2018/03/28

تعيين بولتون: هل من داعي للقلق؟


نُشر بتاريخ 28 آذار 2018 على موقع الميادين
يجمع المحللون الأميركيون على أن قيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بتعيين جون بولتون مستشاراً للأمن القومي، سوف يدفع الى مزيد من العدائية في السياسة الخارجية الأميركية، وذلك لأنه يؤمن باستخدام القوة في العلاقات الدولية، ويعتقد أن التغيير في كل كوريا الشمالية وايران، يمكن أن ينتج عن سياسة أميركية أكثر اعتمادًا على القوة وليس على الدبلوماسية، وخاصة لأنه يتشارك وترامب نفس الرؤية حول تجاهل الاتفاقيات الدولية، وازدراء المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، كما الاتحاد الأوروبي، وخطابه مليء بالشتائم على خصومه السياسيين، كما قالت مجلة فورين بوليسي الاميركية.
وبالرغم من هذا الاتجاه السائد لدى الصحف الأميركية، وبالرغم من سيادة جو عام تشاؤمي في الشرق الأوسط لهذا التعيين واعتباره مؤشرًا لمزيد من التوتر في المنطقة وخاصة في ظل توجه الإدارة لإحتواء ايران، ورغبة ترامب في تمزيق الإتفاق النووي، إلا أن الواقعية تعيدنا الى فكرة أن تعيين بولتون لن يغيّر كثيرًا في المعادلات الاقليمية، ولا داعي للقلق من هذا التعيين. وننطلق في هذا الاستنتاج، من واقع أن صياغة السياسة الخارجية الأميركية هي أمر معقّد، وأكبر من قدرة شخص على صياغته بمفرده، مع العلم أن قدرة بولتون وسواه على التأثير الجوهري على تلك السياسات مرتبط بمن يتخذ القرار في النهاية (بغض النظر عن التأثيرات من هنا وهناك)، وهناك احتمالان:
 - الاحتمال الاول إن الرئيس الأميركي ترامب بالتعاون مع مستشاريه هو من يدير السياسة الخارجية الأميركية: هذا الاحتمال يفيد أن تعيين بولتون وبومبيو قبله يعني العودة الى ما يشبه عهد بوش الابن، أي عسكرة السياسة الخارجية والقرارات المتسرعة والتخلي عن الحلفاء غير الداعمين، ووضع العالم أمام خيارين: معنا أو ضدنا.
التجارب التاريخية مع بوش الإبن أثبتت عدم نجاعة تلك السياسات، لا بل نجدها قد أدّت الى تراجع نفوذ وصورة الولايات المتحدة الخارجية في العالم؛ فالحرب على العراق التي دعمها بولتون وكان من أشد المتحمسين لها، لم تنفع الولايات المتحدة، ولقد جهدت إدارة أوباما لتأمين استراتيجية خروج مناسبة للجيش الأميركي من العراق، بناءً على توصيات لجنة بايكر هاميلتون.
أما وقد تمت تجربة عسكرة السياسة الخارجية والاستناد الى القوة الصلبة ولم تؤدّ إلا الى تقلص النفوذ الأميركي والسماح بصعود قوى اقليمية ومحلية شعبية، فإن تعيين بولتون وسواه من الصقور في الإدارة، وتكرار ترامب لتجارب بوش الإبن لن تعني سوى المزيد من الخسائر للولايات المتحدة.
-الإحتمال الثاني وهو أن البنتاغون استفاد من الضغوط الداخلية على الرئيس دونالد ترامب، ليتحوّل الى مقرر وصانع أساسي وحاسم في السياسة الخارجية الأميركية. إن هذا الإحتمال، وهو الأرجح،  يعني أن الهامش المعطى لترامب في السياسة الخارجية هو هامش ضيّق، يتجلى في تظهير القرارات المتفق عليها سلفًا، وتغيير الفريق العامل الى جانبه، والقيام بالزيارات الخارجية الرسمية، وإبداء آرائه على التويتر. وهذا يعني أن تعيين بولتون وسواه لن يغيّر أي شيء في صنع السياسة الخارجية الحقيقية، وكل ما سيتغير هو زيادة الكلام العالي النبرة والشتائم تجاه الخصوم على شاشات التلفزة.
انطلاقًا من هذا الاحتمال الراجح، كل ما يحاول ترامب فعله، هو إعطاء صورة "تخويفية" لإدارته، من أجل تخويف الخصوم والحلفاء على حدٍ سواء. من خلال التحليل النفسي لترامب، وما كان يمارسه في تلفزيون الواقع، تبدو خطة ترامب رامية الى إعطاء صورة خارجية للعالم عن إدارة أميركية حربية، يسيطر عليها مجموعة من الصقور الداعمين للخيارات العسكرية، لتخويف الدول الأخرى من مغبة تحدّي الإدارة الأميركية، فيدخلون في مرحلة من الانهيار الادراكي، ويستسلمون تحت ضغط التهديد، وينفذون ما يريده الأميركيون.
النتيجة، إنه في كلا الحالتين، إن تعيين بولتون وسواه من الصقور لا يجب ان يدفع للقلق، فإما إن ترامب يسير على خطى جورج بوش الإبن في قيادة أميركا نحو الانحدار، وإما أن كل تلك التعيينات لن تؤدي الى أي تعديل في السياسة الخارجية الأاميركية لأن مركز صناعة القرار هو في مكان آخر غير إدارة ترامب وصقوره.

التدخل التركي في سورية في القانون الدولي


د. ليلى نقولا
توغَّل الأتراك عسكرياً في عفرين، وبات الجيش التركي يسيطر سيطرة مباشرة على مناطق سوريّة تمتد من حدود منبج شرقاً وتتوسع لتشمل كل المناطق التي سيطر عليها الأتراك بموجب عملية "درع الفرات"، بالإضافة إلى عفرين والمناطق التي سيطر عليها الأتراك في إدلب بموجب اتفاق مناطق خفض التوتر في استانة.

