصادية، وعبر اتفاقيات تطبيع تشجع التعاون بينها. تجاهلت الادارة الأميركية الحالية والسابقة كلياً الموضوع الفلسطيني، وساد اعتقاد لدى العديد من السياسيين في الولايات المتحدة والمنطقة، أن السلام يمكن أن يتحقق بمعزل عن اعطاء الفلسطينيين حقوقهم.

لقد أثبتت حرب غزة الاخيرة، أن هذا التجاهل كان خاطئاً ومكلفاً أيضاً. لقد أدّت حرب غزة الى إعادة انخراط الاميركيين بقوة في الشرق الاوسط، وعطلت قدرتهم على التوجه نحو الصين لاحتوائها. بالاضافة الى أن الهدف الاميركي باحتواء ايران قد انقلب رأساً على عقب، وذلك بعدما أدّت حرب غزة الى تقارب عربي اسلامي، ولادانة واسعة للمجازر الاسرائيلية في غزة، والدعوة الى حل عادل للقضية الفلسطينية.

لقد راهن الاميركيون على أن التفاهم السعودي الايراني لن يعمّر طويلاً، ومؤحراً قال مسؤول البيت الأبيض، جون كيربي، أن السعودية منفتحة على التطبيع مع اسرائيل بغض النظر عن وقف النار في غزة وحقوق الفلسطينيين. لكن الردّ أتى واضحاً من وزارة الخارجية السعودية، ليجزم أن السعودية لن تقيم علاقات مع اسرائيل إلا بعد تحقيق الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وفي هذا الامر، عودة للسعودية الى مبادرة بيروت عام 2002، وهي التي كانت قد غضت النظر عنها خلال مشاورات التطبيع قبل حرب غزة.

وهكذا، تعود عقارب الساعة الى الوراء. ويجد الأميركيون أنفسهم معنيين بإعادة الانخراط العسكري والسياسي والدبلوماسي في المنطقة لحماية اسرائيل. فمن المستفيد من إعادة الانخراط الاميركي؟

1-  في البداية، لا شك أنها الصين:

منذ إدارة باراك أوباما، وبغض النظر عن الحزب السياسي الذي يحكم في البيت الأبيض، ينظر الأميركيون الى الصين على أنها منافس استراتيجي وتهديد للقوة والهيمنة الاميركية على العالم.

ويعتبر الاميركيون الصين المنافس الأساسي على المدى الطويل وتشكل تهديداً متعاظماً ومتسارعاً، كما  قالت وزارة الدفاع الأميركية. ولمنع الصينيين من السيطرة على صناعات التكنولوجيا الفائقة مثل تصنيع أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، شنّت الولايات المتحدة حربًا اقتصادية ضد الصين.

وعليه، إن الانخراط الأميركي في الشرق الاوسط، سوف يؤخّر توجههم نحو آسيا. وبالمقابل، إن أي تأخير إضافي في التحول الأميركي نحو شرق آسيا من شأنه أن يمنح الصين أفضلية في جوارها، وقدرة على توسيع نفوذها والمضي قدماً في مبادراتها العالمية "مبادرة الطريق والحزام".

2-  في المرتبة الثانية روسيا:

لإضعاف روسيا ومساعدة أوكرانيا على هزيمتها واستنزافها كانت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يخوضان حربًا بالوكالة ضد روسيا منذ شباط/ فبراير من عام 2022. وبالرغم من الدعم العسكري الغربي غير المحدود لم تكن الحرب تسير كما هو متوقع لها، وفشل الهجوم الأوكراني في الصيف (2023) في تحقيق تقدم عسكري.

وبالرغم من أن الاميركيين والاوروبيين مستمرين في دعمهم لاوكرانيا، إلا أن تحويل الاهتمام العالمي من أوكرانيا الى فلسطين، سوف يسمح للروس باستمرار عمليتهم العسكرية بهدوء، بالاضافة الى أن المقارنة بين القضيتين يكشف زيف الادعاءات الغربية حول حقوق الشعوب، ويكشف ازدواجية المعايير الغربية، وهذا يفيد الروس بلا شكّ.


2024/02/01

الصراع في البحر الأحمر: السعي لـ "الهيمنة العالمية"


في وقت تستمر فيه عمليات التحالف الاميركي في البحر الأحمر، أعلن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن مهمة مماثلة ولكن مستقلة للاتحاد الأوروبي اطلق عليها اسم  "أسبايرز"، مهمتها "حماية السفن في البحر الأحمر"،  كما قال بدون تحديد الدولة الاوروبية التي ستقود تلك العملية.

واللافت في هذه المهام العسكرية البحرية، قيام الاميركيين والاوروبيين بمهام بحرية عسكرية في البحر الأحمر، لمواجهة جماعة "انصار الله" الحوثية التي قالت أنها ستفرض حظراً على السفن المتجهة لاسرائيل أو التي يملكها اسرائيليون، بهدف وقف الحرب الاسرائيلية على غزة،  علماً أنه كان من الاجدى أن يعالج الاميركيون والاوروبيون سبب المشكلة وجذورها لا نتائجها.

واقعياً، ترتبط العمليات البحرية في البحر الأحمر الى حدٍ بعيد بالسيطرة على ممرات وطرق الملاحة الاستراتيجية، لانها تشكّل المفتاح الأساسي للسيطرة العالمية. علماً أن التاريخ العالمي يشير الى السيطرة على البحار والطرق الملاحية كانت سبباً رئيسياً في هيمنة بريطانيا على العالم وسبباً في نجاح ما يسمى  "السلام البريطاني Pax Britannica".