الدولة السورية طالبت بالانسحاب الفوري وغير المشروط لما سمّته "قوات الاحتلال التركي من الأراضي السورية"، وطالبت المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته، علماً أن الأتراك كانوا قد تذرّعوا بمكافحة الإرهاب والدفاع عن النفس لقوننة ما يقومون به من توغّل عسكري في الأراضي السورية.. فكيف يمكن تقييم التدخُّل التركي في الأراضي السورية من منظار القانون الدولي؟

يُعتبر مبدأ "عدم التدخل" من المبادئ الناظمة للعلاقات الدولية، والذي ينطلق من مبدأ احترام سيادة الدولة، وعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية، كما عدم جواز استعمال القوة في علاقات الدول بين بعضها البعض.

ومع إنشاء الأمم المتحدة، كان الاتجاه السائد لدى فقهاء القانون الدولي أن مبدأ "عدم التدخُّل" هو مبدأ ملزم للدول، لكنهم أقرّوا في الوقت نفسه أن تطبيق قاعدة عدم التدخل تطبيقاً مطلقاً سيؤدي إلى التعسُّف في استعمال حق الاستقلال على نحو قد يجعل بعض الدول تخالف القانون، بحجة استقلالية قراراتها، فكان لا بد من إجازة التدخُّل في بعض الحالات الاستثنائية، كضرورة قانونية.

وعلى الأرض السورية اليوم، تختلف ذرائع التدخُّل الأميركي والروسي عن التدخل التركي في سورية، ويمكن القول إن الذرائع التي يسوقها الأتراك لتبرير تدخلهم العسكري في أراضي دولة سيّدة تبدو هشّة.

1-   بالنسبة للأميركيين والتحالف الدولي، تندرج تبريرات التدخل العسكري الذي يقوم به التحالف الدولي في الأراضي السورية من قرارات مجلس الأمن التي تُعني بمكافحة الإرهاب بكافة السبل المتاحة، خصوصاً القرارات المتعلّقة بتنظيمي "داعش" و"النصرة" في سورية والعراق، وعليه فإن الحملة العسكرية التي يشنّها التحالف الدولي في سورية تجد مبرراتها القانونية في إطار "الشرعية الدولية"، تحت ستار "مكافحة الإرهاب".

2-   أما بالنسبة لتدخُّل كل من إيران وروسيا، فالتدخُّل يأتي في سياق أحد أبرز استثناءات مبدأ عدم الدخل وهو "التدخُّل بناء لطلب السلطات المحلية".

ويمكن رؤية هذه المسألة من خلال حالات عدة:

الأولى: إذا كانت الحكومة طالبة التدخل، تمارس صلاحياتها كحكومة شرعية وفق القواعد الدستورية للدولة، فالتدخل في هذه الحالة هو "عمل شرعي" جاء بناء لطلب الحكومة الشرعية.

الثانية: هي تدخُّل دولة إلى جانب دولة ثانية بموجب معاهدة دفاع مشترك، على سبيل المثال، تنص على حق الدفاع الجماعي عن النفس، وهو حق تكفله المواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة.

الثالثة: حالة الحرب الأهلية: لقد دافعت الدول دائماً عن حقّها في التدخل لمساعدة سلطات صديقة خلال حرب أهلية ما، واعتمدت في هذا القول على أن الحكومات تمثّل الدول السيدة، وبالتالي من حق الحكومة أن تستدعي قوات أجنبية إلى داخل أراضيها، لمساعدتها في إشاعة الاستقرار، مهما كان تأثير هذا التدخُّل على الوضع السياسي المستقبلي للدولة.

3-   ونأتي إلى التدخُّل التركي لنناقش مبدأ الدفاع عن النفس الذي تعتمده تركيا لتبرير تدخُّلها، وأحيانًا تتذرع بمبدأ "مكافحة الإرهاب":

أولاً: إن العناصر الكردية التي تتهمها تركيا بالإرهاب، هي ليست على لائحة الإرهاب الدولية، ولم يصنّفها مجلس الأمن كمنظمة إرهابية كما هو الحال مع "داعش" و"النصرة"، لذا فإن محاولة تركيا قوننة تدخُّلها بغطاء مكافحة الإرهاب يبدو أنه غير مناسب كحجة قانونية للتدخُّل العسكري في سورية.

أما مبدأ الدفاع عن النفس، والذي يكفله القانون الدولي، وتكفله المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، فلا ينطبق على الوضع الكردي في عفرين، إذ لم يشكّل الأكراد السوريون في تلك المنطقة أي تهديد جدي وحقيقي لتركيا، والمفارقة أن أردوغان يجد تهديداً للأمن القومي التركي في الأكراد الموجودين في غرب الفرات، بينما المساحات الشاسعة  التي يسيطر عليها الأكراد والواقعة شرق الفرات، والمحاذية للحدود التركية، لا يجد فيها أردوغان أي تهديد، وهذا إن دلّ على شيء، فيدل على انتفاء قانونية التبرير التركي حول شرعية الدفاع عن النفس في الأراضي السورية.

في النتيجة، لقد استطاع أردوغان اللعب على وتر المصالح الروسية والأوروبية مع تركيا، لغضّ النظر عن تدخُّله العسكري غير القانوني في سورية، والأسئلة الجوهرية المطروحة اليوم: كيف ستتعامل الدولة السورية مع هذا الواقع ضمن أراضيها؟ وكيف ستعيد وحدة الأراضي السورية ضمن سيادتها؟ يبدو هذا هو التحدي الحقيقي لمرحلة ما بعد الانتهاء من البؤر الجغرافية الخارجة عن سيادة الدولة في الداخل السوري.

2018/03/21

بوتين 4: عودة الاتحاد السوفياتي؟


نُشر هذا المقال في 21 آذار 2018 على موقع الميادين
لم تكن نتيجة الانتخابات الروسية مفاجئة، بل كان الجميع يجزم بأن بوتين سيربح الانتخابات بأرجحية مطلقة، لذا وانطلاقًا من هذه المسلّمة، كل ما كان الغرب يتمناه في المعركة المفتوحة مع الروس هو تقليص عدد المقترعين في الانتخابات للنيل من مشروعيتها الشعبية، أو على الأقل حصول بوتين على نسبة أدنى من انتخابات عام 2012 للقول بأن سياساته الخارجية باتت تؤثر عليه داخليًا، وهو ما لم يحصل بدليل حصوله على ما يزيد عن 76%  من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحصل عليها بوتين في الدورات التي خاض فيها الانتخابات منذ عام 2000 ولغاية اليوم.
وبقراءة للتطورات التي حصلت في روسيا منذ وصول بوتين الى الحكم ولغاية اليوم، نجد أن العهد الرئاسي الأول لبوتين كان منصبًا على تحفيز الاقتصاد والنمو، وتشجيع الاستثمارات ومكافحة الفساد والتقليل من سيطرة المافيات وهو ما جعل الاقتصاد الروسي يحقق نموًا هائلاً، ويرتفع الناتج القومي، وتحقق القدرة الشرائية ارتفاعاً بنسبة 72% بحسب احصاءات صندوق النقد الدولي.
وبالرغم من اهتمام الروس بالاقتصاد وانشغالهم بالقضايا المحلية في تلك الفترة، إلا أن الغرب لم يستسغ وجود رئيس قوي في روسيا، فشهدت تلك الفترة تدخلاً غربيًا كثيفًا في الحديقة الخلفية لروسيا ومحاولة تطويق موسكو عبر تشجيع الثورات الملونة في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، فسقط الحكم الموالي للروس في كل من اوكرانيا وجورجيا وقرغستان، وانضمت دول أخرى الى الاتحاد الاوروبي وحلف شمال الأطلسي، وبدا أن نظرية "الدومينو" يمكن أن تُطبق في كل من البلقان وآسيا الوسطى بشكل يحصر الروس ضمن محيط مساحة جغرافية معادية تابعة للغرب، ما يمنع أي عودة "للدب الروسي" الى الساحة الدولية.
ولم يتأخر الرد الروسي كثيرًا، فالتدخل الروسي العسكري في جورجيا ردًا على الاستفزازات التي قام بها الرئيس الجورجي ساكاشفيلي خلال عهد الرئيس ميدفيديف، أرّخ لمرحلة جديدة، أدرك معها الروس أن الغرب لن يتسامح مع عودة روسيا كدولة قوية، وأيقنوا أن أحلام التعاون الدولي مع الغرب بدون تحصيل قوة كافية ستكون وصفة لمزيد من التقهقر، فكان القرار بتحديث الجيش الروسي وتجهيزه، بعدما تبين من الحملة العسكرية الروسي في جورجيا، أن الجيش الموروث من الاتحاد السوفياتي بمعداته وهيكليته القديمة لن يفي بغرض الدفاع عن المصالح الروسية في العالم والاقليم.
وفي العهد البوتيني الثاني، وبعد ترسيخ أسس الاقتصاد والدفاع، انطلق بوتين الى استراتيجية العودة الى العالمية، مستفيدًا من التطورات السورية والاوكرانية، فانخرط الروس في معارك ضد الغرب عسكريًا(حروب الوكلاء) وسياسيًا ودبلوماسيًا بدون مواربة وبلا خجل.
واليوم، واستكمالاً لمسيرة العودة الى الساحة العالمية، وانطلاقًا من قول بوتين خلال حملته الانتخابية، إن الحدث التاريخي الرئيسي الذي ود لو كان بإمكانه تغييره هو انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكن إدراج تصوّر أولي لما ستكون عليه ولايته الرابعة، الممتدة لغاية 2024، والتي يمكن تلخيص أهدافها بتكريس التعددية القطبية، ومحاولة كسر احتكار الغرب والأميركيين خاصة للقرارات العالمية، ما يعني مزيدًا من عدم الاستقرار العالمي وتسريع وتيرة افتعال الأزمات الدولية بين الروس والغرب، ويمكن إدراكها من المؤشرات التالية:
- عودة سباق التسلح وذلك من خلال الاعلان الأميركي عن العودة الى تطوير سلاح نووي منخفض الفعالية لاستعماله في أي حرب مقبلة يتم فيها تهديد الحلفاء، والردّ الروسي باستعراض أسلحة "غير مسبوقة"، وتهديد مقابل.
- غرق أوروبا بمشاكل سياسة داخلية ناتجة عن نهوض القومية العنصرية والدعوة للعودة الى مفاهيم الدولة القومية كبديل عن النموذج الاندماجي الاوروبي، والذي سيزداد بعد تفاقم الأزمات نتيجة لزيادة اللاجئين، بالاضافة الى خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي ستنتج عن تحويل أجزاء من الموازنات الاوروبية لزيادة الانفاق العسكري، وزيادة حصة الأوروبيين في الانفاق في حلف الناتو الذي يطلبه الاميركيون...وهذا سيجعلهم يحاولون دفع الأزمات الى الخارج بتسليط الضوء على "عدو خارجي" للتغطية على المشاكل الداخلية.
- المشاكل الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية، وشخصية ترامب المثيرة للجدل وسرعة التغيير في هيكل الادارة الأميركية المتأرجحة بسبب الإقالات والاستقالات، وسيطرة جنرالات البنتاغون على السياسة الخارجية مما يدفع على عسكرتها، وهو ما يحتّم مزيدًا من الاقتتال بالواسطة وعبر وكلاء بين الروس والأميركيين في أرجاء العالم وفي سوريا بالتحديد.

2018/03/15

المرأة في الانتخابات اللبنانية.... ظالمة أم مظلومة؟


د. ليلى نقولا
يتحضّر لبنان للانتخابات التي ستحصل على أساس القانون الجديد الذي يعتمد النسبية على 15 دائرة، والصوت التفضيلي على مستوى القضاء، والذي يحمل العديد من التغييرات التي أعلنت الحكومة اللبنانية أنها بمنزلة إصلاحات، ويقال إنها ستعيد خلط الأوراق على مستوى وصول النواب إلى الندوة البرلمانية وتعطيل قدرة المحادل الانتخابية على احتكار تمثيل الشعب اللبناني كما كان يحصل سابقاً، علماً أن هذا القانون لا يسمح للمرشحين المستقلين بخوض الانتخابات إلا ضمن لوائح، ما يعني انتهاء ظاهرة المرشّح المنفرد الذي يمنّي النفس باختراق اللوائح، أو على الأقل تكريس حيثية انتخابية معينة.