كان يُنظر إلى "السلام البريطاني" (1815-1914)، أو قرن "السلام الأوروبي"، حيث بلغت بريطانيا ذروتها كقوة مهيمنة، على أنه دليل على أن لعب دور "الموازن من خارج الصراع"  يمكن أن يكون استراتيجية كبرى ممتازة لقوة مهيمنة.

أما الامور التي ساهمت في ارساء "السلام البريطاني" أو الهيمنة البريطانية على العالم فهي:

1. الانتصار في الحروب ضد نابليون.

2. قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة لتحقيق مكانة القوة العظمى.

3. تفوق بحري وتكنولوجيا عالية وقوات برية هائلة للمساهمة في توازن القوى الأوروبي.

4. الاعتراف العالمي بوضع بريطانيا كقوة عظمى.

وتشير الدراسات الى إن قدرة بريطانيا على بناء إمبراطورية عالمية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت ممكنة بفضل تفوقها البحري. خلال تلك الفترة، اعتمدت السياسة الخارجية البريطانية بشكل كبير على ما يسمى استراتيجية "حكم الأمواج"، وهي استراتيجية تستلزم تطوير أسطول قوي للدفاع عن المصالح البريطانية على مستوى العالم، وخاصة مستعمراتها وخطوطها التجارية، بالاضافة الى قيام البحرية الملكية بالتحكم والسيطرة على الطرق المائية الاستراتيجية لدعم المصالح البريطانية. وعليه، باتت بريطانيا قادرة على فرض شروطها في جميع أنحاء العالم  وهو أمر ضروري للحفاظ على هيمنتها ونفوذها في العالم.

 

وبنفس التصور، إن انتشار الولايات المتحدة العسكري في مياه الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية، خاصة في الخليج وباب المندب، المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، والمحيط الهندي، مدفوع باهتمامها بالحفاظ على طرق التجارة البحرية وحرية الملاحة، يشي بمحاولتها السعي الى ممارسة نفوذ عالمي شبيه بنفوذ بريطانيا العظمى خلال فترة "السلام البريطاني".

لكن الفارق بين السلام البريطاني، ومحاولة الولايات المتحدة فرض نموذج مشابه بعنوان "السلام الأميركي"، يتجلى في الانخراط الاميركي المكلف عسكرياً في العالم ومحاولة السيطرة على العالم عبر المواجهة المباشرة مع القوى الكبرى في النظام، وهو ما لم تفعله بريطانيا خلال فترات سيطرتها التي أدركت كلفة الانخراط العسكري المكلف وتوسعه.

وتذكر الدراسات التاريخية أنه حتى خلال الحروب النابليونية، وعندما اضطرت بريطانيا إلى مواجهة وكبح جماح الصعود المحتمل لقوى أوروبية عظمى أخرى، حافظت على استراتيجية "الانعزال" التي ساعدتها في الحفاظ على نفوذها. وقد لخص نايجل جونز، أحد المؤرخين المهمين في هذا الاطار، الاستراتيجية البريطانية الكبرى في القرن التاسع عشر قائلاً إن "بريطانيا، التي كانت تحكم أمواج العالم، كانت راضية بأن تهتم بشؤونها على هامش أوروبا، وتركّز جهودها واهتمامها على الثراء والبحبوحة ودعم الصناعة الفيكتورية، فاتسعت إمبراطوريتها حتى حكمت ربع الكرة الأرضية" في حين كان الأوروبيون مشغولون بالاقتتال وتوازن القوى فيما بينهم.

وهكذا، وخلال القرن التاسع عشر، لم تكن الهيمنة البريطانية مبنية على استراتيجية «توازن القوى» التي تحاول الولايات المتحدة الأميركية أن تطبقها اليوم، فتقوم بمحاولة منع أي قوة من الظهور على المسرح العالمي، بل استفاد البريطانيون من السلام الذي تحقق نتيجة لتسويات «الوفاق الأوروبي» عام 1815، ولعبوا دور "الراكب بالمجان  free rider على حساب الدول الاوروبية الأخرى. وهكذا استفاد البريطانيون ووسعوا نفوذهم وصناعتهم ونعموا بالبحبوحة على حساب الدول الأخرى التي اقتتلت مع بعضها وعانت من تكاليف الحروب.

في النتيجة، ان الاستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن، والتي سعت الى الانخراط في صراع بالوكالة مع الروس، واندفعت الى احتواء الصين عبر تأسيس تحالفات في محيطها الجغرافي، وتطويقها بقواعد عسكرية، بالاضافة الى الانخراط المكلف في الشرق الاوسط للدفاع عن اسرائيل وترسيخها كقاعدة غربية متقدمة للهيمنة الغربية ومحاولة "السيطرة على الأمواج" بالقوة العسكرية.. كل هذه الامور تجعل من قدرة الأميركيين على فرض نمط امبراطوري شبيه بالامبراطورية البريطانية، وفرض "السلام الأميركي Pax Americana والسيطرة العالمية أصعب لأن الانخراط  العسكري مكلف ويحتّم مواجهة مقابلة ستكون تكاليفها كبيرة أيضاً على الأميركيين والعالم.