أما في ما يخص المرأة اللبنانية، فكان لافتاً الترشيح الخجول للنساء على لوائح القوى السياسية الحزبية، سواء التقليدية أو التغييرية، واتهام رؤساء الأحزاب للمرأة بالتقاعس وتنصلهم من ترشيح سيدات على لوائحه بالقول إنهم لم يجدوا نساء كفوءات، أو إن النساء ليس باستطاعتهن تجيير أصوات كافية للائحة، أو إن الاستطلاعات أظهرت أن النساء لا تصوّتن للنساء.

لنبدأ من الجزئية الأخيرة، ولنشرح ماذا يعني تحميل المرأة اللبنانية مسؤولية التقصير الحزبي، واتهامها بأنها ظالمة بحق نفسها وحق النساء لأنها "لا تصوّت للمرأة فقط لأنها امرأة"!

تشير الدراسات إلى موجات ثلاث من الحركات النسوية عبر التاريخ المعاصر، بدأت الموجة الأولى في القرن التاسع عشر وانتهت مع بداية القرن العشرين، واستطاعت أن تحصّل للمرأة الحق في التصويت وبعض الحقوق السياسية، وبرزت الموجة الثانية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وطالبت بمزيد من الحقوق الاقتصادية والثقافية للمرأة، والمساواة مع الرجل في العمل والدخل وغيره، أما الموجة الثالثة التي انطلقت مع بدايات القرن الحادي والعشرين، فطالبت بالعدالة الاجتماعية وتمكين المرأة، وبما أن التمكين كلمة تعني العديد من المفاهيم والأمور العامة غير المحددة، والتي تتباين ثقافياً بين مجتمع وآخر، فقد انقسمت الحركة النسوية إلى تيارين واضحين: التيار الليبرالي والتيار الراديكالي.

والمشكلة هي في هذا التيار الراديكالي بالتحديد، حيث تصل بعض النساء المنضويات في هذا التيار إلى "شيطنة" الرجل، مطالبة بسحقه وواجب تأييد المرأة فقط لأنها امرأة، ومنها نفهم ما تعنيه مادلين أولبراين في معرض دعمها للمرشحة هيلاري كلينتون بقولها "هناك مكان خاص محجوز في الجحيم للنساء اللواتي لا يدعمن بعضهن بعضاً".

الأكيد، آخر ما تريده المرأة اللبنانية والأحزاب ذاتها هو هذه النسوية الراديكالية في مجتمع يقدّس العائلة وينبذ الفردية الأنانية. وليس المطلوب أبداً من المرأة اللبنانية في معرض تحصيل حقوقها السياسية والاجتماعية أن تصل إلى مرحلة "شيطنة" الرجل واعتباره سبباً لكل مشكلاتها وحرمانها والظلم اللاحق بها والدعوة لسحقه، بل عليها الإيمان بالتكامل معه، وأن تدرك أن المواطن اللبناني بشكل عام (سواء رجل أم امرأة) تظلمه القوى السياسية الطائفية التي تتحالف مع رجال الأعمال وأمراء الحرب على حسابه وحساب حقوقه كمواطن إنسان.

وإذا أردنا أن نفتش عن جزء من حل، ولئلا نقع دائماً في فخ جلد الذات والتركيز على المشاكل بدون محاولة إيجاد الحلول، فيمكن إدراج أمرين:

- الأول متعلق بالمرأة اللبنانية نفسها، والتي كافحت وأثبتت نفسها في شتى الميادين غير السياسية، ومطالبتها بمزيد من النضال والكفاح جنباً إلى جنب مع الرجل، وحثّها على الثقة بنفسها، والضغط على الأحزاب لإيصال المرأة إلى المراكز القيادية، على أمل أن يكون هناك ترشيح أكبر للنساء الحزبيات في الدورة المقبلة.

- الثاني، المطالبة بالكوتا النسائية في الدورات الانتخابية المقبلة، ورفض الذرائع التي تقدّمها القوى السياسية لرفضها، فالتجارب التاريخية في العالم، وفي العالم العربي خصوصاً، أثبتت أنه لم تستطع النساء الوصول إلى البرلمان وتشكيل حيثية إلا من خلال الكوتا.

لقد ساقت بعض القوى السياسية حملات ضد الكوتا باعتبارها تمييزاً وإجحافاً بحق المرأة اللبنانية، وتمس بجوهر المساواة، علماً أن "الكوتا"، وهي تعبير لاتيني، تعني "نظام انتخابي يهدف إلى ضمان حقوق الأقليات في الانتخابات العامة للوصول إلى السلطة السياسية".. إذاً، كيف يمكن للقوى السياسية رجم الكوتا حين تتصل بحقوق المرأة اللبنانية، بينما النظام اللبناني برمتّه يقوم على مبدأ الكوتا أو الحصص، فالمسيحيون والمسلمون لهم حصص وكوتا مخصصة لكل مذهب، والأقليات الطائفية لها كوتا، وإلا لما استطاعت أن تتمثل في البرلمان والحكومة ووظائف الفئة الأولى؟

في المقابل، تنصّ المادة الرابعة من اتفاقية "سيداو" (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) على أنه "لا يُعتبر اتخاذ الدول الأطراف تدابير خاصة مؤقتة تستهدف التعجيل بالمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة تمييزاً بالمعنى الذي تأخذ به هذه الاتفاقية، لكن يجب ألاّ يُستتبع، على أي نحو، الإبقاء على معايير غير متكافئة أو منفصلة، كما يجب وقف العمل بهذه التدابير متى تحققت أهداف التكافؤ في الفرص والمعاملة".. وهذا يعني أن الكوتا يمكن أن تكون خطة مرحلية يمكن إلغاؤها عندما تتحقق المساواة الفعلية بين الجنسين في لبنان.

2018/03/14

إرهاب "جديد"!... ماذا عن العصابات الصهيونية؟


نُشر هذا المقال في 14 آذار على موقع الميادين
يميّز الباحثون اليوم بين ارهاب جديد وارهاب قديم، وتشير بعض الدراسات حول الارهاب الى بدايات تشكّل فكرة "الجديد" في مفهوم الإرهاب، الى أوائل التّسعينيات وخاصّة بعد الهجوم على مركز التّجارة العالمي في نيويورك شباط من العام 1993، وهجوم غاز السّارين في مترو الأنفاق في طوكيو عام 1995، ثم أكد هذا المفهوم الجديد نفسه بعد أحداث 11 أيلول 2001،  بينما تشير دراسات أخرى الى أن المفهوم يعود الى العام 1986، حين نشرت إحدى المجلات الكندية مقالاً بعنوان ""الوجه الخطِر للإرهاب الجديد"، وعرّفته بأنه حرب ضد الغرب من قبل شرق أوسطيين، مدربين تدريبًا جيدًا، معبأين، وينتمون الى "الأصولية الاسلامية".
وهكذا، نجد أن مؤيدي مفهوم "الارهاب الجديد"، يعتمدون على مؤشرات عدّة للتمييز بين قديم وجديد، أبرزها:
- الدافع الديني باعتباره السمّة المميزة للنوع الجديد، ويشيرون تحديدًا الى الإسلام الرّاديكالي، على أساس أنّ الإرهاب القديم كان يهدف الى تحقيق أهداف سياسية وليست دينية.
- السيطرة على الأرض، فالارهاب القديم لم يكن يهدف أو يستطيع السيطرة على الأرض بل جلّ ما كان يريده هو التأثير على السلطة السياسية عبر الصدمة والترويع، ويشيرون في هذا الإطار الى سيطرة داعش على أجزاء كبرى من العراق وسوريا، وسيطرة طالبان على أفغانستان، كتأكيد على هدف الحكم و"تأسيس الخلافة" بالنسبة للإرهاب الجديد.
- استخدام وسائل أكثر فتكًا وأشدّ ترويعًا من المجموعات التقليدية، فالارهابي "الجديد" يهدف إلى تدمير المجتمع والقضاء على أعداد كبيرة من السكّان"، في حين كان الإرهابي التقليدي يكتفي بانتقاء أهدافٍ محددة يختارها بدقة لإحداث تأثير على صانع القرار أو لدفعه الى تغيير سياساته. إذًا، الارهابي الجديد يستخدم القتل  للقتل أي كغاية بحد ذاته وليس كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، بحسب رأي بعض الباحثين.
- التمويل، فقد كان الإرهاب التقليدي يتلقى دعمًا من مصادر ودول راعية، بينما بات اليوم يؤمّن دخلاً مستقلاً من تجارة الأسلحة والاتجار بالبشر، وتجارة النفط والقيام بالاستثمارات التجارية، بالاضافة الى سهولة تلقي أموال التبرعات من متبرعين أفراد بعد انفتاح الأسواق المالية وتطور وسائل نقل الأموال.
وفي تحليل لما سبق، نجد ان عبارة "الارهاب الجديد" الذي يحاول الغرب إطلاقها للتمييز بين الحركات المصنّفة "ارهابية" قديمًا بحسب المصطلح الغربي - والتي كان جزء منها حركات التحرر الوطني من الاستعمار (كالجزائر مثلاً) - وبين الحركات الارهابية كالقاعدة وداعش وغيرها والتي يدخل تصنيفها ضمن "الحرب على الارهاب" لتشريعها، ونلاحظ ما يلي:
 إن القول أن العامل الديني اليوم هو جديد بالنسبة للدوافع الارهابية، إنما يغفل قيام العصابات الصهيونية في منتصف القرن العشرين باستخدام الذرائع الدينية لترويع الفلسطينيين وتهجيرهم من إرضهم وقراهم عبر ممارسة الإرهاب والقتل وحرق البيوت، وفي ذلك مزاوجة واستخدام الدين لتغطية الإرهاب، تمامًا كما تفعل مجموعات القاعدة وداعش وغيرها اليوم.
أضف الى ذلك، الى أن العصابات الصهيونية استطاعت أن تسيطر على العديد من الجغرافيا الفلسطينية وأمنّت للدولة الاسرائيلية التي أنشئت فيما بعد (بعد قرار التقسيم 1948)، مساحة واسعة من الأراضي لم تكن لتسيطر عليها لو لم تقم تلك العصابات بممارسة الإرهاب على السكان المحليين للسيطرة على أراضيهم بالقوة.
وفي ما خصّ التمويل والدعم، فقد استطاعت تلك العصابات أن تتلقى دعمًا من حكومات (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وغيرها) ومن متمولين يهود عبر العالم، استطاعت التأثير عليهم عبر مؤثرات  ثقافية دينية ورفع شعارات "المظلومية اليهودية" التي تحتاج الى دعمٍ بشتى الأشكال والوسائل لرفع الغبن والظلم عن مجموعات اليهود المنتشرة في العالم وجلبها الى فلسطين.
أما الإدعاء أن الدافع للقتل والترويع هو مجرد القتل فيبدو أمرًا تبسيطيًا، فارهابيو القرن الحادي والعشرين يهدفون من خلال المجازر ونشر صور وفيديوهات القتل والاغتصاب والسبي، تهجير السكان وإشاعة الصدمة والترويع لإدخالهم في مرحلة "الانهيار الإدراكي" الذي يدفع السكان الى عدم المقاومة والفرار للسيطرة على الأرض بدون قتال، وهو بالضبط ما فعلته العصابات الصهيونية في القرى الفلسطينية حيث كانت أخبار القتل والحرق والتدمير تسبق الارهابيين الى القرى والبلدات، لدفعهم الى النزوح الجماعي والفرار من أمام آلة القتل الصهيونية القادمة.
في النتيجة، لا يبدو أي جديدٍ في إرهاب القاعدة وداعش، بل هو صورة جديدة عن إرهاب مورس على الفلسطينيين في منتصف القرن العشرين وتمت تغطيته دوليًا بذرائع دينية واخلاقية. كل ما هو جديد في التمييز بين الارهاب القديم والجديد، هو تطور وسائل التكنولوجيا والاتصالات، بحيث بات صور القتل تنتشر على وسائل التواصل بينما كانت العصابات الصهيونية تبثها عبر وسائل بدائية "من فم لإذن" أو عبر وسائل الاعلام التقليدية المتوفرة من راديو وتلفزيون.

2018/03/08

هل تحصل المعركة الكبرى بين الروس والأميركيين؟


ليلى نقولا
يوماً بعد يوم يتقلص هامش المساحة التي يستطيع فيها الطرفان الروسي والأميركي القتال بالواسطة في سورية، فالمساحات التي تسيطر عليها المجموعات المسلحة باتت تتقلص تدريجياً، وما هي إلا مراحل قليلة باتت تفصل الجيش السوري وحلفائه عن لحظة حقيقة المواجهة المتوقَّعة في إحدى الجبهات الثلاث: الشمال الشرقي السوري، أي المواجهة مع الأميركيين لاسترداد المناطق التي يسيطر عليها الأكراد (قسد)، أو المواجهة مع الأتراك لانتزاع الأراضي التي يسيطر المسلحون في إدلب ومناطق "درع الفرات"، وما ستأخذه تركيا اليوم بعد عملية "غصن الزيتون"، أو المواجهة مع المسلحين الذين يحظون بغطاء "إسرائيلي" وأردني في الجنوب.

وفي خضم المعارك المحتدمة في الداخل السوري، يتصاعد التوتر بين الأميركيين والروس، ويتطور لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة ليصل إلى التهديد النووي، واستعراض القوة النووية بشكل يفتح المجال لسباق تسلُّح جديد، كان قد أقلق العالم خلال منتصف القرن العشرين.

تقرير "الحالة النووية"الأميركي في شباط الماضي، أكد على مخاوف واشنطن من "عودة موسكو الحاسمة إلى التنافس بين القوى الكبرى"، واعترف بأن وزارة الدفاع الأميركية لاحظت تفاوتاً بين القدرات الروسية وتلك الأميركية ولدى حلف شمال الاطلسي، وأوصى الإدارة الأميركية بدعم البنتاغون لتطوير أسلحة نووية ذات طاقة منخفضة، وتطوير عناصر "الثالوث النووي" (صواريخ عابرة للقارات والغواصات الاستراتيجية وقاذفات القنابل).

في المقابل، لم يتأخر الرد الروسي كثيراً، فقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه السنوي إلى الجمعية الاتحادية الروسية، عن أنواع جديدة من الأسلحة "لا يملكها أحد بعد"، وأن بلاده ستعتبر أيّ هجوم بالسلاح النووي على أحد حلفائها هجوماً عليها، وأنها ستردّ فوراً على هذا الهجوم، مضيفاً أن "روسيا لا تنوي مهاجمة أيّ دولة أخرى"، وقال إن الروس اضطروا لتطوير تلك الاسلحة رداً على نشر أنظمة الدفاع الصاروخية الأميركية، وانسحاب "الشركاء" (الولايات المتحدة) من معاهدة الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية.

والأهم كان ما أكده بوتين من أن استعراض القوة هذا وتطوير الأسلحة هدفهما "دفع الشركاء الأميركيين إلى إجراء حوار"، معلناً خيبة روسية واضحة من التصرفات الأميركية بقوله "حينها، لم يرد أحد أن يتحدث إلينا، ولم يصغ أحد إلينا.. اسمعوا إذًا الآن"!

هو شعور روسي بـ"الإذلال" والخيبة، مما يعتبره الروس "عنجهية" أميركية في مخاطبة الروس واحترام مصالحهم الأمنية والقومية في محيطهم الإقليمي، فلقد حاول أوباما دائماً أن يثبت أن روسيا دولة إقليمية فقط وليست دولة عالمية، وها هو البنتاغون والتحالف الدولي يستفزون الروس يومياً في سورية، ولا يتورعون عن قتل مواطنين روس في دير الزور، ويزوّدون المجموعات المسلَّحة بصواريخ لإسقاط المقاتلات الروسية وقصف حميميم.

لقد حاولت موسكو دائماً أن تفرض نفسها على الولايات المتحدة كقطب عالمي، إلا أن الأميركيين حاولوا تجاهُل المصالح الروسية، ورفضوا التعامل معها بندّية، إلى أن قام الروس بفرض ذلك عبر تكريس أنفسهم الممر الإلزامي لأي حلّ في سورية، وبدا أن النفوذ والهيبة الروسيتين باتا في أعلى مرتبة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ولغاية اليوم.

اليوم، بالرغم من امتلاكها معظم مقومات القوة، وبالرغم من أن الموقع الجغرافي لروسيا في الشمال، ووجودها في وسط قارة أوراسيا الكبرى، والذي يمنحها مجال رؤية بإشعاع 360 درجة؛ من النروج إلى كوريا الشمالية، ومن مورمانسك الواقعة في أقصى الشمال الغربي الروسي إلى مومباي في الهند، وبالرغم من العلاقات الاقتصادية الهامة التي تقيمها روسيا؛ علاقات اقتصادية هامة على ضفتي أوراسيا الكبرى المترامية الأطراف، مع قطبين موجودَين على طرفي القارة الأوراسية الكبرى، وهما: الاتحاد الاوروبي والصين.. بالرغم من كل ذلك، إلا أن استعادة الدور العالمي الروسي كانت دائماً دونه عقبات كثيرة، ليس أقلّها الرفض الأميركي للشراكة والاعتراف بروسيا كقطب عالمي يحق له المساهمة في القرارات العالمية، خصوصاً في المناطق الحيوية التي ترتبط به.

وهكذا، يمكن القول إن سباق التسلح والنفوذ العالمي الذي تمّ الإعلان عنه بوضوح، من خلال الخطابات النووية لكلا البلدين، يؤشر إلى مزيد من الانخراط العسكري الروسي والأميركي في سورية، خصوصاً في الفترات التي تلي التخلُّص من البؤر الإرهابية في الداخل السوري، والتوجُّه إلى الحدود الشمال الشرقية لسورية، ويؤشر إلى معركة كبرى تلوح في الأفق غير البعيد لاسترجاع الرقة ودير الزور وآبار النفط السورية، وعندها نكون أمام خيارين: إما أن تأتي لحظة الحقيقة فيتمّ إرساء تفاهمات بين الدولتين، درءاً لحرب لا يريدها أي منهما، أو يستمر القتال بالواسطة، مما يسهم في الاستنزاف السوري إلى فترة أطول.

2018/03/07

المشروع الكردي والمشروع التركي: أيهما أخطر على سوريا؟


نُشر بتاريخ 7 آذار 2018 على موقع الميادين

تضج منطقة الشمال والشرق السوري بأزمات التاريخ والجغرافيا، والتي غالبًا ما تتحول الى لعنات تتسبب بالمزيد من الدمار والقتل واستجلاب التدخل الخارجي والطمع بالأراضي السورية تحت مسميات عدّة.
المراقب للأوضاع في الشمال السوري، يلفته مشروعان يهددان وحدة اقليم الدولة السورية وسيادتها، وهما المشروع الكردي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، والمشروع التركي الذي يستخدم الذرائع المتعددة للتوغل عسكريًا في الأراضي السورية، ومن المهم لفت النظر الى أن كلاً من المشروعين، يعتمد على اسنادات تاريخية للقول بأحقية المشروع في قضم الأراضي السورية لتنفيذ مشروعه فيها.
- المشروع الأول أي المشروع الكردي الانفصالي، ويستند بشكل أساسي على دعم عسكري من القوات الأميركية التي زادت قواعدها العسكرية الى 20 قاعدة، بحسب ما أعلن الروس مؤخرًا. ويعلن الكرد أن لهم الحق بالسيطرة على تلك المناطق باعتبارها جزءًا من كردستان التاريخية، وحيث أنهم منذ مئة عام فقط كانوا على وشك تحقيق حلم تأسيس الدولة، لولا تغيّر المعادلات الدولية.
ومن المفيد ذكره هنا، أن لا صحة لهده هذا الإدعاءات، فالأراضي السورية لم تكن يومًا جزءًا من كردستان التاريخية، فاتفاقية سيفر لعام 1920 ( وبحسب الخرائط المنشورة)، والتي يستند اليها الأكراد باعتبارها أول وثيقة دولية تثبت حقهم في تقرير مصيرهم ضمن دولة مستقلة، لا تضم لا من قريب ولا من بعيد أي منطقة سورية، وذلك يعود الى أن النزوح الكردي إلى سوريا لم يتم إلا بعد المذابح التي تعرضوا لها من "الحركة الكمالية" في تركيا بعد ثورتهم في العام 1925، ما يعني أن الظاهرة الكردية في سورية لم تكن يوماً جزءاً من حركة قومية كردية تاريخية عمرها مئات السنين.
- أما المشروع الثاني فهو المشروع التركي التوسعي، والذي يستند فيه الأتراك أيضًا الى ادعاءات تاريخية، حيث يذكّر أردوغان بشكل دائم أنه لن يقبل باستمرار مفاعيل "معاهدة لوزان" 1923، والتي - بحسب زعمه- أخذت من تركيا جزءًا من أراضيها، ويشير في هذا الصدد الى أن "مساحة تركيا كانت في العام 1914، مليونين ونصف مليون كيلومتر مربع، بينما تراجعت في العام  1923 (بعد الاتفاقية)، إلى 780 ألف كيلومتر مربع".
والجدير بالملاحظة هنا، أن أردوغان يشير الى "الميثاق الملّي" التركي، الذي تمّ توقيعه عام 1920 من قبل مجلس المبعوثين العثماني، والذي يضع خريطة تركيا، والتي تضم بالاضافة الى الأراضي التركية الحالية، مناطق في أوروبا (بلغاريا واليونان)، وقبرص، بالاضافة الى مناطق الشمال العراقي وتضم الموصل وكركوك والسليمانية، وتضم مناطق الشمال السوري بكاملها وصولاً الى حلب ودير الزور. وبحسب تصريح أتاتورك عام 1920: "حدودُ أمّتِنا، من جنوبِ خليجِ الإسكندرونة، من أنطاكية، وجنوب جسر جرابلس ومحطّة سكّة الحديد، وجنوب حلب ثم تسير جنوباً مع نهر الفرات حتى تضمّ دير الزور، ثم تتجّه شرقاً لتضمّ الموصل، وكركوك والسليمانية".
انطلاقًا مما سبق، ومن الجغرافيا التي يدّعي كل مشروع أحقيته التاريخية فيها، يبدو أن المشروعين يشكلان خطرًا كبيرًا على الدولة السورية، وأي إدعاء بأن هناك مشروعًا أقل خطورة من الآخر، أو أنه يمكن للسوريين التعايش مع أحد المشروعين، فلا يعدو كونه وصفة لتقسيم سوريا، أو القبول باقتطاع أجزاء حيوية من أراضيها بالقوة.
المفيد بالنسبة للسوريين، أن المشروعين ينفيان بعضهما البعض، أي أن الجغرافيا المتنازع عليها هي جغرافيا واحدة، وهذا يعني حتمية اصطدام المشروعين أو تراجع أحدهما. وإذا أرادت الدولة السورية، بعد تأمين الداخل السوري أن تجري تقييمًا للأخطار التي تتهددها في الشمال السوري، فيمكن الاستناد الى التاريخ أيضًا، فالمعروف بأن الأميركيين لا يثبتون في أرضٍ تتشكل فيها مقاومة محلية شعبية، ولا يفرطون بدماء جنودهم للاستقرار في أرضٍ لا تقبلهم، والتاريخ يشير أيضًأ الى أن التركي لا ينسحب من أرضٍ إلا بهزيمة عسكرية كبرى، وهذا ما تؤكده الشواهد التاريخية للدولة العثمانية التي استمرت باضطهاد العرب ومحاولات التتريك، ولم تنسحب بالرغم من كل المقاومة التي لقيتها، إلا بعد هزيمة الامبراطورية في الحرب العالمية الاولى.


2018/03/01

هل يشعل الغاز الحروب في المتوسط؟


مشكلتان طافتا على السطح بعد الإعلان عن وجود الغاز في المتوسّط؛ الأولى هي التهديد الإسرائيلي للبنان والمحاولات الأميركية لحضّ لبنان على اقتسام البلوك رقم 9 مع الإسرائيليين، وذلك بالرغم من إقرار الأميركيين سرّاً وبالرغم من أن كل الوثائق القانونية تشير إلى أن ملكية البلوك 9 بكامله تعود إلى لبنان، بالمقابل أعلن اللبنانيون موقفاً موحّداً بأنه لا يمكن التفريط بأية حدود بحرية ولا تنازل عن أيّ جزءٍ من الحقوق اللبنانية في المنطقة الاقتصادية الخالِصة مهما كان الثمن.

أما الثانية فتتجلّى في التهديد التركي لقبرص بعد بدء أعمال التنقيب عن الغاز، فلقد قامت السفن الحربية التركية بمنع سفينة حفر استأجرتها شركة إينى الإيطالية بعد اتفاق بين قبرص ومصر حول ترسيم الحدود بينهما وبدء التنقيب عن الطاقة في شرق البحر المتوسّط.

ولقد ساق الأتراك ذرائع عدّة مُتناقِضة ومُتضارِبة من ضمن محاولات السطو على الغاز في منطقة شرق المتوسّط، إذ تذرّعوا بحقوق القبارصة الأتراك في الطاقة والنفط تارةً، وطوراً برفض الاتفاقية بين قبرص ومصر باعتبارها تنتهك حقوقهم الاقتصادية في المنطقة المذكورة.

لقد كانت اتفاقية قانون البحار لعام 1982 واضحة في تحديد المنطقة الاقتصادية الخالِصة للدول الساحلية، بأنها "المنطقة الواقعة وراء البحر الاقليمي للدولة ومُلاصِقة له" (المادة 55)، وحدّدتها بمسافة 200 ميل بحري من خط الأساس. ثم حدّدت المادة (56) بأنه "يكون للدولة الساحلية حقوق سيادية بغرض استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحيّة منها وغير الحيّة للمياه التي تعلو قاع البحر، ولقاع البحر، وباطن أرضه، وحفظ هذه الموارد، وإدارتها إلخ..." أي أن الدولة الساحلية لها كامل الحقوق في استغلال الثروات التي تحتويها تلك المنطقة المُلاصِقة لشواطئها. ولقد لحظت الاتفاقية أيضاً أن تحديد المنطقة الاقتصادية الخالِصة بين الدول ذات السواحل المُتقابِلة أو المُتلاصِقة (حيث لا توجد مساحة كافية لإعطاء كل دولة 200 ميل بحري) يتمّ عن طريق الاتفاق بين الأطراف المعنيّة على أساس العدالة والإنصاف، وفي حال فشل الاتفاق يتم اللجوء إلى إحدى طرائق تسوية المُنازعات المنصوص عليها في الاتفاقية.

أما تركيا التي لم تنضم لاتفاقية قانون البحار لعام 1982، وذلك لأنها تعتبر أنها تضرّ بها بشكل كبير، خاصة بعدما أعطى هذا القانون الحق للجزر (بعكس ما جاء به مؤتمرا 1958 و1960) جرفًا قارياً والحق في منطقة اقتصادية خالِصة، وهذا يعني أن الجزر اليونانية الممتدة أمام الساحل التركي لها جرفٌ قاريّ ومناطق اقتصادية خالِصة وهو ما يحرم تركيا من الاستفادة من هذه الثروات في المتوسّط.

وبنفس المنطق السابق، تعتبر تركيا أن قبرص هي جزيرة وليست دولة ساحلية وبالتالي لا يحق لها بمنطقة اقتصادية خالِصة وجرفٍ قاريّ، ما يعني أن كل البحر الممتد من السواحل التركية حتى حدود مصر في منطقتها الاقتصادية الخالِصة هو من الحقوق التركية.

بالمقابل، تُطالب تركيا باعتماد معيار "الجرف القاريّ" الذي نصّت عليه المادة 76 من الاتفاقية، وهي تعني المناطق المغمورة بمياه البحر ذات الضحالة النسبية، والتي تفصل عادةً ما بين الكتل اليابسة المكوّنة للقارات وقاع البحار ذات العُمق الكبير، وتدّعي أن اعتماد هذا المعيار يعني أن كل المنطقة البحرية الواقعة بين الحدود التركية والمصرية يجب أن تتقاسمها الدولتان من دون إعطاء أية حقوق لقبرص واليونان.

إن الاعتبارات القانونية التي تتذرّع بها تركيا للقيام باستعراض قوّة في المتوسّط وتمنع قبرص من التقيب عن الغاز في منطقتها الاقتصادية الخالِصة، تُناقض بعضها البعض، فإن التذرّع بأن ليس للجزر حق في منطقة اقتصادية خالِصة يدحضه القانون الدولي للبحار لعام 1982 باعتباره القانون النافذ دولياً، كذلك يتناقض مع الادّعاء التركي بأن للقبارصة الأتراك حقوقاً في هذه الثروة في المتوسّط فإذا لم يكن هناك حقوق للجزر في مناطق اقتصادية كيف يكون لقبرص التركية هذا الحق؟ عِلماً أن المنطقة التي يتمّ التنقيب فيها ليست من ضمن الشواطئ التي تُشرف عليها أجزاء قبرص التركية.


في المُحصّلة، يبدو أن كلاً من إسرائيل وتركيا تحاولان أن تأخذا عبر "البلطجة" ما لا تقدران على تحصيله من خلال القانون الدولي، بالتالي على الدول المُتضرّرة كقبرص ومصر ولبنان، أن ترفع شكواها للأمم المتحدة لحلّه عبر القانون، وإن لم تستطع فليس أمامها إلا استعراض القوّة لردع دول لا تفهم سوى لغة القوّة.